ندرة الكلمات لا تنفي عمق المعاناة، ولا السنين التي تستغرقها. وموقف النبل والصبر قد يحمل خلفه معاناة ثقيلة الأحمال؛ وهنا تظهر المعادن وتتميز المراتب والعبوديات.
مقدمة
يقرأ البعض قول يعقوب عليه السلام، حينما قيل له أن ابنك قد افترسه الذئب؛ فقال: ﴿قَالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْرًا فَصَبْرٌ جَمِيل..﴾ الآية (يوسف: 18). فيظن الأمر كان سهلا هينا، بسبب تعداد الكلمات وسرعة رد الفعل. لكن أرجو التوقف قليلا، أمام ما كان مطروحا بين يدي نبي الله الصابر الرائع، يعقوب عليه السلام.
إن تعداد الكلمات يحمل في طياته ويحوي كثيرا من الوقت ومن المشاعر وأخيرا من القرارات؛ لقد كان يعقوب أمام عدة مصائب، صارت كأنها بداية مرحلة وعنوانا لها:
الرواية الرسمية..!
لقد حمل اليه أبناؤه خبرا؛ مفاده أنهم ذهبوا جميعا وتركوا غلاما صغيرا في صحراء خالية وحيدا..! وأنهم لم يكن في قلوبهم من الرحمة والرعاية أن يراعوا تجنيبه المخاطر ولم يلتفتوا الى الحفاظ عليه، وأنه بالتالي واجه الذئاب وحده، فواجَه فزعا ضخما هو وحده كافٍ بالموت، ثم إن الذئاب افترست جسده ونهشت لحمه ومزقته حتى لم يَبق منه شيئ. وأن ما تبقى منه قميص كان يرتديه ـ لم يتمزق..! ـ ولم تُبق فيه الذئاب بقية ليدفنوها أو يأتوا بها الى أبيه.
هذه كانت الصورة المحمولة الى أبٍ ـ أو الرواية الرسمية..! ـ أظهر لهم سابقا تخوفه عليه فوعدوه بالحفاظ عليه؛ فكان هذا وفاؤهم بالوعد!!
والآن على يعقوب، عليه السلام، قبول هذا الخبر ببشاعته..!
الرواية المجهولة
لكن لم تنته المأساة الى هنا بل بدأت..! فقد وجد علامات الكذب الصراح؛ وعليه فالقصة المساقة اليه بهذه البشاعة ليس هي القصة الحقيقة؛ فكيف بالقصة الحقيقية..؟!!
لخياله أن يتملى أنهم اعتذروا له بالقصة البشعة فما بالك بالحقيقية..؟ يا لله ما أصبره.
لقد وجد علامات الكذب بما يعني أن الحقيقة أشد بشاعة من افتراس الذئاب لابنه وهو وحيد تتمزقه؛ فهل كانوا هم الذئاب الحقيقية التي افترسته..؟ هل كانوا هم القلوب المترعة بالحقد، تتآلف على عداوة أخيهم وتجتمع على بُغضه، وتُقرر أن تواجهه بوجوه كاشفة عن الحقد وقلوب تحمل سُمّ الكراهية..؟
إنْ واجه الذئاب فتلك مصيبة؛ لكن ماذا حدث في لحظة أنْ واجهوه هم بوجوههم المبغضة وعيونهم المتقدة نارا..؟ كان يظنهم يوسف حضنه ومأواه، فكانوا هاوية مُهلكة. كان يظنهم من يدفعون عنه الشر فإذا بهم الشر نفسه..! كان يفترض أن يوقوه الشر فإذا بطعناتهم تتوالى عليه..!! عليه السلام.
وطبيعة الأمور ـ كما تقول الروايات ـ أنه لجأ لبعضهم ففاجأه أنه يحمل له نفس الحقد والبغض، فدفعه الى الآخر؛ وكان لكلٍ منهم دافعه السيء؛ حتى إذا يئس منهم دفعوه متعاونين الى حيث يهلك أو يغرب عنهم بعيدا تدفعه أيديهم وأرجلهم عند حافة البئر وهو يتمسك بالحافة لعله تدركه منهم رحمة.
لك أن تتصور يوسف وهو يتلقى القهر واللكمات متوالية وهو يتساءل لماذا..؟! لماذا..؟!! لماذا..؟!!!
لكنه لا يعرف إلا الأذى يمتد اليه والحقد يسوق أصحابه اليه وهو لا يعرف السبب، وقد فوجيء بالموقف..!
أيهما أبشع ليوسف؛ القصة المسوقة ـ لو كانت حدثت ـ أم القصة الحقيقية..؟ أن يفاجأ أنه لم يكن في حضن أخٍ، ولا في كنفٍ آمِن؟ وأن من يريد إسقاطه ومحوه، هو القريب الذي آمِنه؛ فكان أشبه بذي لدغات يتحيَّن لدغةً قاتلة؛ فإن لم تقتل هذه كانت لدغة أخرى..؟ أم لو كانت ذئاب الجبل لكانت أقل فجاعة..؟ أيهما أبشع عند يوسف..؟
وأما الأب فلا يدري أيهما أبشع القصة المسوقة أم القصة المجهولة له..؟
هذا يوسف هناك يعدد قلبُه ما لاقى. وهذا يعقوب في الطرف الآخر يعدّد ما يجهله من حقيقة ما حدث، مما يَلْمحه من بشاعةٍ تفوق بشاعة ما نُقل اليه.
وتبدو رحمة الله أنه لم يكن مع هؤلاء الحاقدين طرف آخر من أبٍ يتواطأ معهم أو أم تتجرد من المشاعر؛ فكم في حياتنا الاجتماعية من امتدادات لقصة يوسف وإخوته وفيها ﴿آَيَاتٌ لِلسَّائِلِينَ﴾ (يوسف: 7).
المعايشة مع الأيام القادمة
والآن فنبي الله يعقوب أمام بلاء أصعب. فعليه الآن أن يتقبل أن يوسف لم يعد موجودا.. وهذا مصاب جلل وحقيقة ثقيلة كالجبل على النفوس.
ثم عليه أن يتعامل مع هؤلاء الذين كذبوا وحقدوا على أخيهم؛ يعلم أن وراءهم مصيبة مهولة، وأنهم كاذبون، وأنهم خانوا الأمانة، وأن قلوبهم لا تُؤتَمن، وأنهم سعوا بترتيب وكذبٍ؛ خطوة بعد خطوة ليبلغوا ما يريدون، وأنهم لم يستطيعوا دفع مشاعر الغيرة من أخيهم؛ حتى استولت عليهم وارتكبوا ما لا يهربون منه لا أمام الله، ولا أمام أبيهم. وبقيت لهم مشاعر السوء هذه سنين حتى نفثوا سُما بعد سنين كثيرة فاتهموه بهتانا ﴿إنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ قَبْلُ﴾ (يوسف: 77) وملايين الخلق يقرؤون كتاب الله وكل منهم يعلم أن إخوته يكذبون..! لكنها أحقاد القلوب حملوها سنين طويلة؛ فماذا ويعقوب يعلم هذا ويحسّه فيهم..؟
ولقد أصبحوا أمام يعقوب غير أمناء وغير مؤتَمنين، حتى إذا جاء يوم بعد سنين طويلة يستأذنونه ويستأمنونه على أخيهم؛ فيقول كيف..؟! ﴿قَالَ هَلْ آَمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ﴾..؟!! (يوسف:64) إنه لم يحدث جديد لآمنكم عليه.
المطلوب الآن من يعقوب أن يعيش معهم، يعرف ضغائنهم وجريمتهم، ويعايشهم؛ حيث لا انفكاك في الرحم وهو ليس بقاطعه. ولك أن تتصور كيف يرى وجوههم وهو يعلم ما وراءها ويعلم أنه لو التفتَ لكرروا الجريمة، على الأقل مع أخيه، ولجاءت طعنة أخرى.
إنها بداية ألمٍ تمتد لما بقي من العمر أو لما يحدث من توبة.
لو كان أمام يعقوب دليل لإثبات كذبهم والوصول الى الحقيقة لما تأخر في حماية حياة إنسان، وهو ابنه، وهو أثيره؛ لكنه وجد تواطأً لم يخرج عنه أحد ولن ينقل المعلومة الحقيقة منهم أحد؛ فلم يكن إلا الصبر.
والصبر هنا يعني تجرع الغصص كل لحظة حتى تكون مرارة المعاناة جزءا لا يفارق الحياة ولا يستطيع شكواه لهم؛ وقد كانوا المؤهَلين لبث شكواه لو كانت البلوى من غيرهم؛ لكنهم هم سبب الشكوى وسبب المعاناة؛ فتضاعَف الألم.
وهو ابتلاء في الحياة الاجتماعية بشع المذاق؛ حين لا يجد بينهم قلبا رحيما أو شخصا منصفا. ليكتشف بعدُ أنّ أرحمهم به من قال لا تقتلوه بأيديكم ولكن دعوه في بئر فيأخذه غيركم يستعبده ويذله ويهينه، أو يقتله؛ لكن ليس بأيديكم..! يا الله؛ هل هذه كانت رحمتك بأخيك..؟!!
والآن كيف يواجه شعور أحقادٍ وأشخاص لم يعد يأتمنهم؟ وثمة امتداد ليوسف موجود، وهو أخوه، فهل يكررون الفعلة نفسها..؟ فماذا يفعل وكيف يواجه..؟ لا أمان ولا ائتمان ولا يعرف ما هو القادم ولا يأمن المستقبل.
هل يناقشهم..؟ فهل ينصفون..؟! إنهم سيرون يوسف جانيا..! ويرونه متَهَما..!! وقد يطالبونه باسترضائهم لأنهم يعانون بسببه ألم الكراهية ومعاناة الكذب والخديعة..! وقد يطلبون منه أن يعتذر لهم فقد عانوا من الكراهية في قلوبهم له..؟! ولم تُشْفِ نفوسهم غيظها منه..!!
إن النفوس إذا ظلمت واعوجت وحقدت لا ضابط لها إلا بتوبة يتقطع لها القلب.
المستقبل المخُوْف
ثم يواجه يعقوب سؤالا بما هو قادم.. ماذا لو مات يعقوب وانفردوا بابنه ماذا سيفعلون به..؟ وماذا سيكون مصير هذا الضعيف الجديد..؟ كيف هي الحسبة إذن لو ترك الإنسان ضعافا يعلم أن ثمة مخاطر تنتظر لتنهشهم..؟
لقد كان ابتلاء عظيما؛ كتمه نبي الله في نفسه، وبثَّ شكواه لرب يسمع الشكوى والنجوى.
بقي “يوسف” في نفس “يعقوب” لم يبرحْها قط ولم يخفّ ألمُه أبدا. ويوم أنْ فقد “بنيامين” وحدث ما تخوَّفه صاح أنينُه على يوسف؛ يتوجع: ﴿وَقَالَ يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ (يوسف: 84)؛ إذ كان أول الأوجاع فانفرط العقد..!
ولم يتوقفوا إذ ذاك عن لومه في يوسف حتى هذه اللحظة ﴿قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُف..﴾..؟! (يوسف: 85).
وهنا يجب النظر الى أثر العلم بالله عز وجل وبأسمائه الحسنى في قوة الصبر وإحسان الظن بالله عز وجل ولذا قال يعقوب عليه السلام لأولاده عندما قالوا له: ﴿قَالُوا تَاللَّهِ تَفْتَأُ تَذْكُرُ يُوسُف..﴾ (يوسف: 85) قال لهم ﴿وَأَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ مَا لَا تَعْلَمُونَ﴾ (يوسف: 86) وختم دعاءه باسمين كريمين هما : العليم ، الحكيم فقال ﴿عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ﴾ (يوسف: 83). ولهذا دلالته على عمق علاقته بربه ومعرفته به وتوكله عليه وثقته فيه وإحسان الظن به؛ وهكذا هو المؤمن في تعبده لربه وتعلق قلبه به وفرادة قلبه بين القلوب اليائسة والمسيئة للظن.
في الجانب الآخر؛ فالبغضاء في القلوب مُفسدة ومُمرضة، تُفسد القلوب وتعطلها عن الطريق وتجلب الأوجاع المعقدة في الحياة الاجتماعية. وقد ضربها الله مثلا لقريش وهم يواجهون نبي الله محمدا، صلى الله عليه وسلم، يلفت أنظارهم الى جانب الرحم بينهم وبينه، وأنه ابنهم وأخوهم، وأنه لا ينقصهم دليل وآية؛ فكان يسوق لهم براهين صحة الرسالة، ويعالج نفوسهم التي قد تدفع لرد الحق وقلب الحقائق رغم المعرفة.
ومثل هذه القلوب لا يصلُح حالها إلا بعد توبة صادقة، وانكسار عظيم. وقد قدّر الله تعالى لهم من الانكشاف والانكسار وجريان القدَر بعكس ما يريدون فرفع الله يوسف مُلكا ورسالة وأخلاقا وعفوا عظيما؛ فكان انكسارهم الذي سبَّب توبتهم بعدها، وصلح حالهم.
خاتمة
عندما يَعرض القرآن كلمات يعقوب ﴿بل سوّلت لكم أنفسكم أمر؛ فصبر جميل..﴾ الآية (يوسف: 83). فاعلم أن وراءها معاناة موقف عظيم تنوء به الجبال، ومقاساة عمر طويل، وسنين كثيرة لا يفارق الألم فيها صاحبه لحظة واحدة. فيا لله ما أصبره وما أجمل موقفه؛ حينما يتصبر بلا شكوى ولا عتاب، وحينما يقرر أن يعايشهم رغم الألم.
إن تعداد الكلمات لا تقلل من عظيم الموقف ولا أبعاده؛ لكن الشأن في التدبر.
وفي حياتنا الاجتماعية امتدادات وتشابكات لهذه القصة، يحتاج فيها الإنسان الى مراجعة النفوس وما فيها والقلوب وما يعتريها. ويحتاج الى معرفة مواطن الصبر والحلم، ومواطن الحسم اللازمة حينا.
وفي صبر يعقوب وحلمه وتجريده الشكوى لربه أسوة، وفي تقوى يوسف وصبره أسوة. وفيما فعل الله ليوسف وفي لطفه بيعقوب وهما يريان عاقبة الصبر والتقوى؛ عبرة وعظة لكل المعضلات الاجتماعية والمشاكل التي تعرض للنفوس.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق