الأحد، 9 أبريل 2023

هوامش على "هبة" الأقصى الأخيرة

 هوامش على "هبة" الأقصى الأخيرة

فراس أبو هلال 


لماذا كل ما نكتب عن "هبة القدس" هو مجرد هوامش؟ لأن ما يجري في القدس هو المتن. من جهة، فإن مقاومة المقدسيين والفلسطينيين عموما هي متننا كعرب ومسلمين للأحداث بكل روعته وعنفوانه، ومن جهة أخرى فإن جرائم الاحتلال هي المتن المقابل بكل بشاعته وعدوانه، أما ما يكتب من بعيد فهو مجرد هوامش زائدة!

(1)

تمثل الهبة الجديدة للمقدسيين مدعومين من كافة أبناء الشعب الفلسطيني تكثيفا لطبيعة الصراع العربي-الإسرائيلي من كل جوانبه، ومن الخطأ النظر لها فقط من زاوية "حرية العبادة" أو حرية الدين كما يظهر في بعض التغطيات الإعلامية والتعليقات الرسمية خصوصا في الغرب.

فالمسألة هنا لا تتعلق فقط بمصلين يريدون أداء الاعتكاف والصلاة في الشهر الأقدس للمسلمين في المكان الأقدس في فلسطين، بل هي معركة على السيادة على هذا المكان. هب أن الاحتلال لم يتدخل في أيام وساعات الاعتكاف؛ فهل يعني هذا أن المعركة انتهت؟ بالطبع لا، فالصراع ليس على "سماح" الاحتلال بالعبادة، بل مقاومته ليفقد "أحقيته" بالسماح أو عدمه. هذا المسجد هو أرض فلسطينية، ومكانته الدينية عند المسلمين تعطيه رمزية كبيرة بلا شك، ولكن هذه الرمزية تزداد وتتضاعف لأن الاحتلال يريد تأكيد "سيادته" عليه في كل منعطف، بينما يقاوم الفلسطينيون لإثبات العكس.

وإذا انتقلنا من رمزية المكان الدينية إلى الترميز السياسي، فإن الصراع على السيادة فيه ليست سوى "عينة" من الصراع الأكبر: على القدس أولا بكل أزقتها ومساجدها وكنائسها وساحاتها وأبوابها ثم على كل الأراضي المحتلة. يدرك الفلسطينيون أبعاد هذه المعركة على الوعي والسيادة، ويدرك الاحتلال هذا أيضا، وما ينبغي هو أن ينتقل هذا الوعي إلى كل العالم، عربيا أولا ثم إسلاميا ثم عالميا.

اقتصار النقاش على مسألة "حرية العبادة" يقزّم المعركة ويحولها لما يشبه "النزاع المدني" بين المصلين والشرطة

تبرز هنا -في معركة الوعي- أهمية الإعلام التقليدي والشعبي، وربما يكتسب الإعلام الشعبي "وسائل التواصل الاجتماعي" أهمية أكبر، لشرح حقيقة الصراع، والتأكيد الدائم على أنه بين احتلال فاشي وبين شعب يقاوم احتلاله للحصول على حريته وسيادته على أرضه، لأن اقتصار النقاش على مسألة "حرية العبادة" يقزّم المعركة ويحولها لما يشبه "النزاع المدني" بين المصلين والشرطة، بينما هو معركة سياسية تزداد حرارتها بفعل رمزيتها الدينية.

وإذا فهم الصراع على حقيقته، فلا يحتاج الفلسطيني هنا ليثبت للعالم أو ليواجه "الذباب الإلكتروني" العربي الرسمي أنه الحق الخالص في مواجهة الباطل الخالص. لا تحتاج أيها الفلسطيني أن تبرر لأحد مقاومتك لمحتليك، ولا تحتاج لتشرح لهم لماذا تصر على الاعتكاف في أوقات يرفضها الاحتلال، ولا تحتاج لتعتذر لأحد عن المظاهر "التفصيلية" التي يستخدمها خصومك لتشويه الصورة العامة الناصعة، فأنت في مسجدك ليس للصلاة فقط، بل للصمود في مواجهة الاحتلال الذي يريد انتزاع السيادة على مقدساتك.

(2)

لا يعيد قضية فلسطين للنقاش العالمي، ولا يوحد الفلسطينيين سوى ديمومة الصمود والاشتباك مع الاحتلال.

استطاعت المستعمرة الصهيونية وحلفاؤها الغربيون تحويل شكل الصراع منذ أوسلو حتى اليوم، ليظهر وكأنه نزاع بين كيانين أحيانا، أو بين دولة طبيعية وسكان محليين أحيانا أخرى. واستطاعت أيضا أن تقسم الشعب الفلسطيني لفئات تختلف أجنداتهم السياسية والمقاومة تبعا لظرفهم الجغرافي والسياسي. ولكن الاشتباك مع الاحتلال أثبت دائما، وخصوصا حينما تعلق الأمر بالقدس والمسجد الأقصى، أنه قادر على هزيمة مخطط تغيير طبيعة الصراع وتقسيم الفلسطينيين نضاليا.

وحدت هبة الأقصى وما تبعها من أحداث عام 2021 الشعب الفلسطيني كما لم توحده منذ الثورة الكبرى عام 1936، وخاض كل جزء منه نضاله حسب واقعه، وهو ما يحدث أيضا في هذه الهبة الأخيرة، وإن كان بصورة أقل. صحيح أن المقاومة لم تستطع أن تفرض "قواعد اشتباكها" تماما بربط القدس والضفة بغزة لأسباب تتعلق بعدم قدرة غزة على دفع ثمن كبير دائما، ولكن النضال الشعبي الفلسطيني الشامل في أيار 2021 مع الاحتلال ثبت قواعد الاشتباك بنفسه، وهذا ما يفسر الرد "المحسوب" بدقة من الاحتلال المأزوم على غزة وإيصاله رسائل عبر وسطاء بأنه لا يريد التدحرج نحو حرب شاملة.

(3)

عند كل اشتباك فلسطيني مع الاحتلال صار من الطبيعي ظهور تفسيرات "تآمرية" للأحداث، من قبيل أن هذا الحدث أو ذاك هو خدمة لإيران أو انسجاما مع احتياجاتها السياسية. هذه المرة تطور "التحليل التآمري للتاريخ" ليقول إن "وكلاء" إيران أججوا الصراع بهدف تخفيف أزمة "إسرائيل" الداخلية!

لن ندخل هنا في نقاش التفسير "المسرحي" للعلاقة بين إيران والاحتلال أو إيران والولايات المتحدة، وقد قدمنا له قراءة شاملة في مقال سابق، ولكن ما يهمنا هو الإساءة البالغة التي تمثلها هذه التحليلات للشعب الفلسطيني ونضاله وتاريخه الطويل من مقاومة الاحتلال.


لقد قاوم الفلسطينيون الاحتلال عندما كانوا شعبا يتلمس هويته في بدايات القرن العشرين، وقاومه عندما كانت إيران الشاه حليفا للاحتلال، وقاومه بعد الثورة الإسلامية في إيران، وسيظل يقاوم ما دام هناك احتلال، ولذلك فإن اتهام النضال الفلسطيني في كل مرة بالعمل لصالح إيران -وهذه المرة لصالح الاحتلال- هو اتهام مشين فوق أنه قائم على تحليلات ساقطة منطقيا.

(4)

قبيل اندلاع الهبة الأخيرة دار جدل حول الاعتكاف ودور الأوقاف التابعة للأردن في تحديد أوقات معينة له منعا للتوترات. نفى الأردن عبر مصادر رسمية ونفت الأوقاف أن تكون قد توافقت مع الاحتلال لتحديد أيام الاعتكاف، ولكن المطلوب بعد هذا النفي أن تعلن الأوقاف بصراحة أن الاحتلال هو الذي يمنع أو يسمح، وبالتالي فإن صراع المقدسيين في الحقيقة هو ليس مع الأوقاف بل مع الاحتلال الذي -بحكم قوته الغاشمة- هو من يقتحم المسجد لإخراج المعتكفين. لا ينتقص من حق الأردن بالوصاية على المقدسات في القدس أكثر من تحويل المعركة، لتكون بين الأوقاف والمقدسيين، فيما العدو الحقيقي هو ذلك الاحتلال الذي يمتلك القوة على انتهاك حرمة الأقصى.

وفي نفس السياق، فإن الأردن يمكن أن يقوي موقفه بنقل الصراع لمستواه العربي والإسلامي، بالإعلان صراحة أن الاحتلال يقوض دوره وأنه غير قادر على مواجهته وحيدا، وبالتالي فإن المواجهة يجب أن تكون بين الشعب الفلسطيني ومن ورائه الأردن والدول العربية والإسلامية جميعها، وبين الاحتلال. لا يستطيع الأردن أن يخوض هذه المعركة منفردا، ولذلك فإن شرح الواقع على حقيقته يمكن أن يفتح الباب لدور عربي وإسلامي أكبر يدعم الوصاية الأردنية، ولكن على أساس الصراع مع الاحتلال، واستعادة وضع الأقصى وغيره من المقدسات لما كان عليه قبل الاحتلال عام 1967.



اقرأ أيضا:
هل الصراع بين إيران وأمريكا مسرحية؟

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق