الحمد لله رب العالمين، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وأصحابه أجمعين.
هذه السورة العظيمة التي هي محل حديثنا في هذا المجلس المبارك هي سورة الحشر، وهذا هو اسمها في المصاحف وكتب السنة، وجاء ذلك في حديث مرفوع عن النبي صلى الله عليه وآله وسلم في مشروعية قراءة آخر ثلاث آيات من سورة الحشر، ولكنه ضعيف ، وبذلك سماها السلف.
وقد سماها ابن عباس رضي الله عنه -كما في صحيح البخاري - بسورة بني النضير، وهو اسم لواحدة من قبائل اليهود التي كانت موجودة في المدينة ، والتي بسببها نزلت هذه السورة، ولذلك سأله سعيد بن جبير ، فقال له: [سورة الحشر. فقال له ابن عباس : قل: سورة بني النضير]. وهذا لا يعني أن ابن عباس ينفي أن يكون اسمها سورة الحشر، ولكنه يثبت الاسمين معاً.
وهي أربع وعشرون آية باتفاق العلماء، وهي أيضاً مدنية باتفاقهم.
سورة عجيبة عظيمة كسائر هذا الكتاب، تستفتح كسائر المسبحات أيضاً بـ ((سَبَّحَ لِلَّهِ)) إذاً: تبدأ بالتسبيح، ولكن بصيغة الماضي (( سَبَّحَ ))، ولعل اختيار الماضي هنا لأن السورة تتكلم عن أمر مضى وانقضى وحدث، وهو نصر الله تعالى للمؤمنين وهزيمة بني النضير اليهود المحاربين، فهي تتكلم عن نعمة وقعت وانتهت، ولهذا بدأت بالتسبيح، وقال: ((سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ))[الحشر:1]، وكأن هنا إشارة إلى جند الله: ((وَمَا يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلَّا هُوَ))[المدثر:31]، فمن جند الله تعالى ما في السماوات وما في الأرض، ومن ذلك الملائكة، ومن ذلك النواميس الكونية، فهي من جند الله سبحانه، وهي تسبحه.
((وَمَا فِي الأَرْضِ))[الحشر:1] أيضاً يسبحون الله، وفي بعض السور يقول: ((سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ))[الحديد:1] كما في سورة الحديد مثلاً، لكن هنا لا، قال: ((سَبَّحَ لِلَّهِ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ))[الحشر:1] لأن الحديث عن نعمة أرضية وقعت في المدينة المنورة ورآها الناس وشاركوا فيها أيضاً -كما سوف يأتي- بعض المشاركة، فناسب أن يكرر الاسم الموصول، فيقول: ((مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ))[الحشر:1] عناية وحفاوة بالأرض وما فيها ومن فيها.
لعل من الجميل هنا أيضاً في قوله: (( الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ )) الإشارة إلى أهمية وجود القوة وأهمية وجود العقل والفهم، والحكمة في استخدامها. المؤمنون هنا أمام معركة عسكرية ومعركة حاسمة، ومع ذلك سوف تلاحظ أنهم ما استخدموا السلاح إلا قليلاً، وإنما استخدموا الصبر والذكاء وحسن التدبير، واستخدموا معنى آخر أخلاقياً عظيماً وهو معنى الصدق والوضوح وتجنب الغش أو الغدر، فتحقق لهم في نهاية الأمر الانتصار، ومن هنا قال: ((وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))[الحشر:1].
إذاً: هناك العزة وهناك القوة وهناك الحكمة، وكأن هذا تعليم للمؤمنين؛ لأن الله بأسمائه الحسنى يعلمنا التخلق بالأخلاق الفاضلة .. يعلمنا أن نكون أعزاء أقوياء، ويعلمنا أن نكون حكماء، وأن القوة من غير حكمة ترتد على صاحبها، وأن الحكمة أيضاً من غير قوة قد تكون ذلاً وهواناً، ولهذا قال: (( هُوَ الَّذِي )) هذا الذي تسبحه السماوات والأرض جل وتعالى.
((هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ))[الحشر:2] (( الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ )) جمع لهم صفتين: الصفة الأولى: الكفر، لأنهم كفروا بمحمد صلى الله عليه وآله وسلم: ((فَلَمَّا جَاءَهُمْ مَا عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ))[البقرة:89] وأنكروا رسالته، وسماهم من أهل الكتاب؛ لأنهم كانوا أهل كتاب قبل ذلك وهو التوراة ، فهم من اليهود .
قال: ((أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ))[الحشر:2] أخرج هؤلاء، والمقصود فئة منهم، وإلا فقد خرج قبلهم بنو قينقاع، وسوف يحدث لبني قريظة بعدهم ما يحدث، لكن هو هنا يتكلم عن فئة منهم وهم بنو النضير، قال: ((هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ مِنْ دِيَارِهِمْ))[الحشر:2] التي سكنوا فيها، وهي كانت بـالمدينة المنورة .
وهذه القبائل اليهودية خاصة بنو النضير وبنو قريظة كانوا مع موسى عليه الصلاة والسلام، وأمرهم أن يذهبوا من فلسطين إلى مقاتلة العماليق -يعني: أجدادهم- فلم يحسنوا قتالهم، ولم يصدقوا في القتال، ووقع لهم نوع من الارتباك. وفي هذه الأثناء مات موسى عليه الصلاة والسلام فرجعوا إلى مناطقهم في أريحا وما حولها، فلما رجعوا قال لهم أقوامهم: أنتم قد خذلتمونا ولم تقوموا بما أوجب الله عليكم فلا تدخلوا ديارنا. فردوهم، فرجعوا واستقروا في جزيرة العرب ؛ حيث وجدوا مكاناً مناسباً لهم في الجزيرة وتحولوا إلى مزارعين كبار وأصحاب إقطاعات ضخمة، وقرى، وتحولوا .. وأيضاً حصون هائلة مشيدة. كان هنا بنو النضير عندهم ستة حصون معروفة وضخمة جداً يمتنعون بها، وتحولوا إلى تجار أيضاً يملكون التجارة، وإلى مرجعية ثقافية وعلمية في البلد، حيث كان هناك فراغ معرفي وثقافي وديني في أوساط هؤلاء الوثنيين، فوجدوا مستقراً لهم في تلك المناطق، وكان منهم كبار وسادة مشاهير من أمثال حيي بن أخطب ، وكان من زعمائهم وهو والد صفية بنت حيي زوج النبي عليه الصلاة والسلام، ومن أمثال السموأل بن عادياء وهو مشهور أيضاً في قصة الوفاء. وبعض الناس يحاول أن ينفي عنه هذه القصة، ولا أرى مدعاة لذلك؛ لأن هؤلاء بشر، ولا يبعد أن يوجد في آحاد أو أفراد منهم جوانب من الخير أو الخلق، لما قال له الملك الهمام : إما أن تعطيني السلاح الذي ائتمنت عليه، وإما أن أقتل ولدك. وقد أمسك بولده، فانتظر قليلاً ثم قال: افعل ما شئت، لا يمكن أن أسلمك السلاح أو أخون. وهذا ما سجله النابغة في قوله حيث ذكر أبياتاً من الشعر يشير فيها إلى هذا المعنى، وأنه قال له الملك:
كن كالسمؤال إذ طاف الهمام به في جحفل كسواد الليل جرار
الملك الهمام
وأحاط به.
وقال غدر وثكل أنت بينهما
إما أن تغدر وتعطيني السلاح أو أقتل ولدك فتصاب بالثكل والحزن.
فاختر وما فيهما فخر لمختار
كلاهما شر وإن في الشر خياراً.
فطاف غير بعيد ثم قال له اقتل أسيرك إني مانع جاري
اقتل هذا الولد. وقتله فعلاً، فكان مضرب المثل في الوفاء. وغيرهم كثير من سادة هؤلاء الناس .. من سادة اليهود .
فهذا أصل قصة مجيء تلك الطوائف إلى المدينة المنورة وإلى جزيرة العرب ، وبعضهم كانوا بـخيبر أيضاً، وبعضهم كانوا بـتيماء ، لكن كان جمهورهم بـالمدينة المنورة .
أخرجهم الله تعالى: ((مِنْ دِيَارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ))[الحشر:2] وكأن اللام هنا هي لام التوقيت، يعني: لوقت أو في وقت أو عند أول الحشر، والحشر معناه: الجمع، الحشر هنا ليس حشر القيامة والله أعلم، وإنما الجمع دائماً يسمى، كما قال: ((فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدَائِنِ حَاشِرِينَ))[الشعراء:53]، فالحشر هو الجمع.
وهنا الله سبحانه وتعالى أخرجهم من ديارهم لأول الحشر، بعضهم قالوا: أخرجهم لأول مرة؛ لأن بني النضير لم يقع عليهم جلاء وإخراج قبل ذلك، وبعضهم قالوا: أخرجهم من ديارهم لأول الحشر من المدينة ، ثم عمر رضي الله عنه ثنى ذلك فأخرج بقيتهم من خيبر إلى الشام . وقيل: لأول الحشر، أي: لمنطقة الحشر وهي بلاد الشام .
والقول الرابع في هذه المسألة: أن ذلك أول الحشر، ويتلوه حشر آخر، وهو ما قبل القيامة، حيث النار التي تحشر الناس وتبيت معهم حيث باتوا، وتقيل معهم حيث قالوا.
ولا مانع من إرادة هذه المعاني كلها؛ أن الله تعالى أخرجهم وهم كانوا أعزة، ولأول مرة يقع عليهم إخراج، وتتالى عليهم النفي بعد ذلك، وأخرجهم إلى منطقة الشام ، بل وقع في ذهني أن ضمن هذا السياق المعنى الجميل أن ذلك حشر اليهود في فلسطين التي هم يتجمعون إليها الآن، فإن خروج هؤلاء من جزيرة العرب هو مؤذن ببداية بطيئة وطويلة لتنادي وتجمع اليهود من كل مكان في الأرض إلى هذه المنطقة التي أذن الله لحكمة يعلمها أن يتجمعوا فيها، وهي فلسطين التي تتعرض لاحتلالهم الآن. فيكون معنى قوله: ((لِأَوَّلِ الْحَشْرِ))[الحشر:2] يعني: لبداية تنادي وتجمع وحشر اليهود ، سواءً كانوا مكرهين بسبب ما يقع عليهم من الاضطهاد، والاضطهاد الذي غالباً ما يقع بسبب طريقتهم في الغدر والمكر والخداع والحيلة وعدم الوفاء بالعهود، كما قال ربنا سبحانه: ((أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ))[البقرة:100]، وهذا معنى لطيف وجميل ومناسب للسياق وللواقع المشهود الذي نراه الآن في تنادي اليهود من كل مكان إلى أرض فلسطين ، قال: (( لِأَوَّلِ الْحَشْرِ )).
((مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا))[الحشر:2] أنتم أيها المسلمون! لم تكونوا تظنون أن يخرجوا لماذا؟ لأنهم متمكنون، والمسلمون أهل المدينة ولدوا وهم يشاهدون اليهود بقصورهم وقلاعهم وحصونهم، والمسلمون من أهل مكة هاجروا إلى المدينة و اليهود فيها وهم أصحاب عراقة ونفوذ، فكان من المستبعد أن يخرجوا. مثلما لو تحدثنا الآن عن قضية انهيار دولة إسرائيل؛ الكثيرون سيعتبرون هذا ضرباً من المحال والاستبعاد؛ لأن طبيعة النفوس أنها تستغرب وتستبعد ما ولدت ونشأت واستقرت عليه، ويصعب عليها تصوره، الله تعالى هنا قال: ((مَا ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا))[الحشر:2] من بيوتهم وقلاعهم بهذه الصورة وهذه الطريقة، أنتم أيها المؤمنون! مع إيمانهم بوعد الله سبحانه وتعالى، لكن طبيعة النفوس في الاستبعاد.
((وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ))[الحشر:2] هم أيضاً ما ظنوا أن يخرجوا، بل ظنوا أن حصونهم تمنعهم، وهي ستة حصون مشهورة وضخمة وقلاع هائلة ومنيعة أعدت للحرب، فهم (( ظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ ))، وهذا فيه نوع من السخرية بهم، يعني: ليست حصونهم تمنعهم من المسلمين أو تمنعهم من العدو، تمنعهم من الله عز وجل، ومن الذي يستطيع أن يمتنع من ربه، كما قال كعب بن مالك :
زعمت سخينة أن ستغلب ربها وليغلبن مغالب الغلاب
((وَاللَّهُ غَالِبٌ عَلَى أَمْرِهِ وَلَكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ))[يوسف:21].
فهم ظنوا أن حصونهم تمنعهم، لم يقل: وظنوا أن حصونهم تمنعهم، قال: ((وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ))[الحشر:2] فكأنهم في مقام الكبير الذي يشار إليه ويتحدث عنه، وأن هذه الحصون المنيعة تحيط بهم وتحميهم من الله.
قال: ((فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا))[الحشر:2]، وهؤلاء اليهود الذين كانوا في المدينة وهم ثلاث قبائل كما أشرت، لما جاء النبي صلى الله عليه وسلم نظم العلاقة في المدينة مع أهلها، وعقد معهم العقود والعهود والمواثيق أن لهم ما للمسلمين، وعليهم ما عليهم، ويشتركون في السراء والضراء، وفي الدفاع عن المدينة ، وبينهم قدر من الوفاء والالتزام، إلى غير ذلك من الشروط المعروفة في الوثيقة النبوية.
ولكنهم بدءوا يغدرون ويخلفون، فبعد وقعة بدر غدر بنو قريظة، فوقع لهم ما وقع وطردوا .. ثم غدر بنو قينقاع، فوقع لهم ما وقع وطردوا.
وبعد غزوة أحد ووجود هزيمة للمسلمين بدأ هؤلاء الناس وهم بنو النضير .. بدءوا أيضاً يتحرشون بالمسلمين ويحاولون نقض العهود، وهذا دأبهم وديدنهم، كما نشاهده الآن: ((أَوَكُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ))[البقرة:100]، ممكن تأتي حكومة فتبرم اتفاقية وعهداً في إسبانيا أو في كامب ديفيد أو في أي مكان في الأرض، ثم تأتي حكومة جديدة وتعتبر أنها في حل منه (( نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ )). فهؤلاء بنو النضير بدءوا بنقض العهد مع الرسول صلى الله عليه وسلم.
ومن ضمن ذلك أنه ذهب كعب بن الأشرفوهو زعيم من زعمائهم في أربعين من سادتهم إلى مكة ، وجلسوا مع قريش عند الكعبة، واتفقوا مع قريش أن يكونوا ردءاً وعوناً لقريش على حرب النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنهم رأوا أن قوة النبي عليه الصلاة والسلام والمؤمنين تزداد، وبعد هزيمة أحد تجددت آمالهم في القضاء على المسلمين، وجاء الخبر إلى النبي صلى الله عليه وسلم من السماء، وأيضاً لا يبعد أبداً أن يكون الخبر جاء بواسطة جهاز استخبارات قوي كان موجوداً يخبر النبي صلى الله عليه وسلم بالأخبار والأسرار بما يفعلون، فقال النبي صلى الله عليه وسلم: (من لي بـكعب بن الأشرف)، وزيادة على ذلك كان كعب بن الأشرف بلغت به الوقاحة أن يشبب، يعني: يتغزل ببعض نساء المؤمنين ونساء الرسول عليه الصلاة والسلام، ويقول في ذلك الأشعار، فغدر العهد والميثاق، فالنبي صلى الله عليه وسلم قال: (من لي بـكعب بن الأشرف)، فذهب إليه محمد بن مسلمة و أبو نائلة وجماعة من الكومندوز، ورتبوا له ترتيباً جيداً، واستدرجوه من حصنه وقتلوه في ليلة ليلاء، وصحا اليهود فأوقدوا النيران وبدءوا يبكون شجوهم على فقد زعيمهم.
بعد ذلك أيضاً حدثت حادثة أخرى؛ أن أحد الصحابة وهو عمرو بن أمية الضمري كان أسيراً وفك وقدم إلى المدينة ، والتقى بأناس في الطريق فناموا معه وظن أنهم من الأعداء والخصوم فقتلهم، ولما جاء أخبر النبي صلى الله عليه وسلم قال له: (قتلت قتيلين لأدينهما)، كان بينهم وبين المسلمين ميثاق وعهد وهم كفار، فجاء النبي صلى الله عليه وسلم إلى بني النضير يستعينهم في الدية، ويطلب منهم المساعدة فيها، قالوا: نعم. يا أبا القاسم! وذهبوا يتآمرون وقالوا: لا تجدون لمحمد فرصة أحسن لكم من الآن، من منكم يأتي برحى ويلقيها عليه حتى يقتله ويموت ونرتاح منه.
أخبر الوحي رسول صلى الله عليه وسلم بما جرى، وخرج النبي صلى الله عليه وسلم مسرعاً ولحقه أصحابه، وأعلن بعد ذلك الحرب عليهم.
ومع خبر الوحي أيضاً يبدو لي أن هناك خبراً تسرب إلى النبي صلى الله عليه وسلم من جهازه الاستخباري القوي، يعزز هذا المعنى أن هناك بيوتاً من بني النضير لم يقع لها الجلاء .. لم يجلوا ولم يخرجوا من بيوتهم، بل تركوا، وبعدما خرج بنو النضير أعلنوا إسلامهم؛ بيتان أو ثلاثة أبيات، رجال ونساء، مما يدل على أن هؤلاء الناس كانوا مسلمين داخل بني النضير، وكانوا يخبرون .. هم الذين أخبروا النبي صلى الله عليه وسلم بالخبر، وقد جاء في ذلك بعض الروايات المتعددة في السيرة النبوية كما ذكرها ابن إسحاق ، وأشار إلى طرف منها القرطبي في تفسيره وغيرهم.
فبعد ذلك لما بان منهم الغدر أعلن النبي صلى الله عليه وسلم أن يخرجوا من بلادهم .. طلب منهم الخروج، فقالوا: لن نخرج منها إلا على جثثنا ولو أننا قتلنا فيها. فبعد ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم أصحابه أن يتهيئوا لهم، فكان هذا هو خبر الغدر الذي حدث منهم.
قال: ((وَظَنُّوا أَنَّهُمْ مَانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ))[الحشر:2] أمام المسلمين.
قال الله سبحانه: ((فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا))[الحشر:2].
((أتاهم الله)) هذه ليست من آيات الأسماء والصفات في قوله: ((فَأَتَاهُمُ اللَّهُ))[الحشر:2]، وإنما هي مثل قوله تعالى: ((فَأَتَى اللَّهُ بُنْيَانَهُمْ مِنَ الْقَوَاعِدِ))[النحل:26] وغير ذلك من النصوص؛ لأن لفظ (أتى) يطلق على عدة معانٍ، ليس فقط معنى (جاء) بنفسه، وإنما قد تطلق على معنى أصابهم بسوء أو أرادهم أو غير ذلك من المقاصد.
وهاهنا السياق قوله: ((فَأَتَاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا))[الحشر:2] يعني: هزمهم الله من حيث لم يكونوا يتوقعون، وكما أن الله يرزق المؤمنين من حيث لا يحتسبون، وينصر المؤمنين هنا من حيث لا يحتسبون؛ لأنهم ما ظننتم أن يخرجوا، فكذلك هؤلاء القوم أتاهم الله من حيث لم يحتسبوا، ما قال: لم يحسبوا، بل قال: ((لَمْ يَحْتَسِبُوا))[الحشر:2] بمعنى: أن حساباتهم كانت قوية ودقيقة وفيها إفراط بالحساب، ومع ذلك جعل الله حساباتهم هي السبب في هزيمتهم من حيث لم يحتسبوا، وهذا يتكرر، يعني: لما هزم اليهود في لبنان أنا واحد من الناس الذين قالوا: ربما لا يكرر اليهود مثل هذه المغامرة في غزة ، ووجدناهم يكررونها مرة أخرى بنفس الطريقة، وأثناء الحرب مع حساباتهم الضخمة كانوا يقولون: هذه المرة لا يمكن أن ننكسر ولن نسمح بتكرار القصة الأخرى، ومع ذلك في النهاية يثبت أن حساباتهم خاطئة وينهزمون، فالأمر يتكرر، سبحان الله! إذا اعتمد الإنسان على قوته وقدرته الذاتية وحساباته الخاصة.
هنا قال: ((مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا))[الحشر:2]، كيف أتاهم من حيث لم يحتسبوا؟! هم كانوا يستعدون في الشوارع .. حرب شوارع؛ كانوا يعدون العدة لحرب شوارع وطرق وكيف نبني وكيف نعمل، لكن الله سبحانه وتعالى أتاهم من منطقة كانوا عنها غافلين، وهي: ((وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ))[الحشر:2]، هذا الذي أتاهم الله تعالى منه من منطقة القلوب، الهزيمة .. ما نسميها الآن بالهزيمة النفسية. هذه الهزيمة النفسية لا ينفع معها وجود السلاح النووي ووجود الصواريخ والطائرات والقوة الضخمة. المسلمون لما فتحوا بني النضير وجدوا ثلاثمائة وستين سيفاً، ووجدوا خمسين درعاً وخمسين بيضة وألواناً من السلاح .. وسيف ابن أبي الحقيق الذي أعطاه النبي صلى الله عليه وسلم سعد بن عبادة ، كان عندهم ترسانة ضخمة بقياس ذلك العصر وذلك المجتمع، ولهذا الله تعالى أتاهم من حيث لم يحتسبوا.
((وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ))[الحشر:2] وهناك قضية (قذف) كأنك أمام قذيفة؛ لأن المقام مقام حرب، ولذلك استخدم لفظ (قذف) الذي يدل على السرعة، ويدل على القوة، ويدل على الاجتياح، أنه ليس الرعب في زاوية في قلوبهم، هذا كان موجوداً أصلاً، وإنما الرعب يجتاح كل قلوبهم، لأنها قذيفة وصلت إلى قلوبهم.
((وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ))[الحشر:2]، والرعب ليس الخوف، وإنما هو أشد الخوف الذي ترتعد منه فرائص الإنسان، ويصبح الإنسان غير قادر على أن يفكر بطريقة صحيحة، وإنما جل همه أن ينجو بنفسه.
((وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ))[الحشر:2]، وهذا كما قال الله سبحانه وتعالى في سورة التوبة، وكما قال النبي صلى الله عليه وسلم عن نفسه أنه: (نصر بالرعب مسيرة شهر)، فإذا كانت مسيرة شهر نصرته بالرعب، فما بالك بمسيرة بضعة أميال عن المدينة أن ينصر فيها النبي صلى الله عليه وسلم بالرعب كما أخبر ربه عز وجل، وقال: ((سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِمَا أَشْرَكُوا بِاللَّهِ))[آل عمران:151].
قال: ((وَقَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ))[الحشر:2]، وهذا دليل على الجبن المتأصل فيهم.
ولهذا قال: ((يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ))[الحشر:2] وهذا جرى مجرى المثل، كثيراً ما يستخدمه الناس في مناسبات شتى: فلان يخرب بيته بيده، أو الناس هؤلاء يخربون بيوتهم بأيديهم. هذا من الإعجاز؛ إعجاز الله تعالى في فعله وإعجاز الله في قرآنه أيضاً: ((يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ))[الحشر:2] هذه القصور الضخمة التي شيدوها والبيوت التي يسكنونها أصبحوا يخربونها أو يخربونها؛ قراءتان (يُخْرِبُونَ) أو (يُخَرِّبون) بأيديهم، هذا أولاً.
كيف يخربونها .. لماذا يخربونها بأيديهم؟ أولاً: من باب الحسد؛ لأنه ما دام سنخرج يقولون: ما في داعٍ أن ندعها للمسلمين، مثلما بنيناها يستفيدون منها، لابد أن نخربها عليهم، فكانوا يخربونها حسداً.
ثانياً: يخربونها لأنهم أحياناً يريدون أن يهربوا منها، فإذا حوصروا يعني: نقبوا البيت وخرجوا إلى البيت الذي خلفه.
ثالثاً: يخربونها لأنه أحياناً يأخذون منها شيئاً حتى يسدون به بعض الطرق وبعض الشوارع؛ لأنهم -كما قلت- كانوا يستعدون لحرب مدن .. حرب شوارع.
رابعاً: أن النبي صلى الله عليه وسلم بعدما انتهت القصة أذن لهم أن يخرجوا من البلد .. أن يجلوا من البلد. قالوا: إلى أين يا محمد! قال: إلى الشام . وذهب بعضهم إلى أريحا .. إلى أذرعات ، وذهب بعضهم إلى خيبر أيضاً كبني أبي الحقيق . فمن هنا أذن النبي صلى الله عليه وسلم أن كل عائلة أو كل عائلتين منكم أن يأخذوا حمل بعير إلا السلاح والكراع، ولذلك كان الواحد منهم يهدم الجدار على أن يأخذ مثلاً خشبة موجودة في الجدار، فصاروا يهدمون بيوتهم من أجل أن يحصلوا على هذه الأشياء، فأصبحوا يخربون بيوتهم بأيديهم، وهذا مرده إلى الحكمة وحسن التدبير؛ أن قوة العدو أحياناً تصبح قوة عليه، ومثال ذلك ما حصل أيام الاتحاد السوفيتي .. بعدما سقط الاتحاد السوفيتيأصبحت ترسانة الأسلحة النووية الموجودة عندهم عبئاً على الدولة وعلى ميزانية الدولة؛ كيف يحفظونها من أيدي اللصوص؟ هذا أمر صعب، كيف يستطيعون أن يدمروها بدون أن تضر البشر؟ كيف يستطيعون أن يحافظوا عليها لئلا تتسرب الإشعاعات النووية؟! فتصبح القوة التي يفتخر بها الإنسان أحياناً وبالاً عليه، إذا الله سبحانه وتعالى أراد له النقص، ومن هنا قال: ((يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ))[الحشر:2].
قال: ((وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ))[الحشر:2] يعني: ويخربون هم بيوتهم بأيدي المؤمنين، لأنهم هم السبب في كل ما جرى بنقض العهد والميثاق، وباعتماد أسلوب الغدر والخدعة والحيلة.
وكونهم أخربوها بأيدي المؤمنين؛ أن المؤمنين أيضاً كانوا يساهمون في إخراب بعض هذه البيوت لماذا؟ من أجل إذا اقتضت مصلحة الحرب أن يقوم المسلمون بهدم هذا الجدار أو إزالة بعض هذه الآثار، فإن المسلمين كانوا يعملون ما تقتضيه أصول الحرب والقتال؛ استعداداً للمعركة، فأصبح المسلمون يخربون بعض هذه البيوت، مع أنه من العادة أنه إذا انتصرت الجيوش تقوم بالتدمير والقتل والتحريق، بل والاعتداء على الأعراض أحياناً، وهذا معروف في التاريخ، لكن فيما يتعلق بالمسلمين فهم كانوا خلقاً آخر، كما سوف يأتي الثناء عليهم في هذه السورة، أقصد المسلمين الذين كانوا مع الرسول صلى الله عليه وسلم، ولذلك لم ينقل عنهم أنهم اعتدوا على أحد أو تجاوزوا حداً أو ظلموا، ولهذا قال: ((يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَأَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ))[الحشر:2] كم تحت هذا المعنى من سر عظيم.
((فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ))[الحشر:2] يا أصحاب البصائر والعقول! اعتبروا بما جرى .. خذوا منه عبرة، والسعيد من وعظ أو اعتبر بغيره.
((فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ))[الحشر:2] يعني: هذه فيه عبرة للمؤمنين أن يسلكوا طريقة النبي صلى الله عليه وآله وسلم في الصدق والوفاء بالعهد والميثاق والحذر واليقظة وحسن التدبير وطول النفس، والتوكل على الله سبحانه وتعالى.
وفيه: ألا يعتمد الإنسان على قوته، فانظر هذه القوة أنها لم تنفع أصحابها، وهذا يصلح في الجانب العسكري؛ ألا يعتمد الإنسان على قوته وسلاحه، فإنه إذا أتي من حيث لم يحتسب بالهزيمة النفسية، وإذا وقع الرعب في قلبه لا ينفعه سلاحه، وكما تقول العرب: المنهزم لا يلوي على شيء، يعني: لا يلتفت إلى شيء.
وفيه: عبرة لصاحب المال؛ ألا يعتبر بماله مهما كثر، فلا يغتر ولا يتعاظم ولا يقصر فيما أوجب الله عليه.
وأنت ترى اليوم الأزمة الاقتصادية التي ضربت العالم، من هم ضحاياها؟ ليسوا فقط الفقراء والبسطاء والمساكين، بل ضحاياها البنوك الضخمة والمؤسسات الهائلة؛ مؤسسات السيارات .. مؤسسات المال .. مؤسسات النفط .. الشركات الكبرى .. رجال الأموال .. المليارديرات، هم ضحاياها يوماً بعد يوم تسمع أخباراً وقصصاً وكلاماً في الشرق والغرب عن تجميد حسابات وأصول وغير ذلك، فهذا فيه درس وعبرة لصاحب المال.
وفيه عبرة أيضاً لصاحب العلم والدين، فإن هؤلاء القوم من أهل الكتاب، ومع ذلك لما أعرضوا ما نفعهم العلم الذي عندهم، وإنما أصبحوا أمثولة وأحدوثة للأمم. ففيه عبرة لكل أحد حتى صاحب القوة في جسمه أو الجمال.
نعم. يحمد الله الإنسان الله على نعمته عليه، هذا جيد، وأيضاً الثقة بما أعطاك الله هذا جيد، لكن لا يتحول هذا إلى غرور أو إعجاب أو كبر أو تقصير في حق الله، أو عدوان على عباد الله، هذا هو مدار الحديث في قوله: ((فَاعْتَبِرُوا))[الحشر:2].
قال سبحانه: ((وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ))[الحشر:3].
الجلاء يختلف عن الخروج، الجلاء: هو خروج مجموعة كبيرة من الناس بالقوة من مكان معين، ويخرجون بعوائلهم وأسرهم ونسائهم وأطفالهم، فهذا يسمى جلاء، وقد يسمى إجلاء؛ إشارة إلى أنهم لم يخرجوا باختيارهم، وإنما تم إجلاؤهم بالضغط عليهم والأمر والقوة.
قال سبحانه: ((وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ))[الحشر:3] الذي حدث وخرجوا، لأن النبي صلى الله عليه وآله وسلم تعامل معهم في الموقف كان فيه قدر كبير من الحكمة، لأن هؤلاء الناس غدروا وخانوا وتآمروا، ولذلك كانوا محاربين مقاتلين، ونقضوا العهود، ولو قاتلهم النبي صلى الله عليه وسلم وقتلهم لكان حقيقاً بذلك، إنما النبي صلى الله عليه وآله وسلم أذن لهم ووافق بعد مفاوضات، لما رأوا أن الدائرة تضيق عليهم، أنه اسمح لنا أن نخرج نحن بأسرنا وأطفالنا ونسلم من القتل ونخرج نأخذ بعض الحاجيات الضرورية، ونترك البلد لك. فتركهم النبي صلى الله عليه وسلم؛ لأنه رأى ذلك عين المصلحة؛ أنه سوف تخلو المدينة من هذا العبأ الغادر الذي هو نقيض مقاصد ومصالح المسلمين.
وأيضاً في ذلك حفاظ على أرواح المسلمين وعلى دمائهم، لأنها لو كانت حرباً بالتأكيد سوف يكون هناك قتلى من المسلمين، والنبي صلى الله عليه وسلم شحيح بأرواحهم، وكان عليه الصلاة والسلام حريصاً أشد الحرص على تجنب القتال ما أمكن، لماذا؟ لأن القتال كره، كما قال الله سبحانه: ((كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتَالُ وَهُوَ كُرْهٌ لَكُمْ))[البقرة:216]، والنبي صلى الله عليه وسلم كان يقول: (يا أيها الناس!) حتى في المعركة (يا أيها الناس! لا تتمنوا لقاء العدو، واسألوا الله العافية)، وكذلك الله سبحانه وتعالى قال في سورة الأحزاب: ((وَكَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتَالَ))[الأحزاب:25]، ولهذا نرجع هنا (العزيز الحكيم)، يتعلم المسلم أنه مع القوة من دون أن يكون حكيماً يحاول أن يتجنب، ولهذا يقولون في المثل: إذا كنت ذاهباً للسلام فاستعد للحرب . هذا من الذكاء، أن يكون عندك استعداد كما لو كنت سوف تحارب، ولكن هذا لا يعني الاغترار بالقوة، فإن بعض الناس يكون عنده إحساس مفرط بالحماس، ليس فقط بأن يملك السلاح، وإنما لا، الحماس والشعور بأن يستطيع أن يغير الحياة ويغير الدنيا ويغير مجرى الأمور، وفي الواقع أنه لا يملك ذلك، فهذه من مزالق الهوى أحياناً والأمنيات التي تضر أصحابها، وتقود إلى مغامرات فاشلة، ولهذا الله سبحانه وتعالى قال: ((وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ))[الحشر:3]، فأعفاهم النبي صلى الله عليه وسلم من القتل وأمرهم بالجلاء، مع أن الجلاء بالتأكيد هؤلاء يهود محاربون وهم الآن عندهم ثأر؛ لأنهم أخرجوا من ديارهم وأموالهم ومزارعهم، وسوف يتآمرون في أي مكان ذهبوا إليه، هذا معلوم، لكن هكذا هي الدنيا، خطوة خطوة، وهم يكيدون والله سبحانه وتعالى يكيد، هو أخرجهم الآن وهو يكيد لهم: ((إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا))[الطارق:15-16].
((وَلَوْلا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيَا))[الحشر:3] يعني: بعذاب آخر غير الجلاء، مثلما عذب غيرهم بالقتل أو بأي عقوبات أخرى من عنده سبحانه أو بأيدي المؤمنين.
قال: ((وَلَهُمْ فِي الآخِرَةِ عَذَابُ النَّارِ))[الحشر:3] يعني في الحالين: لهم في الآخرة عذاب النار إذا لم يتوبوا عما هم عليه، إشارة إلى أن هذا الذي أصابهم هو يسير بالقياس والنظر إلى ما ينتظرهم عند الله عز وجل، ذلك الذي حدث لهم الإشارة، وكأنك تراه بعينك الآن .. ترى آثار البلاد وقد هدمت ودخلها الفاتحون الجدد، ودخلتها هذه القوة الجديدة الصادقة المؤمنة، تراها بعينك، وترى المشاهد والآثار.
قال: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَرَسُولَهُ))[الحشر:4] يعني: جعلوا أنفسهم في شق غير شق الله ورسوله، وناحية مختلفة عما عليه الرسول صلى الله عليه وسلم والمؤمنون.
((وَمَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ))[الحشر:4]، فهذا بعض عقابه تعالى لهم.
قال سبحانه للمؤمنين: ((مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا))[الحشر:5] هذه قصة وقعت في هوامش الحرب، أن هؤلاء اليهود كان عندهم مزارع خارج الحصون، هذه بطبيعة الحال، عندهم أحياء أو حارات يسكنون فيها، وعندهم مزارع خارج الحارات، المزارع هذه يسمونها البويرة ولا زالت معروفة، والمدينة أو المكان الذي هم فيه يسمى الزهرة ، سموه أول ما نزلوا الزهرة ، فالبويرة هذه مزارع.
جاء المسلمون عبر هذه المزارع، طبعاً هم تحصنوا بحصونهم، وصارت المزارع ما فيها أحد .. خالية، فبعض المسلمين أحرقوا بعض النخيل، فصار اليهود يشنون حرباً نفسية أو يحاولون أنه يا محمد! أنت تنهى عن الفساد في الأرض، فما بال إحراق النخيل! كيف تحرق النخيل وأنت تقول: إن الله لا يحب الفساد، وأنت لا تحب الفساد؟ فالله سبحانه وتعالى هنا قال: ((مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ))[الحشر:5].
ولم يذكر الله في القرآن الحريق، ما قال: ما أحرقتم، وإنما قال: ((مَا قَطَعْتُمْ))[الحشر:5]، مما يدل على أن الإحراق كان محدوداً جداً، ولذلك العلماء -علماء السير- قالوا: الذي أحرق نخلة واحدة، وقال بعضهم: أربع نخلات، وأكثر ما قيل: ست نخلات، وابن مسعود رضي الله عنه يقول: [إن هذه النخلة التي أحرقها المسلمون حتى يتهيأ لهم المكان ليستعدوا لمواجهة بني النضير]. إذاً: ما أحرقوها لذات الفساد، وإنما لضرورة الحرب وتهيئة الميدان للدفاع والمواجهة والمنازلة مع هؤلاء الناس.
طيب! هل أحرق المسلمون شيئاً؟
نعم. يبدو أنهم أحرقوا، لأن حسان بن ثابت أثبت هذه القصة، وقال:
وهان على سراة بني لؤي حريق بالبويرة مستطير
البويرة هذه منازلهم، وسراة بني لؤي هم زعماء قريش الذين تعاقدوا وتعاهدوا مع هؤلاء اليهود .
يقول: (هان عليهم) يعني: لم ينصروا هؤلاء الناس كما وعدوا.
وقوله: (حريق بالبويرة مستطير) لا يدل على أنه حريق ضخم، ولكن نحن نعرف أن من طبيعة جذوع النخل إذا حرقت ما الذي يصير؟ يعني: الدخان يخرج فيها بقوة، ويمكن لو أن أحدكم رأى النخل إذا أحرق يتميز بأنه لا تصعد نيران وتتلهب كثيراً، ولكن في الغالب أنه دخان، ودخانه يرتفع بسرعة، ويوحي بأن هناك حريقاً، وإذا اقتربت وجدت الأمر أهون من ذلك، فلعل هذا قوله:
حريق بالبويرة مستطير
فرد عليه أبو سفيان قائلاً:
أدام الله ذلك من صنيع وأشعل في جوانبها السعير
وأبو سفيان كأنه يشمت، ويقول: الحريق لا يكون فقط في البويرة، وإنما ينتقل للمدينة كلها.
كان هناك حرب نفسية بين الأطراف وجزء من المعركة أو الحرب الإعلامية.
وفي صحيح البخاري عن ابن عمر : (أن النبي صلى الله عليه وسلم قطع وحرق في بني النضير).
إذاً: هناك قطع للنخل، وهناك تحريق، لكن الأقرب -والله أعلم- أن التحريق كان للنخل المقطوع، هذا هو الغالب، يعني: قطعوها ثم حرقوها، والتحريق هنا قد يكون لنوع من إثارة الرعب عندهم، وهذا جزء من الحرب، وقد يكون للحاجة، يعني: حرقوها حتى يستدفئوا بها أو يطبخوا أو غير ذلك من المصالح المباحة، ولم يرد إن كان النبي صلى الله عليه وسلم أمرهم بذلك أو نهاهم عنه، وإنما نزلت الآية الكريمة التي تحتمل الوجهين.
((مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ))[الحشر:5] اللينة: هي النخلة وأصلها لونة، وبعضهم يقول: إن اللينة هي النخلة إلا نخل البرني أو العجوة، وبعضهم يقول كما يقول الطبري : كل نخلة فهي لينة، وتجمع على ألوان، لأن أصله لونة. ونحن مزارعون نسمي الثمر (لوناً)، يعني: أول ما يطلع البسر قبل أن يثمر نسميه (لون)، وكذلك هذا النخل كانوا يسمون طلعه لوناً في المدينة المنورة ، و الله سبحانه وتعالى استخدم لفظ (لينة) وما قال: نخلة، ولم يأت في القرآن كله لفظ: نخلة بالمفرد، وإنما جاء نخل بالجمع، لأن لينة أسهل من نخلة .
وهنا قال سبحانه: ((مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا))[الحشر:5] يعني: فلم تقطعوها ولم تحرقوها.
((قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا))[الحشر:5] وهكذا تركتم النخيل قائمة على أصولها، فعبر بلفظ الجمع إشارة إلى أن معظم النخيل لم يقطع؛ لأن مرده أصلاً للمسلمين، فقال: ((أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا))[الحشر:5] إشارة إلى أصول النخل، وهذا يشبه ما ذكر الله تعالى في القرآن: ((أَلَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ))[إبراهيم:24] هذه الشجرة الطيبة ما هي؟ هي النخلة كما في حديث ابن عمر في الصحيحين، ((أَصْلُهَا ثَابِتٌ وَفَرْعُهَا فِي السَّمَاءِ))[إبراهيم:24] هذه هي النخلة؛ قائمة على أصولها، ولهذا ورد عن النبي صلى الله عليه وسلم أنه وصف النخل، وقال: (الراسخات في الوحل - يعني: في الطين- المطعمات في المحل) في الجوع .. في المجاعة، فـ(( مَا قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوهَا )) فلم تقطعوها ((قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا)).
قال: ((فَبِإِذْنِ اللَّهِ))[الحشر:5]، فيكون هذا إذناً شرعياً، يعني: أن الله تعالى أذن به مثلما قال مثلاً: ((مَا أَصَابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ))[التغابن:11] يعني: بقضائه وقدره. وبعضهم قالوا: هو إذن قدري .. إذن كوني بحدوثه. وبعضهم قالوا: هو إذن شرعي، بمعنى: أن الله تعالى أذن لهم بذلك، والأقرب أن هذا كان مسكوتاً عنه، وهم فعلوه لمصلحة الحرب وليس لهدف آخر.
قال: ((أَوْ تَرَكْتُمُوهَا قَائِمَةً عَلَى أُصُولِهَا فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ))[الحشر:5] بذلك، يعني: حتى في هذه الشائعة التي حدثت وتضخيمها؛ ممكن أنهم قطعوا نخلة وجاء أنهم قطعوا النخيل، أو أحرقوا نخلة لمصلحة، وجاء أنهم بدءوا في حريق المزارع كلها، فهذا الفعل الذي حدث، وانتشاره أيضاً هو خزي للفاسقين، والمقصود هنا اليهود الذين خرجوا عن طاعة الله وخرجوا عن العقد والعهد والميثاق، فسموا فاسقين، ولذلك الله تبارك وتعالى عاقبهم بهذه العقوبة، وكان أعظم سر في ذلك هو الغدر.
فلما أمر الله تعالى بالاعتبار بهذه القصة، كان في ذلك إشارة إلى أن على المؤمنين أن يرعوا العهد والميثاق وألا يغدروا، كما كان النبي صلى الله عليه وسلم والخلفاء الراشدين من بعده يوصون قادة الجيوش بتجنب ذلك، لأن الغدر والبغي كما قيل:
والبغي مرتع مبتغيه وخيم
قضى الله أن البغي يصرع أهله وأن على الباغي تدور الدوائر
لا يوجد أحد في الدنيا يبغي ويتجاوز ويغدر إلا انتقم الله تعالى منه، حتى جاء في الحديث الصحيح: (ما من ذنب أجدر أن يعجل الله تعالى له العقوبة في الدنيا مع ما يدخر لصاحبه يوم القيامة من البغي وقطيعة الرحم).
فالبغي يعني: الزيادة .. العدوان على الآخرين .. تجاوز الحد .. الغدر .. النكل، هذه من الأشياء التي عوقب بها هؤلاء الأقوام، وحل بها عليهم الخزي، ولذلك قال: ((َلِيُخْزِيَ الْفَاسِقِينَ))[الحشر:5].
((مَا أَفَاءَ اللَّهُ)) يعني: ما أرجع وأعاد، الفيء: هو ما أخذه المسلمون من الأعداء بغير قتال لكن ليس معناه أنهم أخذوه كما أن بعض الأفراد وبعض الشباب الشاردين عن الطريق المستقيم يعتقدون أنهم إذا ظفروا بشيء من مال الكفار لهم أن يسرقوه مثلاً أو يغتصبوه أو ينهبوه، لا، هذا البغي الذي تدور على صاحبه الدوائر، وإنما المقصود في مثل هذه المعركة التي أشار الله إليها سبحانه وتعالى هنا، الواضحة الجلية المكشوفة التي لم يحتج المسلمون فيها إلى مقاتلة، ولكن العدو انهزم بدون قتال، فأخذ المسلمون ما ترك. هذا يسمى فيئاً إذا أخذوه بغير قتال.
أما إذا أخذوه بقتال، فإنه يسمى الغنيمة، كما في قوله سبحانه: ((وَاعْلَمُوا أَنَّمَا غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ))[الأنفال:41].
قال: ((وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ))[الحشر:6] يعني: من بني النضير.
((فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ))[الحشر:6] (ما أوجفتم) يعني: ما أسرعتم. والإيجاف هو الإسراع، والإيضاع، المسرع، لا، ما أسرعتم عليه بخيل، وراكب الخيل يسمى فارساً ((وَلا رِكَابٍ)) الركاب هي الإبل، ولذلك لا يسمى راكباً إلا إذا كان على الإبل، أما إذا كان على الخيل فإنه يسمى فارساً، فهنا الله سبحانه وتعالى يقول: ((فَمَا أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَلا رِكَابٍ))[الحشر:6]، لأن المنطقة قريبة، والمسلمون لم يحتاجوا إلى قتال، فما أوجفتم عليه من خيل ولا ركاب ولا حرب تذكر، وإنما كان بدايات وتهديد وتمهيد وحصار.
((وَلَكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ))[الحشر:6] إذاً: الأمر من عند الله؛ أن الله سلط رسوله صلى الله عليه وسلم على هؤلاء الناس ونصر بالرعب.
((وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ قَدِيرٌ))[الحشر:6]، وهذا من قدرته جل وعز، مما لم تظنوا أن يحدث، وما ظنوا هم أن يقع.
إذاً: قوله: ((وَمَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْهُمْ)) معناه: أن هذا فيء لم يأت بسبب الحرب، وكان المسلمون سألوا رسول الله صلى الله عليه وسلم: هذا النخل والأرض وما وجدناه بعد اليهود هل يقسم كما تقسم الغنيمة؟ فأنزل الله تعالى هذه الآية؛ ليبين أن حكمه مختلف، وأنه ليس للمقاتلين على طريقة الغنيمة.
قال: ((مَا أَفَاءَ اللَّهُ عَلَى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرَى))[الحشر:7] يعني: سواءً بني النضير أو غير بني النضير، مثل فدك و خيبر وما بعدها؛ لأن هذه القرى تساقطت مثلما تتساقط أوراق الخريف أو الثمار الناضجة في قوة المسلمين.
((مِنْ أَهْلِ الْقُرَى))[الحشر:7] سواء كانوا أهل القرى أو غير أهل القرى، لكن لما قال: ((مِنْ أَهْلِ الْقُرَى )) إشارة إلى أن العادة أن هذا يحدث مع أهل القرى، أما أهل البوادي فإنهم -في الغالب- لا يقع منهم الفيء؛ لأنهم إذا ضيقوا في مكان أو حوصروا انتقلوا إلى غيره، وعندهم سعة، بخلاف أهل القرى المبنية، فإنهم مضطرون إلى المكث في المكان ذاته أو تسليمه.
قال: ((فَلِلَّهِ وَلِلرَّسُولِ))[الحشر:7] وكل شيء هو لله سبحانه وتعالى، لكن في ذلك إشارة إلى أن الأمر فيه لله عز وجل والحكم فيه لله وللرسول صلى الله عليه وسلم، وكان ينفق منه على أزواجه نفقة سنة، ويجعل ما بقي عدة في الكراع والسلاح وغير ذلك.
((وَلِذِي الْقُرْبَى))[الحشر:7] وهم بنو هاشم وبنو عبد المطلب الذين حرموا الصدقة وحرموا الزكاة من أقارب النبي صلى الله عليه وآله وسلم.
((وَالْيَتَامَى))[الحشر:7] هم الفقراء الذين لا يوجد لهم أموال ولا عائل.
((وَالْمَسَاكِينِ)) أيضاً من الفقراء.
((وَابْنِ السَّبِيلِ)) هم الذين انقطعت بهم السبل، ولا يجدون ما يصلون به إلى بلادهم.
قال سبحانه في تفسير هذا التقسيم: ((كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ))[الحشر:7] أي: كي لا يكون الفيء دولة بين الأغنياء، ودُولة -بضم الدال- أي: متداولاً بين الأغنياء منكم، وفي ذلك إشارة إلى أن ترك الفيء لهذه الأصناف العديدة والكثيرة من الناس وتوزيعه عليهم، ومثله أيضاً الأموال العامة، مثل الأموال التي يسمونها الموات؛ النبي صلى الله عليه وسلم تكلم عن إحياء الموات التي ليس لها مالك، وإنما هي أموال حكومية .. أموال الدولة، ومثلها الأموال الضائعة التي ليست لأحد، ومثلها الركاز الذي يعثر الناس عليه مدفوناً، ومثلها أيضاً المعادن ونحو ذلك؛ فإن هذه الأشياء ليس لها مالك خاص، وإنما هي ملك لله ولرسوله وللمؤمنين، وهم فيها أسوة بعضهم ببعض، بحسب بلائهم، وبحسب حاجتهم، وبحسب سابقتهم، كما كان عمر رضي الله عنه وأرضاه يقول، هذا كله كي لا يكون دُولة، كي لا يكون المال دولة بين الأغنياء، يعني: أن يكون الغني يزداد غنى والفقير يزداد فقراً، ويكون المجتمع مقسماً إلى فئة تملك كل شيء وفئة لا تملك شيئاً، وإنما يكون هناك خطط وترتيبات لأن يتقارب الناس في مستوى الدخل وفي مستوى التملك؛ حتى تزول الحزازات والأحقاد بين الناس.
قال: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ))[الحشر:7] إما أن يكون المعنى: وما آتاكم من المال أو من الفيء فخذوه، ((وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا))[الحشر:7] حتى ولو كان قضيباً من أراك، ولهذا سماه غلولاً، ((وَمَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِمَا غَلَّ يَوْمَ الْقِيَامَةِ))[آل عمران:161]. ويجوز أن يكون معنى الآية أوسع من ذلك وهو الراجح؛ أن قوله: ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ))[الحشر:7] يعني: من كل ما آتاكم الرسول من الأمر والنهي والحكم والتشريع، فعلى المسلمين أن يأخذوه، ولهذا يستدل العلماء بهذه الآية على وجوب طاعة الله ووجوب طاعة الرسول صلى الله عليه وسلم، وعلى أن السنة تشريع يجب العمل بها، ولهذا استدل بها جمع من الصحابة والتابعين والأئمة على كثير من الأحكام التي وردت في السنة، حتى أن ابن مسعود رضي الله عنه رأى رجلاً محرماً بثيابه، فقال له: [اخلع ثيابك. فقال: هل تجد هذا في كتاب الله؟ قال: نعم. ((وَمَا آتَاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا))[الحشر:7]].
وكذلك كثير من الأحاديث مثل: (لعن الله الواشمة والمستوشمة، والنامصة والمتنمصة)، و الشافعي استدل بها في أشياء كثيرة مما لم يرد في نص القرآن، ولكن ورد في السنة النبوية. ويدخل في ذلك طبعاً ما يتعلق بقسمة الفيء وقسمة الغنيمة.
قال: ((وَمَا نَهَاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ))[الحشر:7] يعني: أكد على هذا الموضوع إشارة إلى أن قضية المال التي هي محل الحديث أنها قضية حساسة، وكثير من الناس ربما يكون صالحاً أو متديناً، لكنه يفشل عند الاختبار بالمال، وهكذا يمكن أن يقع هاهنا، وخاصة إذا وجد التنافس بين الناس كما أشار بعد قليل، ولذلك أكد بقوله: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقَابِ))[الحشر:7].
ثم قال سبحانه: ((لِلْفُقَرَاءِ الْمُهَاجِرِينَ))[الحشر:8] إذاً: يجوز أن يكون هذا معناه أن الفيء لهؤلاء الفقراء المهاجرين.
((الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمْ))[الحشر:8] ففقرهم بسبب خروجهم طاعة لله ورسوله، وإلا فهم أغنياء في بلادهم، وعندهم بيوت وعندهم أشياء، وهم بهذا الاعتبار يشبهون أبناء السبيل، لكن الله تعالى خصهم ونص عليهم، وأثنى عليهم هذا الثناء العظيم، هؤلاء هم الذين استحقوا النصر .. هؤلاء هم الذين استحقوا أن تقاتل معهم الملائكة، وأن يكون الله تبارك وتعالى معهم، ينصرهم بالرعب، فيثني عليهم في كتابه، ولهذا جعل الله تعالى محبة هؤلاء الناس والثناء عليهم، وذكرهم الحسن جعله سيما لمن رضي عنهم وأرضاهم واختارهم من عباده، فلا يحبهم إلا مؤمن ولا يبغضهم إلا منافق، خاصة بعد أن أثنى الله تعالى عليهم في كتابه، وأشاد بهم هذه الإشادة العظيمة الجليلة.
((لِلْفُقَرَاءِ))[الحشر:8] ما عندهم أموال يمدحون بها، لكن يمدحون بالفقر، وليس يمدحون بالفقر بذاته، لكن لأنه في ذات الله عز وجل، ((لِلْفُقَرَاءِ المُهَاجِرينَ))[الحشر:8] الذين تركوا بلادهم مكة، ((الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَأَمْوَالِهِمَْ))[الحشر:8] إذاً: عندهم ديار وبيوت وأموال، لكنهم فضلوا عليها الإسلام، وآثروا عليها الإيمان. سوف يذكر بعد قليل الإيثار للأنصار، وهنا ذكر الإيثار للمهاجرين، وأنهم آثروا الله تعالى ورسوله وطاعته على الدنيا، وعلى أموالهم فأخرجوا من ديارهم وأموالهم.
((يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَرِضْوَانًا))[الحشر:8] يطلبون رضوان الله عز وجل وفضله.
((وَيَنْصُرُونَ اللَّهَ وَرَسُولَهُ)) بأنفسهم، هذا جيل استثنائي، يثني عليهم الله سبحانه وتعالى، وهو الذي يعلم بواطنهم وظواهرهم بهذا الثناء المستفيض المطول المفصل، يعني: هذه آية ينبغي أن نقف عندها ونستلهم منها حب أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم، وأن الله تعالى اختارهم لصحبة نبيه، هذا جيل لم يأت بعده مثله، ولن يأت بعده مثله، فلهم هذه الفضيلة العظيمة.
قال: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ))[الحشر:8] أي مدح بعد ذلك ((أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ))[الحشر:8] وصفهم بالصدق؛ صدق القلوب وصدق الألسنة وصدق الأعمال، والله سبحانه وتعالى أمرنا أن نكون معهم، فقال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَكُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ))[التوبة:119]. ومن هنا كان إجماع الصحابة رضي الله عنهم حجة عند العلماء كما ذكر ذلك ابن حزم و ابن تيمية وغيرهم، واختلفوا في إجماع من بعدهم، وإن كان الجمهور على اعتبار الإجماع، لكن إجماع الصحابة له ميزة وخصيصة عظيمة.
قال: ((أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ))[الحشر:8] الوصف بالصدق هنا يعني: أن عملهم لم يكن فيه أي رياء ولا تمثيل ولا ازدواجية، وإنما كان فيه الصدق التام، فوصفهم الله تعالى بذلك.
ثم قال: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ))[الحشر:9]، انتقل إلى الثناء على المجموعة الأخرى: الأنصار، إما أن لهم جزءاً من الفيء، وقد أعطى النبي صلى الله عليه وسلم ثلاثة من الأنصار: أبا الدحداح واثنين أو ثلاثة معه، أعطاهم النبي صلى الله عليه وسلم من الفيء لفقرهم أو لسبب من الأسباب، ولكنه لم يعط الباقين، وقد ورد أنه لم يعطهم من باب تصحيح الوضع الاقتصادي في المدينة ؛ لأن المهاجرين لم يكن عندهم شيء؛ بسبب خروجهم من بلادهم، وأهل المدينة الأنصار كانوا أهل زرع وضرع ولهم بيوت ومزارع، فأشركهم الأنصار وهنا جاءت الفرصة أن يتم تصحيح الوضع وترتيب الأمور في المدينة من جديد، بحيث يكون عند المهاجرين أصول ثابتة يستطيعون أن يعتمدوا عليها في معاشهم وفي حياتهم الاقتصادية، ويكون هناك تحقيق لمعنى: ((كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الأَغْنِيَاءِ))[الحشر:7]، يكون هناك دعم لوضع الفقراء، وهذا مقصد اقتصادي وأخلاقي عظيم.
قال: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ))[الحشر:9] هؤلاء هم الأنصار: الأوس والخزرج.
((تَبَوَّءُوا الدَّارَ)) يعني: كانت مباءة لهم .. مكان يبوءون إليه .. يعودون إليه، والدار هي المدينة ، ولذلك من أسمائها: الدار .
قال: ((وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ))[الحشر:9] هل إيمان الأنصار قبل المهاجرين؟ لا. هم قبل جزء من المهاجرين، لكن المهاجرون هم أصل الإيمان، ولكن المعنى -والله أعلم- عندي أن المقصود أنهم هم الذين جمعوا الثنتين معاً قبل غيرهم، يعني: هم ((الَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ)) يعني: كان عندهم مدينة دار الهجرة والإيمان اجتمعت فيهما قبل المهاجرين، المهاجرون تبوءوا الإيمان من قبل، لكن ما كان عندهم الدار، أما من اجتمع لهم الدار والإيمان معاً فكانوا هم الأنصار. ويحتمل أيضاً الإشارة إلى أن الأنصار بدأ فيهم الإسلام قبل الهجرة كما هو معروف، وبايعوا النبي صلى الله عليه وسلم وأرسل إليهم مصعب بن عمير ، ثم فشا الإسلام في بيوتهم.
قال: ((وَالَّذِينَ تَبَوَّءُوا الدَّارَ وَالإِيمَانَ مِنْ قَبْلِهِمْ))[الحشر:9] وجعل هنا: إما أن يكون تبوءوا الدار والإيمان على سبيل التسامح في العبارة، كما قال:
ورأيت زوجك في الوغى متقلداً سيفاً ورمحاً
قالوا اقترح شيئاً نجد لك طبخه قلت اطبخوا لي جبة وقميصاً
أو يكون المعنى: الإشارة إلى أن الإيمان أصبح كأنه دار ونُزل وسكنى لهم أيضاً، تسكن إليه قلوبهم كما تسكن أجسادهم إلى بلادهم.
((يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ))[الحشر:9] انظر هذا الثناء الإلهي، الإنسان يستثقل الضيف عادة، فكيف إذا كان الإنسان مهاجراً يسكن عندك.
قال الله تعالى: ((يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ))[الحشر:9] فشهد لهم بالحب، وهذا الإخاء بين المهاجرين والأنصار هو مضرب المثل لكل مؤمن صادق أن يحب المؤمنين (( يُحِبُّونَ مَنْ هَاجَرَ إِلَيْهِمْ )).
((وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا))[الحشر:9] يعني: لا يجد الأنصار في صدورهم حاجة، يعني: وجد أو حسد أو غل أو حقد أو ضيق مما أوتي أولئك المهاجرون، فقد جعل الرسول صلى الله عليه وسلم أموال بني النضير غالباً للمهاجرين، فلم يقع هذا في نفوس الأنصار، بل إن النبي صلى الله عليه وسلم لما قال للأنصار: إنه يريد أن يقطعهم قطائع في البحرين في منطقة الأحساء ، قالوا: (يا رسول الله! لا تقطعنا إلا أن تقطع إخواننا من المهاجرين مثلما أقطعتنا)، (( وَلا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حَاجَةً مِمَّا أُوتُوا )).
((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ))[الحشر:9] والإيثار على النفس أن تجعل حظ الآخرين من الشيء قبل حظك.
((وَيُؤْثِرُونَ عَلَى أَنْفُسِهِمْ وَلَوْ كَانَ بِهِمْ خَصَاصَةٌ))[الحشر:9]، وهذه الآية نزلت في الأنصار، لكن ورد أنها نزلت في حالات خاصة، مثل: أبي طلحة لما جاء ضيف النبي صلى الله عليه وسلم فلم يكن عند أزواجه شيء، فذهب مع أبي طلحة وسأل زوجه: عندك شيء؟ قالت: لا، ما عندي إلا طعام الصغار. قال: نوميهم، ثم اطبخي ثم أطفئي السراج ونتظاهر للضيف بأننا نأكل حتى يشبع. وباتوا طاوين، فأنزل الله تعالى هذه الآية، وهذا نموذج. وقصة أصحاب اليرموك عكرمة وأصحابه أيضاً الذين آثر بعضهم بعضاً بالماء وهم في الرمق الأخير ... إلى غير ذلك من القصص العجيبة الغريبة في الإيثار على النفس.
ولهذا يروى أن معروف الكرخي أو غيره يقول: ما وبخني أحد مثلما وبخني شاب من أهل بلاد ما وراء النهر حيث لقيته بـمكة ، فسألني: كيف الزهد عندكم؟ فقلت له: الزهد إن وجدنا أكلنا، وإن لم نجد صبرنا. فقال له هذا الشاب: كلاب بلخ عندنا هي كذلك، إن وجدت أكلت وإن لم تجد صبرت. يقول: فاستحيت منه وقلت له: فما الزهد عندكم؟ قال: إن عدمنا شكرنا - إن لم نجد شيئاً شكرنا-، وإن وجدنا آثرنا - آثروا غيرهم بها-.
فهنا الله سبحانه وتعالى أثنى على الأنصار بالإيثار وهو خلق عظيم يدل على .. وهذا الموضع أعظم من مثل قوله تعالى: ((وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَى حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا))[الإنسان:8]، فهؤلاء يحبون من هاجر إليهم، ولا يجدون في صدورهم حاجة مما أوتوا، ويؤثرون غيرهم على أنفسهم ولو كان بهم خصاصة، وليس قصدهم بذلك أن يثنى عليهم بهذا، ولكن حباً في الله ورسوله وكرم أخلاق جبلوا عليه.
قال الله عز وجل: ((وَمَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُوْلَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ))[الحشر:9]، فهؤلاء الناس وقوا شح أنفسهم، ووصفهم الله تعالى بذلك ووعدهم بالفلاح.
والفرق بين الشح والبخل دقيق، وبعضهم قال: هما مترادفان. والأقرب أن الشح هو أشد البخل، وقيل: إن الشح هو معنى نفسي، والبخل معنى عملي، بمعنى: أن الشح هو ما يكون في النفس من حب الأشياء، ولهذا قال الله سبحانه: ((وَأُحْضِرَتِ الأَنفُسُ الشُّحَّ))[النساء:128]، فما من نفس إلا وفيها شح؛ شح بالنفس، وشح بالمال، وشح بالدنيا، وشح بالأشياء، وأما البخل فهو ما يظهر على الإنسان من المن أو عدم العطاء أو الحرص على المال، فيكون البخل هو أثر الشح.
إذاً: أثنى الله تعالى أولاً على المهاجرين، ثم أثنى ثانياً على الأنصار، فنحن نشهد الله سبحانه وتعالى أننا نحب المهاجرين ونحب الأنصار الذين أحب بعضهم بعضاً، وأحبوا ربهم، وأحبوا نبيهم صلى الله عليه وسلم، وشهد لهم الله تعالى في كتابه، ونسأل الله تعالى أن يحشرنا معهم، ويجمعنا بهم في جنات النعيم، وهكذا نقول: إن كل مؤمن بالله ورسوله لابد أن تكون هذه من أصول دينه وإيمانه، أن يحب هذا الجيل الذي أحبه الله ورسوله، وألا يتكلم فيهم إلا بخير.
ولهذا قال سبحانه: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ))[الحشر:10] هذا قد يكون معناه: الذين جاءوا من بعد، يعني: من الذين جاءوا إلى المدينة من غير المهاجرين ومن غير الأنصار، كالقبائل التي تأخرت وجاءت، والجمهور من المفسرين على أن المقصود: الأجيال التي جاءت من بعدهم .. بعد عصر المهاجرين والأنصار، فهؤلاء الذين جاءوا كما دل عليه السياق يحبون أولئك.
وقال: ((وَالَّذِينَ جَاءُوا مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا))[الحشر:10] وبدءوا بأنفسهم لأن من السنة في الدعاء أن يبدأ الإنسان بنفسه قبل غيره، كما كان الأنبياء عليهم الصلاة والسلام في دعوتهم: ((رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَلِوَالِدَيَّ))[إبراهيم:41].
((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ))[الحشر:10] فيدعون لمن سبقوهم بالإيمان، وأول ما يشمل ذلك المهاجرين والأنصار، فدعوا الله تبارك وتعالى لهم بالمغفرة، وأثنوا عليهم ووصفوهم بالإخوة ((وَلِإِخْوَانِنَا))، فهم إخواننا فعلاً ونحن إخوانهم، وأي شرف وفضيلة ومجد أعظم من أن يعقد الله لواء الأخوة بغض النظر عن الجنس واللون والشكل والعنصر بين هؤلاء المؤمنين، وبين كل من يحبهم ويثني عليهم إلى يوم القيامة.
((رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ))[الحشر:10] فشهدوا لهم بالإيمان، وأثنوا عليهم بالسابقة ((وَالسَّابِقُونَ السَّابِقُونَ * أُوْلَئِكَ الْمُقَرَّبُونَ))[الواقعة:10-11].
((وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا))[الحشر:10] فيدعون الله سبحانه ألا يجعل في قلوبهم غلاً، يعني: حقداً وكراهية وبغضاً لهؤلاء الذين آمنوا من السابقين، وبطبيعة الحال من اللاحقين أيضاً، فهو قال بشكل عام: ((وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا))[الحشر:10]، ولهذا الحرص على التزكية هي أن يكون قلب الإنسان المؤمن طيباً صافياً على إخوانه المؤمنين: ((رَبَّنَا إِنَّكَ رَءُوفٌ رَحِيمٌ))[الحشر:10].
وهنا في قوله سبحانه: ((وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا))[الحشر:10] إشارة إلى وجوب محبة أصحاب محمد عليه الصلاة والسلام، وقد ورد في ذلك نصوص كثيرة جداً، وكتب فيه أهل العلم وألفوا، ولكن مما يستحق أن نشير إليه ونؤكده هنا في قولهم: ((وَلا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنَا غِلًّا لِلَّذِينَ آمَنُوا))[الحشر:10] أنه لا ينبغي لأحد من الناس أن ينال أحداً من أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم، حتى لو كان الصحابة اختلفوا فيما بينهم، قد يختلف الصحابة فيما بينهم لدنيا .. لأمر من الأمور، فهم بشر، بل قد يختلفون في أمر من أمور الدين وهم في منزلة واحدة، نعم ((هُمْ دَرَجَاتٌ عِنْدَ اللَّهِ))[آل عمران:163]، لكن كلهم لهم شرف الصحبة، ولذلك قد يقع فيما بينهم شيء من الاختلاف، بل وقع بينهم قدر من القتال كما هو معروف، فهذا الأمر فيما بينهم بمنزلة واحدة، في أصل الصحبة والانتماء.
أما من جاءوا بعدهم فهم بمنزلة دونهم، ولم ينالوا هذا الشرف، ولذلك ليس من حقك أن تتعصب أو تنحاز لهذا ضد هذا أو تجعل من النيل والوقيعة في أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم ديناً يتدين به، و لاشك أن أصل مبدأ الشتم والسب ليس مبدأً دينياً ألبتة، فالله تعالى لا يتعبد بالسب حتى سب آلهة المشركين، الله تعالى قال: ((وَلا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ))[الأنعام:108]، حتى سب الشيطان لم نؤمر به، وإنما أمرنا بالاستعاذة منه ، حتى سب فرعون و هامان و قارون و أبي جهل ليس فيه أجر وليس فيه تدين وليس عبادة، ولا يزيد القلب إشراقاً، ولا يزيد النفس إيماناً، ولا يزيد الحسنات، ولا يثقل الميزان، بل إن اعتياد لغة الإنسان على لغة السب والوقيعة هو يفضي بالإنسان إلى الازدراء والحقارة ورداءة الطبع وخشونة الخلق، ولذلك لا يتدين الإنسان بسب المنحرفين والضالين والإفراط في ذلك إلا بقدر ما يستدعيه بيان الحق أحياناً مما يتعلق بالأحكام الشرعية، أو مسألة الجرح والتعديل أو غيرها مما له حدود معينة، أما أصحاب محمد صلى الله عليه وآله وسلم فهم لون آخر، رضي الله تعالى عنهم وأرضاهم، ونسأل الله تعالى أن يجمعنا جميعاً معهم في جنات النعيم.
في السورة مقطع آخر عجيب أيضاً وهو التفات إلى مجموعة أخرى كانت تعمل في الظلام ومن وراء الكواليس، مجموعة المنافقين عبد الله بن أبي ابن سلولوسبعة أو ثمانية من الرءوس اليابسة المتصلبة التي أصرت على عدوانها وعلى جهلها، كانت تعمل وتخطط في المعركة لكن دون جدوى.
الله سبحانه وتعالى هنا يقول: ((أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا))[الحشر:11] وهذا خطاب للنبي صلى الله عليه وسلم ولكل أحد، فهذه المجموعة من المنافقين الذين كانت تربطهم أحلاف مع اليهود ، ثم علاقات وصداقات؛ وصفها الله تعالى هنا بالأخوة: ((أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ))[الحشر:11] هم ليسوا إخواناً في النسب ولا حتى في العروبة؛ لأن هؤلاء من بني إسرائيل وهؤلاء من العرب، وإنما الأخوة هنا أنهم كانوا حلفاء وأيضاً أخوة لهم في الشر وحرب الله تعالى ورسوله صلى الله عليه وآله وسلم، وكأنه بعدما ذكر الأخوة السابقة: ((يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنَا وَلِإِخْوَانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونَا بِالإِيمَانِ))[الحشر:10]، وذكر الإخاء بين المهاجرين والأنصار، والإيثار الصادق، ووصفهم بالصدق .. نموذج للفئة الصادقة المؤمنة التي توافق ظاهرها باطنها، وتجردت من الحظوظ والأهواء الشخصية والمصالح، انتقل بعد ذلك إلى الضفة الأخرى، يقول: (( أَلَمْ تَر إِلَى الَّذِينَ نَافَقُوا)).
((يَقُولُونَ لِإِخْوَانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ))[الحشر:11] وهذا لاشك أنه قول همس وسر في مجالس خاصة عقدت لمعالجة الموقف، فهم يقولون لهؤلاء الكافرين من أهل الكتاب من بني النضير قبل المعركة يقولون: ((لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ))[الحشر:11] قالوا لهم: نحن منكم وأنتم منا، والمصير مشترك، المصير واحد، إذا وصلت الأمور إلى أن تخرجوا من المدينة نحن معكم سوف نخرج، وهذا معناه تثبيت لهم أن لا تخرجوا؛ لأن هذا سيكون إخراجاً لنا جميعاً، فهم يثبتونهم في أرضهم ألا تخرجوا.
((وَلا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَدًا أَبَدًا))[الحشر:11] يعني: لا محمداً ولا غيره عليه الصلاة والسلام، فما بيننا وبينكم من العقود والعهود والمواثيق أعظم من أن نطيع فيكم أحداً.
((وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ))[الحشر:11] إذا صار الأمر أمر قتال نحن سوف ندخل معكم، وقال لهم عبد الله بن أبي ابن سلول : إن عنده كتائب أكثر من ألفين مقاتل مدربين ومجهزين بأسلحتهم ومستعدين لخوض المعركة إذا دنت ساعة الصفر، ((وَإِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ))[الحشر:11] ومعناه أننا سوف ننتصر.
قال الله عز وجل: ((وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ))[الحشر:11] انظر! مقابل ((أُوْلَئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ)) وصف الله تعالى بها المهاجرين والمؤمنين، وهنا قال: ((وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكَاذِبُونَ))[الحشر:11] حتى في هذه الدعوة المادية، وهذا الوعد.
((لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ))[الحشر:12] لأن حب البلاد متأصل فيهم، فلن يخرجوا.
((وَلَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ))[الحشر:12] بل سوف يتخلون عنهم.
((وَلَئِنْ نَصَرُوهُمْ))[الحشر:12] على افتراض ذلك: ((لَيُوَلُّنَّ الأَدْبَارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ))[الحشر:12].
إذاً: سبحانه الله نفى أن يكونوا في وارد أن يخرجوا معهم لو أجلوا من المدينة ، ونفى أن يكونوا مستعدين حتى لخوض المعركة معهم، وحتى لو خاضوا المعركة، وهذا قيل: إما على سبيل التنزل والافتراض، أو على سبيل أنه قد يوجد منهم من يفكر بخوض المعركة من أصحاب الهوج والحمق الذين لا يفكرون في عواقب الأمور، فلو حدث أن فئة منهم خاضت معهم المعركة، فإنهم لن ينتصروا، وإنما سوف يولون الأدبار ثم لا ينصرون.
قال عز وجل: ((لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ))[الحشر:13]، وهذا من إعجاز القرآن، قال: ((لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ))[الحشر:13] يعني: لو تخيلت أي واحد من الناس يريد أن يعبر عن هذا التعبير لن يجد أبلغ ولا أدق وصفاً في المقارنة في الخوف من هذه الآية: ((لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً))[الحشر:13] يعني: الرهبة في أشخاصكم .. شخوصكم أصبحت مرهوبة عندهم.
((أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ)) يعني: هم لا يظهرون ذلك، وإنما هو في صدورهم وقلوبهم.
((أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ))[الحشر:13] عز وجل، لماذا؟ لأنهم ما قدروا الله حق قدره، أما أنتم فيعلمون قوتكم وبأسكم وشجاعتكم ووحدتكم، أما الله سبحانه وتعالى فإنهم لا يعرفونه، ولهذا لا يخافونه، وقد قيل: من كان بالله أعرف كان منه أخوف.
قال: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ))[الحشر:13] الفقه هو المعرفة القلبية، المعرفة الباطنة تسمى فقهاً، ومعرفة الله من المعرفة الباطنة، ولا يكفي فيها مجرد حفظ الأسماء أو قراءة الكتب حتى تلامس معرفته القلوب، فتورث الخشية، ولهذا قال: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ))[الحشر:13]، ولو كان عندهم فقه لخافوا الله عز وجل.
((لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا))[الحشر:14] يعني: هؤلاء الناس؛ والكلام يصدق على اليهود وعلى المنافقين معاً بأنه ليس أحد الطرفين بأولى برجوع الضمير إليه من الآخر، فهذه صفة أنهم يخافون المؤمنين أكثر مما يخافون الله. وهل هم يخافون الله؟ قد وجد منهم من يعرف الله سبحانه وتعالى معرفة بسيطة، اليهود أهل كتاب، والمنافقون أيضاً أصلهم وثنيون، ولكن عندهم إيمان بالله من حيث أنه موجود، ولكن ليس عندهم الخوف الحقيقي من الله.
قال: ((لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا))[الحشر:14] يعني: مجتمعين، لأنه ليس لديهم استعداد أن يخوضوا معركة عسكرية، جيش مقابل جيش، هذا معنى: ((لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا)).
سبحان الله! لما تقرأ التاريخ كله، انظر! ما هي المعارك التي خاضها جيش يهودي في التاريخ مقابل جيش، يعني: رجال مقابل رجال، أو خيول أو فرسان مقابل فرسان؟ لا تجد شيئاً من ذلك، ليس لهم القدرة على المواجهة العسكرية من خلال صفوف كما كانت عادة الناس في القتال في بلاد العرب وغير العرب، ليس لديهم القدرة على أن يحمل السيف ويكون في مواجهة الآخرين، لا تجد هذا في تاريخ اليهود ، يعني: مثلاً الصليبيون قاتلوا قتالاً مستميتاً، قاتلوا المسلمين في الحروب الصليبية، وقاتلوا الدولة العثمانية ولهم معارك ومواقع، أما بالنسبة لليهود فهم ليس لديهم الاستعداد على المواجهة، ولهذا قال: ((لا يُقَاتِلُونَكُمْ جَمِيعًا))[الحشر:14] يعني: صفوفاً في مقابلة صفوف، وكأن المعنى ينتهي بهذا، أنهم لا يقاتلونكم جميعاً.
قال: ((إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ))[الحشر:14] أي: ولكن، كأنه استئناف كلام جديد (( فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ ))، يعني: لديهم استعداد بالكيد والمكر والقتال من وراء وراء والتترس وما أشبه ذلك من الأحابيل والحيل التي يتفنون فيها في القتال، وهذا ما تجده اليوم منذ الخطوط التي كانوا يعملونها خط برليف وغيره .. إلى الجدار العازل الذي يبنونه الآن .. إلى الفضائح التي ظهرت في حرب غزة ؛ أنهم كانوا يستعملون الحفاظات للجنود بسبب أنهم يتبولون على أنفسهم من شدة الرعب والخوف. وهذه يبدو أنها حقائق وليست دعايات، فهنا الله سبحانه وتعالى يقول: ((إِلَّا فِي قُرًى مُحَصَّنَةٍ))[الحشر:14] ولذلك كانوا يستخدمون الحصون المنيعة التي يمتنعون بها في الحرب.
((أَوْ مِنْ وَرَاءِ جُدُرٍ))[الحشر:14] جمع جدار، أما المواجهة فهم لا يحسنونها ولا يتقنونها؛ لأن الرعب يعصف بقلوبهم.
((بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ))[الحشر:14] إما أن المعنى: ((بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ))[الحشر:14] أي: إذا اجتمعوا وجلسوا قوَّى بعضهم بعضاً، وقالوا: سنفعل وسنقاتل وكذا، فإذا جد الجد وحزب الأمر غيروا ذلك، وإلا فالمعنى الثاني وهو أصح وأقوى: أن قوله: ((بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ))[الحشر:14] يعني: خلافاتهم فيما بينهم قوية، ولهذا عقب بقوله: ((تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى))[الحشر:14] فهم فيما بينهم مختلفون، وهم قبائل، والآن هم في إسرائيل أحزاب وجماعات من الأشكناز والسفرديم وغيرهم من مكونات المجتمع اليهودي، وكذلك الأحزاب اليمينية واليسارية وغيرها، وبينهم خلافات. نعم أحياناً في حالة التمكين بحبل من الله أو حبل من الناس، ربما تختفي هذه الظواهر.. ظواهر الاختلافات، ويبدو كما قال: ((تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا))[الحشر:14] لكن الواقع أن قلوبهم شتى، مشتتة ومختلفة، ولذلك إذا سقط الجمل -كما يقال:- كثرت سكاكينه ، فلو وقع لهم واقعة ضخمة وكبيرة بدأت الاختلافات بينهم والتلاوم والسب والشتم وتبرؤ بعضهم من بعض. فهنا قال: ((بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ))[الحشر:14] حربهم وخلافهم وشرهم على بعضهم شديد (( تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى )).
((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ))[الحشر:14] الأول قال: ((لا يَفْقَهُونَ))[الحشر:13] لأن معرفة الله فقه يحتاج إلى قلب واع وعقل نير . والثانية قال: ((لا يَعْقِلُونَ)) ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ))[الحشر:14] لماذا؟ لأن هذا دليل على أن العقل الرشيد يوحي للإنسان بأهمية الاجتماع وعدم التفرق، وأن الله تعالى لا ينصر القوم المختلفين حتى لو كانوا من المؤمنين ، ولهذا خاطب محمداً صلى الله عليه وسلم وأصحابه بقوله: ((وَلا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ))[الأنفال:46]، وكان الناس يوصي بعضهم بعضاً بالتوحد، كما قال الرجل الذي حضرته الوفاة لأولاده:
كونوا جميعاً يا بني إذا اعتدى خطب ولا تتفرقوا آحادا
تأبى الرماح إذا اجتمعن تكسراً وإذا افترقن تكسرت أفرادا
فقوله: ((ذَلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ))[الحشر:14] دليل على أن العقل الرشيد حتى من دون إيمان يوحي بأهمية الاجتماع، وأن تضم قوتك إلى قوة غيرك، فـ من كان دأبه الاختلاف فقد ترك العمل بمشورة العقل ونصيحته ، فإذا كان هؤلاء الناس فقدوا تأثير القلوب حتى صاروا يخافون الناس أكثر مما يخافون الله، وفقدوا تأثير العقول حتى أصبحوا مختلفين فيما بينهم ((تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى))، فماذا بقي لهم إلا الأجساد.
وفي الواقع أنه لما يقول لنا ربنا سبحانه: ((فَاعْتَبِرُوا يَا أُولِي الأَبْصَارِ))[الحشر:2] هذا مما يأمرنا ربنا أن نعتبر به، فإن أكثر ما جنى على المسلمين وسبَّب لهم الهزيمة والفشل والتأخر وذهاب الريح هو التفرق والشتات الذي عصف بهم طويلاً، وليس فقط الاختلاف؛ لأن الاختلاف جزء من سنة إلهية، لكن أن يتحول الاختلاف إلى عصبية، ومن هنا يصبح الاختلاف تفرقاً، فكل واحد يتعصب لمذهبه أو يتعصب لبلده أو يتعصب لمنطقته أو يتعصب لحزبه وجماعته، أو يتعصب لشيخه، أو يتعصب لنفسه ورأيه، وتكون مهمته هي الإطاحة بالآخرين والوقيعة في الآخرين، ويعتقد أنه هو الذي يمثل الحق وغيره لا شيء.
فامتداد مثل هذه الأمور تراها اليوم على أشدها في المسلمين، حتى إنك تجد الكثير الكثير من المسلمين لا أقول: من عوامهم وبسطائهم، بل من مثقفيهم .. من شبابهم .. من دعاتهم .. من جماعاتهم .. من طلبة العلم .. من الشيوخ، لم يعد برنامجهم وخطتهم: كيف نستطيع أن نوصل دعوة الإسلام إلى العالم؟ كيف نستطيع أن نبني نهضة إسلامية؟ كيف نستطيع أن نحقق مستوى من الخير والتنمية للناس؟ كيف نستطيع أن نرسم القدوة الحسنة؟ لا، أصبحت مشاريعهم وبرامجهم وانشغالاتهم هي في بعضهم بعضاً، ((تَحْسَبُهُمْ)) حتى هذه ليست متحققة فيهم مع الأسف ((تَحْسَبُهُمْ جَمِيعًا وَقُلُوبُهُمْ شَتَّى))؟ لا والله، يعني: هذه الله تعالى حكاها عن اليهود ، أما نحن اليوم فحتى التمظهر بالوحدة غير موجود عندنا، وإنما بأسنا بيننا شديد، ويعرف الناس أننا تشتتنا بسبب الاختلاف والتناحر والتباعد، وتنتقل إلى الدول فتجد أيضاً الاستعداد للاختلاف، وأن هناك تجمعات كثيرة في العالم الإسلامي ومؤسسات سياسية وغير سياسية ذات عمر طويل وامتداد وميزانيات ضخمة، والناس يعقدون عليها الآمال، ومع ذلك لم تتحول إلى برنامج عملي مثلما نجده في الاتحاد الأوروبي مثلاً الذي استطاع أن يقطع مرحلة طويلة جداً في تقارب دوله.
بل إنك تجد الدولة المسلمة الواحدة هي عبارة عن مكونات عديدة وكلها مستعدة لأن تتشظى وأن تنقسم، ودولة مثل الصومال الآن هي عبارة عن دول، تقول: ماذا يوجد في الصومال أصلاً؟ يتقاتل الناس على ماذا؟ ومع ذلك هي عبارة عن دول، وفي الدولة الواحدة أو المدينة الواحدة جماعات، وكل جماعة تتحدث باسم الله وتتكلم بالقرآن والسنة، وهي مستعدة أن تفنى وتفني الآخرين، ((بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ)) فهذا مما حذرنا الله منه؛ بأن الله سبحانه وتعالى نهانا أن نتشبه بأهل الكتاب، وأن نتشبه بالمشركين، وقال: ((وَلا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلُ فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ))[الحديد:16]، و البعض قد يحاذر أن يتشبه بـاليهود في أشياء شكلية، لكنه يقع في التشبه بهم في الجوانب الأخلاقية والجوانب العملية والجوانب التربوية، وفي حياته ، وهذه أمور ينبغي أن ندندن حولها، وأن نتقي الله تعالى فيها ونتواصى بها، ولا نمل ولا نكل ولا نيأس، حتى يأتي ذلك الجيل الذي يدرك أهمية أن يكون المؤمنون فريقاً واحداً مندمجاً فيما بينه، وأن نركز على جوانب التوفيق وعلى الجوانب المشتركة التي هي أصول من أصول التوحيد، وأصول الإيمان، وأصول العبادات، وأصول الأخلاق، وأصول المصالح أيضاً، بدلاً من التركيز الدائم على أصول الاختلاف وتضخيمها، وجعلها تشكل حاجزاً وجداراً بينك وبين الآخرين.
قال سبحانه: ((كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ))[الحشر:15] وهذه إشارة إلى قريش -والله أعلم- في هزيمتهم يوم بدر ، أو إشارة إلى بني قريظة الذين جرى لهم ما جرى بعد بدر.
((قَرِيبًا ذَاقُوا وَبَالَ أَمْرِهِمْ))[الحشر:15] والوبال هو السوء، ومنه المرعى الوبيل إذا كان مرعى سيئاً ومسموماً ((وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ))[الحشر:15].
((كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ))[الحشر:16]، وهذا كما قال سبحانه: ((وَقَالَ الشَّيْطَانُ لَمَّا قُضِيَ الأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَوَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَمَا كَانَ لِيَ عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطَانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي))[إبراهيم:22] فهذا هو المعنى؛ أن هؤلاء الناس بعضهم لبعض كمثل الشيطان، فهؤلاء الناس قالوا لليهود : إنهم سوف يخرجون معهم ويقاتلون معهم وينصرونهم ولكنهم تخلوا عنهم، فأشبهوا بذلك الشيطان الذي يقول للإنسان: اكفر. فإذا كفر تخلى عنه و((قَالَ إِنِّي بَرِيءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخَافُ اللَّهَ رَبَّ الْعَالَمِينَ))[الحشر:16]، وهو كاذب هنا في ادعاء الخوف، إلا أن يكون المقصود خوفه من أن يأخذه الله عز وجل.
وقد ذكر بعض المفسرين كما ذكره القرطبي و الزجاج ، ونقل عن ابن عباس رضي الله عنه، وابن عطية أيضاً ذكر قصة الرجل الذي يسمى برصيصا ، والذي زين له الشيطان أن يزني بامرأة، ثم حملت، فزين له أن يقتلها، ثم دفنها، ثم أمسكوا به فجاء الشيطان وزين له أن يسجد له لينقذه، فسجد له، ثم تخلى عنه، فقتل. وهذه القصة لا يصلح أن يفسر بها القرآن الكريم، لأنها -كما ذكر ابن عطية - ليس لها إسناد يعتد به، وهي من روايات بني إسرائيل وليست القصة مرهونة بمثل هذا، وإنما الأمر أوسع من ذلك.
قال الله عز وجل: ((فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا))[الحشر:17] -يعني: الشيطان والإنسان- ((أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ الظَّالِمِينَ))[الحشر:17] والغريب أن الله سبحانه وتعالى في أول الهجرة في سورة البقرة ذكر الشياطين في شأن المنافقين، قال: ((وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ))[البقرة:14]، فكان الشياطين هنا يمثلون اليهود ، بينما هنا قال: ((كَمَثَلِ الشَّيْطَانِ إِذْ قَالَ لِلإِنسَانِ اكْفُرْ))[الحشر:16] كأن المنافقين هنا هم من يمثل دور الشيطان بالنسبة لليهود في تلبيسهم عليهم، وذلك أن هؤلاء الناس يتبادلون الأدوار فيما بينهم، اليهود زينوا للمنافقين أولاً خطة الخداع، ثم وقعوا ضحيتها وأكلوا أو شربوا بالكأس الذي سقوا به غيرهم.
بقي عندنا آخر السورة وهو أيضاً مقطع عظيم، فيه أسماء الله تعالى الحسنى، وما يليها، يقول سبحانه: ((فَكَانَ عَاقِبَتَهُمَا أَنَّهُمَا فِي النَّارِ خَالِدَيْنِ فِيهَا))[الحشر:17] وهذا المثل كما هو واضح أنه كما أن المنافقين أغروا اليهود بالبقاء وانخذلوا عنهم وكان مصيرهم سيئاً، فـاليهود طردوا، والمنافقون خذلوا؛ لأنهم كانوا يتعززون بـاليهود ، فلما طرد اليهود ذهبت قوة المنافقين ومنهم عبد الله بن أبي ابن سلول ومن معه، ولم يعد لهم شأن.
فكذلك الشيطان والإنسان؛ فالشيطان يغري الإنسان، ويقول له: اكفر، وإذا كفر كان مصيرهما معاً هو النار، فهذا عذاب الدنيا وهذا عذاب الآخرة.
ثم ختم الله تعالى هذه السورة الكريمة العظيمة بهذا النداء القوي المؤثر الذي هو تعقيب على مجمل الأحداث المذكورة، فقال سبحانه: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا))[الحشر:18] الآن هو خاطب اليهود في أول السورة وتكلم عنهم، ثم انتقل إلى اليهود وذكر موقفهم .. انتقل الآن إلى الطرف الثالث وهم المؤمنون، فقال: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ))[الحشر:18] فيذكرهم بهذا الحبل المتين، وأن لا تلهيهم الانتصارات والمكاسب التي حققوها عن معنى الإيمان الذي به عزوا وتميزوا، فيقول: ((اتَّقُوا اللَّهَ))[الحشر:18] وتقوى الله سبحانه وتعالى معنى عام يشتمل على فعل الأوامر وترك النواهي وتجنب الحرام، ولهذا قال: ((وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ))[الحشر:18]، فبعدما خاطب الجميع: ((يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا))[الحشر:18] حدد النفس؛ لأن ((كُلُّ نَفْسٍ بِمَا كَسَبَتْ رَهِينَةٌ))[المدثر:38]، يعني: لتنظر كل نفس في ذاتها، ولا تغني نفس عن نفس شيئاً، ((وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ))[الحشر:18]، وأصل الغد هو ما بعد اليوم، مثلما أن الأمس هو ما قبله، وكما يقول طرفة أو زهير :
وأعلم ما في اليوم والأمس قبله ولكنني عن علم ما في غدٍ عمي
فالغد يطلق على ما بعد اليوم، لكنه هنا استخدم ليوم القيامة، إشارة إلى قربه، وأنه قريب الحدوث.
قال: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ))[الحشر:18] فكرر الأمر بالتقوى، ويحتمل أن يكون الأمر بالتقوى هنا مختلفاً، فأمرهم أولاً بتقوى الله بفعل الطاعات، ولهذا قال: ((وَلْتَنْظُرْ نَفْسٌ مَا قَدَّمَتْ لِغَدٍ))[الحشر:18] يعني: من الطاعات وأعمال الخير، ثم كرر وقال: ((وَاتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ))[الحشر:18] إشارة إلى ترك المنهيات والمحرمات، ولهذا قال: ((إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ))[الحشر:18] تحذيراً لهم من أن يعملوا المعاصي.
ثم قال سبحانه: ((وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ))[الحشر:19] وهنا يوجد إشارة إلى اليهود .. فـاليهود معهم الكتاب، ولكن قال عنهم: ((لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ))[الحشر:13] فهم نسوا الله سبحانه وتعالى، فلما نسوه أنساهم أنفسهم، فأصبح حتى تدبيرهم فيه من الخرق وسوء التقدير وفساد الحساب ما هو ظاهر للعيان، فلا تكونوا مثلهم واعتبروا بحالهم، ((وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ))[الحشر:19].
ومن المعاني هنا: أنهم انشغلوا بالأشياء عن أنفسهم، فـ كثير ممن نسوا الله تعالى تجدهم مشغولين إما بتجارة أو بوظيفة أو بعمل دنيوي، وتجد أن آخر ما يهمهم هو أنفسهم ، فالواحد منهم تجد أنه غافل عن نفسه .. غافل عن قلبه .. غافل عن ذاته .. غافل عن قيمه وأخلاقه؛ لأنه انشغل بهدف معين حدده لنفسه، وأنت تجد هذا أيضاً بشكل أوسع في الأمم والشعوب التي نسيت الله عز وجل، إما نسياناً كلياً أو جزئياً.
في أوروبا كان هناك نظريات فكرية وفلسفية تتكلم عن الإلحاد والكفر بالله عز وجل، وتؤصل لهذا المعنى، ثم انتقلت هذه المدارس إلى أن تكفر بالإنسان ذاته، ولا تقيم للإنسان وزناً، وتشكك في حقيقة الإنسان وفي أهميته، سواءً كانت تنظر إلى أصل خلق الإنسان وتكوينه والسلالات التي تشكل منها، أو النظر إلى عقل الإنسان أو غير ذلك، فهم نسوا الله تعالى أولاً، فأنساهم الله تعالى أنفسهم ثانياً؛ كفروا بالله أولاً، فآل الأمر إلا أن يكفروا بأنفسهم وأن يكفروا بجنس الإنسان.
ومن هذا المعنى أيضاً أنهم لما نسوا الله عز وجل جعل الله تعالى الأشياء التي عندهم وبالاً عليهم وضروا بأنفسهم وضروا غيرهم. العلم مثلاً الذي تحقق تحول إلى أداة لتحصيل الأسلحة التي من شأنها أنه ربما ما يملك اليوم من الأسلحة كافٍ لتدمير من على ظهر الأرض تماماً، هذا ما أوصل إليه الإنسان العلم حينما انفلت من عقاله ولم يكن باسم الله سبحانه وتعالى، أو العبث في الجينات البشرية وعمليات الاستنساخ واللعب بالأجنة، والمبالغة في هذه المعاني تحولت إلى مزارع ليس فقط لخدمة الإنسان أو للقضاء على بعض الأمراض أو معالجتها أو ما أشبه ذلك، هذا مطلب من حيث الجملة، ولكنه انفلت من العقال الأخلاقي، ولأنه لم يكن باسم الله، ولم يكن بأمر الله سبحانه وتعالى، هنا آل إلى أن يكون ضرراً ووبالاً على الإنسان، ونحن اليوم في هذا العصر نتكلم عن مدنية وحضارة وتسهيلات لا يشك أحد فيها، سواء فيما يتعلق بالمواصلات والاتصالات أو وسائل الإعلام أو الخدمات الطبية أو غيرها، لكن من الذي يستطيع أن يقول: إن الرفاهية والسعادة التي يشعر بها الإنسان اليوم أفضل مما كان عليه الإنسان قبل مائتي أو ثلاثمائة سنة. قال: ((وَلا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْسَاهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُوْلَئِكَ هُمُ الْفَاسِقُونَ))[الحشر:19].
ثم قال سبحانه: ((لا يَسْتَوِي أَصْحَابُ النَّارِ وَأَصْحَابُ الْجَنَّةِ أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ))[الحشر:20]، وهنا قوله عز وجل: ((لا يَسْتَوِي))[الحشر:20] يعني: وإن كان فيهم المعنى أنهم لا يستوون، يعني: ليسوا سواءً، إلا أن في هذه الصياغة وفي هذا التعبير إشارة إلى عمق المسافة بينهما، ولهذا لم يقل: أصحاب الجنة أحسن أو أفضل، وإنما قال: (( أَصْحَابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفَائِزُونَ ))، أما أصحاب النار فلا فوز لهم بوجه من الوجوه.
ما معنى قوله: ((لَوْ أَنْزَلْنَا))[الحشر:21] لو أن إنساناً وضع القرآن على الجبل هل ينهار الجبل أو يتصدع؟ لا. ليس كذلك، ولذلك مما يذكر أن أحد الأغبياء كان عنده وعاء فيه متاعه فسرق، فقال له أحدهم: لو أنك قرأت عليه آية الكرسي أو قرأت عليه الورد ما سرق، قال: والله إنه سرق وفيه المصحف كله.
فهنا نقول: لو أن الإنسان وضع المصحف على الجبل لم يتصدع، ولذلك قوله سبحانه: ((لَوْ أَنْزَلْنَا))[الحشر:21] يعني: لو خاطبنا الجبل بالقرآن، لو أن الجبل أصبح مؤهلاً ومهيئاً للخطاب بقدرة الله سبحانه وتعالى فخوطب بالقرآن وهو الجبل.. الحجارة ((لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا))[الحشر:21]، والخشوع: هو الانكسار والذل من أمر ما، ولكن المقصود هنا: خاشعاً لله، ولهذا قال: (( مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ ))، والمتصدع هو المتشقق الذي فيه الشقوق.
((وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ))[الحشر:21] فهذا مثل ضربه الله عز وجل، والمثل هو القول المكرر والحكمة التي يتناقلها الناس، ولهذا قال: ((نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ))[الحشر:21] الضرب هنا مثلما تقول: ضرب البيت أو ضرب الخباء أو حتى ضرب الدرهم والدينار والسكة؛ لأن الناس يتعاطونها كلهم جميعاً، فالأمثال تضرب، كأنها تسك سكاً وتتخذ اتخاذاً فيتعاطاها الناس فيما بينهم ويتناقلونها.
((نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ))[الحشر:21] (يتفكرون) يتدبرون معانيها ويعملون أفكارهم وعقولهم، وهذا دعوة إلى الفكر، ودعوة إلى التفكر، هي دعوة إلى التفكر في آيات الله الشرعية في القرآن الكريم، لأن كل أحد من الناس لو أنه قرأ القرآن لوجد فيه هذا التيسير ((وَلَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ))[القمر:17]، ومع إعجاز القرآن الكريم إلا أن الكثير من الناس بمجرد ما يكون يعرف اللغة العربية، أو حتى بعض العوام يفهمون كثيراً من معاني القرآن ودلالاته وقصصه وأخباره، دع عنك المعاني التي تحتاج إلى مراجعة أو فهم أو قراءة في كتب العلم وكتب التفسير، لكن في القرآن قدر كبير واضح -كما قال ابن عباس رضي الله عنه وأرضاه- في معاني القرآن، أن منه شيئاً تعرفه العرب من لغاتها.
فهنا قال: ((وَتِلْكَ الأَمْثَالُ نَضْرِبُهَا لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ))[الحشر:21] فهي دعوة إلى التفكر في آيات الله الشرعية في القرآن الكريم، وهي أيضاً دعوة إلى التفكر في آيات الله الكونية في السماوات والأرض والجبال التي تسبح الله عز وجل، هذا يؤخذ من قوله عز وجل: ((لَوْ أَنْزَلْنَا هَذَا الْقُرْآنَ عَلَى جَبَلٍ))[الحشر:21]، وكذلك في سورة البقرة قال: ((ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ فَهِيَ كَالْحِجَارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَإِنَّ مِنَ الْحِجَارَةِ لَمَا يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الأَنْهَارُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْمَاءُ وَإِنَّ مِنْهَا لَمَا يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَمَا اللَّهُ بِغَافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ))[البقرة:74].
وهذا المعنى في قوله: ((لَرَأَيْتَهُ خَاشِعًا مُتَصَدِّعًا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ))[الحشر:21] فيه دعوة المؤمنين -وهم غب انتصار قد فرحوا به- إلى أن يتواضعوا لله عز وجل، ويعرفوا أن الأمر كله لله، وأن النصر من عند الله، وأنه ليس لهم منه شيء، إلا أن الله تعالى استعملهم فيه وسخرهم فيه، و((اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلَى مَنْ يَشَاءُ))[الحشر:6].
ومن هنا فإن فيه إشارة أيضاً وفيه توبيخ لليهود ، فإن اليهود كان من أشد ما يوصفون به قسوة القلوب، وغلظ الأكباد، والغفلة عن المعاني ، حتى إنه لما حكى الله عنهم: ((وَإِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ))[الأعراف:171] هذا الجبل أيضاً، رفعه الله تعالى فوق رءوسهم، ((وَظَنُّوا أَنَّهُ وَاقِعٌ بِهِمْ خُذُوا مَا آتَيْنَاكُمْ بِقُوَّةٍ وَاذْكُرُوا مَا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ))[الأعراف:171]، وبعد ذلك كلما ذهبت هذه الآيات عادوا إلى ما كانوا عليه من البغي وقسوة القلوب، ولهذا حذرنا ربنا عز وجل أن يكون مصيرنا كمصيرهم في قسوة القلوب، ((فَطَالَ عَلَيْهِمُ الأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَكَثِيرٌ مِنْهُمْ فَاسِقُونَ))[الحديد:16].
ثم ختم الله تعالى هذه السورة بآيات في تمجيده سبحانه، وذكر طائفة من أسمائه الحسنى تناسب المقام، وتناسب إحياء القلوب، وهي جزء من أسمائه الحسنى: ((وَلِلَّهِ الأَسْمَاءُ الْحُسْنَى فَادْعُوهُ بِهَا))[الأعراف:180] و(لله تعالى تسعة وتسعون اسماً مائة إلا واحداً؛ من أحصاها دخل الجنة) كما قال النبي صلى الله عليه وسلم فيما رواه البخاري عن أبي هريرة ، وليس المقصود حصر هذه الأسماء في التسعة والتسعين، فإن الله تعالى لا يحيط بأسمائه إلا هو، ولهذا كان في دعائه عليه الصلاة والسلام كما في حديث ابن مسعود عند أحمد : (أسألك بكل اسم هو لك؛ سميت به نفسك، أو أنزلته في كتابك، أو علمته أحداً من خلقك، أو استأثرت به في علم الغيب عندك)، ويوم القيامة يسجد النبي صلى الله عليه وآله وسلم تحت العرش، فيلهمه الله تعالى أسماء وصفات ومحامد يحمده بها جل وعز، لم يكن يعلمها من قبل، حتى الرسول صلى الله عليه وسلم لم يكن يعلمها من قبل، لكن من أسماء الله الحسنى تسعة وتسعون اسماً، من صفتها وخصيصتها أن من أحصاها دخل الجنة.
الإحصاء يكون بحفظها، ولهذا يحسن أن يكون عند الإنسان كتاب في هذه الأسماء الحسنى، وقد منَّ الله علي بكتاب ألفته قبل فترة وجيزة مع الله ، جمعت فيه هذه الأسماء الحسنى وشرحت معانيها، أو يكون عند الإنسان حتى لوحة أو مجموعة تحصي هذه الأسماء أن يحفظها، ويحفظها الناس أطفالهم وكبارهم وصغارهم .. أن يتعلم معانيها، فهي ليست رموزاً ولا ألغازاً، وإنما هي أسماء معروفة المعنى، أن يدعو الله تعالى بها ((فَادْعُوهُ بِهَا))[الأعراف:180] ويناديه بها: يا غفور! اغفر لي.. يا رحيم! ارحمني، أن يحاول أن يقتدي بمعاني هذه الأسماء، يتعلم؛ لأن الله تعالى عليم ويحب العلماء .. يرحم لأن الله يحب ويرحم من عباده الرحماء .. يغفر للناس حتى يغفر الله له .. يعفو عمن أخطأ عليه أو ظلمه؛ لأن الله عفو يحب العفو .. يتوب؛ لأن الله يحب التوابين، وهو التواب الرحيم، وهكذا، وأيضاً حتى تمنعه هذه الأسماء من الإيغال في الشر أو المبالغة في الخطيئة أو الإصرار على الذنب، وتشجعه على فعل الطاعة والإقبال عليها.
وهذه مباحث شأنها يطول، و كما قيل: يكفي من القلادة ما أحاط بالعنق . فهذا فيما يتعلق بأسماء الله الحسنى.
قال: ((هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ))[الحشر:22] وهذا ضمير الشأن؛ إشارة إلى تعظيمه جل وعز، ثم ذكر اسمه العظيم، بل قيل: (الله) هو الاسم الأعظم، وقيل: الاسم الأعظم مجموع في قولك: الله الذي لا إله إلا هو، الأحد الصمد الذي لم يلد ولم يولد ولم يكن له كفواً أحد، الحي القيوم، كما في حديث عند أحمد وأهل السنن.
هنا قال: ((هُوَ اللَّهُ))[الحشر:22] (الله) الذي تألهه القلوب وتحن إليه، فكل من عرف الله سبحانه وتعالى فإنه يحن إلى ربه سبحانه، ويحبه ويتمنى لقاءه ويذكره، بل يفرح ويسر أعظم فرح وأعظم سرور وأعظم نعيم برؤيته عز وجل ((وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَاضِرَةٌ * إِلَى رَبِّهَا نَاظِرَةٌ))[القيامة:22-23] فلا نعيم أعظم من رؤيته جل وعز وسماع كلامه وحديثه.
الله الذي تألهه العقول، يعني: تتحير فيه العقول، لأنه لا يعلم ذاته وأسماءه وصفاته إلا هو:
فيك يا أعجوبة الفكر غدا الفكر كليلاً
كلما أمعن طرفي فيك شبراً فر ميلاً
خابطاً يخبط في عشواء لا يهدي السبيلا
الله سبحانه وتعالى هو الذي تتحير فيه العقول، ولهذا نهى الله تعالى الإنسان عن الإفراط في النظر في هذا الباب إلا التدبر والتأمل في المعاني الشرعية؛ حتى لا تضيع عقول البشر في المباحث الفلسفية، والمغالطات الكلامية، والمجادلات النظرية التي صدت الناس عن ربهم سبحانه بالجدل والقيل والقال، كما قال القائل:
نهاية إقدام العقول عقال وأكثر سعي العالمين ضلال
ولم نستفد من كدنا طول عمرنا سوى أن جمعنا فيه قيل وقال
هذه من معاني كلمة (الله).
((هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ))[الحشر:22] أيضاً من معاني كلمة الله: المألوه المعبود الذي لا يعبد بحق سواه.
((الَّذِي لا إِلَهَ إِلَّا هُوَ عَالِمُ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ))[الحشر:22]، الغيب: هو ما غاب عن عيون الناس، والشهادة هو ما رأوا، الغيب: الدنيا، والشهادة: الآخرة، الغيب: السماء، والشهادة ما في الأرض مما يراه الناس أو يسمعونه، فكل ذلك في علمه سبحانه.
((هُوَ الرَّحْمَنُ الرَّحِيمُ))[الحشر:22] واستفتح بهذه الآية الكريمة؛ إشارة إلى أن أسماءه الحسنى سبحانه كلها أسماء تتصف بالحسن، بل هي أحسن، ليست حسنة فقط، وإنما هي أحسن الأسماء، ولذلك يقول العلماء: إن أسماء الله الحسنى كلها أسماء فيها الخير والبر والجود والكرم والعطاء والفضل والرحمة، تعجب حينما تتأمل أن من أسماء الله: الرحمن .. الرحيم .. البر .. الجواد .. الكريم .. التواب .. الغفور .. الحليم .. الشكور .. الكريم.
لكن ليس في أسماء الله: المنتقم .. ليس في أسماء الله الغاضب .. ليس في أسماء الله المعذب .. ليس في أسماء الله الآخذ .. ليس في أسماء الله حتى شديد العقاب على القول الصحيح أنه ليس من أسماء الله الحسنى، وإنما هذا وصف لصفته ، يعني: وصف لبعض فعله سبحانه وهو العقاب، مثل: شديد العذاب، أو أليم العذاب، هذا ليس من أسمائه سبحانه، ولكنه صفة لبعض فعله، ولهذا قال ربنا في الكتاب الكريم: ((نَبِّئْ عِبَادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ))[الحجر:49] فهنا ذكر المغفرة والرحمة، وبدأ بها، وخاطبهم بقوله: ((عِبَادِي))[الحجر:49] تقرباً وتحبباً، ولم يقل: وأني أنا المعذب أو الباطش أو الآخذ، وإنما قال: ((وَأَنَّ عَذَابِي))[الحجر:50] فوصف عذابه بأنه ((هُوَ الْعَذَابُ الأَلِيمُ))[الحجر:50]، ولذلك ذكر أهل العلم -كما أشار إليه ابن تيمية و ابن القيمومن كتبوا في أسماء الله تعالى وصفاته- أن أسماء الله تعالى كلها تدور على أسماء الخير والبر والرحمة والجود ، وبذلك يتعرف الله تعالى إلى عباده؛ لأن الناس ينساقون إلى الطاعة بالرحمة وبالعفو وبالمغفرة وبالرغبة، أكثر مما ينساقون بالوعيد ، مع أن أهل السنة يقررون المعاني الثلاثة، وهي: الحب، والخوف، والرجاء. هذه الأسماء الحسنى تعطي الحب وهو بالاتفاق أفضل المعاني التي يتعبد بها الناس لربهم، ويأتي بعد الحب الخوف والرجاء، وهما متساويان كما قال الإمام أحمد : [ينبغي أن يكون خوفه ورجاؤه واحداً] يعني: متساويين، وبعضهم يرجح جانب الخوف عند الهم بالمعصية، ويرجح جانب الرجاء عند فعل الطاعة، أو كذلك يرجح جانب الرجاء عند الاحتضار، كما قال النبي صلى الله عليه وآله وسلم: (لا يموتن أحدكم إلا وهو يحسن الظن بالله عز وجل)، وكل هذه المعاني متآلفة متناسقة متساوقة فيما بينها، لا يقضي بعضها على بعض، ولا يهدم بعضها بعضاً، ولهذا قال ربنا سبحانه عن الرسل والأنبياء: ((إِنَّهُمْ كَانُوا يُسَارِعُونَ فِي الْخَيْرَاتِ وَيَدْعُونَنَا رَغَبًا وَرَهَبًا وَكَانُوا لَنَا خَاشِعِينَ))[الأنبياء:90]، وقال: ((ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعًا وَخُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ * وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إِنَّ رَحْمَةَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ))[الأعراف:55-56]، فجمع بين الخوف والرجاء والحب، ولكن كما قال العلماء: الحب بمنزلة الرأس للطائر، والخوف والرجاء بمنزلة الجناحين ، فينبغي أن يدرك هذا المعنى في موضوع الأسماء الحسنى.
هل تعرفون عصراً من العصور وجد فيه ملك من البشر.. ملك الدنيا كلها شرقها وغربها؟
أبداً .. حتى الملوك المشهورين والأباطرة من الفراعنة أمثال نبوخذ نصر .. بختنصر وأمثال ذي القرنين و الإسكندر المقدوني .. حتى مثلاً هولاكو .. جنكيز خان .. ستالين .. لينين ، وغيرهم ممن كان لهم نفوذ أو سلطان؛ هم ملكوا رقعة من الأرض، ولم يحدث أن الأرض كلها كانت تحت مُلك مَلك واحد، وفي الغالب أنه يقع بينهم تنازع أيضاً على الدنيا، وحتى لو فرض أن ملكاً ملك الدنيا كلها، فهو يملكها اليوم، لكنه لا يملكها أمس، ولا يملكها غداً، ولو فرض أنه طال ملكه، فهو إلى زوال، ولو دامت لك ما وصلت لغيرك، ولو دامت لغيرك ما وصلت إليك، زد على ذلك أن هذا كله ملك طارئ يتعلق بالتدبير، لكن ملك الله سبحانه وتعالى ملك أصلي، لأنه هو الذي خلق هذه الأشياء، وهو الذي أوجدها، فهي تدين له عز وجل في كل ذرة من ذراتها، فلهذا قال: ((الْمَلِكُ)) إشارة إلى ملكه سبحانه لكل شيء؛ السماء والأرض .. البر والبحر .. الإنسان والحيوان .. الدنيا والآخرة .. الأملاك والأفلاك .. ما تعلمون وما لا تعلمون، كل شيء له مذعن لعظمته جل وعز، ولهذا قال وبدأ بقوله: ((الْمَلِكُ))[الحشر:23] هذه عظمة ملكه سبحانه، وبقية الأسماء كأنها متصلة بهذا الاسم.
ولهذا قال: ((الْقُدُّوسُ))[الحشر:23] ففي ذلك تنزيه لله سبحانه وتعالى عما يعتري الملوك عادة من صفات النقص، فإن بعض الملوك قد يقع له العجب، وقد يقع منه الظلم، وقد يتكبر على مرءوسيه، وقد يقع في الشهوات، أو يبالغ أو يظلم أو يبغي، فهنا لما قال: ((الْقُدُّوسُ))[الحشر:23] يعني: المقدس .. الكامل .. المنزه عن جميع النقائص وجميع العيوب، فكان ذلك نفياً لما يعتري الملك والملوك من ذلك.
ثم قال: ((السَّلامُ))[الحشر:23] يعني: السالم من كل آفة، فلا يعتريه شيء كما يعتري الملوك من المرض .. من زوال ملكهم .. من أيضاً وقوع بعض الخطأ منهم، ولذلك كان من معاني السلام: الذي يسلم عباده، وكان السلام هو تحية الإسلام، فالسلام هنا إشارة إلى أن ملكه لعباده سلام وخير وبر ورحمة وجود.
ثم قال: ((الْمُؤْمِنُ))[الحشر:23] وفي ذلك إشارة إلى أنه يؤمن عباده، أي: يمنحهم الأمن، فالأمن في الدنيا من عطائه وفضله، وهو مطلب ومقصد؛ الأمن على النفس .. على المال .. على الولد، فهو من الله وهو نعمة من عنده، وهو أيضاً يؤمن عباده بما جعل في الكون من الأسرار والحكم والنواميس، بتوفير الهواء والماء والطعام والشراب والثروات في باطن الأرض والخيرات، وهو يؤمن عباده من الظلم ومن الجور، ويؤمن عباده يوم القيامة ألا يقع عليهم حيف، ولهذا قال: ((الْمُؤْمِنُ))[الحشر:23] يعني: الذي يؤمن عباده.
((الْمُهَيْمِنُ))[الحشر:23] المهيمن معناه: الشاهد الذي لا يغيب .. معناه: الرقيب الذي لا يغفل، فهو مهيمن على عباده، وفي ذلك إشارة أيضاً إلى أن الملوك وإن كانوا يجتهدون في معرفة أحوال رعاياهم إلا أنه يخفى عنهم كثير من الأمور مما تخفيه صدور الناس، أو مما يدبرونه في الخفاء، أما الله عز وجل فهو المهيمن الذي يطلع على أحوال عباده، وعلى أسرارهم، وعلى أمورهم، وعلى أقوالهم وذوات صدورهم، وخططهم ونواياهم، وظاهرهم وباطنهم، ولهذا قال: ((الْمُهَيْمِنُ)).
((الْعَزِيزُ))[الحشر:23] هذا أيضاً من توابع الملك؛ أن الله تعالى له العزة، وهو يمنح العزة لمن يشاء من عباده، فمنحها محمداً صلى الله عليه وآله وسلم والمؤمنين معه، فهو ذو العزة جل وتعالى.
ومن معاني العزيز هنا وارتباطها بالملك: أن كثيراً من ملوك الدنيا وسلاطينها، وإن كان لهم سلطان وقوة إلا أن لهم نوعاً من الذل يغشاهم ممن هو أعلى منهم وأقوى منهم، فيخافون منه، بل حتى ممن دونهم أن يراعوا رضا من تحت أيديهم، وألا يكون هناك سخط يتنامى ويمتد، ولهذا يكون عندهم نوع من العبودية لمن تحت أيديهم بوجه من الوجوه، كما ذكره ابن تيمية رحمه الله في كتاب العبودية ، أما الله عز وجل فهو العزيز من كل وجه؛ لأنه الغني عن خلقه، والخلق كلهم مفتقرون إليه.
ثم قال: ((الْجَبَّارُ))[الحشر:23] الذي يجبر كسر المنكسرين، فيجبرهم سبحانه، ويجبر مصابهم، ويزيل ما بهم، ويعوضهم ويمنحهم الرضا والصبر. والجبار الذي يجبر عباده على ما يشاء، فإنه لا يقع في الكون شيء إلا بإذنه، ولا راد لقضائه، ولا معقب لحكمه، فهذا من معاني الجبار.
((الْمُتَكَبِّرُ))[الحشر:23] الكبر من سيماء الملوك أحياناً والكبراء في الدنيا، ولكنه عيب بالنسبة لهم؛ لأنهم يأخذون فيه ما ليس لهم، ويتظاهرون بعظمة لا يستحقونها، فيورث ذلك ازدراءً منهم لمن تحت أيديهم، ولهذا قال الله عز وجل في الحديث القدسي: (العز إزاري، والكبرياء ردائي، من نازعني شيئاً منهما عذبته)، فالكبرياء لله سبحانه وتعالى، والكبرياء هنا -وصفه بالمتكبر- معناها: الكبير الذي لا أكبر منه عز وجل، ولهذا كان المصلي يقول: الله أكبر. والمؤذن يقول ذلك: الله أكبر، يعني: أكبر من كل شيء، فهو الكبير المتعال عز وجل.
وكذلك المتكبر يعني: الذي له الملك، فإن الملك يسمى الكبرياء، وأيضاً له الكبرياء في السماوات والأرض والدنيا والآخرة بالوجه الذي يليق بجلاله وعظمته، فإن كبرياءه سبحانه تليق به، وليس المقصود الكبر الذي عند الناس، الذي يعالجون التكبر فيصبح عندهم نوع من العجب والتيه والغرور على العباد، هذا مذموم، وإنما الله تعالى له الصفة التي تناسبه.. صفة الكمال .. صفة العظمة .. صفة أنه الكبير عز وجل.
((سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ))[الحشر:23]، وكأن قوله: ((سُبْحَانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ))[الحشر:23] تأكيد لهذه المعاني كلها؛ أن لله تعالى من كل هذه الأسماء أجمل المعاني، فمن حسن ظنك بالله وحسن معرفتك به أن تعلم أن له الكمال والجلال والجمال من كل شيء، فإذا قال مثلاً: (الملك) عرفت معنى ملكه .. إذا قال: (القدوس) .. إذا قال: (المتكبر) عرفت .. إذا قال: (الجبار) عرفت أن لله تعالى من هذه الأسماء أحسنها وأعظمها وأوفاها، وأن ما يشرك به المشركون وينسبونه إلى الله عز وجل فإنه مما ينزه الله تعالى عنه، ولهذا قال هنا: ((القدوس)) وقال: ((سبحان الله)) أي: ينزه، والتسبيح معناه: التقديس أيضاً والتنزيه، ولهذا كان النبي صلى الله عليه وسلم يقول بعد صلاة الوتر: (سبوح قدوس رب الملائكة والروح)، فهو السبوح سبحانه، وهو القدوس، يعني: المسبح المقدس المنزه جل وتعالى.
((هُوَ اللَّهُ الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ))[الحشر:24] ثلاثة أسماء، قيل: هي مترادفة، والواقع أنها ليست مترادفة بمعنى أن معناها واحد، وإنما قد يكون أن معنى الخالق أنه يشملها جميعاً، فالخلق أعم، ثم البرء يعني: ظهور المخلوقات إلى الواقع وإلى العيان، والتصوير هو: حصول المخلوقات على صورها؛ هذا إنسان وهذا حيوان، وهذا طويل وهذا قصير، وهذا كذا وهذا كذا، فهذا المعنى. ويمكن أن يكون المعنى كما أشار إليه أبو حامد الغزالي وغيره من أهل العلم، أن قوله: ((الْخَالِقُ الْبَارِئُ الْمُصَوِّرُ))[الحشر:24] يشمل ثلاث مراحل: المرحلة الأولى: مرحلة الخلق، وهي التقدير، يعني: الإرادة الإلهية قبل حصول الأشياء وكتابة الأشياء، فهذا يعتبر خلقاً، مثل قول الشاعر:
ولأنت تفري ما خلقت وبعض القوم يخلق ثم لا يفري
يعني: يوعد ولا يفي، فيكون المعنى هنا بالخلق، أي: تقدير الأشياء قبل حصولها، فإن الله تعالى قدرها قبل أن تحصل، وأرادها جل وعز أن تحصل في مواقيتها المعلومة، فهذا معنى الخلق قبل حصولها، أي: التقدير.
ثم يأتي الثاني وهو البارئ .. البر، ومنه البرية، والبرية يطلق على الناس، ويطلق على كل الأشياء أنها برئت وخلقت، كما قال علي رضي الله عنه: [والذي برأ النسمة وفلق الحبة]، برأ يعني: خلق. بمعنى: أوجد.
إذاً الباري: هو الموجد الذي أوجد الأشياء التي نراها في العيان.
المصور: هو الذي أعطاها صورها، وإعطاء الصور مثله مثل الخلق .. مثل البرء.. هو الإعجاز الإلهي، فإنه لا أحد يخلق إلا الله سبحانه وتعالى، ويبث الحياة في الموات. هذه المعجزة العظيمة.. معجزة الخلق ومعجزة البرء ومعجزة التصوير، أن الله تعالى يعطي الأشياء صورها، وهذا يدل على الحكمة أيضاً، ويدل على الإرادة الإلهية، ويدل على الجمال الإلهي، فإن الذي منح هذا الجمال هو الجميل جل وعز وتعالى، فهذه كلها من أسمائه الجليلة الجميلة العظيمة.
((يُسَبِّحُ لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ))[الحشر:24] فأعاد التسبيح لله عز وجل، وأعاد لفظ: (العزيز الحكيم) الذي بدأ به أول السورة؛ إشارة إلى ربط هذه الأسماء بمجريات الواقع ومجريات الأحوال، وأن أسماء الله (الحسنى) ليست فقط أسماء تقال أو تتلى أو تقرأ في الصباح والمساء في الأوراد، وإن كان هذا كله مطلوباً ومشروعاً، ولكن أسماء الله الحسنى تشاهد فيما يحدث في الكون، فإن العاقل اللبيب الفهم الفطن اللقن يلاحظ آثار هذه الأسماء الحسنى في الحياة، يلاحظها في نفسه فيما يجري له من الأحوال والأمور، ويلاحظها في الآخرين إذا كان عنده يقظة في قلبه، ولم يكن ممن نسي الله فأنساه الله تعالى نفسه، فإذا ذكر الله تعالى فإن الله تعالى يعطيه البصيرة والعلم حتى يلاحظ آثار هذه الأسماء الحسنى، في الأحداث الصغيرة والكبيرة .. السياسية والعسكرية .. الاقتصادية .. الاجتماعية .. العلمية .. المعرفية، فيكون لله تعالى في نفسه وقلبه حضور، ويكون عنده إيمان ويقظة، وهذه من الأشياء التي ينتفع بها الإنسان بقراءة القرآن الكريم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق