(الدائرة الجهنمية)
يستحق الديكتاتور "المفضل" عبد الفتاح السيسي جائزة "الأيزو السياسي"، فقد نجح في وضع حدود قياسية صارمة لكل شيء حتى كلام معارضيه، أنظر إلى عناوين مقالاتي وموضوعاتها خلال العقد التعيس الماضي، فلا أجد نقطة مركزية فيها إلا السيسي وكلامه وأفعال نظامه، يقول ونعلق، يهاجم فندافع، يخطئ فنتندر، يصدر القرارات فنفندها ونظهر عيوبها، يلغي الطوارئ فنقول: "سيما أونطة هاتو حقوقنا"، يطرح الحوار فنقول "فنكوش"، وهكذا..
هو يعرف ونحن نعرف أنه يفرض علينا أجندته: لديه أتباعه "المؤيدون"، وقد صار لديه أيضا أتباعه "المناكفون"..
اجتهدت كثيرا ككاتب في الخروج من هذه الدائرة الملعونة التي تجعل الكاتب المعارض مجرد تابع مباشر أو "غير مباشر" للسلطة وأفعالها، لكن في غالب الأحوال عندما يأتي موعد الكتابة لا نجد إلا القضية المركزية التي ندور حولها: السيسي كشخص، والسيسي كحاكم، والسيسي كنظام، والسيسي كـ"نقطة بيع" للجمهور الواسع برغم كل الاختلافات والنزاعات..
نقول كثيرا إن إعلامه فاشل، لكن الحقيقة أن هذا الفشل مقصود، لتحقيق أكبر مساحة من التأثير الديماغوجي الذي يلغي العقل ويصنع قوة تأثير غريزية من خلال المحاكاة وردود الفعل: أحمد موسى قال، نشأت الديهي فعل، عمرو أديب صرح..
(عائد من الإعدام)
قبل أيام وصلني بريد الكتروني من مجهول مرفق به مقال قديم لي بعنوان: "أيها الرئيس.. ما تضيعش وقتنا"، لم أتذكر المقال إلا بعد قراءته، فقد كان من مجموعة المقالات التي نشرتها في موقع "البديل" بعد منع مقالاتي من النشر في صحيفتي الأم، وقد تم إعدام هذه المقالات جميعا بحذفها من على الإنترنت ثم إغلاق الموقع وحذف أرشيفه كله من الشبكة العنكبوتية.
المقال منشور في آذار/ مارس 2016، بعد لقاء للسيسي مع المثقفين في موقف يشبه موقف الدعوة للحوار في أيامنا هذه، وقد أرفق القارئ المجهول نسخة مصورة من المقال تتضمن صورة للشاعر أحمد عبد المعطي حجازي في حضرة آخر ثلاثة رؤساء لمصر: مبارك ومرسي والسيسي، ويبدو مصطفا في صورتي السيسي ومبارك، بينما في صورته مع الدكتور مرسي يبدو مزاحما قادما من الصفوف الخلفية لمصافحة الرئيس. ولما طالعت الصورة وقرأت المقال، فكرت في إحياء الموتى وإعادة نشر المقال، للإشارة إلى أن أحكام الإعدام التي تصدرها السلطات القمعية ضد الأشخاص والكلمات، لا تؤدي في معظم الأحوال للإعدام والمحو، بالعكس، قد تعيش وتعود أقوى لتثبت إدانة الديكتاتور وحاشيته بأثر رجعي، خاصة وأن قضايا القهر والظلم لا تفسد ولا تسقط بالتقادم.
ومن غير تقديم أكثر للمقال أعيد نشره كما هو بدون أي تغيير، وبرغم أن ستايل هذا الموقع المحترم لا يتيح نشر صورة موضوعية في مقالات الرأي، إلا أنني سأرسل الصورة لإدارة التحرير للمشاركة، وربما للاستفادة بها في معالجات صحفية أخرى عن قضية "المثقف والسلطة"..
وهذا نص المقال العائد من الموت:
أيها الرئيس.. ما تضيعش وقتنا
(1)
التقى الرئيس بالمثقفين لمدة ثلاث ساعات، فماذا قال؟ وماذا قالوا؟ وهل يثمر ما قيل فائدة تُرجى للبلاد، أو مصلحة تُقضى للعباد، أو "سبوبة" تبل الريق للأفراد؟
(2)
بدون إحباط للمشاركين، والمتابعين المؤيدين، الإجابة: لا.
وأنا نادراً، ما أقدم إجابات قاطعة بهذه الحدة، لأنني أتمنى أحيانا لو استطاعت الريح أن تعيش ساعة حظ وتأخذ شيئا من "البلاط"، لكن الفيلم مُعاد، والأحداث محروقة، والساذج من ينتظر مفاجآت جديدة في فيلم مقاولات مكرر شاهده من قبل مراراً.
(3)
لماذا أكتب إذن عن لقاء لا يتضمن جديداً؟
(4)
لدي إجابتان.. الأولى: لأنني دارس آثار وأعرف قيمة القديم، وأعرف أن مكانه داخل المتاحف وليس في نهر الحياة اليومية، والثانية: لأنني أطمح إلى تجديد القديم بالتثوير من الداخل، أو تدميره إذا ظل عائقا في طريق الجديد، وبناء على ذلك قررت أن أكتب:
(أ)
أنتم طبعاً تعرفون أن الدنيا تتغير؟! وتعرفون أن هذا التغير أزلي، ويسمى في الفلسفات الكبرى بقانون الصيرورة، وربما تعرفون أن أحداً لم يستطع الإفلات من هذا القانون ولا تكذيبه، من أيام هرقليطس.. لكن هناك من كسر القانون في لقاء الرئيس وأثبت بالدليل الساحق الماحق أنه الثابت الذي يستعصي على كل المتغيرات من حوله..
إنه الطوطم الثقافي المبجل/
أحمد..
عبد المعطي..
حـجـــــــــــــازيييي..
(ح)
حجازي مثقف قديم (قديم بالمعنى الزمني والحضاري للكلمة)، ولديه تحولات كثيرة تثير العجب، لكنها تظل تحولات تكتيكية تدور حول محور واحد ثابت لا يتغير.. اسمه: السلطة.
في البدء جاء إلى القاهرة شاباً حالما من تلا بمحافظة المنوفية، وكتب ديوانه البديع "مدينة بلا قلب".. كاشفا عن صدمة الريفي الأخضر في العاصمة الرمادية، وسرعان ما ارتبط الشاعر بالمشروع السياسي للدولة، حتى تحول إلى "شاعر الاتحاد الاشتراكي" كما أطلق عليه البعض، ولما رحل عبد الناصر وانقلب السادات على نظامه من الداخل، ارتبك مشروع وأداء حجازي، وتحول نضاله الاشتراكي إلى عقبة في طريقه، فخرج مع المثقفين الذين ضاقت بهم مصر، واستقر به المطاف في باريس، وبعد سنوات عاد مستوعباً الدرس، فدخل في حظيرة المثقفين التي افتتحها الوزير الفنان فاروق حسني، وتخلى عن أفكاره الريفية، وكتب يهجو الريف متبنيا دعوة اليونسكو في ذلك الحين إلى "عالم من المدن"! هكذا تيبست "شجرة الليمون" في خرابة السلطة إلى جوار "أشجار الأسمنت"!
(ا)
الويل لمن ينقلب على تاريخه، لذلك لن أطيل في نقد رجل أحببت أشعاره يوماً، فقد "كنت أهوى هؤلاء الشعراء/ أتسامى فوق غيمٍ نسجوه/ أتمطى في بخورٍ أطلقوه (..) ثم نصحو، فإذا الركب يمر/ وإذا نحن تغيرنا كثيراً/ وتركنا الأقبية"... فقط تأملوا الصورة التالية، واضحكوا قليلاً، ثم احزنوا حتى البكاء، فـ"الدجى ما زال يجتاح المدينة، ونباح من بعيد (..) والكلب يفتش عن لقمة/ وأنا أبحث تحت الشرفات عن البسمة/ لم يعثر، وأنا لم أعثر".
"يا شعراء.. يا مؤرخي الزمان/ فلتكتبوا عن شاعر كان هنا/ في عهد عبد الناصر العظيم!!".
.. ولا تنسوا أن ترفقوا صورته هذه بما تكتبون..!
(تنظيرة فارغة)
* لا تلتفتوا لأسماء المثقفين في لقاء الرئيس، ولا تسألوا عن طريقة اختيارهم، ولا الجهة التي تختار، فلكل سلطة قوائمها المعدة سلفاً، والرؤساء لديهم مقولات جاهزة يريدون تبرير إعلانها، أحيانا بحضور يصفق، وأحيانا بغرض الاحتواء والتعبئة، وأحيانا يتحدثون إلى ميكرفونات جامدة وكاميرات بلا عقل، فماذا يريد الرئيس وما الجديد الذي قاله المثقفون، وكان خفياً على الرئيس؟
- تحدثوا كثيرا عن الحريات، وطلبوا الإفراج عن المسجونين بلا محاكمات في قضايا جادة، وطلبوا إسقاط قانون التظاهر، وطلبوا قرارات عفو عن المحكومين في قضايا رأي وازدراء أديان، وانتهى اللقاء بوعد للقاء جديد (وما تسيبونيش وتمشوا.. وأشوفكم تاني.. وخلينا على رنات)، ثم بدأت طبلة العباسيين: رئيسنا لا يتدخل في سلطة القضاء، ولا يتغول على سلطة التشريع، واقترح ما هو أبقى وأفضل من العفو، أن يصدر قانون جديد يمنع الحبس في مثل هذه القضايا!
* أوكيه سعادتك، طيب ما سلطة التشريع كانت معاك سنة عرفي، وسنة ونص رسمي، وبدلا من دعم الحريات، أصدرت قانون التظاهر، وحبست ما استطعت، وعفوت عمن حدثتك بشأنهم الفرنجة، فلماذا هذه الموضوعية الاستراتيجية التشريعية الحصيفة الآن؟
وأرجو يا سيادة الرئيس أن تسامحنى على تنظيرة "الحصيفة"، فالنفخ في الكلمات هو أكل عيشنا كمثقفين، كما أن نفخ المواطنين هو أكل عيش السلطة! وبمناسبة "الخرابة" التي أسسها الزعيم مبارك، لدي سؤال أرجو أن يتسع وقت سعادتك للإجابة عليه: هو حضرتك كنت فين أيامها؟
على كل حال سيادتك اللي في وش المدفع، وعارف كل حاجة، فنرجو ألا تضيع وقتك ووقتنا في الاستماع إلى آراء منشورة في كل حتة، ولديك بها مئات التقارير، فليس لدينا غير شعارات الثورة التي هزت الميادين والقصور، وجاءت بك إلى الحكم، لتسألنا بعدها: هو انتو عايزين إيه؟!
(..)
انتهى المقال ولم ينته الصراع..
tamahi@hotmail.com
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق