عن فضيحة كلية البنات
جمال الجمل
(1)
هناك جانب إيجابي للفضيحة (أي فضيحة) يتمثل في كونها حدثا بارزا يكشف عن خبايا وخطايا تجب معالجتها، والحديث "فيها" وليس "عنها".
والفرق بين "فيها" و"عنها"، هو الفرق بين التعمق في فهم أسباب الفضيحة وعموميتها، وبين النظر للفضيحة كسلوك فردي لا يخرج عن اسم الشخص المفضوح أو ترويج الأخبار المرتبطة بالحدث.
لذلك لن أعيد الكلام في فضيحة جدارية محطة المترو في كلية البنات التي كشف فنان روسي أنها مأخوذة من لوحات نشرها على موقعه في الإنترنت، ما أجبر الشركة الفرنسية والحكومة المصرية على محو الجدارية وتقديم اعتذار للفنان المغمور، الذي استلهم لوحاته أصلا من أعمال سابقة لبيكاسو وغيره من التكعيبيين، لكنه على كل حال كان أشطر في النقل من الفتاة المتعجلة سليلة البيزنس، المنتفعة من فساد السياسة ومزايا العلاقات العامة في تسيير الأعمال.
(2)
يندهش الإنسان العاقل من الاستسهال الأرعن الذي دفع فتاة مثل غادة والي لاستنساخ عمل فني ووضعه في محطة مترو بعاصمة عربية كبيرة ليراه العالم كله، بدون حساب المخاطر المترتبة على ذلك في عالم السماوات المفتوحة وطوفان الاتصال وانهيار قلعة الأسرار، تحت قصف محركات البحث واقتحام جيوش السوشيال ميديا لكل الساحات.
والمدهش أكثر هو "موضوع الانتحال"، والذي اقتصر على اختلاس الخطوط الخارجية لجسد النساء وأوضاع الحركة (الآوت لاينز)، ثم ملأتها بتفاصيل زخرفية مكررة من أماكن وأعمال أخرى، كأنها لا تجيد الخطوط الأولى للرسم، وهذا ينفي أنها فنانة أو حتى رسامة، لكنها (كمعظم المصممين عندنا) تعتمد على الكولاج وتجميع عناصر جاهزة تعتمد على التركيب وليس الإبداع.
ونحن نعرف أن مواقع الجرافيك والفنون والموسيقى أيضا صارت تنتج موتيفات وجملا موسيقية ومؤثرات صوتية وتبيعها على مواقعها لمن يدفع، بحيث يمكنك شراء نموذج خط لمجلة أو مكونات مقدمة موسيقية أو عناصر لتصميمك الفني لمجرد أنك دفعت ثمنه وصار من حقك أن تبثه باعتباره من إبداعك. ويكفي أن تسمع ألحان عمرو مصطفى أو تتابع مشاجرات أهل الموسيقى والغناء عن سرقات الألحان، وهي ظاهرة ليست بنت اليوم، فعبد الوهاب كان رائدا بنى مشروعه الموسيقي على الانتحال الموسيقي، وهو ما فعله الأخوان رحباني في لبنان، مع الفارق أن ذكاء الأخوين منح الانتحال شرعية من خلال الاعتراف المسبق بالاقتباس وصناعة مشروع معلن يعتمد على إعادة توظيف التراث الموسيقي العالمي من دون إخفاء ساذج ومشبوه للأصل.
(3)
أظن أنني إنسان غير عاقل لأنني لم أندهش من الاستسهال الذي تصرفت به فتاة السيسي المدللة ونجمة مؤتمرات الشباب، فهذا الاستسهال متوفر في عمق الأنظمة الفاسدة.. نلمسه في التصريحات السياسية الرسمية المضادة للواقع والمتناقضة مع نفسها، فهي مجرد كلام من بلاستيك رخيص سرعان ما يثبت كذبه وينكشف أصله.
هذا الاستسهال متوفر في انتحال شخص عادي لصفة مستشار رئيس الجمهورية، والذهاب للعزاء باسم الرئيس في الجنازات الكبرى، والتدخل في تسهيل الأعمال وقبول الرشاوى، وهذا الاستسهال متوفر في جريمة المستشار (الرجل الثاني في مجلس الدولة) الذي قتل زوجته بسهولة، ثم سقط واعترف بسهولة أكبر كاشفا بكل بساطة عن دافع أساسي للقتل؛ هو تهديد زوجته بكشف أعماله الخارجة عن القانون، وهذا الاستسهال أيضا متوفر لدى القتيلة التي تعاملت مع الإعلام والسياسة والتوظيف الأمني في محاكمات قضائية باعتبارها لعبة سهلة؛ حتى لو أضرت بحياة آخرين ودمرتها بشهادات معدة سلفا حسب الطلب. وأمثلة الاستسهال لدينا كثيرة بحيث يصعب حصرها، لأنها صارت منهجا في صناعة التشريعات واتخاذ القرارات وتسمية الكوارث بالمعجزات.
(4)
النظر للفضيحة من هذه الزاوية، يذكرني بمقولة للمخرج الإيطالي الشهير فيلليني يقول فيها: "إن الفن الحقيقي فضيحة، والفنان هو الفضيحة في ذاتها". ويعني فيلليني بهذا أن العمل الفني لديه قدرة على فضح الواقع والكشف عنه، وأن الفنان الجيد لا يستر الواقع بل يكشفه.
ومن هنا تبدو "فضيحة الجدارية" عملا فنيا في حد ذاتها، لأنها كشفت عن سرقة أكبر بكثير من مجرد سرقة لوحة من فنان أجنبي، لقد كشفت أن حياتنا كلها مسروقة ومنتحلة، لأننا لا نبدع شيئا فيها، بل نختلس كل شيء (سرا أو علنا) من أعمال الآخرين، بحيث يمكنني تعريف الفضيحة بأنها حظ سيء وقع فيه لص يعيش في مدينة كل سكانها من اللصوص، وبالتالي فإن المفضوح في هذه المدينة لم يفعل أكثر مما يفعله غيره في الخفاء (أو في العلن المسكوت عنه والمتفق عليه)، فأكثر من 90 في المئة من أفلام السينما المصرية مأخوذة شكلا ومضمونا وأحيانا بالعنوان نفسه من أعمال أجنبية.
كما أن اقتصاد الدولة يعتمد على "برشامة" يقدمها صندوق دولي للنقد ينسخ منه الحكام بلا خجل ولا إبداع، والسياسة تدور في مدار نظريات سياسية نبتت ونشأت في مجتمعات غريبة، ومراجعة مصطلحات مثل ليبرالية وديمقراطية وشيوعية توضح لنا أننا نتشاجر على المسروقات، ولا نختلف في إبداع متصل حقيقة بواقعنا. قس على ذلك مفهوم الحرية الاجتماعية والسياسية، وتصورنا عن الإرهاب، ورؤيتنا للتحرش، ومفهومنا عن التحديث، وملابسنا، وقصات الشعر، ومدارس الأدب ونظريات النقد، وطريقة الحب، وآلات الموسيقى وألوان الغناء، حتى معايير النجاح والسعادة والأخلاق..
كلها أفكار مسروقة ومستنسخة من نماذج صنعها غيرنا.
(5)
لن أتوقف ظاهريا عند إعجاب الرئيس المصري بنموذج الفتاة المتعلمة في أوروبا والقادرة على الترويج لبضاعتها بمصطلحات بيع جذابة، مثل "الهوية البصرية" و"خدمة الوطن بالرسالة الفنية"، يكفي أن أشير إلى التشابه العميق في السلوك بين غادة والي ودولة التبعية نفسها، الطرفان لديهما طموحات متسرعة لا تعتمد على واقع حقيقي ولديهما أيضا إحساس بالدونية تجاه الغرب، لذلك يذهب الطرفان إلى التجميل والتحديث "القشري":
واحدة (غادة) تتوهم أنها تستطيع بناء هوية جمالية للوطن بطبقة رقيقة من البلاستيك يتم لصقها على حائط في مكان عام لخداع الجماهير، ثم تتسبب في فضيحة لسمعة ومكانة الوطن وتهين مؤسساته وفنانيه وحضارته.
وواحدة (الدولة) تتوهم أنها تستطيع أن تحقق النهضة وتصير "أد الدنيا" عن طريق مغازلة المستثمرين وإعادة ترسيم أوضاع البلاد وجغرافيتها بما يرضي المال الأجنبي، حتى لو قتلنا السكان وهدمنا مساكنهم وفرضنا عليهم الجوع والغلاء.
(6)
لن أطيل أكثر، فقط أشير إلى عبودية الأغلبية للتنميط، واستسهال القوالب الجاهزة (التامبلت) ورواج الاستنساخ والنقل الذي سخط الإنسان إلى مجرد "ماتريكس" أو "استامبا" تحتاج إلى يد تطبع وليس إلى عقل يبدع، وفي غياب الإبداع يغيب العقل ويحضر النقل. وهنا تأتي التفرقة بين النقل المخالف للقانون كما وقعت فيه غادة والي، وبين النقل الشائع والمستحب الذي يشجعوننا على استخدامه لكي يجعلوا منا مجرد نسخة باهتة يسهل التحكم فيها، كما يسهل تحويل الأوطان إلى "أسواق" وتحويلنا من "مواطنين" إلى "زبائن" يستحلبون ما في رؤوسنا وما في جيوبنا وما في أعمارنا من زمن أيضا، لذلك صرنا لا نعيش حياتنا بل نعيش حياة زائفة صنع غيرنا صورتها وسيرتها، حتى لو غطينا الجسد المسروق بملابس تاريخية من حضارة بادت، ورددنا مجرد كلمات عن هوية مصرية زائفة ومختلسة.
والخلاصة: القصة أكبر من غادة والي ورئيسها، والمصيبة أشمل وأعظم، ويكفي أن تتذكر أن الجدارية تغطي حائطا في مشروع اخترعه أجانب ونفذه أجانب ويديره أجانب، مثله مثل القطار الكهربائي والمفاعل النووي ومدرب المنتخب الوطني وتحيا مصر.
tamahi@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق