الأربعاء، 2 نوفمبر 2022

إنه يخاف من فرجينيا وولف (أشباح الديكتاتور)

إنه يخاف من فرجينيا وولف (أشباح الديكتاتور)



جمال الجمل



(1)

زارني صديق قديم من اللاعبين المؤثرين داخل النظام سابقا.. كنت أمر بفترة مؤلمة صحيا وعصبيا.. فحوص وتحاليل وعينات من الأنسجة وإنهاك نفسي وبدني صعب الاحتمال، ولا أعرف كيف وصلته أخبار متاعبي برغم الكتمان. وكالعادة لم تمنع الظروف التي أمرّ بها من تبادل الحديث عن خفايا ما يحدث في كواليس النظام، وعن أخبار الصراعات الداخلية ومدى أهميتها أو تفاهتها، ومقارنة ذلك بالصورة الخارجية المتداولة في الإعلام وفي أحاديث الناس، سواء إعلام الموالاة أو إعلام المعارضة، وسواء حديث أتباع الدولة أو آمال المعارضين المترقبين والمحفزين لتظاهرات 11 تشرين الثاني/ نوفمبر، باعتبارها موسما من مواسم الأمل في إحداث تغيير بالرهان على ما يسمونه "الشرفاء داخل النظام".

(2)


أغالب الألم وأقول لصديقي محاولا الابتسام: أنت طبعا من الشرفاء اللي جوه الدولاب؟

فيقول بجدية توحي بأنه فكر في الإجابة قبل ذلك مرات ومرات: أنا أفضل تسمية "الصامتون".. تعبير الشرفاء ملتبس ويطلقه كل شخص على المجموعة التي تناصر توجهاته، لكن النظرة الواقعية لما يحدث في الداخل بتقول إن النظام مش اتجاه واحد، وهناك آراء متباينة واعتراضات ووجهات نظر، لكن طبيعة العمل من داخل النظام تحتم على معظم المتحفظين والمعترضين كتمان آرائهم الشخصية وتعلم الصمت، وحتى إذا حدثت مظاهر للتغيير فإنهم لا يبادرون بالظهور والدعم الواضح، لأن هذا قد ينقلب عليهم ويدمر مستقبلهم، لذلك يحتمون بالصمت وانتظار ما تسفر عنه الأحداث، وحينها يبحثون عن طريقة لركوب الموجة أو مسايرة التوجه الجديد، كلٌ حسب طريقة تفكيره..

الشارع "نسّاي" والجمهور السياسي الحالي يفكر يوما بيوم، ويفضل "التريند" الجديد من غير ارتباط بما فات. وهذه محرقة تقضي على أصحاب المحاولات التي تستهدف التغيير ثم لا تحققه بالضربة القاضية


ولا تنسى أن المتسرعين تعلموا كثيرا من رؤية رأس الذئب الطائر، سواء في حالة الفريق أحمد شفيق أو الفريق سامي عنان، وكذلك في حالات أقل تأثيرا مثل الشاب قنصوه الذي اختفى واختفت أخباره. وهذا يوضح أن دعم الشارع لا يعوّل عليه لأي شخص من داخل المؤسسة يتورط في تغيير النظام، فالشارع "نسّاي" والجمهور السياسي الحالي يفكر يوما بيوم، ويفضل "التريند" الجديد من غير ارتباط بما فات. وهذه محرقة تقضي على أصحاب المحاولات التي تستهدف التغيير ثم لا تحققه بالضربة القاضية.

وهذا معناه أن الشارع لم يتعلم أسلوب الفوز بالنقاط، وهو الأرجح طبعا في كل المنافسات. لا بد من التراكم والنفس الطويل، وهذا غائب في الشارع السياسي للأسف، بينما النظام لديه تقاليد وأدوات وإمكانيات لتحقيق ذلك..

(3)


لم يكن موقع الاستخبارات الفرنسي نشر شيئا عن أزمة الاستقالات في المخابرات العامة، ولم يحدثني صديقي عن تفاصيلها، لكنه مر عليها وعلى أحداث شبيهة لها توردها تقارير أجهزة الرقابة في كل المؤسسات. وبالتالي فإن النظام لديه علم بوجود حالات تململ واعتراضات فردية ووجهات نظر تتعلق بدرجة التسرع في إصدار قرارات عنيفة تؤثر في معيشة الناس أو أشغالهم، لكن اللوبي المؤثر في قيادة السلطة لا يهتم بالاعتراضات والتململ، فهو يتخذ القرار ويدرس درجة السيطرة على الاعتراضات باستخدام سلاحين أساسيين "الأمن والإعلام".

والرجل يصرح دوما بأن "الإصلاح" الذي يتبناه أشبه بعملية جراحية اضطرارية.. مكروهة ولكن لا بد منها لحياة المريض، والحقيقة الواضحة لكل متابع أن عملية "الإصلاح الجريء" ليست خطة اقتصادية وضعها النظام عن دراسة أو اقتناع، لكنها مطالب وشروط صريحة من شايلوك (صندوق النقد)، وملخصها: أنت مفلس وتحتاج إلى قروض لكي تستر نفسك.. إذن اسمع ونفذ ما يملى عليك وإلا لن تحصل على سنت واحد، وكلنا يعرف ماذا تفعل المحتاجة إذا لم يكن لديها شرف أو إرادة أو ضمير..


الرجل يصرح دوما بأن "الإصلاح" الذي يتبناه أشبه بعملية جراحية اضطرارية.. مكروهة ولكن لا بد منها لحياة المريض، والحقيقة الواضحة لكل متابع أن عملية "الإصلاح الجريء" ليست خطة اقتصادية وضعها النظام عن دراسة أو اقتناع، لكنها مطالب وشروط صريحة من شايلوك (صندوق النقد)


(4)


هل يعرف ذلك الرجل ماذا يفعل؟
هل يشعر بالرضا عن نفسه وهو يرتكب كل هذه الجرائم التدميرية في حق البلاد ومستقبلها؟

هل ينام على وسادته بدون كوابيس وأشباح؟

قال الصديق بحسم: طبعا الرجل يشعر أنه عبقرية فذة أرسلها الله لإنقاذ مصر، ويؤكد أنه يصنع المعجزات ويحقق ما لم يحققه أحد من قبله ولن يحققه أحد بعده.

قلت في ما يشبه الحديث مع النفس: إنه يخاف من فرجينيا وولف.

سألني صديقي: بتقول حاجة؟ ما سمعتش كويس..

قلت: رأيي أن العكس هو الذي يحدث يا عزيزي، إنه يشعر بالرعب والخوف ويعاني من أشباح داخلية تعكر نومه وصحوه..

ضغط الصديق شفتيه علامة الاعتراض الصامت، فابتسمت وقلت له متفاكها: حلوة طريقة التعبير بالصمت، لكن أنا مش ديكتاتور ما تخافش من الكلام معايا.

ضحكنا واتخذت الزيارة طريقها للانتهاء الودي بدون مزيد من التورط في السياسة وكواليسها، لكن أفكاري لم تتوقف في الزيارة وتداعياتها وما فتحته من أبواب، واسمحوا لي أن أشارككم بعض هذه الأفكار والتأملات التي شغلتني..

(5)


في تموز/ يوليو من كل عام يخطط النظام لتنفيذ إجراءات اقتصادية خشنة، لنزع الدعم ورفع الأسعار وانسحاب الدولة من واجبات الحماية الاجتماعية للفقراء والطبقات العاملة، خاصة العاملين في الحِرف والقطاع الخاص خارج مظلة البيروقراطية والرواتب الحكومية. وكان معروفا منذ مطلع العام أن الحزمة الجديدة من القرارات الاقتصادية التي طلبها صندوق النقد ستنفذ في صيف هذا العام، لكن الحرب الأوكرانية وتكرار الحديث عن كورونا وتقارير أمنية داخلية أخّرت تموز/ يوليو إلى تشرين الأول/ أكتوبر، وأخّرت الصيف إلى الخريف..


يعرف النظام الدعوة والموعد، ومع ذلك أصدر قراراته قبلها مستهينا بتأثير القرارات على دفع الناس للتظاهر، فأغلبية التقارير داخل المؤسسة الأمنية تؤكد إمكانية السيطرة على أي تظاهرات، وترجح أن ردود الفعل داخل مربع الاحتواء، كما أن استباق القرارات لموعد التظاهر يمنح النظام مظهرا يؤكد ثقته في نفسه وفي استقراره وقوته


على كل حال مرت أسابيع من الترتيبات وذهب النظام إلى ما كان قد خططه، وذلك بعد أن حسم موقفه من الخلافات الداخلية واستبق القرارات ببعض "المراهم الملطفة": اطبع يا ابني كام مليار من الجنيهات الورقية التي لا تساوي قيمة المورق المطبوع ووزعها على المرتبات والمعاشات، والباقي سيقوم به الإعلام وسيارات الشرطة وسيارات بيع اللحم المدعوم في المناطق الفقيرة..

ذات مرة سألت خبيراً مالياً: اش معنى يوليو؟

قال بلطافة: يوليو شهر جميل.. إجازات ومصايف وحرارة عالية وسنة مالية انتهت وسنة مالية جديدة جاية بكلام جديد.. حاجة كده زي قرارات الليل يومي الأربعاء والخميس.

(6)

ألم تكن الدعوة لتظاهرات 11 تشرين الثاني/ نوفمبر ضمن حسابات السلطة؟ ولماذا لم يؤجل صانع القرار تعويم الجنيه و"تغريق" الاقتصاد إلى ما بعد 11 تشرين الثاني/ نوفمبر وتبين عواقبها؟

بالطبع يعرف النظام الدعوة والموعد، ومع ذلك أصدر قراراته قبلها مستهينا بتأثير القرارات على دفع الناس للتظاهر، فأغلبية التقارير داخل المؤسسة الأمنية تؤكد إمكانية السيطرة على أي تظاهرات، وترجح أن ردود الفعل داخل مربع الاحتواء، كما أن استباق القرارات لموعد التظاهر يمنح النظام مظهرا يؤكد ثقته في نفسه وفي استقراره وقوته، وهي النقطة التي يحرص عليها أي نظام قمعي، حتى تفاجئه المفاجآت.

وبالتالي، وبرغم كل التقارير تبقى الاحتمالات مفتوحة، وتبقى الحسابات المنطقية مقيدة بالمفاجآت التي تحملها رياح الثورات، وهو ما حدث مع تقارير العادلي في ثورة يناير. لذلك تظهر مشاعر الارتباك وردود الفعل العصبية في أداء النظام، لأنه يعرف في أعماق نفسه أن "كل شيء ممكن"، وأن ما حدث في كانون الثاني/ يناير قد يحدث في تشرين الثاني/ نوفمبر أو أي شهر آخر.

لكن سمات العناد والتكبر التي ترتبط بنفسية الطغاة تجعلهم في الحالة المعلقة بين المظهر اللا مبالي الواثق من قوته، وبين التوتر الداخلي الكامن الذي يعكس نفسه في قضم الأظافر وادعاء العظمة وكوابيس الليل. وهو المسلك الذي تجلى من قبل في إغلاق محطة مترو التحرير عند كل دعوة للتظاهر، والذي تجلى في نشر الجيش لقواته في الشوارع بذريعة تأمين المؤسسات من تظاهرات عنيفة محتملة في تشرين الثاني/ نوفمبر 2014، ثم تبين أن نشر القوات استبق الحكم ببراءة مبارك والخوف من غضب ملايين ثورة يناير.

ويبدو أن النظام اكتسب ثقة متزايدة بعد ذلك نتيجة تراجع الحراك وزيادة أعداد المعتقلين، بل إن النظام تعلم الاستفادة من الدعوات الهزيلة للتظاهر وتضخيمها لتبرير استخدامه لعصا التخويف الغليظة، وهو ما حدث في أول مناسبة لفعالية 11 تشرين الثاني/ نوفمبر في عام 2016 والتي تم الترويج لها تحت عنوان "ثورة الغلابة"، ثم تحول التاريخ إلى مناسبة يلعب بها النظام كما تلعب بها المعارضة، لكنها تظل في مساحة النكاية وإثبات وجود كل طرف لنفسه في الساحة..



يبدو أن النظام اكتسب ثقة متزايدة بعد ذلك نتيجة تراجع الحراك وزيادة أعداد المعتقلين، بل إن النظام تعلم الاستفادة من الدعوات الهزيلة للتظاهر وتضخيمها لتبرير استخدامه لعصا التخويف الغليظة، وهو ما حدث في أول مناسبة لفعالية 11 تشرين الثاني/ نوفمبر في عام 2016 والتي تم الترويج لها تحت عنوان "ثورة الغلابة"، ثم تحول التاريخ إلى مناسبة يلعب بها النظام كما تلعب بها المعارضة


(7)

ما علاقة فرجينيا وولف بالسيسي ونظامه، وأين الأشباح في القصة؟


تعبير "من يخشى فرجينيا وولف" يشير إلى اللحظة التي يتم فيها فضح الصراعات الداخلية بين الشركاء الذين يظهرون أمام المجتمع في صورة متماسكة ورصينة، ثم يتضح التفسخ في العلاقة وتخرج إلى العلن مشاعر الكراهية والعداء وتبادل الإهانات.

والعبارة ظهرت لأول مرة كعنوان لمسرحية من تأليف الكاتب الأمريكي إدوارد ألبي، وتتناول ليلة عاصفة في حياة أستاذ جامعي وزوجته، حيث يتكشف الفشل والكراهية والخيانة بدلا من المظهر الاجتماعي الجميل الذي كانا يحافظان عليه بالوهم والكذب، حتى أنهما اخترعا ابنا لهما لتغطية العجز عن الإنجاب. وتحت تأثير الخمر وضغط المشاعر الداخلية ينفجر الصراع فجأة وتسقط الأقنعة ويتم إعلان موت الابن الذي لم يولد أصلا، ليتضح أن إنجازات العلاقة مجرد أوهام اصطنعها الزوجان بالأكاذيب، ولما كانت أعمال فرجينيا وولف الأدبية تعالج قدرة الإنسان على البوح والكشف عن خراب الذات والحياة المحيطة، فإن اسم فرجينيا وولف يعني لحظة القدرة على البوح بالمسكوت عنه طول الوقت لتموت الأوهام وتطل الحقيقة البشعة برأسها.

(8)

أثناء تأملاتي بعد زيارة الصديق القديم تذكرت كلمات أحد زملاء السيسي في العمل العسكري، ما زال الزميل على خط الوفاء لزميله وللمؤسسة، لكنه بعد حديث التلاجة التي تخلو من كل شيء إلا المياه كان غاضبا جدا ويستنكر أن يقول زميله القديم هذا الكلام غير اللائق. وتصورت أن غضب السيد اللواء نوع من التعبير السياسي المعارض، ولما ناقشته اصطدمت بالفهم السطحي الذي يخدعنا طول الوقت في لغة المعارضة داخل المؤسسة، فقد قال لي العسكري الغاضب إن كلام السيسي بهذا الشكل يعد فضيحة لمظهر القادة العسكريين، فنحن "باشاوات" نقبض رواتب جيدة ونعيش حياة كريمة مرفّهة، فكيف يظهرنا في شكل الفقراء الذين لا يملكون طعاما ولا يحتفظون في ثلاجاتهم إلا بالمياه..



يمكننا أن نرصد درجات متباينة من الصراع مثلما كان بين السيسي وشفيق وعنان، لكنهم في البدء وفي المنتهى ثلاثة أقنعة مختلفة تغطي نفس النظام، بينهم زواج نعم، لكنه مثل زواج مارتا وجورج في مسرحية ألبي.. علاقة مظهرها الانسجام و"على قلب رجل واحد" و"إيد واحدة.. كده"، لكنهم في الحقيقة أعداء كارهون لبعضهم البعض،


هذا بعض من المواقف التي تخدعنا في تقدير نتائج الصراعات داخل النظام، ومعظمها لا ينتمي إلى الصراع السياسي المؤثر، بل صراعات نفسية وشكلية ووظيفية ترتبط بالأكاذيب والمظاهر والأوهام التي يعيشها الشركاء الألداء داخل النظام.

ومن هنا يمكننا أن نرصد درجات متباينة من الصراع مثلما كان بين السيسي وشفيق وعنان، لكنهم في البدء وفي المنتهى ثلاثة أقنعة مختلفة تغطي نفس النظام، بينهم زواج نعم، لكنه مثل زواج مارتا وجورج في مسرحية ألبي.. علاقة مظهرها الانسجام و"على قلب رجل واحد" و"إيد واحدة.. كده"، لكنهم في الحقيقة أعداء كارهون لبعضهم البعض، يغطون خراب حياتهم بالوهم والتصنع، حتى تأتي لحظة الانفجار وإشهار العداء.

والأكثر مأساوية في الأمر ليس لحظة الانفجار نفسها، لكن ما يأتي ويستمر بعدها، حيث تتحول الشتائم والخيانات والطعنات لأشباح تسكن النفوس وتطارد أصحابها في النوم والصحو، في حالة هذيانية تشبه حالة "الإمبراطور جونز"، فالطاغية يعيش كابوسا يطارده دوما بأنه سينال عقابه بنفس الوسائل التي ارتكبها ضد خصومه، وبالتالي فإن مبارك وعنان وشفيق وجنينة، وكل ضحايا القمع الذي مارسه السيسي على منافسيه من داخل النظام، لم يخرجوا من اللعبة خاسرين وانتهى الأمر، لكنهم تحولوا إلى أشباح ستظل تطارد اللواء الصامت المتربص، أصغر أعضاء المجلس العسكري الذي لم يحترم رفقة السلاح ولم يسمح بمشاركة الحكم وقسمة غنائم السلطة، لكن جورج ما زال يخاف من فرجينيا وولف ولم تأت لحظة الانهيار وإشهار الحقيقة المؤسفة.

والخلاصة أنهم خائفون تجلدهم الكوابيس وتطاردهم الأشباح ويتخوفون في رعب من لحظة السقوط الفاضح..

tamahi@hotmail.com

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق