القومي الأميركي (4) في مواجهة أزمة المناخ والطاقة
بعد الحديث التفصيلي عن التهديد الذي تشكله الصين وروسيا استعرضت الإستراتيجية التحديات المشتركة التي تهدد المصالح الحيوية للولايات المتحدة وحلفائها وشركائها، وللعالم بشكل عام، وهي مجالات تتناولها إستراتيجيات الأمن القومي الأميركي بشكل روتيني مع بعض التحديثات والزيادات من إدارة إلى أخرى.
حصرت إستراتيجية الرئيس بايدن هذه التحديات في 12 مجالا ستعمل على مواجهتها ضمن مسارين متزامنين، الأول بإشراك جميع البلدان والمؤسسات بشكل كامل للتعاون في مواجهة التهديدات المشتركة، والآخر بمضاعفة الجهود لتعميق التعاون مع الشركاء المشابهين للولايات المتحدة في التفكير.
ونتناول في هذا المقال الجزء الخاص بتحدي المناخ والطاقة، إذ يعتبر تحدي المناخ إضافة جديدة في إستراتيجية الرئيس بايدن، تم ضمها إلى تحدي الطاقة، نظرا لأهمية أزمة المناخ في إستراتيجية إدارته.
تقول الإستراتيجية "إن مكافحة أزمة المناخ وتعزيز أمن الطاقة لدينا وتسريع التحول إلى الطاقة النظيفة جزء لا يتجزأ من جهودنا الإستراتيجية الصناعية والنمو الاقتصادي والأمن، نحن نحتضن وننشر تقنيات وحلول جديدة، مما يسمح لنا بقيادة العالم أثناء إنشاء أسواق جديدة ومقاربات قابلة للتطوير، هذه الاستثمارات ستحافظ على الولايات المتحدة في الصدارة وستزيد قدرتها الاقتصادية وستدعم ملايين الوظائف وتريليونات الدولارات في النشاط الاقتصادي خلال العقد المقبل"
ظهرت الصين في العديد من هذه التحديات باعتبارها المهدد الرئيسي الذي يقف وراءها، مشيرة إلى أن عليها أن تقدم تنازلات كشرط مسبق للتعاون بشأن التحديات المشتركة، مثل تغير المناخ، وتستشهد الإستراتيجية في ذلك بعدم تعاون الصين بشكل كاف مع منظمة الصحة العالمية والمجتمع الدولي بشأن الاستجابة العالمية لجائحة كورونا، كما أنها تستمر في تعريض العالم للخطر باتخاذها إجراءات غير كافية بشأن تغير المناخ محليا، ولا سيما في ما يتعلق بالاستخدام المكثف لطاقة الفحم وتراكمها.
لم تحصر الإستراتيجية مسؤولية مواجهة التحديات المشتركة في الدول، وإنما فتحت المجال للمؤسسات لتدلي بدلوها فيها، كل حسب تخصصها، الاقتصادية منها والتكنولوجية والحقوقية والأممية.. وغيرها، وذلك على غرار ما فعلت الأمم المتحدة في خطة التحول الشامل المعروفة بخطة أهداف التنمية المستدامة 2030، وهذا يؤكد من جديد التطابق الشديد بين هذه الخطة وخطة إدارة الرئيس بايدن.
الأبعاد الاقتصادية للمناخ والطاقة
وضعت إستراتيجية الرئيس بايدن أزمة المناخ والطاقة على رأس التحديات المشتركة، بل هو أكبرها حسب الإستراتيجية، لاحتمال وجود هذا التحدي في جميع الدول.
وترى الإستراتيجية أنه بدون اتخاذ إجراء عالمي فوري خلال هذا العقد الحاسم ستتجاوز درجات الحرارة العالمية عتبة الاحترار الحرج البالغة 1.5 درجة مئوية، وقد حذر العلماء من أن بعض التأثيرات المناخية الأكثر كارثية بعد ذلك ستكون لا رجعة فيها:
- ستزداد الآثار المناخية وحالات الطوارئ الإنسانية سوءا في السنوات المقبلة، من حرائق الغابات والأعاصير الأكثر قوة في الولايات المتحدة إلى الفيضانات في أوروبا.
- ارتفاع مستويات سطح البحر في أوقيانوسيا.
- ندرة المياه في الشرق الأوسط.
- ذوبان الجليد في القطب الشمالي.
- الجفاف ودرجات حرارة مميتة في أفريقيا جنوب الصحراء الكبرى، مما سيؤدي إلى زيادة حدة التوترات، وتنافس البلدان على الموارد والطاقة.
- زيادة الاحتياجات الإنسانية وانعدام الأمن الغذائي والتهديدات الصحية.
- احتمالات عدم الاستقرار والصراع والهجرة الجماعية. وهنا تدعو الإستراتيجية إلى ضرورة حماية الغابات على مستوى العالم، وخلق ثورة في الطاقة لتفادي أزمة المناخ، لتقليل الاعتماد الجماعي على دول مثل روسيا التي تسعى إلى تسليح الطاقة للإكراه.
لقد ربطت إستراتيجية بايدن بذكاء شديد بين المناخ والطاقة في تحد مشترك ولأول مرة في إستراتيجيات الأمن القومي.
وفي إشارة لافتة جدا توضح إستراتيجية بايدن الأبعاد الاقتصادية لأزمة المناخ بالنسبة للولايات المتحدة حين تذكر "أن مكافحة أزمة المناخ وتعزيز أمن الطاقة لدينا وتسريع التحول إلى الطاقة النظيفة جزء لا يتجزأ من جهودنا الإستراتيجية الصناعية والنمو الاقتصادي والأمن".
نحن نحتضن وننشر تقنيات وحلول جديدة، مما يسمح لنا بقيادة العالم أثناء إنشاء أسواق جديدة ومقاربات قابلة للتطوير، هذه الاستثمارات ستحافظ على الولايات المتحدة في الصدارة، وستزيد قدرتها الاقتصادية، وستدعم ملايين الوظائف وتريليونات الدولارات في النشاط الاقتصادي خلال العقد المقبل".
تحتل أزمة المناخ الهدف الخامس من أهداف التنمية المستدامة للأمم المتحدة، والتي تقدر المؤسسات المالية تكلفة المشاريع الاستثمارية السنوية فيها بما يزيد على 4 تريليونات دولار، وتستأثر أزمة المناخ والطاقة بنصيب الأسد من هذا المبلغ، نظرا لاتساع نطاقها وتعدد مجالاتها، لتشمل المواصلات والطرق والمطارات وشبكات الطاقة والتكنولوجيا وصناعة المعدات والأجهزة التقنية، وحتى الإعلام والتعليم والأنظمة والعادات الاستهلاكية.
المناخ والطاقة وجهان لعملة واحدة، وما تحاول إستراتيجية بايدن والأمم المتحدة إقناع العالم به هو العمل المشترك لمواجهة أزمة تغيرات المناخ، وتقليل الانبعاثات الكربونية والانتقال إلى الطاقة النظيفة أو الطاقة الخضراء، وهي مفتاح الدخول لمرحلة جديدة في حياة البشرية ستكتمل صورتها إلى حد بعيد بحلول عام 2050.
وعندما تشدد الإستراتيجية على أن الولايات المتحدة تعتبر أزمة المناخ تحديا وجوديا بالنسبة لها في العصر الحالي -حيث إن ارتفاع درجة حرارة الكوكب يعرض الأميركيين والبشر حول العالم للخطر ويخاطرون بإمدادات الغذاء والماء والصحة العامة والبنية التحتية والأمن القومي- فإنها تؤكد التزامها بالمضي قدما في تحقيق الأهداف التفصيلية لمواجهة أزمة المناخ والطاقة حسب خطة أهداف التنمية المستدامة، وتفتح في الوقت نفسه الباب واسعا أمام الشركات الخاصة في الولايات المتحدة والعالم لمواصلة العمل على مشروعات التحول الصناعي والتقني في مجال الطاقة.
وهو ما قامت به إدارة بايدن بالفعل هذا العام، إذ أوضحت الإستراتيجية أن العمل في مواجهة تحدي أزمة المناخ والطاقة داخل الولايات المتحدة قد بدأ بالفعل، وأن إدارة الرئيس بايدن تقوم باستثمارات غير مسبوقة للأجيال في الانتقال إلى الطاقة النظيفة من خلال قانون تخفيض التضخم "آي آر إيه" (IRA) لعام 2022، مما سيوفر ملايين الوظائف ذات الأجر الجيد، ويعزز الصناعات الأميركية، ويزيد التأهب الفدرالي والولائي والمحلي ضد التهديدات المناخية الشديدة المتزايدة، وتعمل إدارة بايدن على دمج موضوع تغير المناخ في خطط وسياسات الأمن القومي.
ولمساعدة إدارة بايدن على القيام بذلك أنشأ قانون تخفيض التضخم "آي آر إيه" برنامجا خاصا تحت عنوان 17 (قسم 1706) لإعادة الاستثمار في البنية التحتية للطاقة، وضمان القروض للمشاريع اللازمة لذلك، وبناء على هذا القانون تم تخصيص 5 مليارات دولار حتى 30 سبتمبر/أيلول 2026، مع سقف إجمالي للقروض يصل إلى 250 مليار دولار، ويعتبر هذا القانون أكبر استثمار في المناخ والطاقة في التاريخ الأميركي لمواجهة أزمة المناخ وتعزيز العدالة البيئية وتأمين مكانة الولايات المتحدة كرائد عالمي في تصنيع الطاقة النظيفة المحلية وتحقيق أهداف بايدن المناخية، وفقا لحيثيات القانون.
وتوضح الإستراتيجية أن الولايات المتحدة ستعمل على تحفيز العالم لبذل المزيد من العمل لمواجهة أزمة المناخ، كما ستعمل على مدى العقد المقبل على مساعدة الدول في القيام بدورها في تقليل الانبعاثات، ومعالجة الميثان وغيره من الملوثات الفائقة، وتعزيز عمليات إزالة ثاني أكسيد الكربون، وإنهاء عمليات إزالة الغابات بالتنسيق مع الحلفاء والشركاء لضمان أمن الطاقة والقدرة على تحمل التكاليف، وتأمين الوصول إلى سلاسل التوريد المعدنية المهمة، وخلق انتقال عادل للعمال المتأثرين عن طريق المؤسسات الدولية المختصة والبنك الدولي وبنوك التنمية الإقليمية.
وقد أشارت الإستراتيجية إلى المعاناة الدولية التي واجهها العالم من أزمة طاقة التي تسببت فيها روسيا، والتي تفاقمت بسبب إدارة أوبك لها، مما يؤكد الحاجة الماسة إلى طاقة عالمية متسارعة وعادلة.
(.. يتبع)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق