إضاءات على صحف إبراهيم عليه السلام
قال الله تعالى في كتابه العزيز: "إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُوَلَى. صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى" (سورة الأعلى: 18-19).
وهذا يعني أن إبراهيم -عليه السلام- كان صاحب كتاب فتكون الكتب التي أنزلها الله سبحانه وتعالى على رسله، والتي ذكرت في القرآن الكريم 5 كتب، وهي حسب التسلسل الزمني: صحف إبراهيم، والتوراة والزبور والإنجيل والقرآن، وتكون صحف إبراهيم -عليه السلام- أول ما نزل من الكتب، قال الطبري رحمه الله: وأما الصحف فإنها جمع صحيفة، وإنما عنى بها كتب إبراهيم وموسى عليهما السلام.
وقد ذكر المفسرون أن صحف إبراهيم أنزلت على إبراهيم عليه السلام، وقال ابن عاشور إنها الكلمات التي ابتلى الله بها إبراهيم المذكورة في قوله: "وَإِذِ ابْتَلَى إِبْرَاهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِمَاتٍ فَأَتَمَّهُنَّ" (سورة البقرة: من الآية 124)، ثم قال: وهي صحف سجل فيها ما أوحى الله إليه، واختلف في عددها، فقيل: هي 10 صحائف، وقيل 20 صحيفة ويذكر ابن عاشور أنها 10 صحائف. (محمود، 2019، ص42).
وبيّن القرآن الكريم بعضا مما كان في تلك الصحف، وذلك في قوله تعالى: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكى. وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى. بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى. إِنَّ هَذَا لَفِي الصُّحُفِ الْأُوَلَى. صُحُفِ إِبْرَاهِيمَ وَمُوسَى" (سورة الأعلى: 14-19).
لقد اختار الله سبحانه من صحف إبراهيم -عليه السلام- هذه الكلمات؛ ليجعلها في القرآن الكريم قدوة اتباع ملة إبراهيم عليه السلام في أمور من الأهمية بمكان في هذا المنهج، فلقد جاء فيها.
قوله تعالى "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكى":
فلا يمكن الوصول إلى الله سبحانه وتعالى بغير نفس زكية نقية، و"مَنْ تَزَكى": أي تطهر بالإيمان وصالح الأعمال بعد التخلي عن الشرك والمعاصي. (الجزائري، 2003، ج5، ص558)
ولهذا كان من دعاء النبي محمد -صلى الله عليه وسلم- "اللهم آت نفسي تقواها وزكّها أنت خير من زكاها أنت وليها ومولاها".
وقد تكون بمعنى الصدقة سواء كانت المفروضة منها أم التطوع وفيها: "وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى"، فإن أفضل الأعمال قاطبة هي ذكر الله سبحانه وتعالى، والذكر يكون على كل حال ماشيا وجالسا، وفي حال الأكل والشرب، ولبس الثياب، وقبل النوم، وعند هبوب الريح، وعند ركوب الدابة، وعند النظر للقمر، وفي كل تفاصيل الحياة. (الجزائري،2003، ج5، ص559)
ويقول الفخر الرازي في تفسيره الكبير "مفاتيح الغيب":
مراتب أعمال المكلف ثلاث:
- أولها: إزالة العقائد الفاسدة عن القلب.
- ثانيها: استحضار معرفة الله تعالى بذاته وصفاته وأسمائه.
- ثالثها: الاشتغال بخدمته.
فالمرتبة الأولى: هي المراد بالتزكية في قوله: "قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكى" (سورة الأعلى: 14).
وثانيها: وهي المراد بقوله: "وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ"، فإن الذكر بالقلب ليس إلا المعرفة، وثالثها: الخدمة وهي المراد بقوله: "فَصَلَّى" فإن الصلاة عبارة عن التواضع والخشوع، فمن استنار قلبه بمعرفة جلال الله تعالى وكبريائه لا بد وأن يظهر في جوارحه وأعضائه أثر الخضوع والخشوع. (الرازي، 1997، جـ31، ص134).
وكان خليل الله إبراهيم -عليه السلام- قد التقى رسول الله -صلى الله عليه وسلم- في السماء الدنيا أثناء رحلة الإسراء والمعراج، وكان إبراهيم -عليه السلام- قد نادى على محمد بأنه ولده وهو كذلك بالفعل.
قوله تعالى "وَذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى":
كان ذلك أيضا في صحف إبراهيم -عليه السلام- فالصلاة عماد الدين ونور اليقين وهي الحبل الموصول بين العبد وربه سبحانه وتعالى، فلا غنى عنها، ولا حياة دونها، ولم يسقطها الله سبحانه وتعالى لا عن نبي مقرب، ولا عن عبد فقير، ولا عن مريض، ولا كبير، ولا عن مجاهد في سبيله، ومن صحف إبراهيم استلم بقية الأنبياء الرسالة، ومارسوا الصلاة بمعناها العام سواء كان المقصود منها الدعاء أو العبادة التوقيفية من القيام والركوع والسجود وتلاوة كلام الله سبحانه وتعالى.
وعندما تكون الصلاة المعنية في قوله سبحانه وتعالى في صحف إبراهيم عليه السلام "فَصَلَّى" هو الدعاء، فسيكون المعنى قد أفلح من دعاء ربه، والدعاء لب العبادة وأساسها في ملة إبراهيم -عليه السلام- قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم- إن الدعاء هو العبادة، فمن أجل ذلك كان الدعاء يرافق إبراهيم عليه السلام في كل أحواله، وكان إبراهيم في كل أحواله يدعو ربه بأدعية صارت قبسا لاتباع ملته يدعون بها إلى يومنا هذا، وقد حفظ القرآن الكريم لنا ذلك النور الرباني من أدعيته الخاشعة العظيمة. (المرسومي، 2021، ص192).
وأما عندما تكون الصلاة هي العبادة التوقيفية، فقد كان إبراهيم عليه السلام قد دعا بها بقوله: {رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلَاةِ وَمِنْ ذُرِّيَّتِي" (سورة إبراهيم: من الآية 40)، وهي دعوة جليلة تأتي من أهمية الصلاة، فقد كان قول إبراهيم عليه السلام في دعائه ربه أن يجعله ربه "مُقِيمَ الصَّلَاةِ"، فإقامة الصلاة على مراد الله هو المطلوب، وليس الصلاة فحسب. (المرسومي، 2021، ص193).
قوله تعالى "بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا. وَالآخِرَةُ خَيْرٌ وَأَبْقَى":
أخبرت صحف إبراهيم -عليه السلام- بأنه رغم الإشارات إلى دور الإنسان الإصلاحي في الأرض والبشارات لمن عمل صالحا والوعيد للكافرين والظالمين والفاسقين، وأن الحنيفية هي الميل من الباطل إلى الحق والمداومة على ذلك الحق، فإن الإنسان سيميل ويقدم الحياة الدنيا على كل ذلك -إلا من رحم ربك- وسيُؤْثر الحياة الدنيا ويركن إليها، وهو مأمور بأن لا تكون هذه الدنيا هدفه، وغاية مناه؛ لأنها دار فناء وليست دار بقاء، وما هي إلا لهو ولعب، قال تعالى: "وَمَا هَذِهِ الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا لَهْوٌ وَلَعِبٌ" (سورة العنكبوت: 64).
والحياة الدنيا هنا هي كل ما في عمر البشرية من أمور معنوية أو مادية أو زمنية، فهي تشمل عمر الإنسان وحياته وغناه وفقره، وكل ما خلق الله سبحانه وتعالى في هذا الكون من بشر ونباتات وحيوانات وجمادات وكواكب ونجوم، وكل الأشياء الأخرى كالشهوات والملذات والملك وهكذا، وهي دار امتحان وليس جزاء، فليس من العقل ولا المنطق أن يتصارع ويتنافس من أجلها المتنافسون.
وهذه هي نظرة ملة إبراهيم في القضية أن لا نُؤْثر هذه الحياة الدنيا، وإنما نأخذ منها ما نقيم به حياتنا من أجل بقائنا للعمل من أجل الآخرة، وقد جاء بيان ذلك في قوله تعالى: "وَابْتَغِ فِيمَا آتَاكَ اللهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَلَا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيَا" (سورة القصص: من الآية 77). (المرسومي، 2021، ص194).
وهذا هو ملخص قصة الحياة التي نعيشها أننا في الأصل نبتغي الحياة الآخرة، وهناك متطلبات لا غنى لنا عنها في هذه الحياة التي نعيشها، وعلينا أن لا ننساها، لذلك فإن ما جاء في صحف إبراهيم عليه السلام: "بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا" إنما هو تحذير ووعيد لمن يفعل ذلك؛ لأنه خطأ فاحش وهو مخالفة صريحة لملة إبراهيم -عليه السلام- التي أُمر الناس باتباعها.
المراجع:
- أبو بكر الجزائري، أيسر التفاسير لكلام العلي الكبير، مكتبة العلوم والحكم، المدينة المنورة، المملكة العربية السعودية ط5، 1424هـ، 2003م.
- فخر الدين الرازي، التفسير الكبير "مفاتيح الغيب" (تفسير الرازي)، دار إحياء التراث العربي، بيروت، لبنان، ط 2، 1417هـ/ 1997م.
- عمر عبد الوهاب محمود، صحف إبراهيم وموسى عليهما السلام من خلال القرآن والسنة، مجلة كلية العلوم الإسلامية، العراق، المجلد (11)، العدد (1/19)، 2019م.
- عبد الستار كريم المرسومي، ملة أبيكم إبراهيم، دار المعراج للنشر والتوزيع، دمشق، ط1، 2021م.
- علي محمد الصلابي، إبراهيم عليه السلام داعية التوحيد ودين الإسلام والأسوة الحسنة، دار ابن كثير، 1442هـ/ 2021م، ص 711-716.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق