قراءة في كتاب الفاشوش في حكم قراقوش
مراجعة كتاب الفاشوش في حكم قراقوش
تحرير: عبد المنعم أديب
“إنني لما رأيت عقل بهاء الدين قرقوش محزمة فاشوش قد أتلف الأمة؛ فالله يمحو عنهم كل غمة. لا يقتدي بعالم ولا يعرف المظلوم من الظالم، وكم في قلبه شيء من الجنة والشكية عنده لمن سبق، ولا يهتدي لمن صدق، ولا قدر أحدٌ -من عظم منزلته- على أن يرد كلمته ويشتط اشتياط الشيطان، ويحكم حكمًا ما أنزل الله به من سلطان؛ فصنَّفت هذا الكتاب لصلاح الدين، عسى أن يريح الله منه المسلمين”.
هكذا افتتح الأسعد بن مماتي (606هـ /1029م) كتابه “الفاشوش في حكم قراقوش” تمهيدًا لسرد حكاياته. فما هو كتاب الفاشوش؟ وما هو موضوعه؟ ومن هو قراقوش؟ ومن هو ابن مماتي؟ أسئلة كثيرة تطرح، ولعل في العرض الآتي للكتاب إجابات عنها.
كتاب الفاشوش في حكم قراقوش وموضوعهقراقوش وابن مماتي
الأمير قراقوش
أهمية الكتاب
مثال من حكايات الكتاب
كتاب الفاشوش في حكم قراقوش وموضوعه
يعد كتاب الفاشوش من أهم إبداعات التراث الشعبي، من أمثال ألف ليلة وليلة، والسيرة الشعبية للظاهر بيبرس، وخيال الظل لابن دانيال، وغير ذلك كثير؛ إذ الفاشوش عمل فني بالغ الأهمية، وموقف سياسي عظيم الدلالة، ولد من رحم إبداعات التراث الشعبي في العصر الأيوبي، وتربى في حجر مصر المملوكية؛ فأضحى وثيقة تاريخية هامة. صحيح أن هذه الوثيقة لم تخرج من بلاط السلاطين ودواوين الدولة إلا أنها تعد وثيقة إثنوغرافية (بمعنى كونها وثيقة تصف حال المجتمع) على درجة عالية من الأهمية. فالكتاب ينتمى إلى أدب السخرية والفكاهة، ويمثل أسلوبًا فنيًا بارعًا في تصوير الغرابة والشذوذ؛ فهو عبارة عن حكايات عبَّرت عن نبض المجتمع المقهور، تحت وطأة السيف والسوط والقهر والتسلط وكل أنواع الظلم.
قراقوش وابن مماتي
ابن مماتي هو أحد الشخصيات البارزة، التي ظهرت في دولة بني أيوب، خصوصًا في عصر مُؤسِّسها صلاح الدين. وكانت له رئاسة ديوان المال وديوان الجيش؛ فعرف بإسهاماته الإدارية. ومع ذلك كان في نفس الوقت شاعرًا وأديبًا مشهورًا، صاحب قلم سيَّال. وقد شهد له غير واحد من كبار رجالات الدولة في الأدب بذلك، وله تصانيف ومؤلفات كثيرة، منها كتابه الفذ “قوانين الدواوين” الذي ألفه لضبط أمور ديوان المال في عصر صلاح، ثم أصبح هذا الكتاب مرجعًا هامًا لكل من يتصدَّر للكلام عن دولة صلاح الدين بعد ذلك. ومن مؤلفاته الأخرى كتاب تلقين اليقين في الفقه، وكتاب سر الشعر، وكتاب قرقرة الدجاج في ألفاظ ابن الحجاج.
عرف عن ابن مماتي أن له نوادر حسنة حادة، وأيضًا عرف عنه أن نقده لاذع ساخر لموظفي الدولة والمقربين من السلطة. ولا أدل على ذلك من كتابنا هذا. فهو أحد رجالات الدولة ولكنه كان أحد المثقفين الذين طوَّعوا وعيهم وثقافتهم لخدمة مجتمعهم؛ فهو أحد أبناء مصر الحقيقيين الذين كان لهم الباع في العلم والثقافة، فضلًا عن الشجاعة والجرأة مع اعتداد بالنفس ومرونة في الطبع.
ورغم كونه من طبقة رجال الدولة وموظفيها وأسرته الميسورة الحال؛ إلا أنه انحاز إلى الطبقات الشعبية في مجتمعه واقترب من العامة. والدليل على ذلك كتابه “الفاشوش في حُكم قراقوش”؛ إذ ألَّفه بلغة العامة، لم يكن عند ابن مماتي للرمز معنى أو قيمة مستقلة، ولكن هي طريقة لإكساب الحكايات معنى لا ينتهي وقيمة تعلو عن الشك والإنكار، كان الرمز عنده طريقة للرؤية وومضة تبصر وفهم.
الأمير قراقوش
ضنَّ المؤرخون على قراقوش بترجمة مستقلة؛ وإنما ألحقوه بترجمة سيِّده الذي عاش لخدمته “صلاح الدين الأيوبي”. فالأمير قراقوش هو وزير الحرب لدى السلطة الأيوبية، وذراع صلاح الدين الأيمن وخلفائه. وكلمة “قراقوش” اسم تركي بمعني النسر الأسود.
كان صاحب سطوة ونفوذ، وخلال عمله هذا قام بعدة أعمال بنائية إنشائية، منها قلعة صلاح الدين، وسور القاهرة، وإعادة بناء سور عكَّا. هذا فضلًا عن مشاركته في الحملات العسكرية ضد الصليبين. قيل عنه: كان فيه من الصرامة والجد والقدرة على العمل المتواصل، ما جعل المصادر تصفه بالهمة العالية والولع بالعمران. وبالرغم من إنجازته الكبيرة والهامة في شتى الميادين؛ إلا أن الجماعة الشعبية سخرت منه. ولعل السبب في ذلك ما كان في شخصيته من صفات أسهمت في إشاعة السخرية منه، من كيد وعناد وجد وجمود، وحزم وسوء معاملة. كل هذه الأمور وغيرها كانت سببًا في إشاعة السخرية منه.
أهمية الكتاب
تأتي أهمية الكتاب من كونه اتخذ الإسقاط التاريخي وسيلة لفضح الواقع وتعريته والسخرية منه؛ فقد استطاع الكتاب أن يسجل كل ما خطر للمصريين من عناصر نقد حول الأوضاع كافة بشكل حكائي ساخر. ولا يعني هذا أن ننظر إلى الكتاب على أنه كتاب سخرية وفكاهة أو تسلية، لا بل هو محصلة للإنسان الذي عاش عصرًا مضطربًا استطاع “ابن مماتي” أن يوظف تلك الحكايات التي تبدو في ظاهرها فكاهية؛ لإتخاذها تكأةً يوجه من خلالها سهام نقده إلى السلطة مبرزًا ما كان فيها من فساد.
وأراد أيضًا “ابن مماتي” أن يربت على كتف المجتمع المكلوم المغلوب على أمره، باعثًا فيه الابتسامة والسخرية علَّه ينسى عسف وجور هذه السلطة الغاشمة. أراد “ابن مماتي” أن يوضح أن أثر الجور في الشعب على المدى البعيد ينوء به، بل يُفقده رُوح احترام القانون في نفس قوم دأب سلاطنيهم وقضاتهم وولاتهم على العبث به.
أيضًا من الأهمية التى تخرج من الكتاب التأكيد على أن الحكايات والنوادر تكون في خدمة التاريخ؛ بوصفها أدلة وأسانيد ووثائق، تعين المؤرخ القادر على استنطاقها والنفاذ من خلالها؛ ما يوسع آفاق البحث التاريخي ويفتح المجال لإيجاد سبل جديدة للمعرفة التاريخية. هذه بعض الفوائد ذات الأهمية والتي يستطيع القارئ الخروج بها من قراءة الكتاب.
جدير بالذكر أن قراقوش وابن مماتي؛ كلٌّ منهما كان له فريق ومناصر لوجهة نظره -قديمًا وحديثًا-، منهم من دافع عن قراقوش ووصفه بالمظلوم، وبالذي ظلمه التاريخ وأنه قد حان الوقت لإثبات براءته، ومثل هذه الدفاعات، ووجَّهوا سهام النقد وتهمة المؤامرة والخيانة لابن مماتي؛ فقد طاردوا حكايته وكأنها شيطان لا يطيق قرآن المؤمنين، وأقاموا الأدلة على ذلك، وزعموا أنها أدلة دامغة تقضي على مزاعم ابن مماتي. وعلى الصعيد الآخر نجد من وقف في صف ابن مماتي ودحض أدلة الفريق الآخر.
كل هذا تجده في تلك الدراسة الماتعة (التي أفدت منها الكثير)، التي صدَّرَ بها د/ عمرو منير الطبعة التي أخرجها للنور، عن الهيئة العامة لقصور الثقافة، في جمهورية مصر العربية 2021م. وذيل مع الكتاب ما جمعه جلال الدين السيوطي (911هـ/1050م) زيادات من الحكايات. لا يفوتنا أن نعرج على شيء من سيرة المحقق هو أستاذ جامعي في تاريخ العصور الوسطى، متخصص في العلاقة بين التاريخ والفولكلور، حائز على عدة جوائز علمية وثقافية.
مثال من حكايات الكتاب
بقى أن نذكر شيئًا من هذه الحكايات. ولنذكر مثالًا واحدًا مما ذكره ابن مماتي. قال حكاية الجارية البيضاء: فأول حكمه أن امرأة حجازية لها جارية تركية قالت لقراقوش: إن هذه جاريتي قد أساءت الأدب علي. قال فنظر قراقوش إلى بياض الجارية التركية وسواد الحجازية. فقال للحجازية: ويلك خلق الله جارية تركية لجارية سوداء حجازية. ما أنا مطغوم ولا مدوخ يا غلمان ودوا هذه الجارية الحجرة.
قال فمكث شهرًا، وبعثت إليه الحجازية أني قد عتقتها لوجه الله. فقال: هذا الحال حتى تعتقك، فإنك جاريتها. وإن أرادت بيعك فتبيعك، أو عتقتك فتعتقك.
فقالت الحجازية للتركية: اعملي معي مثلما عملت معك.
فقالت: وما تريدين مني؟
فقالت الحجازية: أن تعتقيني.
فقالت التركية: إنني قد عتقت سيدتي الحجازية.
فقال قراقوش: جزاك الله خيرًا.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق