النظرة الغربية للأخلاق في عصر النهضة (4)
ما زلنا نتابع التغيّرات التي طرأت على المفهوم الغربي للأخلاق على مرّ العصور وصولًا إلى العصر الحديث وما بعده، لفهم السياقات المختلفة المصاحبة للانفلات الحاد الذي نشهده في العقود الأخيرة، والتي دفعت البعض إلى معارضة الأخلاق بإنهائها، وتشمل هذه السياقات التحولات السياسية والفكرية والاجتماعية والدينية والثقافية الخاصة بكل عصر من العصور.
وبعد أن تعرّفنا في المقال السابق على مفهوم الأخلاق عند فلاسفة اليونان الإغريق، وفلاسفة العصور الوسطى، نواصل في هذا المقال الحديث عن هذا المفهوم في عصر النهضة الذي يعدّ انقلابًا هائلًا على العصور الوسطى في مختلف المجالات، أسّس لفصل الدين عن الدولة ولليبرالية والإلحاد وسيادة العقل والنزعة الإنسانية.
لم يكن عصر النهضة عند الغرب عصرًا عاديًّا، بل كان عصرًا استثنائيًّا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حتى إن الفرنسيين سموه عصر "إعادة الميلاد" للحضارة الغربية، لكثرة ما شهده من تحولات أحدثت تغييرًا شاملًا في الحياة الغربية، وخصوصًا في فرنسا التي لعبت فيها أفكار عصر النهضة الدور الأكبر في تهيئة الأجواء للثورة الفرنسية والتخلص من الملكية وسيطرة الكنيسة، وفصل الدين عن الدولة، وسيادة الليبرالية والفكر الإنساني، وتقنين السلطة السياسية في عصر التنوير.
إعادة ميلاد الحضارة الغربية
يشير اسم عصر النهضة إلى نهاية حقبة العصور الوسطى، وما كان سائدًا فيها من تسلط مزدوج للسلطات السياسية والإقطاعية والدينية، وتحكم كامل في حركة الحياة السياسية والاقتصادية والدينية والفكرية والاجتماعية، بما يحقق مصالح هذه السلطات.
لم يكن عصر النهضة عند الغرب عصرًا عاديًّا، بل كان عصرًا استثنائيًّا بكل ما تحمله الكلمة من معنى، حتى إن الفرنسيين سموه عصر "إعادة الميلاد" للحضارة الغربية، لكثرة ما شهده من تحولات أحدثت تغييرًا شاملًا في الحياة الغربية، وخصوصًا في فرنسا التي لعبت فيها أفكار عصر النهضة الدور الأكبر في تهيئة الأجواء للثورة الفرنسية والتخلص من الملكية وسيطرة الكنيسة. ويمكننا القول إنه كان عصرًا فاصلًا بين سيطرة الدين والسلطة في العصور الوسطى، وبين سيادة الليبرالية والفكر الإنساني، وتقنين السلطة السياسية وفصل الدين في عصر التنوير الذي تلا عصر النهضة، في حين يرى بعض المفكرين أنه امتداد للعصور الوسطى، ولكن بنظرة إصلاحية، حيث كان الأساس الفكري الذي غلب على عصر النهضة هو البعد الإنساني المستمد من الفلسفة الرومانية التي عززت مفهوم أن الإنسان مقياس كل شيء.
يغطي عصر النهضة القرنين الـ15 والـ16 للميلاد عند معظم المؤرخين، ليبدأ بعده عصر التنوير الذي امتد حتى نهاية القرن الـ18. ويذهب بعض المؤرخين إلى أن عصر النهضة يمتد من بداية القرن الـ15 حتى الحرب العالمية الأولى بداية القرن الـ20.
الإرهاصات التحضيرية الأولى لعصر النهضة بدأت في مدينة فلورنسا الإيطالية أواخر القرن الـ13 وعلى امتداد القرن الـ14، حيث تبلورت النزعة الإنسانية في الشعر والأدب والفن والفكر والفلسفة، على أيدي مجموعة من الأدباء العلمانيين، وكان من أبرز رواد هذه الحقبة الشاعر الإيطالي دانتي أليغييري (1265-1321م) صاحب الكوميديا الإلهية التي تعد أحد الأعمال الرئيسة التي أسهمت في الانتقال من العصور الوسطى إلى عصر النهضة، وكان دانتي من أوائل من تحدث عن ضرورة فصل الكنيسة عن السلطة السياسية. وإلى جانب دانتي، فإن الشاعر والكاتب الإيطالي فرانشسكو بترارك (1304-1374م) الذي كان يطلق عليه البعض لقب (أبو الإنسانية) ترك كثيرًا من الكتب الأدبية والفكرية التي أسهمت ترجماتها إلى اللغات الأوروبية في تأسيس فكر عصر النهضة.
كما كان للانفتاح الأوروبي على الفكر الإسلامي في الأندلس وبغداد، واتساع حركة الترجمة من العربية إلى اللاتينية دور كبير في تهيئة الأجواء لانطلاق عصر النهضة. وقد ذكرت الباحثة الألمانية زيغريد هونكه (1913-1999م) في كتابها "شمس العرب تسطع على الغرب" أن العرب كانوا في العصور الوسطى عباقرة العالم، وكانت اللغة العربية من القرن الثامن الميلادي حتى بداية القرن الـ12 هي لغة العالم الراقي عند الجنس البشري كله، حتى بات ضروريًّا لأي فرد في الغرب الأوروبي أن يتعلم اللغة العربية كي يلمّ بثقافة العصر. وذكرت أن العرب طوّروا ما أخذوه عن الإغريق، وشكّلوه بتجاربهم تشكيلًا جديدًا، وكانوا مؤسسي البحث العلمي القائم على التجربة. كما كان لسقوط القسطنطينية عام 1453م دور كبير في تعزيز النزعة الإنسانية، إذ فرّ العديد من علماء الشرق إلى إيطاليا، حاملين معهم كتبًا ومخطوطات مهمة.
في عصر النهضة انتشر الاهتمام من جديد بالعمارة والفن والسياسة والأدب والعلوم والرسم، وكان الاهتمام برسم جسد الإنسان منسجمًا مع شيوع النزعة الإنسانية. كذلك نشطت الجهود العلمية والفكرية والدينية والاجتماعية والاقتصادية، وإدخال البنوك وتأسيس علم المحاسبة وصناعة الورق واكتشاف الطباعة وبدء الصحافة والبوصلة والبارود، وغلب على جميعها الطابع الإنساني والواقعية والعقلانية، حتى صار عدد من المؤرخين يصفون عصر النهضة بأنه مسيرة لا تقاوم للحداثة والتقدم، تقوم على أساس الانفصال الحاد عن قيم العصور الوسطى ومؤسساتها، وعلى وعي جديد بالفرد ومركزيته في الحياة، واهتمام بالعالم المادي والطبيعة. ويظل عصر النهضة الفترة الفاصلة بين القرون الوسطى، وسيطرة البابوية والإمبراطورية الرومانية المقدسة، وبين التحولات الكاسحة التي انطلقت في القرن الـ17. ومن إيطاليا انتقل الفكر الجديد إلى بريطانيا وفرنسا وألمانيا وجميع أنحاء أوروبا، لتنطلق حركات وموجات إصلاحية متعددة.
وضع ميكافيلي في كتابه "الأمير" قواعد سياسية انتهازية غير أخلاقية للسلطة، فهو لا يتورع عن استخدام القوة والبطش والخداع والتزييف ليحقق أهداف أمته، تحت شعار "الغاية تبرر الوسيلة"، إذ كان يعتقد أن القيم الأخلاقية من شيم البسطاء والضعفاء، وأما الأمير فليس بحاجة إلى هذه القيم، فهو سيدها جميعًا.
وجوه بارزة في عصر النهضة
من بين الرواد الذين ازدحم بهم عصر النهضة، نقف عند 4 منهم، نظرًا لأثرهم الكبير في إثراء فكر عصر النهضة، وتشكيل الحياة السياسية والدينية والاجتماعية، متلمّسين نظرتهم إلى الأخلاق في ضوء الطروحات الإنسانية الجديدة التي سادت هذا العصر:
جيوفالي بيكو ديلا ميراندولا
يعدّ ميراندولا (1463-1494م) من المفكرين الإيطاليين الذين كان لأطروحاتهم أثر كبير في صياغة أفكار عصر النهضة، رغم صغر سنة، فقد مات مسمومًا في ظروف غامضة وهو في الـ31 من عمره.
تأثّر ميراندولا بأفكار أفلاطون وأرسطو، وألف كتاب "كرامة الإنسان" في إطار أفلاطوني أرسطي حديث بنى عليه أطروحاته الـ900 التي كان يرى أنها توفر أساسًا كاملًا لاكتشاف المعرفة، وتقدم البشرية في سلسة الوجود.
كان ميراندولا يؤمن بالمصالحة الشاملة، وجاء في إحدى أطروحاته الـ900 أن الخطيئة المميتة ذات المدة المحدودة لا تستحق العقاب الأبدي، بل تستحق العقاب الزمني فقط. ويرى أن الدعوة البشرية هي دعوة صوفية يجب أن تتحقق باتباع طريقة من 3 مراحل، تدرك بالضرورة التحول الأخلاقي، والبحث الفكري، والكمال النهائي في الهوية مع المطلق، ويرى أن الأديان والتقاليد المختلفة تصف نفس الإله. وتشير الطبعات العديدة لأعماله الكاملة في القرن الـ16 إلى مدى تأثيره الكبير على رواد هذا القرن.
نيكولو ميكافيلي
يعدّ المفكر والفيلسوف الإيطالي ميكافيلي (1469-1527م) صاحب كتاب "الأمير" من أشهر المفكرين الذين أثروا في الحياة السياسية في الدول الأوروبية، والتغييرات التي شهدها عصر التنوير.
وقد اشتمل كتابه (الأمير) على 26 فصلًا، لكل منها موضوع محدد، وهو لا يتورع عن استخدام القوة والبطش والخداع والتزييف ليحقق أهداف أمته، تحت شعار "الغاية تبرر الوسيلة"، واضعًا بذلك قواعد سياسية انتهازية غير أخلاقية، لا تقوم على التعاليم الدينية أو الأعراف الاجتماعية، إذ كان يعتقد أن القيم الأخلاقية من شيم البسطاء والضعفاء، وأما الأمير فليس بحاجة إلى هذه القيم، فهو سيدها جميعًا.
مارتن لوثر
يعدّ الراهب والقسيس والفيلسوف الألماني مارتن لوثر (1483-1546م) من أبرز رواد عصر النهضة، الذين تلقفوا الأفكار الإيطالية، وانطلقوا بها لمواصلة حركة التجديد، فهو مؤسس المذهب البروتستانتي، وينسب إليه مذهب "اللوثرية" الشهير.
رفض لوثر العديد من تعاليم الكنيسة الرومانية الكاثوليكية وممارساتها، وكان يرى أن الخلاص والحياة الأبدية لا يُكتسبان بالأعمال الصالحة، وإنما هما نعمة من الله، يحصل عليها المؤمن عن طريق إيمانه بالمسيح مخلّصًا من الخطيئة. تحدى لوثر سلطة البابا ووظيفته، ورأى أن الكتاب المقدس هو المصدر الوحيد للوحي، وكان لترجمته الإنجيل إلى اللغة الألمانية العامية تأثير هائل على الكنيسة الألمانية والثقافة الألمانية، وعلى الاقتداء بها في تنشيط ترجمته إلى اللغات الأخرى كالإنجليزية والفرنسية.
ويرى لوثر أن الفداء، فداء المسيح عليه السلام، لا يمنح التبرير لخطايا البشر بل هو التبرير بحد ذاته، وأن التبرير والغفران هما هدية من الخالق، وأن الإنسان يشعر عن طريق الإيمان بأنه شخص قد ولد من جديد. ويرى أن الجميع قد أخطؤوا، وأن الله قد برر وغفر لهم بغض النظر عن أعمالهم السابقة وتفاوتها، وهو أمر ضروري يجب أن يكون موضع إيمان، ويعتقد أنه يمكن الحصول على التبرير أو اغتنام الغفران من قبل قانون أو عمل صالح.
ديسيديريوس إيراسموس
يلخص الفيلسوف الراهب الهولندي إيراسموس (1469-1536م) الجوهر الأخلاقي للإنسانية في إصراره على الخير الصادق في مقابل التقوى الشكلية. وهو من رواد الحركة الإنسانية في أوروبا، نشر عددًا من الكتب التربوية تناولت معظم مظاهر التربية وقضاياها المهمة، وحاول أن يضع مبادئ للحركة الإنسانية حسب التوجهات المسيحية، كما أراد أن يقرب بين أتباع المذهب الكاثوليكي وأتباع الحركات الإصلاحية الجديدة.
وكان من الذين دافعوا عن الحق في تبنّي طريقة نقدية لتناول الإنجيل بهدف تعزيز القدرة على فهم العقيدة، وكان هدفه الأعلى بلوغ السكينة والتقوى الخالصة المتأصلة في التفكير الداخلي، ولم يتخذ إيراسموس موقفًا تجاه الإصلاح الديني الذي بدأه مارتن لوثر، إذ لم يرغب بالانفصال عن الكنيسة الكاثوليكية، أملًا في حل الاختلافات بتفكير قويم.
تأرجحت الأخلاق في عصر النهضة بين النزعة الدينية التي سادت العصور الوسطى ولكن بروح تجديدية، والنزعة الإنسانية المستمدة من الفلسفة الأرسطية والأفلاطونية. ومع هذا التأرجح، كانت بحق القاعدة الصلبة التي قامت عليها الأفكار التحررية والثورية المنفلتة التي سادت عصر التنوير، وبلورت بدورها الأسس الفكرية للعصور اللاحقة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق