جيل التيه بين الماضي والحاضر
د. علي الصلابي
كان تيه بني إسرائيل هو إحدى عقوبات الله تعالى لهم على مخالفة أمره وأمر نبيه ورسوله موسى عليه السلام، وإن بني إسرائيل -مع إيمانهم بالله عز وجل في ذلك الوقت، وكان فيهم نبي من أولي العزم، وهو موسى عليه السلام- لما تخلفوا عن أمر من أوامر الله (هو الجهاد ضد الجبابرة في فلسطين) ونصائح نبيهم، عاقبهم الله بالتيه والضياع 40 سنة في صحراء سيناء.
هام بنو إسرائيل على وجههم في الصحراء 40 سنة، وانقطعت بهم وسائل الحياة وسبلها؛ وليس لديهم إلا رحمة الله بعباده، قال تعالى ﴿وظللنا عليكم الغمام وأنزلنا عليكم المن والسلوى كلوا من طيبات ما رزقناكم وما ظلمونا ولكن كانوا أنفسهم يظلمون﴾ (سورة البقرة: 57)، وهي تربية من الله لهم وللجيل الجديد الذي بعدهم.
وفي تناول قصة تيه قوم موسى عليه السلام، نجد قول موسى عليه السلام كما جاء في الكتاب العزيز ﴿قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين﴾.
إن هذه الآية قالها كليم الله موسى عليه السلام لما رفض قومه دخول الأرض المقدسة التي فرض الله عليهم أن يدخلوها بالجهاد في سبيل الله تعالى، فقالوا لموسى عليه السلام ﴿قالوا يا موسى إن فيها قوما جبارين وإنا لن ندخلها حتى يخرجوا منها فإن يخرجوا منها فإنا داخلون* قال رجلان من الذين يخافون أنعم الله عليهما ادخلوا عليهم الباب فإذا دخلتموه فإنكم غالبون وعلى الله فتوكلوا إن كنتم مؤمنين* قالوا يا موسى إنا لن ندخلها أبدا ما داموا فيها فاذهب أنت وربك فقاتلا إنا هاهنا قاعدون﴾.
هذا الكلام الذي قاله بنو إسرائيل لموسى عليه السلام بعد ما خرجوا من مصر، ورأوا بأم أعينهم ماذا حدث لفرعون من الغرق والانتقام الرباني، وتأييد الله لموسى عليه السلام، والمعجزات الخارقة، والبراهين الدامغة، والأدلة الساطعة لرسالته ونبوته، ورأوا ماذا فعل وماذا بذل موسى عليه السلام من أجل دعوة التوحيد، والتصدي للاستبداد والدكتاتورية والكفر والشرك المتمثل في النظام الاستبدادي الذي يقوده فرعون، وهم كانوا في ذلة وصغار، فكان النظام الفرعوني يقتل أبناءهم ويستحيي نساءهم، ولقد رأوا الأعمال العظيمة والجهاد الكبير الذي بذله موسى وهارون من أجل استخلاصهم من قمع النظام الفرعوني، ومع هذا كله قالوا لموسى عليه السلام "اذهب أنت وربك فقاتلا، إنا ها هنا قاعدون"، بل آذوا موسى عليه السلام في سيرته ومسيرته، وبعضهم عبد العجل، وبعضهم قال أرنا الله جهرة، حتى اشتكى منهم موسى عليه السلام، وقال "لمَ تؤذونني وأنا رسول الله إليكم؟"، كما قالوا "اجعل لنا آلهة كما لهم آلهة"، وإن هذا كله بعد الخروج من مصر، ونهاية الطغيان الفرعوني وإغراق فرعون.
وهنا قال موسى ﴿قال رب إني لا أملك إلا نفسي وأخي فافرق بيننا وبين القوم الفاسقين﴾، فقال الله تعالى ﴿قال فإنها محرمة عليهم أربعين سنة يتيهون في الأرض فلا تأس على القوم الفاسقين﴾.
وحرم الله تعالى على أولئك الجبناء (بني إسرائيل) شرف الجهاد والتمكين، والوصول إلى الأرض المقدسة والتمتع بخيراتها؛ لأنهم نكصوا عن الجهاد، وعصوا الأوامر، فكتب عليهم التيه في الصحراء لمدة 40 سنة.
- ﴿فإنها محرمة عليهم أربعين سنة﴾؛ الأرض المقدسة محرمة عليهم وممنوعون من دخولها والتحريم هنا تحريم فعلي عام، ويعني الامتناع عنها.
- ﴿يتيهون في الأرض﴾؛ يسيرون في أرض سيناء مدة 40 سنة، تائهين في شعابها ووديانها وتلالها وكثبانها، محتارين لا يعرفون إلى أين يسيرون، وإلى أين سينتهي سيرهم. فالتيه مرتبط بحالة الإنسان الذي يضل الطريق الصحيح، وهو مرتبط بالمكان، وهنا الصحراء التي ليس لها علامة يهتدى بها، فيتيه ويضل، ويحتار سالكها. وكتب الله على بني إسرائيل التيه في مجاهل سيناء حوالي 40 عاما، ليموت ذلك الجيل الجبان، فـ40 سنة كافية لموت الجيل المصاب بأمراض النفوس الخطيرة؛ الذل والخنوع وعدم احترام القادة الذين ساهموا في إنقاذه من العذاب والبلاء، ولعل ذلك من أثر الطغيان الفرعوني الذي ذاقوه؛ لأن الاستبداد والطغيان له أثره على النفس البشرية، وكان من ذلك الطغيان ﴿ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد﴾، ومن علاماته أيضا ﴿قال لئن اتخذت إلها غيري لأجعلنك من المسجونين﴾.
وإن الشعوب التي تعيش تحت الأنظمة الاستبدادية وحكم الدكتاتورية، تعجز عن حمل الرسالة والقيم الإنسانية الرفيعة، والدعوة إليها، والجهاد في سبيلها، والمتمثلة في دعوة الأنبياء والمرسلين إلى وحدانية الله والإيمان به وطاعته وتبليغ رسالته في كل مكان.
وكان العيش في التيه 40 عاما، قد ربى جيلا جديدا من أبناء التائهين، ذاقوا شظف العيش وخشونته، وهم يتحركون في الصحراء، فتصلب عودهم، وقويت أبدانهم، وتربت نفوسهم على توحيد الله وإفراد العبادة له والقيم الإنسانية الرفيعة من محبة العدل ودفع الظلم ومحاربة الظالمين، فسارعوا إلى الجهاد والقتال، والمطالبة بالحقوق، ودفع الظلم، والتصدي للظالمين، والانتصار للحق، فعاشوا حياة ملؤها العزة والكرامة والحرية والتمكين.
إن حكمة ذلك التيه ﴿أربعين سنة يتيهون في الأرض﴾ مقصودة، وهي فناء الجيل الذين خرج من قبضة الذل والقهر والقوة، والخنوع والمهانة والسخرة، وأفسدوا من عصبيتهم، حتى نشأ من ذلك التيه جيل آخر عزيز عاش على التوحيد ومعاني الحرية والكرامة الإنسانية، لا يسام المذلة، فنشأت له بذلك عصبية أخرى، اقتدروا بها في السعي والمطالبة والتغلب، ويظهر لك من ذلك أن الـ40 سنة أقل ما يأتي فيها فناء جيل ومجيء آخر، سبحان الحكيم العليم، وهكذا قال ابن خلدون.
إن عقوبة التيه في حقيقتها، كان فيها رحمة من الله لبني إسرائيل، فلم يهلكهم الله كما فعل بالأمم السابقة التي عصت الأنبياء والمرسلين، عندما تخلفوا عن أمر أنبيائهم، وتجلى ذلك في النعم التي أنعم الله عليهم بها في هذا التيه، كالغمام، والمن، والسلوى، فالله لا يريد أن يهلكهم بل يريد أن يربيهم، فكانت مدة التيه لتربية بني إسرائيل على الامتثال لأوامر الله تعالى. وفي ذلك درس لأصحاب الهمم والعزائم بأن تعلق جيل التمكين بربه هو أول وأهم أسباب نصرته، وله صفات في الشجاعة والخشونة والرجولة والأخذ بالأسباب المعنوية والمادية.
انفصل موسى وأخوه هارون عليهما السلام مع من أطاعهما واتبعهما من بني إسرائيل انفصالا وافتراقا عن الأغلبية العاصية للأمر من بني إسرائيل، وتاه بنو إسرائيل الفاسقون في صحراء سيناء، وصاروا يتخبطون في شعابها ووديانها في حيرة وتيه وضلال وضياع لا يعرفون ماذا يفعلون ولا إلى أين يسيرون.
وهذا ما جنوه على أنفسهم، وما ظلمهم الله ولكن كانوا أنفسهم يظلمون، وبدأ أفراد ذلك الجيل يموتون تباعا، ويخرجون من هذه الدنيا مجللين بالذل والضعف والهوان، وهكذا تنتهي حياة موسى عليه السلام مع هذا الجيل من بني إسرائيل، وأخذ من الجيل الصغير الذين قال لهم موسى عليه السلام ﴿يا قوم إن كنتم آمنتم بالله فعليه توكلوا إن كنتم مسلمين﴾ (يونس: 84)، فكان جوابهم ﴿ فقالوا على الله توكلنا ربنا لا تجعلنا فتنة للقوم الظالمين* ونجنا برحمتك من القوم الكافرين﴾ (يونس:85)، والذين قال فيهم الله ﴿ فما آمن لموسى إلا ذرية من قومه على خوف من فرعون وملئهم أن يفتنهم وإن فرعون لعال في الأرض وإنه لمن المسرفين﴾ (يونس: 83).
ولقد أشار الله إلى أهمية ذلك الجيل في قوله تعالى ﴿ وإذ قال موسى لفتاه لا أبرح حتى أبلغ مجمع البحرين أو أمضي حقبا﴾، فذلك الفتى الذي لازم موسى عليه السلام تربية وتعليما وتزكية هو قائد ذلك الجيل.
- لقد اهتم موسى آخر حياته بالجيل الجديد وأعطاه من وقته ومن جهده، ففتى موسى عليه السلام كان القائد لذلك الجيل الجديد الذي فتح بيت المقدس.
- مرحلة موسى عليه السلام كانت القضاء على النظام الاستبدادي الدكتاتوري والانتصار لدعوة التوحيد وبيان أن الشرك والكفر أوهن من بيوت العنكبوت واستخلاص الشعب الذي وقع عليه الظلم والاستبداد.
- مصير الطغاة وأتباع إبليس وجنود الشيطان إلى الزوال وإلى عذاب البرزخ وبئس المصير في الحياة الآخرة.
- الصبر على الشعب الذي وقع عليه الاستبداد معنى بارز في سيرة موسى عليه السلام والأذية التي تعرض لها من شعبه، فهذا درس ملهم للأحرار الثائرين على نهج سير الأنبياء والمرسلين في تخليص الشعوب من الظلم والاستبداد.
- حرص موسى عليه السلام على تربية وزرع القيم لجيل جديد، وقد ظهرت معالم تلك التربية والعناية بدخول فتى موسى عليه السلام يوشع بن نون بيت المقدس، والانتصار على الجبارين، ودخول بيت المقدس بعد وفاة موسى عليه السلام.
وما كان لبني إسرائيل أن يصلوا إلى العصر الذهبي في عهد داود وسليمان عليهما السلام لولا الله تعالى ثم جهود موسى عليه السلام في القضاء على نظام الاستبداد وقمع الشعوب المتمثل في النظام الفرعوني.
إن الدرس العميق من قصة التيه القديمة يتكرر في وقتنا الحاضر، فنحن نرى الشعوب التي تنشأ في ظل الاستبداد، وتساس بالظلم والاستعباد والقهر، تفسد أخلاقها وتذل نفوسها، ويذهب بأسها وتضرب عليهم الذلة والمسكنة، وتألف الخضوع، وتأنس بالمهانة والخنوع، وإذا طال عليها أمد الظلم كما حدث لبعض شعوبنا في القرن الـ20 في ظل الأنظمة الاستبدادية، تصير هذه الأخلاق موروثة ومكتسبة حتى تكون كالغرائز الفطرية والطبائع الخلقية إذا أخرج صاحبها من بيئتها، ورفعت عن عنقه نيرها، فإنك تراه ينزع بطبعه إليها، ويحن إلى الاستبداد وإلى الظلم والذل، وينفلت من قيم الحرية والمساواة والكرامة، وإذا أتيحت له فرصة في إذلال من ساعده على التخلص من أغلال تلك الأنظمة الفاسدة أذاقه سوء العذاب، ولا يتورع عن الكذب والتشويه، ولا التهم الباطلة التي يعلم هو أكثر من غيره ببهتانه.
فالدرس والمعنى هو أن نعتبر بهذه الأمثال التي بينها الله تعالى لنا، وأن نعلم بأن إصلاح الشعوب بعد فسادها بالظلم والاستبداد إنما يكون بإنشاء جيل جديد يجمع بين حرية الفطرة واستقلالها وعزتها وبين معرفة القيم النبيلة والفضائل الكريمة والعمل بها، وقد كان يقوم بهذه الأعمال العظيمة بتربية الأجيال في العصور السالفة الأنبياء والمرسلون، وإن ما يقوم بها بعد ختم النبوة ورثة الأنبياء الجامعون بين العلم بسنن الله في الاجتماع وبين البصيرة والصدق والإخلاص في حب الإصلاح، وإيثاره على جميع الأهواء والشهوات، ومن يضلل الله فما له من هادٍ.
ومع أننا خير أمة أخرجت للناس، وأن بأيدينا كتابا عظيما ومنهجا نبويا قويما، إلا أننا دخلنا تيها، فكم تخلفنا عن أوامر الله؛ من ترك لفرائض عظيمة وإحياء لسنن جليلة، وأمر بمعروف ونهي عن المنكر، وصون الأنفس عن الأهواء والملذات، ودفع للظلم، والابتعاد عن الانحرافات والغلو وعن الانحراف الأخلاقي والفكري، وغير ذلك من أوامر الشرع الحنيف، فكانت نتيجة طبيعية أن ندخل في التيه، فالخروج من التيه ربما يطول سنين، وربما يستبدل الجيل بآخر، كما حدث مع بني إسرائيل، أو حتى قد يمتد لأجيال، ولكن لن يكون تمكين إلا بطاعة الله؛ قال تعالى ﴿وعد الله الذين آمنوا منكم وعملوا الصالحات ليستخلفنهم في الأرض كما استخلف الذين من قبلهم وليمكنن لهم دينهم الذي ارتضى لهم وليبدلنهم من بعد خوفهم أمنا يعبدونني لا يشركون بي شيئا ومن كفر بعد ذلك فأولئك هم الفاسقون﴾ (النور : 55).
إن نهوض الحضارات وسقوطها، وازدهار الدولة وزوالها ورفعة الأمم وانخفاضها، وسعادة الشعوب وتعاستها، ورقي الأفراد وانحطاطهم له علاقة مباشرة بالقرب والبعد عن هدايات السماء ومنهج الله عز وجل وشرعه وقيمه ورسالته في الحياة.
وإن قصص الأنبياء والمرسلين مرجعية كبرى لبني الإنسان لمعرفة حقائق الكون وطبيعة الحياة والصراع القديم والحديث بين أتباع إبليس وجنوده والسائرين على نهج الأنبياء والرسالات السماوية الداعية إلى توحيد الله وإفراده بالعبودية ومحاربة الشرك والكفر بكافة أشكاله وأنواعه.
نسأل الله أن يردنا إلى دينه ردا جميلا
والحمد لله رب العالمين
والصلاة والسلام على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
المراجع:
- تفسير المنار، محمد رشيد رضا.
- القصص القرآني، الخالدي.
- مسودة كتاب موسى كليم الله عليه السلام، علي محمد الصلابي.
- المقدمة، ابن خلدون.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق