الاثنين، 25 يوليو 2022

روعة النص القرآني وتحريف وخداع الترجمة – (1)

روعة النص القرآني وتحريف وخداع الترجمة – (1) 

بقلم: أ. د زينب عبد العزيز

فرنسا والإسلام

     بدعة من البدع الجديدة تحاول أن تترسخ وتبحث لنفسها عن شرعية وعن طريق، بل وعن استراتيجية لمن ينساق إليها في فرنسا. إذ نلحظ ظهور عبارات من قبيل "إسلام تقدمي"، و"إسلام تحرري" بل و"إسلام علماني"، وكأن الإسلام لا يمكنه التواجد في فرنسا إلا بأن يتلفع بأحد الألقاب التاريخية للجمهورية الفرنسية، وليس استناداً إلى قيمه الذاتية، وصفاته ومرجعيته القرآنية والسُنة المحمدية، التي تعنى أنه: الدين القيّم أو دين الاستقامة، فطرة الله التي أنزلها المولى عز وجل ووضع بها حداً للخلافات حول التنزيه والحلولية. وليس على المسلمين أن يقعوا، أو أن يخشوا هذه المجادلات العقيمة ولا ما ينجم عنها من فريات، فهو القائل في كتابه:

 (وَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَهُوَ يُدْعَى إِلَى الْإِسْلَامِ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ) (سورة الصف: 7)

وقال تعالى: (حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَالْدَّمُ وَلَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَمَا أُهِلَّ لِغَيْرِ اللّهِ بِهِ وَالْمُنْخَنِقَةُ وَالْمَوْقُوذَةُ وَالْمُتَرَدِّيَةُ وَالنَّطِيحَةُ وَمَا أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ مَا ذَكَّيْتُمْ وَمَا ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَأَن تَسْتَقْسِمُواْ بِالأَزْلاَمِ ذَلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُواْ مِن دِينِكُمْ فَلاَ تَخْشَوْهُمْ وَاخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الإِسْلاَمَ دِينًا فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِّإِثْمٍ فَإِنَّ اللّهَ غَفُورٌ رَّحِيمٌ) (المائدة: 3),

     كما نلحظ أيضا ظهور نمط من "الإسلام الغنائي" الذي يبحث عن تقارب مع الزهد المسيحي والموضة البوذية، المتزايدة الانتشار في العالم الغربي، الذي يواجه مقولة المفكر الفرنسي (أندريه مالرو) عندما قال: "الألفية الجديدة ستكون دينية، أو لن تكون". والإسلام، إذا لم يتم النظر إليه في فرنسا جهلاً وبأفكار مُسبقة على أنه دين وافي مُتكامل فهذا الأمر سيكون له تداعياته على العلاقة مع المسلمين الذين يعيشون على أرض فرنسا، المشكلة أنهم ينظرون إلى الإسلام على أنه وقود ومدد روح المقاومة والجهاد الذي لا بد من تعقيمه خشية من عودته من جديد، ويأتي هذا الهاجس من خلال تجربتهم السابقة في الحروب الصليبية الاستعمارية  التي وضعت الغرب اليهومسيحي، الوثني العبادة، في علاقة تصادمية مع الشرق المسلم الموحد بالله. وكان للإسلام في هذه المعركة التي فُرضت عليه صولة وجولة .. هم لا زالوا يعيشون حالة رعب وخوف .. والمسلم لا يجب أن يغيب عن فكره الحقيقة التالية:

(وَلَن تَرْضَى عَنكَ الْيَهُودُ وَلاَ النَّصَارَى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللّهِ هُوَ الْهُدَى وَلَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْوَاءهُم بَعْدَ الَّذِي جَاءكَ مِنَ الْعِلْمِ مَا لَكَ مِنَ اللّهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ نَصِيرٍ) (البقرة: 120).

      إن الجهود الرامية إلى فرض النمط البوذي على الإسلام في فرنسا هي حقيقة واقعة، مثلها مثل حقيقة صهينة بعض المثقفين والسياسيين في العالم العربي والإسلامي اليوم. فالإسلام "البوذي" يدّعى انتمائه إلى ديانة بلا فروض طقسية، وبلا التزام بالمعايير الدينية، بلا جهاد، بلا سياسة، وبلا أمّة.. مجرد هيام في حالة (النرﭭانا) أي السكون التام ..

     ولقد لعبت فرنسا منذ زمن بعيد دوراً هاماً في تكوين نخبة مسلمة متحدثة بالفرنسية، هي نوع من المدرسة الفرنسية المسلمة، تم إعدادهم –إعداداً خاصّاً- بدراسة العلوم المتعلقة بالإسلام على يد مستشرقين متعصبين، للحاجة إليهم اليوم ليقوموا بدورهم في إدانة الإسلام ورموزه المقدسة قُرآناً وسنة وصحابة وتاريخاً وثقافة وحضارة لصالح ثقافة الضياع الغربية، أي أنهم ليسوا مبشرون وإنجيليون وأيديولوجيون مستعمرون، يمكن استعمارهم أو تم استعمارهم، وإنما هم فرنسيون مُقتلعون من الإسلام، ومواطنون أصليون يسيحون في الدراسات الإسلامية، وكأن قلب الإسلام لم يعد في مكة وضواحيها الثقافية والروحية: كالقاهرة ودمشق وبغداد واستانبول، وإنما في باريس وحدها!.

     وقد يبدو ذلك طبيعياً في تاريخ الديانات والحضارات. فأيام سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام، والخلفاء الراشدون، كان يجب عليهم محاربة الأصنام، وظلمات الشعراء والمثقفين العرب، وتحريف علماء اليهودية والنصرانية، وظهور الأدعياء الدّجالين الذين ادّعوا النبوة. والأمر الذي لا يبدو طبيعيا هو أن نرى بعض الكيانات التي تدعى انتمائها للإسلام تتجاوب مع ذلك العالم بحجة التعريف برسالة الإسلام الحقيقية ومحاربة الوهابية والتشدد في فرنسا، دون حتى أن يكلفوا أنفسهم بقراءة مؤلفات ابن عبد الوهاب أو محاولة فهم دوافعه وتحديات زمانه التي هي: الوثنية الجديدة في بلاد الحرمين!.

     إن أفعال المسلم هناك يتم تحليلها تحت مُسميات علمية وأيديولوجية دينية تجارية، ودينية سياسية، واقتصاديات الورع، والسياحة الدينية، كاسحين بذلك معنى الزكاة، وأموال الربا، والحج والعمرة من المجال المعجمي والدلالي للمفاهيم والحقائق الدينية والاجتماعية والأخلاقية والحضارية.

     ولن نتناول هنا إشكالية الإسلام الفرنسي الذي يطالب به صراحة الرئيس الفرنسي وغيره من صُنّاع القرار في فرنسا، لكننا سنكتفى بالإشارة إلى بعض الملامح لتوضيح الإنجازات وآليات التلاعب، وخاصة الجهل، الذي هو سبب كل الآفات. فجهل العوام لا يؤثر كثيرًا كجهل النخبة أو جهل المثقفين الذي يمثل كارثة حقيقية. كارثة لأنها تنعكس على ثلاثة مستويات تمثل أرضا خصبة لانتشارها:

* -  شباب يبحث عن الحقيقة والمعرفة، ولعدم وجود منهجية وأئمة أكفاء، فهو ينجذب إلى بهرجة مُدّعى الثقافة المتحدثين عن الإسلام جهلاً وإدّعاءً.

* - إدّعاء الاجتهاد في عالم يتم فيه تداول الأفكار والأموال والرجال بصورة فجة متواصلة، بينما العالم الإسلامي لا يزال يُعاني من سُبات عميق وغير قادر على إنتاج أفكاره الذاتية، أو أن يضع تحليلاً بلا مجاملات حول أمراضه الاجتماعية، والسياسية، والثقافية، والاقتصادية والدينية.

* غياب أي إنتاج فكرى منطقي من العالم الإسلامي باللغة الفرنسية للرد على هذه التطلعات والتحديات. والإنتاج النادر المتاح يتم باللغة العربية أو الإنجليزية. فقد تحول العالم الإسلامي إلى متجر مشتريات بلا مشروع مستقبلي، بلا تحدي آخر سوى بيع البترول واستيراد المنتجات العصرية الغربية. أما إنتاج أفكاره، وعتاده، ونخبته، وماله، وثيابه، وغذاؤه، واستقلاله، فليست لها أية أولوية، ولا هي موضوع نقاش أو تأمل ..

     وما لا يهتم به المسلمون يقوم به غيرهم مثلما يقول القرآن الكريم: (وَتِلْكَ الْأَيَّامُ نُدَاوِلُهَا بَيْنَ النَّاسِ) (آل عمران: 140). فلا يوجد تناوب ولا منظور للذين يستبعدون أنفسهم من المعركة ومن المشروع الحضاري المطلوب.

 إن دور النشر الفرنسية في فرنسا والمكتبات الإسلامية تؤثر نشر وبيع الكتب القديمة. وبذلك فهي تتأكد من كسب النقود دون الالتزام بدفع حقوق المؤلف، وخاصة بلا تحمل أية مجازفة مثلما يحدث ذلك عند الدعوة لأفكار جديدة.  وبذلك يظل الكتاب سلعة للبيع أو لزخرفة أرفف المكتبة، وليس مستودعاً لأفكار أو اقتراحاً لمشروع، أو تجربة حياة، أو حتى معاناة روحٍ متعطشة إلى الحق والعدل.

     إن جهل المثقفين له عواقب على المتخيل وعلى نسق تقديم المسلم وغير المسلم. إذ أنه يحصر المسلم في نطاق جهل أكثر من غير المسلم، يحصره في أحكام مسبقة، أكثر سلبية ونماذج نمطية أكثر هزلية. فبدلا من أن يقوم المسلم برسالته كشاهد، فإن المثقف الذي يتناول الإسلام يُصبح أداة في حرب أيديولوجية ضد مجتمعه، وضد دينه، بقبول التلاعب بالكلمات وليس بالعمل بالمبادئ. وبذلك يتحول التلاعب بالكلمات إلى تلاعب بالآلام، وهو ما يثقل على الحاضر والمستقبل بقدر الأذى والتضليل الذي تنقله المذلة الاستعمارية أو إمكانية الاستعمار. والمتخيل، ذلك الحقل الاستطلاعي للتخيل يصبح في هذا الإطار غير قادر على الإنتاج، سلبي، وضار لأي مشروع حضاري أو معرفي، أو له أي معنى.

     لقد فضح (مالك بن نبي)، هذا المثقف الأمين المخلص، فضح من يطلق عليهم "مثقفي الأنفاق"، أي مثقفو الدهاليز التحتية، الذين يبيعون أفكاراً ميتة، مُميتة وقاتلة. أفكار تؤدى إلى الوثنية؛ لأنه "في كل مرة يختفي فيها الفكر، يسود الوثن من جديد وبالعكس".

 وقد قام بتحليل قصير ومُفحم ضد صُنّاع الأصنام، إذ يقول: "أن القرآن قد لقب الجاهلية، أي "الجهل" تلك الوثنية السائدة في الجزيرة العربية قبل الإسلام. ومع ذلك فالجاهلية لم تكن فقيرة في التقنيات الأدبية، وأكبر الأسماء في الآداب العربية ترجع إلى تلك الفترة. ورغمها تَظَل تُلقّب بالجاهلية، قمة الجهل، لأن الخطاب العربي لم يتضمن كلمات برّاقة وإنما جوفاء خالية من أي نبت خلاّق. وعلى العكس، إذا كانت الوثنية جهلاً، فالجهل وثنى: أنه لا ينبت أفكاراً وإنما أوثاناً مثل الجاهلية. وليس من قبيل المصادفة أن الشعوب البدائية كانت تمائمية". أي تُؤمن وتعتقد بالتمائم والخرافات!.

     إن تناول الإسلام أو تحليل أحد ملامح الحضارة الإسلامية أو الأمة المسلمة يعنى بالضرورة احتضان أخلاقيات وجماليات الإسلام التي هي في التوحيد الصافي والكامل، وإلا أصبح مجُرد مضاربة، أو بلاغة كلامية، أي التعبير الجيد بدلاً من قول الخير أو الحق؛ أو تصبح مُغرضة، وتعنى استخدام علم البلاغة للإقناع لأهداف دينية أو أيديولوجية، لتنُصَيِّر العقول والمستعمرات ماديّة نفعيّة؛ أو تَعَيُّشِيّة، من العيش؛ بمعنى جعل "الدخل" أو النجاح الاجتماعي عبارة عن نسق فكرى للقيم والتصرفات الإنسانية ! .. أي جعله غاية في حد ذاتها وليس مجرد وسيلة.

      ومثلما كان الوضع أيام المدينة المنورة، فإن كل نهضة الإنسان المسلم ومحيطه وحضارته وانتصاراته على تحديات الزمن، وعلى الأرض والأعداء، تبدأ الكرّة من جديد ببعض مبادئ النحو وعلم الدلالة وبعض الآيات القرآنية من أجل غاية أن يكون الإنسان خليفة الله على الأرض ليمارس موهبة الملكات الفطرية والمكتسبة، وأن يتم تكريمه ويعيش كريماً بصفته مخلوق قد خلقه الله بنفحة منه، ليستكمل نزعة تسليم أمره لله، وقد تزوّد برسالة الشهادة بالكلمة والفعل بوجود الخالق، المنعم، الوهاب الذي سنقف أمامه يوم الحساب. فاللغة شهادة، كما أنها تسجيل للمعنى بأحرف تكشف عن الغيب، إذ يقول المولى سبحانه وتعالى: (الم - ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) (البقرة: 1-2)

وحتى إن غيّرنا علامات الوقف، فإن المعنى يظل بعظمته هو نفسه في لغة القرآن.

قضية الشك

     بعد تحديد معنى الإيمان والدين كعقيدة، وتحديد العلاقة مع الله من خلال سورة الفاتحة، فإن القرآن في أول سورة يضع المشكلة الأساسية للإيمان والعقل، ألا وهي: الشك. إن الشك الديكارتي أو العدمي يمكنهما إيجاد سبباً أو تبريراً، إلا في القرآن واللغة التي تحمل معانيه. فلا يوجد أي شك بالنسبة لله، ورسالته، وأنبياءه، وملائكته، ووعده وحسابه أو عقابه. إن كل ما هو مكتوب في الكتاب المسطور وفى الكتاب المنظور يشهد بيقين المؤمنين ضد عدم يقين المتشككين ونفي الكفرة.

 لا يوجد أي شك حول الإنسان ومستقبله سواء أكان مؤمناً أو منكراً أو لئيماً مُنافقاً بوجهين. لا يوجد أي شك حول الإيمان والتعبير عن الإيمان في الحياة الداخلية ولا في الحياة الخارجية الاجتماعية، السياسية، الفكرية والثقافية. فهناك ثلاثة أنماط للكينونة، ثلاثة نماذج للقراءة، وثلاثة طرق لنسلكها:

1 ـ نور المعرفة:

 (الم - ذَلِكَ الْكِتَابُ لاَ رَيْبَ فِيهِ هُدًى لِّلْمُتَّقِينَ) (البقرة: 1-2)

2 ـ ظلمات نكران الجميل التي تُعطل أدوات الحس والفكر والعاطفة للتوصل إلى معرفة الله وإلى المعرفة أو للبحث عن الحقيقة، غير فاعلة:

 (إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ سَوَاءٌ عَلَيْهِمْ أَأَنذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنذِرْهُمْ لاَ يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللّهُ عَلَى قُلُوبِهمْ وَعَلَى سَمْعِهِمْ وَعَلَى أَبْصَارِهِمْ غِشَاوَةٌ وَلَهُمْ عَذَابٌ عظِيمٌ) (البقرة: 6-7)، 

3 ـ الخلط، المكر والدهاء، وجبن وخيانة المنافقين:

 (وَمِنَ النَّاسِ مَن يَقُولُ آمَنَّا بِاللّهِ وَبِالْيَوْمِ الآخِرِ وَمَا هُم بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخَادِعُونَ اللّهَ وَالَّذِينَ آمَنُوا وَمَا يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنفُسَهُم وَمَا يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ فَزَادَهُمُ اللّهُ مَرَضاً وَلَهُم عَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ لاَ تُفْسِدُواْ فِي الأَرْضِ قَالُواْ إِنَّمَا نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَلَـكِن لاَّ يَشْعُرُونَ (12) وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُواْ كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُواْ أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاء أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاء وَلَـكِن لاَّ يَعْلَمُونَ" (سورة البقرة)، 

      إن كل إنسان مسؤول عن قناعاته وعما يفعله بهذه القناعات، وعمّا تنعكس به عليه هذه القناعات من الناحية الدينية والحياتية. فاللغة سواء كانت تعريفاً للمعنى أو ترجمة للإشارة فهي ارتباط بأحد تلك الطرق الثلاثة، ومن هنا فهي مسئولية.

       إن اللغة العربية والفرنسية تتفقان تماماً حول مفهوم الشهادة الذي يشمل المسئولية الفردية والجماعية. فأن يكون الإنسان مسئولاً يعنى أن تكون لديه المقدرة والمسئولية على أن يُقدّم جواباً. وبالعربية، أن كلمة مسؤول تعنى تحديداً القدرة وإمكانية ومسئولية الإجابة على الأسئلة، وخاصة هذه: ما الذي فعلته بنفسك، بعلمك، بشبابك، بمالك، بوقتك وبمواهبك؟ وللأسف، فإننا نتصرف كالجهلاء المتحدثين بلغتين، أي كأننا غير مسئولين، بأوسع معاني الكلمة، غير عابئين في كل مكان وزمان، بغض الطرف عن ظروفنا وظروف أعداءنا.

 (وَلَقَدْ ذَرَأْنَا لِجَهَنَّمَ كَثِيرًا مِّنَ الْجِنِّ وَالإِنسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لاَّ يَفْقَهُونَ بِهَا وَلَهُمْ أَعْيُنٌ لاَّ يُبْصِرُونَ بِهَا وَلَهُمْ آذَانٌ لاَّ يَسْمَعُونَ بِهَا أُوْلَـئِكَ كَالأَنْعَامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُوْلَـئِكَ هُمُ الْغَافِلُونَ)  (الأعراف: 179).

     إن الالتزام لم يكن في البحث عن الشهادات الكبرى ولا في غوغائية الحدث وإنما في المشكلات الأساسية، أي في المسائل المتعلقة بممارسة الواجبات كمسلمين، تجاه الله وتجاه البشر، دون ثرثرة أو خطب عقيمة، ولكن بحثاً عن الحقيقة وفقاً لتعاليم سيدنا محمد عليه الصلاة والسلام:

 ((الدِّينُ النَّصِيحَةُ: لِلَّهِ وَلِكِتَابِهِ وَلِرَسُولِهِ وَلِأَئِمَّةِ الْمُسْلِمِينَ وَعَامَّتِهِمْ)). [صحيح مسلم؛ برقم: 55].

     هذا هو الإطار العام الذي نُراعيه عند مراجعة بعض الرسائل الجامعية للحصول على درجة الدكتوراه حول الإسلام والمسلمين، في تناولهم الحديث حول السياسة الدينية، والاقتصاد الديني، والتجارة الدينية، والاقتصاد التعبدي، والاقتصاد الإسلامي، والإسلام السياسي، والسياحة العبادية، والتسويق السياسي الديني في مكة .. ورد الفعل هذا هو نفسه ما يتم حيال ما يطلقون عليه "علم الإسلاميات" الذي يؤمن بالفصل المعرفي واللغويات الحديثة، بدأً من (شوسير) إلى (شومسكي)، أو التحليل السردي (لجريماس) والبنيوييين الجدد، الذي يسمح بفهم القرآن والطريق الإسلامي لا بغية إصلاح الذات، وإنما بهدف إصلاح القرآن والسُنة كما يبغون!!

     ومن الإنصاف قول: إن تصرفاتنا الاحتفالية وغير المسئولة تُحرّف العبادة، وتجعلها تبدو في نظر الأجنبي الغريب عن الإسلام، نوعاً من المهرجان الوثني. إننا نقوم بصنع فشلنا بأيدينا بصناعة تصرفنا المثير للسخرية والذي يتحول إلى ذريعة في أيدي هادمي الإسلام. وحيث أنهم يفتقرون إلى الأمانة فهم يُؤثرون خلط أخطاء المسلمين بالإسلام، ويرفضون رؤية الإسلام في شموليته، الذي يجب البحث عنه في بؤسنا الأخلاقي، والاجتماعي، والسياسي والاقتصادي. وبذلك نتحول نحن إلى مزيّفين، ومُزوري عملات، ندفع بها في خضم الثقافة العالمية، فتنعكس علينا بصورة أسوأ، يُساندها الخائفون من الإسلام.

 إن الآفة هنا هي نحن، نحن أنفسنا الذين نصنع هذه الآفات، ويتناولها الهدّامون بعد وضعها في حضّانات بغية نشرها وتلقيحها على أوسع نطاق. والقرآن يدين هذه الحقيقة بلا مواربة:

(وَمَا أَصَابَكُم مِّن مُّصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ) (الشورى: 30)

     ورغمها نظل فيما وراء شطحاتنا هذه وعدم شعورنا بالمسئولية، طاقة كامنة، وفرضية إسلام أصيل، يمكنه أن يتحقق لصالح الإنسانية من جهة، ومن جهة أخرى لتعاسة الأصنام وعبدتها والطغاة ومُعاونيهم. أن مسئوليتنا هي أن نستمر في الشهادة والبحث عن قرائن ووسائل للدفاع، انتظاراً للصحوة الإسلامية التي تلوح في الأفق كتيار مدٍ ديني إسلامي عظيم لإنقاذ العالم.

     إن مسئوليتنا يجب أن نتقاسمها، من باب أولى، مع الشباب الذين لهم عتاد معرفي؛ لأنهم القادرون على مُعايشة زمانهم وتحمل مسئولية تحدياته. إن هؤلاء الشباب، خاصة أولئك الذين يتناولون موضوع الإسلام والمسلمين في أبحاثهم، يجب أن يتحرروا من نظرة المستشرقين وعلماء الإسلاميات الفرنسيين، ليقوموا بتكوين وجهة نظرهم على ضوء القرآن والسنة كما هي، دون التحريف الذي قام به الآخرون.

     ذلك لأن القرآن الكريم يبرز أهمية دور الشباب في مشروع التحرر من الطغيان والوثنية. فسيدنا إبراهيم، وسليمان، ويوسف، وموسى، وعيسى، ومحمد عليهم جميعا الصلاة والسلام، وتلاميذهم وأتباعهم كانوا في غالبيتهم شباب يملئوه الإيمان والحيوية.

 أن علمهم وقوتهم تكمن في خدمة قضية عادلة. ونحن، من جهة أخرى، مَدْعُوون في كل يوم جمعة، صباحاً أو مساءً، لقراءة وتأمل سورة الكهف التي سنلفت إليها النظر في ثلاث نقاط، يتعيّن على كل شاب يقوم ببحث نظري أو علمي ألاَّ يُبعدها عن ذهنه إذا ما وضع في اعتباره أنه في خدمة قضية، وأنه يمثل أمّة مؤمنة:

1 -  النقطة الأولى: هي نموذج إيمان شباب الكهف الذين هربوا مادياً ورمزياً من المدينة الكافرة لكيلا يُفسدوا إيمانهم. والنص القرآني في الواقع لا يتحدث عن هروب وإنما عن بعث، في حوار بين الظاهر والباطن، بين الماضي والمستقبل، وبين الشكل والمضمون:

(إِنَّا جَعَلْنَا مَا عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَّهَا لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا (7) وَإِنَّا لَجَاعِلُونَ مَا عَلَيْهَا صَعِيدًا جُرُزًا (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا (9) إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِن لَّدُنكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا (10) فَضَرَبْنَا عَلَى آذَانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَدًا (11) ثُمَّ بَعَثْنَاهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصَى لِمَا لَبِثُوا أَمَدًا (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُم بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَزِدْنَاهُمْ هُدًى (13) وَرَبَطْنَا عَلَى قُلُوبِهِمْ إِذْ قَامُوا فَقَالُوا رَبُّنَا رَبُّ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ لَن نَّدْعُوَ مِن دُونِهِ إِلَهًا لَقَدْ قُلْنَا إِذًا شَطَطًا (14) هَؤُلَاء قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِن دُونِهِ آلِهَةً لَّوْلَا يَأْتُونَ عَلَيْهِم بِسُلْطَانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرَى عَلَى اللَّهِ كَذِبًا (15) وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنشُرْ لَكُمْ رَبُّكُم مِّن رَّحمته ويُهَيِّئْ لَكُم مِّنْ أَمْرِكُم مِّرْفَقًا (16)) (سورة الكهف).

     إن البحث عن الحقيقة يتصدر أية اعتبارات أخرى سواء أكانت اجتماعية، أو ثقافية أو سياسية. والبحث عن الحقيقة لا يمكنه إلا أن يسلك طريق الاستقامة، وألا يبغى إلا وجه الله. وهذا البحث لا يحركه إلا محرك واحد هو: التوحيد بالله. لذلك يجب استبعاد الكلمات البراقة المستعارة من علم البلاغة اليوناني، وعلم اللاهوت الكنسي، أو من عالم المسرح لما بعد الحداثة، لأنها جميعها تحمل مجازفة التناقض مع الإسلام ومع قيمه ومبادئه.

لذلك يجب التسلح بمكونات الإسلام قبل مواجهة أدوات المفاهيم التصورية اللغوية والدلالية للحداثة وما بعد الحداثة. إن أساطير (برومثيوس) أو الخطيئة الأولى قد أُدينت تماماً، بالمنهج العلمي للقرآن، ما أن دخلت فكرة التوحيد قلب البدو العرب وجعلت منهم محطمي أصنام.

إن عبارة ألله أكبر ترجف الطغاة وتدفع المؤمنين إلى السجود. والنظام الجديد في الإسلام مفهوم تماماً، ويتم تطبيقه بالفعل وباللسان اللذان وضعا حداً للنظام القديم، وأعطيا لأوروبا عصر نهضتها.

 

2 - النقطة الثانية: هي الأهمية التي يجب إضفاؤها على المعنى وعدم الاكتفاء بالحِلْيات والمظهريات والشكليات. فالآيات التالية تُوضح أنه ليس من المهم معرفة عدد الموجودين في الكهف، وإنما معرفة غاية ومبدأ ودوافع وجودهم في الكهف، واستنباط التعاليم لبناء حياة مُتكاملة في مختلف مجالات الوجود الاجتماعي والعاطفي والديني:

(سَيَقُولُونَ ثَلَاثَةٌ رَّابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَيَقُولُونَ خَمْسَةٌ سَادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْمًا بِالْغَيْبِ وَيَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَثَامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُل رَّبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِم مَّا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ فَلَا تُمَارِ فِيهِمْ إِلَّا مِرَاء ظَاهِرًا وَلَا تَسْتَفْتِ فِيهِم مِّنْهُمْ أَحَدًا (22) وَلَا تَقُولَنَّ لِشَيْءٍ إِنِّي فَاعِلٌ ذَلِكَ غَدًا (23) إِلَّا أَن يَشَاء اللَّهُ وَاذْكُر رَّبَّكَ إِذَا نَسِيتَ وَقُلْ عَسَى أَن يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ مِنْ هَذَا رَشَدًا (24) وَلَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلَاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَازْدَادُوا تِسْعًا (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ وَأَسْمِعْ مَا لَهُم مِّن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلَا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَدًا (26)" (سورة الكهف).

     إن الإشارة ليست سوى مُؤشر في البحث عن معنى. والبحث عن دليل إشارة هو أولاً وقبل كل شيء بحث عن المعنى. وبخلاف الاستنتاجات والمصادفات فإن ما يجب أن يقود قيمنا الأخلاقية والجمالية والمعرفية هو مبدأ المعنى: السبب الأخير، الغاية القصوى. إن حواسنا لا تلحظ سوى جزء ضئيل من العالم المعروف. ومعرفتنا ناقصة ومحدودة. لقد وهبنا الله عز وجل ملكة الإيمان والقراءة والتأمل في جزء من السماوات والأرض ليمنح نظرنا الغافل في الشكليات والمظهريات والثراء المُعلن، والخطب الطنانة، والنظريات الجميلة منظوراً آخراً بدلا من انسياقه في مختلف أنواع الإغراءات، التي يُعد أسوأها هي تلك "الأنا" التي تمدح النفس بدلا من أن تلومها. ولكي تكون هذه الإشارة دالة لا يمكن إخراجها من مرجعيتها الأخلاقية، والأيديولوجية، والثقافية والاجتماعية. فإذا كانت الإشارة والطقس والتطبيق العملي والنصوص الإسلامية في أي منطق لغوى، لا يمكنها أن تكون دالة في مضمون ما، في مسعى أو في لغة غير قرآنية، فكيف يُمكنها أن تكون مدلولا في مضمون ما، في مسعى أو في كلمة مُتعمدة ضد الإسلام؟.

     إن النص القُرآني بكل روعته يكشف عن مساحة المعركة الأيديولوجية، أي عن معركة المعنى والاستحواذ على الأفكار، وعلى مبدأ المعنى:

(وَاتْلُ مَا أُوحِيَ إِلَيْكَ مِن كِتَابِ رَبِّكَ لَا مُبَدِّلَ لِكَلِمَاتِهِ وَلَن تَجِدَ مِن دُونِهِ مُلْتَحَدًا (27) وَاصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُم بِالْغَدَاةِ وَالْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَلَا تَعْدُ عَيْنَاكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَلَا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنَا قَلْبَهُ عَن ذِكْرِنَا وَاتَّبَعَ هَوَاهُ وَكَانَ أَمْرُهُ فُرُطًا (28) وَقُلِ الْحَقُّ مِن رَّبِّكُمْ فَمَن شَاء فَلْيُؤْمِن وَمَن شَاء فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنَا لِلظَّالِمِينَ نَارًا أَحَاطَ بِهِمْ سُرَادِقُهَا وَإِن يَسْتَغِيثُوا يُغَاثُوا بِمَاء كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرَابُ وَسَاءتْ مُرْتَفَقًا (29)) (سورة الكهف).

وقال تعالى: (إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ إِنَّا لَا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا) (الكهف: 30).

    * - بقلم: الأستاذة الجليلة أ. د زينب عبد العزيز - متعها الله بالصحة والعافية- 

* والمقال موصول بمشيئة الله تعالى .. 

 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق