عواجيز يناير.. والجيل الغاضب من الثورة
وصل الجميع إلى ميدان التحرير في يناير 2011 وخلف كل منهم تاريخ، بدا لدى البعض طويلا لدرجة التوهان في دهاليزه، ولدى البعض الآخر لا تكاد تراه.
بين هذين الجيلين كان هناك جيل تاه في الطريق، هذا الجيل الذي تاه في دهاليز الأول وسبقه الثاني الذي خرج من القمقم الصغير ليجد نفسه يصنع التاريخ.
إنها معضلة يناير الكبرى في مشوارها للوصول إلى النجاح، فالثورات تحتاج إلى دماء متجددة للوصول إلى غايتها أو تحقيق أهدافها، أزمة يناير الكبرى في الأجيال الثلاثة، لذا ليس غريبا هذه الثورة العارمة لشباب يناير من جراء كلمة عابرة قيلت في إحدى غرف الكلوب هاوس منذ يومين، وأشعلت مواقع التواصل الاجتماعي تحت عنوان: “عواجيز يناير”.
بدلا من الاعتراف ومواجهة النفس وقراءة الواقع ثار الينايرون ثورة كبيرة ورددوا: “نعم نحن عواجيز يناير وقاعدين نتفرج”، وبدا للجميع أنها فرقة جديدة بين أبناء الثورة الواحدة أو موجة الغضب الكبرى التي ولدت أحلاما كبرى بمقدار التضحيات المقدمة خلالها وبعدها على مدار عشر سنوات من عمرها.
كان في تصوري استيعاب من قال وظرفية القول والتفكير فيما إذا كانت مقولة لها جذور أم تعبير عن غضب جيل جديد فقط، جيل سمع هتافات وصنع أحلاما على وقع كلمات من الكبار.
انهارت تلك الأحلام سواء بفشل الثورة أو تخاذل الكبار، وانهيار الصغار من أبناء يناير وتوهان جيل الوسط، أو جيل الدور المسحور، كما يسميه الكاتب الصحفي قطب العربي في تعبير دقيق عن جيل الثمانينات والتسعينات.
عواجيز يناير
جزء كبير من أزمة الثورة المصرية كانت في الجيل الذي قاد الثورة أو يمكننا تسميته بالمتصدر للقيادة بحكم التاريخ الطويل في النضال والمقاومة منذ بدايتهم في نهاية العصر الناصري أو بداية عصر السادات، هؤلاء الذين تظاهروا في أعوام 1968،1972،1977.
ثلاث محطات في عمر الجيل الكبير، كانوا شبابا اعترضوا على محاكمات قادة يونيو وطالبوا بالحرب ضد العدو الصهيوني، وشاركوا فيها، ثم خرجوا ليجدوا النصر العسكري هزمته السياسة.
واجهوا قرارات الرئيس السادات وسياساته وانتهي بهم الأمر إلى سجونه في سبتمبر 1981، تلك السجون التي ضمت كل القوى السياسية بل وعلماء مسلمين ورجال الدين المسيحي، لتنتهي الأزمة بمقتل رئيس وتولي حسني مبارك السلطة.
فتح مبارك المجال العام للجميع ولاعب مشاعرهم بالأحلام الصغيرة، وأعطى كل فريق ما يريد، واستمر الوضع سنوات طويلة، استطاع رجال مبارك أن يلاعبوا الثوار بالسياسة، وصارت أحلام الكبار عضوية في مجلس النواب أو التصريح بحزب سياسي واكتساب معارف لقضاء مصالح المعارف والأصدقاء.
دخل الكبار يناير بعد عشر سنوات من النضال السياسي ضد سلطة شاخت على مقاعدها -بتعبير الكاتب الصحفي محمد حسنين هيكل- وكانت الأحلام حتى 25 يناير إصلاحية حتى أن الدعوة للتظاهر كانت لإقالة حبيب العادلي وتحسين معاملة الداخلية مع المقبوض عليهم.
فاجأت الجماهير النخبة التي ارتاحت سواء تحت رعاية رجال مبارك سياسيا وفكريا، حتى الحركة الوطنية للتغيير (كفاية) أو حملة طرق الأبواب للبرادعي وحملة حمدين رئيسا لم يكن طموحها إلا انتخابات رئاسية تسمح فيها السلطة (سلطة مبارك) بانتخابات تنافسية.
لا مجال هنا لثورة ولا تغيير نظام ولا إسقاطه، فاجأهم الشارع عصر يوم 25 يناير بشعار: “الشعب يريد اسقاط النظام”، ووقعت الدولة في أيدي المنهكين من المشوار الطويل بعد 18 يوما، فلم يدركوا تصرفهم وقبلوا بدولة مبارك تقود المرحلة، وتوالت النتائج التي لا تحتاج للتكرار.
الجيل التائه
هذا الجيل بدأ مشواره مع عصر مبارك وقاد التظاهرات في 1985، 1986، 1990، وشارك الجيل القديم أو الكبير في مشواره السياسي، هذا الجيل الذي عاش تائها في دهاليز الكبار، الذين هم ليسوا ثوارا بالمعنى الكامل وليسوا سياسيين أصحاب مشاريع تسعى لإسقاط الحكومات وتشكيل حكومة ونظام جديد.
انشغل الجميع بمعارك شخصية بين بعضهم البعض، وعلى الطرف الآخر، كان التيار الإسلامي جيل السمع والطاعة لجيل كبير يتعامل بمنطق خطوة خطوة (تاتا تاتا!).
جيل التوهان تابع لمن هم سبقوه يعتبر نفسه جزءا من حركة فلان أو علان، كان هذا الجيل صاحب الدور المفقود بعد فشل الجيل الأكبر في قيادة الثورة التي هزت العالم، لم ينبت منهم قائد يستطيع أن يستكمل الحركة في يناير، أو يوقف الزحف نحو مسار سياسي برعاية أبناء مبارك، تاه خلف دهاليز سياسة من اعتبرهم قادته فأورثوه اليأس والاكتئاب، ولا أمل في صحوته.
الجيل الغاضب في يناير
جيل العشرينات في يناير، جيل صحا من نومه صباحا ليجد نفسه يقود ثورة، نعم كان هناك منه في أواخر العشرينات من لديه رؤية لكنها ضاعت مع صخب الحالة.. هذا الجيل أحد أزمات الثورة، تخيل النضال والمقاومة تظاهرة كبيرة لمدة يومين أو أسبوعين، ثم يسقط بعدها النظام ويتصدروا شاشات التليفزيون ويلقبون بشباب الثورة الطاهر البريء.. جيل تاريخه بدأ بدعوة صفحة خالد سعيد، وانتهى يوم تخلى مبارك عن السلطة لمجلسه العسكري والذي ارتضاه الجيلان السابقان.
هؤلاء الغاضبون في يناير أصابتهم أزمة الزعامة والإعلام، أصبحوا وكأنهم منّوا على الشعب بالثورة، والشعب لم يصنعها، فرط في إنجازهم العبقري والتاريخي، صاروا أصحاب الكنبة التي تركها مبارك للشعب 30 عاما، قال لي أحدهم وهو ابن الـ23 عاما ” إحنا عملنا اللي علينا وبطلنا، الشعب هو اللي ضيع الثورة ينزل الشعب”.
أطفال الثورة ولدوا قبل الحدث بعشر سنوات وعاشوا الفشل المتكرر لها، ساروا في متاهة الفشل تجرعوه كأسا بعد آخر، تعليم يتدهور حيث لا مدارس بل مراكز دروس خصوصية، أزمات اقتصادية لا تنتهي، غلاء في كل شيء، من كان يستطيع أن يشتريه والده في عصر مبارك صار صعبا عليه الآن، دخل لا يكفي تطلعاته كشباب، إعلام يزيف بقدر كبير الحقائق، لا مستقبل أمامه ولا سند خلفه.
جيل يرى الثورة أضاعت استقرار أسرته، ومن هؤلاء من وجد نفسه في بلاد غريبة مع أسرته أو منفردا يتعلم أو يعمل حتى يمكنه العيش، مأساة كاملة انقلبت حياته رأسا على عقب بسبب مغامرة لوالده أو شقيقه، غاضب من يناير وما أنجزته من فشل.
هذا الجيل الضائع يضم نصف آخر هو صاحب المقولة التي أرقت شباب يناير وعواجيزها “نحن”.. إنه جيل الغضب منها ومن مسارها الذي أوصل الوطن لما هو فيه.
جيل يرى طريقا مختلفا عن مسار السياسة الذي مرح فيه وفرح به السابقون، مسار أنجب ديونا ومظاهر خادعة، وقصورا وأبراجا ومباني، ولم ينجز هدفا واحدا من أهداف ثورة يناير.
جيل غاضب من الجميع وله الحق، وبدلا من أن نسانده ونقف خلفه نشد من أزره ونعتذر له عن أخطائنا نجلده مرة آخرى بتخاذلنا وتخلينا عنه.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق