حاجتنا للمشروع الإسلامي
مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول
أين السبيل؟ كيف يتسنى للأمّة الإسلامية أن تخرج من هذا النفق الضيق المظلم إلى حيث تنال حريتها واستقلالها وتبلغ غايتها المنشودة؟ وقبل هذا وذاك: ما هي تحديدا الغاية المنشودة التي تسعى الأمة إليها أو يجب أن تسعى إليها؟ ثم ما هي المنطلقات الكبرى التي تحكم سيرها نحو هذه الغاية، وما هي الأهداف الجزئية التي تمثل العناصر المكونة لهذه الغاية؟ وكم من المراحل يجب أن نسلكها بتدرج لنبلغ غايتنا ونحقق أهدافنا؟ وما هي – في غالب الظنّ – التحديات والمعوقات التي يمكن أن تعترض طريق الأمة في كل مرحلة من مراحلها؟ وكيف يمكن التغلب عليها؟ ثم ما هي الروافع التي يجب أن نستعين بها وأن نسخرها لدفع المسيرة للأمام؟ ما المجالات؟ وما الأدوات والآليات والوسائل التي نتوقع ضرورة استعمالها في كل مرحلة؟ وأخيرا كيف يمكن الإجابة عن كل هذه الأسئلة انطلاقا من ذلك المثلث الذي يضمن كمال الوعي ونضجه واستواءه: فقه الشرع وفهم الواقع واستصحاب السنن الإلهية؟
تلك هي الإسئلة الكبرى التي تَقُومُ الإجابةُ عنها برسم الخطوط الكلية والهيكل العام لمشروع إسلاميّ، منبثقٍ عن رؤية إسلامية، مشتملٍ على خطة عامّة واستراتيجية كلية، تراعي المرحلية المتدرجة، وتخطو بنا نحو تحقيق الأهداف وبلوغ الغايات على هدى وبصيرة، وتَحْتَفُّ هذه الأسئلة الكبرى بأسئلة جزئية كثيرة ومتحركة، من مثل: ماذا عسى أن يكون وضع الجماعات الدعوية والأحزاب الإسلامية والمؤسسات الدينية والمكونات الحركية والمنظمات الجهادية والمنصات الإعلامية والمحافل العلمية؟ ماذا عسى أن يكون وضعها وتموضعها في المشروع الإسلاميّ؟ هل سيتم تجاوزها؟ أم لا سبيل للاستغناء عنها؟ وما هي الطريقة الصحيحة للاستفادة منها في حال الاستعانة بها؟ وكيف يمكن تلافي عيوبها؟
وما السبيل القويم للتعامل مع الجيل الصاعد والكوادر الشابّة بعدما صدموا في قادتهم إبَّان الأحداث الكبرى التي صاحبت ازدهار الثورات وانفجار الثورات المضادة؟ وكيف يمكن استعادة الثقة بين جيل الشباب وجيل الكبار والشيوخ والقادة؟ وما السمات التي يجب توافرها فيمن يصلح للقيادة في المراحل القادمة؟ وهل المناسب أن يكون شخصا واحدا فذًا أم إنّه لا يناسب المرحلة إلا مجموعة متناغمة ومتلاحمة؟ ثم ما هي وسائل وأدوات تكوين القاعدة المتينة والنواة الصلبة التي لابد منها لتماسك البناء واستمرار الأداء، وكيف يمكن أن ننشئ حول هذه القاعدة سياجا اجتماعيا يمثل حاضنة شعبية خصبة وآمنة؟ وكيف يتسنى للقاعدة الصلبة أن تتوسع لتنحت من الحاضنة الشعبية وما حولها ما يمكن تسميته في وقت الحراك الهادر “الكتلة الحرجة”؟ ثم كيف يمكن وضع المعارضين للتغيير في زاوية الحياد الإيجابي؟
ووراء هاتين الدائرتين من الأسئلة المثيرة توجد دوائر أخرى من الأسئلة والاستفهامات والاستشكالات والاعتراضات؛ تحتاج كلها للإجابة المنصفة الواعية، وتتطلب جميعها انتفاضة علمية وبحثية وتعليمية وتربوية، ويلزمها بكافّة ألوانها وأشكالها ودوائرها تناولا يتسم بالتجرد والإخلاص وعلو الهمّة، ويتجانف عن التبعية والتعصب والتقليد الأعمى، ويستدعي روح الثورة من العمق الإسلامي الأصيل، ويروم جذرية التغيير والقطيعة التامّة مع كل ما ينتمي للثورات المضادة.
إنّ وضع المشروع الإسلاميّ الكبير لهذه الأمة مع جمع وتوحيد العاملين للإسلام عليه هو منصة الانطلاق التي بدونها يظل العمل والسعي تحت خط الصفر ودون نقطة البداية، فلابد منه لكي تبدو لنا الثمار، ولابد مع بداية إطلاقه من المراجعة الجادة لكل ما سبق، تلك المراجعة التي أَطْلَقْتُ عليها من قبل في مقال نُشِر بمنتدى العلماء: “الخطوة الأولى المنسية” ومما سطرته يومها: “لا يكون السَّعْيُ سيراً نحو الهدف إذا غابت الخطوة الأولى، التي بدونها لا يُعْرَف الطريق ولا يُهتدَى إلى الغاية؛ لذلك فإنني على يقين من أنَّ كل ما نبذله من جهد وجميع ما ننفقه من وقت – على ضآلته وضعفه وتهافته – يتبدد في الفضاء سُدًى، ويذهب في الأنحاء على غير هُدًى؛ وما ذاك لضآلةٍ في حجمنا ولا لضعفٍ في إمكانياتنا ولا لتهافتٍ في مبادئنا وأفكارنا، وإنَّما لسبب واحد هو أننا جميعاً أُرِيدَ لنا ألا نخطو هذه الخطوة.
كيف يقع المصاب على هذا النحو المزلزل ثم لا يستدعي منَّا مراجعة لأفكارنا ومناهجنا وأفعالنا ومواقفنا ؟! سواء ما كان منها في السياسة عندما كانت ناصيتها بأَكُفِّنا، وما كان منها في الثورة عندما كانت ظهراً ذلولاً تحت (أردافنا!)، أم إنَّ المراجعات خُلقت – فقط – لتكون آلية لنسف الثوابت العقدية والشرعية في سياق التراجع والانهزام؟! …
إنّك لَتَشْعُر – وأنت تقرأ الآيات التي عَقَّبت على أحداث أُحُد – بأنَّ “أُحُدَ” لا تختلف عن سابقها أو لاحقها في كونها محطة كسائر المحطات في طريق الصعود، ولقد قيل يومها لقوم هم خير صحابة لخير نبي: (مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ) (يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ) (إِذْ تُصْعِدُونَ وَلا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى مَا فاتَكُمْ وَلا مَا أَصابَكُمْ) (أَوَلَمَّا أَصَابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْهَا قُلْتُمْ أَنَّى هَذَا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ)، إنَّ الأخطاء التي وقعت يومها فاستدعت كل هذه الوكزات المؤلمة، لو قُورِنَتْ بما وقعنا فيه من خطايا لَبَدَتْ كحبات من رمال أمام تلال وجبال؛ فلماذا لا نقف هذه الوقفة مع أنفسنا، ولماذا نهرب من المصارحة والشفافية؟
إنَّ التجافي عن المكاشفة الجماعية والمصارحة الشورية يوقع في معضلات أقلها ضرراً أن يحل محل المكاشفة والمصارحة فضح وتشويه وتبادل للتهم وتقاذف بالعبارات القاتلة، وأخطرها تغييب الحقائق وتضليل الجيل وإطالة أمد الغفوة التي يحياها الناس، وليست هذه المفاسد الجمة مقابلة بمصالح إلا تلك الأوهام التي تتعلق بما يسمى بمصلحة الجماعة أو الحزب، وما هي إلا مصالح شخصية تختبئ خلف أستار ناعمة أكثر تدليسا من جلد الثعبان.
لقد كانت البشرية على موعد بعد الربيع العربيّ بتغيير كبير وخطير ينقلها نقلة كبيرة في آفاق التقدم الإنسانيّ، وقبل ذلك كان العالم العربيّ والإسلاميّ كله على موعد عقب الثورات بتحول حضاريّ هائل يعيد رسم خريطة الكرة الأرضية على نحو يقلب (عاليها واطيها) وكان المستضعفون من المسلمين في الأرض كلها على موعد بأوسع أبواب الخلاص؛ فما الذي جرى لتنقلب الأوضاع وينتكس المسار؟!
كل هذه التساؤلات يجب أن تكون الإجابة عليها واضحة وصحيحة وصادقة وصريحة؛ لأنَّه لا يمكن لعقل أن يمرر هذه التبريرات التي تشبه (المصاصات) التي تعطى لتسكين الأطفال إذا هاج بهم البكاء، إنَّ هناك خللاً كبيراً يصل إلى مدى بعيد، يطال المناهج التي تربى عليها الجيل، ويضع القيادات والجماعات والأحزاب في أقفاص الاتهام؛ ويجعلنا بحاجة إلى تصحيح جذريّ، وعودة سريعة إلى كتاب الله، واعتصام بالجماعة والوحدة، ووضع للرؤية والمشروع والخطط بتجرد للحق غير مقيد بأي اعتبار، وكل هذا لن يكون قبل الخطوة الأولى المتمثلة في المراجعة؛ فهلا تعجلناها …”
وعلى الرغم من خطورة ووعورة التعرض لهذه القضية الكبرى – قضية وضع المشروع الإسلاميّ – فإنّ طَرْقَها والتَطَرُّقَ إليها وتناولها بالبحث والكتابة والمناقشة والدراسة يُعَدُّ من الأمور المستطابة المستظرفة؛ لأنّها – وإن كانت شاقة شديدة الكلفة – تحبها النفس ويتوق لها العقل والقلب؛ إذْ تجيب بمنهجية علمية صحيحة على كثير من الأسئلة المعقدة، وتسهم في حل كثير من العقد الفكرية المستعصية، وعلى الرغم – كذلك – من استعداد الكثيرين للكتابة حول هذا الموضوع، وربما لتدوين المشروع؛ فإنّ الأمر أكبر بكثير من مجرد الكتابة، وأكثر استعصاء إلا على من يسره الله عليه؛ لأنّه مشروع أمّة.
وفي الختام أُعلن أنّنا – أصحاب الدعوة إلى مشروع جامع للأمّة – على استعداد تام للتعاون مع كل من تتوق نفسه لهذا العمل الجاد، وقبل أن أبرح أحب أن أنوه إلى أنّ المشروع الإسلاميّ هو في الحقيقة مشروع “أهل السنة”، الذين هم أصحاب المشروع الإسلاميّ حصرا، وعامّة الشيعة مدعوون لترك المشروع الصفوي الخبيث، والانضمام للمشروع الإسلاميّ، ولو بقوا على مذهبهم دون اعتقادٍ يخرجهم من الملة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق