ضرورة النظرة المستقبلية في عصرنا
د. يوسف القرضاوي
إذا كان الاستعداد للغد، والتخطيط للمستقبل، واجبا في كل حين، فهو أوجب ما يكون في عصرنا، الذي يشهد من التغيرات الكبيرة والعميقة والسريعة، ما لم تعرفه البشرية ولا عشر معشاره في تاريخها الطويل.
فنحن اليوم أحوج ما نكون إلى «رؤية مستقبلية» بجوار «الرؤية التراثية» التي جعلت فريقا منا سجناء الماضي.
والمستقبل في جانب منه غيب لا يعلمه إلا الله تعالى، ولا ينبغي أن نقحم أنفسنا فيه، وندعي ما ليس لنا به علم ولا لنا إليه سبيل.
وفي جانب آخر، شيء يدخل في مجموعه تحت الرصد والحساب، أشبه بعلم الأرصاد الجوية،
والتنبؤ بما يتوقع أن تكون عليه حالة الجو في أمد معين بناء على قواعد مدروسة، وظواهر معلومة.
ومثل هذا يقال بالنسبة للتنبؤ بما يمكن أن تتطور إليه صناعة الحاسبات الإلكترونية (الكمبيوتر) وصناعة «الإنسان الآلي»
وطموح العلماء إلى اختراع «آلة متفوقة في الذكاء» تفوق ذكاء الإنسان أضعاف المرات، وماذا يتوقع من نتائج هائلة للثورة الإلكترونية، وثورة المعلومات؟!
كما يقال ذلك بالنسبة لما برز في السنين الأخيرة من بحوث قائمة على قدم وساق في مجال «الهندسة البيولوجية» أعني هندسة «المكونات الوراثية»
وما توصل إليه الباحثون من إمكان تغيير الخصائص والمكونات الوراثية للبكتريا،
وما يمكن أن يتمخض عنه ذلك من نتائج مذهلة تعتبر ثورة جديدة في ميادين الطب وصناعة الأدوية والزراعة وتكوين سلالات جديدة من الأحياء والنبات.
وأعجب من ذلك أن تدخل عالم الإنسان!
كل هذه التوقعات المستقبلية لا ينبغي للإنسان المسلم أن يغض الطرف عنها بدعوى أنها غيب لا يعلمه إلا الله تعالى.
فهذا من الغيب النسبي الذي وهب الله الإنسان القدرة على اكتشافه في دائرة السنن والأسباب التي أقام الله عليها نظام هذا الكون،
وهو داخل في إطار قوله تعالى (علم الإنسان ما لم يعلم) وهي أول ما نزل من القرآن.
وأعتقد أن ديننا -والواقعية من خصائصه العامة- يوجب علينا أن نحسب حساب هذه التغيرات الخطيرة،
وندرس احتمالاتها وتأثيراتها علينا، ومواقفنا منها وما ينبغي أن نعد لها من المال والرجال،
وما ينبغي أن تهيئ له الجامعات ومراكز البحوث، ونظام التعليم كله، من تطوير في الأفكار والنظم والأساليب،
حتى تخرج الإنسان المؤمن، القادر على أن يعيش عصره، من غير أن يفقد نفسه، وينسى أمسه.
وقد جاء في الأثر: «رحم الله امرأ عرف زمانه، واستقامت طريقه»،
وفي الحديث الذي رواه ابن حبان في صحيحه: «ينبغي للعاقل أن يكون عارفا بزمانه».
الرسول يخطط للمستقبل:
الرسول ﷺ حين كان يعرض دعوته على قبائل العرب في مواسم الحجيج بمكة، يتطلب منهم الإيمان به، والنصرة له،
كَان يفكر في مستقبل دعوته، والبحث عن أرض خصبة يبذر فيها بذوره، وينقل إليها نشاطه، ويقيم فيها حكم الله.
ولما شرح الله صدر الأوس والخزرج من أهل يثرب لقبول الدعوة والإيمان بها والمبايعة على نصرته عليه الصلاة والسلام بيعة العقبة المعروفة،
وبعث إليهم «مصعب بن عمير» وأمر أصحابه بمكة بعد ذلك بالهجرة إلى إخوانهم هناك،
كان ذلك كله تخطيطا لنقل مركز الدعوة إلى المهجر الجديد، حيث تقام دولة الإسلام، ويرتفع علم الإسلام.
وكذلك حين قال ﷺ بعد الهجرة:
أحصوا لي عدد من يلفظ بالإسلام، فأحصوا له، فكانوا ألفا وخمسمائة كما روى ذلك البخاري ومسلم في صحيحيهما،
كَان يريد أن يعرف مقدار ما لديه من قوة، حتى يبني خطته على أساس سليم من الإحصاء والمعلومات الدقيقة.
وحين صالح قريشا في «الحديبية» وهادنهم لمدة عشر سنوات،
كان يريد أن يتفرغ لنشر الدعوة، وتبليغ الرسالة إلى الملوك والأمراء في العالم من حوله، وهكذا فعل صلى الله عليه وسلم.
الخلفاء الراشدون يخططون للمستقبل:
وهكذا نجد من بعده ﷺ الصحابة والخلفاء الراشدين يحسبون حساب المستقبل، ويقابلون احتمالاته وتوقعاته بما ينبغي من إعداد وحذر وكيف لا؛
وقد قال تعالى: (يا أيها الذين آمنوا خذوا حذركم) (سورة النساء:71).
وهذا ما دعاهم في عهد أبي بكر إلى كتابة القرآن الكريم في مصحف بعد أن كان متفرقا في صحف ومواد متعددة،
حينما استحر القتل بالقراء في معركة اليمامة وغيرها من معارك حروف الردة،
فخشوا أن يتفاقم ذلك في المستقبل فكانت كتابة المصحف.
ومن ذلك موقف عمر من قسمة أرض العراق بعد فتحها ومطالبة بعض الصحابة الفاتحين أن تقسم عليهم، باعتبارها غنيمة لهم أربعة أخماسها،
ورفض ذلك عمر ومعه كبار الصحابة من أمثال علي ومعاذ رضي الله عنهم.
وكان عمر ومن معه ينظرون إلى المستقبل، مستقبل الأجيال الإسلامية القادمة إذا استحوذ الجيل الحاضر على مصادر الثروة، فماذا يبقى لهم بعدها؟!
ولهذا قال عمر للصحابة الذين أرادوا قسمة أرض سواد العراق عليهم باعتباره غنيمة لهم أربعة أخماسها،
كالمنقولات: أتريدون أن يأتي آخر الناس وليس لهم شي؟!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق