لكي نتمكن من بناء المستقبل يجب أن نقرأ بعمق تاريخنا الحديث، ونراجع الكثير من الأفكار التي عمل الاستعمار والاستبداد على نشرها لتغييب وعي شعوبنا.
من أهم تلك الأفكار أننا متخلفون، وأننا لم نستطع أن نطور العلوم كما فعل الغرب، وأن علينا أن نتبع الغرب المتقدم لكي نستطيع أن نتقدم.
فهذه الخرافات العنصرية أعاقت كفاحنا للتحرر من الاستعمار السياسي والاقتصادي والثقافي.. لذلك فإننا نحتاج إلى إجابات مبدعة على أسئلة كثيرة من أهمها: لماذا لم نستطع أن نطور الكثير من العلوم في العصر الحديث، مثل علوم السياسة والاجتماع والاقتصاد والإعلام، واكتفينا بنقل النظريات الغربية، وترديدها في هذه المجالات دون وعي؟
من أهم الأسئلة التي يجب أن نبحث عن إجابات صادقة وصحيحة عنها: ما علاقة الاستبداد بالعلم؟ وهل قلل الاستبداد قدراتنا على تطوير العلوم؟!
يمكن أن نجد بعض الأفكار التي تساعدنا على إجابة تلك الأسئلة في كتاب عبد الرحمن الكواكبي “طبائع الاستبداد” حيث يقول: العلم قبسة من نور الله، وقد خلق الله النور كشافا مبصرا، ولادا للحرارة والقوة، وجعل العلم مثله وضاحا للخير، فضاحا للشر، يولد في النفوس حرارة، وفي الرؤوس شهامة، العلم نور والظلم ظلام، ومن طبيعة النور تبديد الظلام، والمتأمل في حالة كل رئيس ومرؤوس يرى سلطة الرئاسة تقوى وتضعف بنسبة نقصان علم المرؤوس وزيادته.
الاستبداد يعطل التقدم العلمي!
ماذا يعني ذلك؟! دراسة التاريخ توضح لنا أن الحاكم المستبد يعمل دائما لتعطيل التطور العلمي وانتشار الأفكار؛ حتى لا تزداد قوة الشعوب، وتدرك أنها قادرة على تحقيق التغيير، وبناء مستقبل أفضل.
لذلك يقول الكواكبي: إن المستبد ترتعد فرائصه من علوم الحياة مثل الحكمة النظرية والفلسفة العقلية، وطبائع المجتمع، والسياسة المدنية، والتاريخ المفصل، والخطابة الأدبية، ونحو ذلك من العلوم التي تكبر النفوس، وتوسع العقول، وتعرف الإنسان ما هي حقوقه، وكم هو مغبون فيها.
ويضيف الكواكبي: وأخوف ما يخاف المستبد من أصحاب هذه العلوم، المندفعين منهم لتعليم الناس بالخطابة أو الكتابة.. فالمستبد يخاف من هؤلاء العلماء العاملين الراشدين المرشدين، فهو لا يريد إلا العلماء المنافقين.
إن أردت برهانا على صحة ذلك، فانظر إلى حال جامعاتنا، وما أصابها من ركود حتى تحولت إلى إدارات بيروقراطية تتولى أجهزة الأمن تسيير أمورها، فتفصل العلماء الذين يتحدثون في محاضراتهم عن الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان، وبناء المستقبل، والوظيفة الحضارية للإنسان والأمم.
أما الذين تختارهم أجهزة الأمن لتولي الوظائف القيادية في الجامعات، فهم الذين يرتضون لأنفسهم أن يكونوا أدوات للسلطة في قهر الطلاب والأساتذة، ومنع الحديث في الدين والسياسة والقيادة والتاريخ والعلم والصحافة والإعلام.
فكيف يمكن أن تتطور تلك العلوم في جامعاتنا المحكومة بأجهزة الأمن، التي يتم فيها فصل الأستاذ لأنه يعتز بحريته وهويته، ويريد أن يساهم في بناء مستقبل وطنه وقيادة شعبه.
والمستبد يكره العلم لذاته!!
يقول الكواكبي: كما يبغض المستبد العلم لنتائجه؛ يبغضه أيضا لذاته، لأن للعلم سلطانا أقوى من كل سلطان، فلابد للمستبد من أن يستحقر نفسه كلما وقعت عينه على من هو أرقى منه علما، ولذلك لا يحب المستبد أن يرى وجه عالم عاقل يفوقه فكرا، فإذا اضطر لمثل الطبيب والمهندس يختار الغبي المتصاغر المتملق.
إن هناك حربا دائمة بين الاستبداد والعلم؛ حيث يسعى العلماء لتنوير العقول، ويجتهد المستبد في إطفاء نورها، والطرفان -كما يرى الكواكبي- يتجاذبان العوام.. ومن هم العوام؟ هم الذين إذا جهلوا خافوا، وإذا خافوا استسلموا!!
والعوام هم قوة المستبد، بهم يصول ويطول، يأسرهم فيتهللون لشوكته، ويغصب أموالهم فيحمدونه على إبقائه حياتهم، ويهينهم فيثنون على رفعته، ويغري بعضهم على بعض فيفتخرون بسياسته، وإذا أسرف في أموالهم يقولون كريم، وإذا قتل منهم ولم يمثل يعتبرونه رحيما، ويسوقهم إلى الموت فيطيعونه، وإن نقم عليه منهم بعض الأباة قاتلهم كأنهم بغاة!!
هذه بعض ملامح المعركة التي دارت في تاريخنا الحديث بين الاستبداد والعلم، حيث منع الحكام المستبدون تطوير العلوم الإنسانية والاجتماعية التي تعمل لبناء المجتمعات، وترشيد عمل الحكومات، وفتح المجالات أمام الشعوب للكفاح ضد الاستبداد.. وحتى الآن حقق المستبدون انتصارا حاسما على العلم والعلماء.. لكن النتيجة هي أن المجتمعات تخلفت، ولم تستطع الدول أن تحقق الاستقلال في مجالات السياسة والاقتصاد والثقافة، فظلت تابعة للغرب، ولم تجد حلا لمشكلاتها سوى الاقتراض، فتراكمت الديون، وتزايد فقر الشعوب وهوانها وذلها.
عندما يقود العلماء
والحل هو أن يتقدم علماء الأمة الحقيقيون لعرض رؤيتهم، وتوعية شعوبهم وقيادتها للكفاح ضد الاستبداد.. وأن يستعيد العالم دوره ووظيفته الحضارية؛ فيضيء بعلمه طريق الحرية.
والحاكم المستبد لا يمكن أن يسمح لعالم بأن يقوم بهذا الدور؛ لذلك يجب أن يرتبط العلم بالشجاعة وعلوّ الهمة والقيادة، وتوعية الشعوب بحقوقها.
إن المستبد لا يمكن أن يسمح لعالم بأن يقود الشعب، لكن العلماء يجب أن ينتفضوا ليدافعوا عن حقوق شعوبهم، وقيادتها لبناء المستقبل، ويربطوا علمهم بالعمل والكفاح لتحقيق الاستقلال.
ويجب أن يدرك العالم أن طلابه لن يحترموه إن لم يمتلك الشجاعة للتعبير عن حق شعبه في الحرية والديمقراطية، وأن يعد طلابه ليصبحوا قادة للشعوب، لا مجرد موظفين.
يقول الكواكبي: الاستبداد يعمل لإطفاء نور العلم، وحصر الرعية في حالك الجهل، والعلماء الحكماء الذين ينبتون أحيانا في صخور الاستبداد يسعون جهدهم في تنوير عقول الناس، والغالب أن رجال الاستبداد يطاردون رجال العلم، وينكلون بهم، فالسعيد منهم من يتمكن من مهاجرة دياره، وهذا سبب أن أكثر العلماء الأعلام والأدباء النبلاء تقلبوا في البلاد، وماتوا وهم غرباء.
هكذا حدد الكواكبي للعلماء المسار؛ فإن لم يتمكنوا من توعية الشعوب، وقيادتها لبناء المستقبل القائم على العدل والحرية والاستقلال والمعرفة، فالهجرة من الديار أفضل لهم، والموت في الغربة أنبل من التخلي عن كرامة العلم.
إن موت العالم في الغربة مهاجرا أفضل من الخضوع لمستبد يمنعه من القيام بوظيفته في قيادة شعبه بنور العلم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق