الحضارة الإنسانية وقادتها العظام (1).. كيف بدأ الله الخلق؟
قبل حوالي 6 أشهر، صدر للفقيه والباحث والمؤرخ الإسلامي الليبي الدكتور علي محمد الصلابي -عن دار الأصالة للنشر والتوزيع وخدمات الترجمة والطباعة في إسطنبول- مؤلَّفَه المتميز "نشأة الحضارة الإنسانية وقادتها العِظام"، الذي يُعد موسوعة إسلامية متخصصة في موضوعها، وفريدة في طرحها الذي لم يسبقه إليه أحد على النحو الذي جاء فيه، والذي يقوم على إعادة تأصيل مفهوم الحضارة الإنسانية في ضوء آيات القرآن الكريم، قاد مراحلها المتعاقبة بعد سيدنا آدم -عليه السلام- 5 أنبياء عظام، في مراحل فاصلة في تاريخ الإنسانية، هم أولو العزم من الأنبياء والرسل: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد، عليهم صلوات الله وسلامه أجمعين، وهو طرح يقف شامخًا في وجه الطروحات الغربية التي هيمنت على القرون الثلاثة السابقة، وانقلبت على الدين والأنبياء والوحي، لتتخذ موقفًا أقرب للإلحاد من أي وصف آخر. ولمّا لم أجد في الإنترنت تعريفًا لائقًا بهذا العمل الكبير، رأيت أن من الواجب تقديمه للقارئ الكريم بصورة ضافية تساعده على الاستفادة مما يحتوي عليه، وتحثه على اقتنائه ومطالعته واستلهام ما فيه من شروح وتوضيحات ودروس وعبر.
عرض الصلابي قصة خلق آدم وموقف الملأ الأعلى وإبليس وعداوته له ولذريته من بعده؛ حسب ورود القصة متتابعة في سور القرآن الكريم، في البقرة والأعراف والحجر والإسراء والكهف وطه وص، على الترتيب
يشتمل هذا العمل الموسوعي على 6 مجلدات، يزيد عدد صفحاتها مجتمعة على 5500 صفحة، يتناول الأول منها قصة بدء الخلق وخلق سيدنا آدم عليه السلام، المؤسس الأول للحضارة الإنسانية، على حد تعبير الصلابي، أما الأجزاء الخمسة التالية، فيتناول كل منها أحد قادة الحضارة الإنسانية العظام، أنبياء الله ورسله: نوح وإبراهيم وموسى وعيسى ومحمد عليهم الصلاة والسلام.
وربما كان من أبرز ما تميز به هذا العمل استناده الرئيسي إلى أدق وأصدق مرجع يمكن الاعتماد عليه، ألا وهو كتاب الله عز وجل، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وقد حفظه سبحانه وتعالى، من دون نقص أو تبديل أو تحريف، على مر العصور إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها. وطبعًا، مع التعريج على مأثور السنة والصحابة وآراء العلماء والفقهاء القدامى والمحدثين، حسب مقتضيات السياق.
وسنستعرض هذه السلسلة بحول الله، جزءًا جزءًا، بتقديم نظرة شاملة على ما احتوى الجزء، ثم الوقوف على أبرز القضايا التي وقف عندها الصلابي لما لها من أهمية على المستوى الفكري أو الفقهي أو العلمي، أو على مستوى حياتنا المعاصرة.
وقد اقتضى ذلك مني التوقف مؤقتًا عن مواصلة مقالات "صراع الأخلاق" انسجامًا مع أجواء رمضان الخاصة، وما تجود به من بركات، وما يتنزل فيها من رحمات ومغفرة وكرم الفوز بالجنة والعتق من النار، على أن نتابع الحديث فيها بعد استكمال هذه السلسلة.
جاء الفصل الثاني تحت عنوان "قصة بدء الخلق" واشتمل على مبحثين كذلك، الأول منهما تناول قصة بدء الخلق، وكمال الخالق، وقدرة الخالق على إيجاد المخلوقات، ومظاهر الحكمة في الخلق. أما المبحث الثاني، فركّز على معرفة أي المخلوقات خُلق أولًا
مِن خلق آدم حتى وفاته
تحت عنوان "قصة بدء الخلق وخلق آدم عليه السلام"، بدأ الصلابي الجزء الأول من السلسلة، في حوالي 1200 صفحة، كمحاولة منه "لجمع وتفسير ما يقدمه القرآن الكريم بشأن بدء الخلق وخلق آدم عليه السلام" على حد قوله.
الفصل الأول جاء تحت عنوان "أدلة وجود الخالق، وبدء قصة الخلق"، وقد اشتمل على مبحثين، الأول منهما تناول معنى الشهادتين وفضلها وشروطها، وخصص الثاني للحديث عن أدلة إثبات وجود الخالق، ومنها: دليل الخلق، ودليل الفطرة والعهد، ودليل الآفاق ودليل الأنفس، ودليل الهداية، ودليل انتظام الكون وعدم فساده، ودليل التقدير، ودليل التسوية، ودليل العناية.
وجاء الفصل الثاني تحت عنوان "قصة بدء الخلق" واشتمل على مبحثين كذلك، الأول منهما تناول قصة بدء الخلق، وكمال الخالق، وقدرة الخالق على إيجاد المخلوقات، ومظاهر الحكمة في الخلق. أما المبحث الثاني، فركّز على معرفة أي المخلوقات خُلق أولًا، تحدث فيه عن خلق العرش والكرسي والماء والقلم واللوح المحفوظ والزمان والأرض والسماوات والجبال والشمس والقمر والليل والنهار والنجوم والرياح والسحاب والرعد والبرق والصواعق والشجر والنبات والظلال.
أما الفصل الثالث الذي استحوذ على معظم صفحات الكتاب، فقد جاء تحت عنوان "حديث القرآن الكريم عن آدم عليه السلام"، مشتملًا على 8 مباحث مستفيضة، عارضًا فيها قصة خلق آدم وموقف الملأ الأعلى وإبليس الذي ناصب آدم العداء من اليوم الأول، وتفنن في أساليب غوايته وإضلاله وإفساد عمله، هو وذريته من بعده. وقد تناول هذه القصة حسب ورودها متتابعة في سور القرآن الكريم، في البقرة والأعراف والحجر والإسراء والكهف وطه وص، على الترتيب.
تناول المبحث الأول منها قصة خلق آدم عليه السلام كما وردت في سورة البقرة، وتحدث فيه عن معنى كلمة "رب" في مستهل القصة، ودلالاتها واستخداماتها والفرق بينها وبين الإله، حيث يتوجه معنى الرب إلى المالك المتصرف القادر الخالق المحيي المميت المتفرد بخصائص الربوبية، ويتوجه معنى الإله إلى المعبود المألوه الذي يجب أن يوحده العباد بأفعالهم. كما تناول هذا المبحث الحديث عن الملائكة، والخليفة في الأرض، والحكمة من خلق الإنسان، وما إذا كان هناك مخلوقات في الأرض قبل الإنسان، وعن سرّ تسمية آدم بهذا الاسم، والإعجاز الغيبي في قصة آدم، وحرية التعبير التي تمتع بها آدم، ومكانتها في حياة الإنسان، وعن مكانة آدم بين الخلق، وحقيقة سجود الملائكة لآدم، وأسباب امتناع إبليس عن السجود، والحكمة من خلق إبليس.
وتناول المبحث الثاني قصة آدم عليه السلام كما وردت في سورة الأعراف، وركّز على العداوة بين آدم وإبليس، والجوانب التي تناولتها الآيات في سياق القصة مثل خلق الحياة، ومراحل خلق الإنسان، وسجود الملائكة لآدم، والخروج من الجنة، والنداءات الإلهية الأربعة لبني آدم.
وتناول المبحث الثالث القصة كما وردت في سورة الحجر، من حيث خلق الإنسان وخلق الجان، وتكليفهم بالعبادة، حيث صرّحت الآيات بالحكمة من خلق الجن والإنس، وهي عبادة الله، وقد صرف الله نفرًا من الجن إلى النبي ليستمعوا القرآن ويؤمنوا به ثم يذهبوا إلى قومهم لينذروهم ويدعوهم إلى الإيمان به. وقد بيّن الصلابي -عن الحسن البصري- أن إبليس أصل الجن كما أن آدم عليه السلام أصل البشر. وكان قبل أن يؤمر بالسجود لآدم قد التزم التزامًا رفعه إلى مستوى الحضور مع الملائكة تكريمًا له.
يتناول الصلابي قصة آدم كما وردت في سورة طه، مركّزًا على استخلاص الدروس والعبر المتعلقة بالعهد والنسيان والعزم عند آدم، واحتياجات الإنسان الرئيسية في الحياة، وحرص إبليس على إغواء آدم
كما تناول معنى الروح، مستعرضًا أهم مظاهر الحياة الروحية للإنسان، ومنها العيش في واحة أسماء الله الحسنى، والتأمل العقلي في مخلوقات الله المبثوثة في الكون. كما عرض لمصير من يتبعون الصراط، ومصير من يضلون عنه ويتبعون طريق إبليس.
وقد تناول المبحث الرابع قصة آدم كما وردت في سورة الإسراء بالاعتماد على علماء التفسير من المتقدمين والمتأخرين، مطيلًا التأمل والتدبر في إيحاءات اسم الله الوكيل في قوله تعالى {وكفى بالله وكيلا}، وعلاقة التوكل بقصة آدم، وأثره على حياة الإنسان في الدنيا والآخرة.
وفي المبحث الخامس، تناول الصلابي قصة آدم كما وردت في سورة الكهف، حيث يسهب في الحديث عن دور إبليس وذريته في غواية المؤمنين حتى يخرجهم عن دينهم، ويمزق كيانهم الأسرى والاجتماعي. ويتوقف عند قوله تعالى {ما أشهدتهم خلق السماوات والأرض ولا خلق أنفسهم}، ليفنّد نظرية دارون عن نشأة الحياة وخلق الأرض في كتابه "أصل الأنواع"، ويوضح بطلانها.
وفي المبحث السادس، يتناول الصلابي قصة آدم كما وردت في سورة طه، مركّزًا على استخلاص الدروس والعبر المتعلقة بالعهد والنسيان والعزم عند آدم، واحتياجات الإنسان الرئيسية في الحياة، وحرص إبليس على إغواء آدم، وموضحًا كيف أن الغرائز -وعلى رأسها الملك والخلود- هي مدخل إبليس إلى الإنسان. كما يتطرق إلى توبة الله على آدم وهدايته، وإلى ما يتعرض له المعرضون عن الله من الضنك والتعاسة والشقاء.
ويتناول المبحث السابع قصة آدم كما وردت في سورة ص، وعلاقتها بما سبقها، والحديث عن بداية خلق الإنسان، وحوار الملأ الأعلى المتعلق به، وأسماء الله الحسنى الواردة في سياق القصة ودلالاتها، وعن امتناع إبليس عن السجود وأسبابه، مستعرضًا قضية تشبيه الله -عز وجل- عن قوله تعالى {ما منعك أن تسجد لما خلقت بيدي}.
أما المبحث الثامن والأخير، فيتناول بشيء من التفصيل قصة هبوط آدم وحواء وإبليس إلى الأرض، التي تعتبر بداية تأسيس الحضارة الإنسانية الأولى فيها، من تزاوج وتناسل وتهيئة لأسباب الحياة واحتياجاتها، مبرزًا صورة آدم -عليه السلام- بوصفه داعية للتوحيد والهداية وعبادة الله في الأرض، ومتحدثًا عن البناء الأخلاقي للحضارة الإنسانية الأولى وأصول الأخلاق والفضائل الإنسانية الأولى، بالإضافة إلى جملة من الموضوعات ذات الصلة، كعمارة الأرض والمنهج الإلهي والاستخلاف والأمانة وتكريم الإنسان والتكليف بالعبادة وقصة قابيل وهابيل وأخيرًا وفاة سيدنا آدم -عليه السلام- الذي عاش فترتين متباينتين، الأولى في الجنة والثانية في الأرض، ولا يوجد ما يشير إلى مدة كل منهما. وقد اختلف العلماء في مكان وفاة آدم ودفنه على عدة أقوال: في جبل سرنديب في الهند، أو في جبل أبي قبيس بمكة، أو في مسجد الخيف بمنى، أو في مغارة تقع ما بين بيت المقدس والخليل في فلسطين، وقيل إن نوحًا -عليه السلام- لما كان الطوفان حمله جثمانه هو وحواء في تابوت، ودفنهما في بيت المقدس، ولا يوجد دليل ثابت على أي من هذه الأقوال.
(يتبع.. ما قبل آدم والحرية وخلق الجان والأخلاق الأولى)
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق