"بَس خلاص"!
أحمد عبد العزيز
العنوان ليس لي، وإنما للدكتور الحر، خفيف الظل، صاحب الأفكار المتجددة والجادة، والتعليقات الهادفة، هاني سليمان، طبيب الأمراض الجلدية، المدير الإقليمي السابق لشركة الأدوية "فايزر"، والمدرب، والمحاضر، والكاتب، والناشط على منصة فيسبوك.. إنها "لازمة" اعتاد الرجل أن يختم بها كل منشوراته في صورة "هاشتاق".. ولعله اقتبسه بدوره من المطرب الشعبي الراحل شعبان عبد الرحيم الشهير بـ "شعبولا" الذي كان ينهي كل أغانيه (إذا صحت تسميتها أغاني) بجملة "بس خلاص"، وكأنها كانت إشارة متفق عليها بينه وبين "الآلاتية" أو العازفين بأن "الأغنية" أو "الوصلة" قد انتهت، فيتوقفوا عن العزف!
وأحسب أن في ذلك إشارة بليغة من الدكتور سليمان إلى الحالة الغثائية التي نعيشها، والمناخ المسموم الذي يخنق كل فكرة جادة من شأنها أن تسهم في تغيير واقعنا البائس.. هكذا فهمت!
الدكتور سليمان كتب على صفحته في 27 آذار/ مارس الماضي منشورا بعنوان "الحقيقة المؤلمة"، أتبعه بمنشور آخر (في اليوم نفسه) تحت عنوان "في فرنسا والدول المتقدمة".. وكان هذا آخر ما كتبه الدكتور سليمان، إذ انتشرت (بعد فترة وجيزة) أخبار تفيد بإخفائه قسريا!
قطعا.. الدكتور سليمان يعرف (تمام المعرفة) أنه يعيش في شبه دولة، يحكمها شبه فرعون؛ شرطتها مسعورة، وقضاؤها مستأنس.. فلا دستور، ولا قانون، ولا حقوق، ولا حريات! ويدرك ويعي (تماما) عاقبة أن يعبر عن رأيه، في بلد تسيطر عليه سلطة فاشية، ما كتبت الدستور إلا لتخرقه، ولم تسن القوانين إلا لتدوسها بحذائها الغليظ! وما انقلبت على الرئيس المنتخب إلا لتنهب وتخرِّب.. ومع ذلك، قرر الرجل أن يكتب رأيه بكل وضوح وأريحية، غير عابئ بما ينتظره على يد هذه العصابة التي سلطها الله على "المحروسة" وشعبها؛ لحكمة لا يعلمها إلا هو سبحانه..
إن في إخفاء الدكتور سليمان قسريا أبلغ رد على "أبواق السامسونج" التي تدعو أو تستدرج "المعارضين" في الخارج؛ كي يعودوا إلى "حضن الوطن" ويعارضوا من الداخل!
طيب.. هذا الرجل مواطن مصري، ذو حيثية اجتماعية ومركز مرموق، لا ينتمي إلى أي فصيل سياسي، ولا يقود فصيلا معارضا، مؤمن بحقه ودوره في الحياة، فقرر أن يمارس حقه، وأن يؤدي دوره، لا أكثر ولا أقل.. فماذا كان جزاؤه حين عبَّر عن رأيه، بكل لباقة ولياقة؟
أبدا.. ولا حاجة.. أخفته السلطة الفاشية قسريا.. بس خلاص!
إنني أحسب ما سطره الدكتور سليمان، كلمة حق في وجه سلطان جائر، يجب أن يسجلها التاريخ ضمن تلك المواقف التي وقفها مجاهدو هذه الأمة من قبل، حين اختاروا أن يواجهوا الطغاة والمستبدين في عصورهم، وكان بإمكانهم ألا يفعلوا، إلا أنهم آثروا أن يكونوا رجالا بحق، لا أنعاما تُساق إلى الذبح في صمت!
إن من حق الدكتور هاني سليمان علينا أن نعيد نشر ما كتبه، فيبلغ من لم يبلغه، ويسمع به مَن لم يسمع:
الحقيقة المؤلمة!
"من يفكر، أو يعتقد، أو يتخيل، أو يتوهم أنه يمكن إزاحة نظام السيسي عن طريق انتخابات ديمقراطية شفافة، فهو حالم، أو واهم، أو نائم، أو في غيبوبة.
السيسي لن يقبل أبدا أبدا أبدا أن يصبح "رئيسا سابقا"، ولا يمكن أن يتصور نفسه واقفا في قفص الاتهام، أمام محكمة عسكرية، أو مدنية ليُحاكم على جرائمه، ولا يتخيل أن يصبح "حاكما سابقا" يبحث عن مهرب، أو مهجر، أو ملجأ يعيش فيه بعيدا عن مصر، خوفا من كشف جرائمه، وفضائحه، وفساده، وفشله، وخوفا من محاكمته على يد النظام الجديد، بطلب من الشعب الذي حكمه بالحديد والنار.
لا يمكن أن يتصور السيسي نفسه لاجئا يعيش في السعودية مثلا مع أسرته، كما فعل زين العابدين بن علي رئيس تونس المخلوع، أو يعيش في الإمارات كما فعل برويز مشرف رئيس باكستان المخلوع، فيصبح عرضة للمطاردة من سلطات بلده ومحاكمته بتهم: الفساد، والفشل، وسوء الحكم، وإغراق مصر في الديون، ونهب ثرواتها، وبيع أصولها، ومنع الحريات، وتكميم الأفواه، وانتهاك حقوق الإنسان، وارتكاب جرائم ضد الإنسانية.. إلخ.. إلخ.
السيسي الذي قال: ربنا خلقني طبيب أشوف الحالة وأوصف الدوا.. ربنا قال لي: هخللي [سأجعل] معاك البركة.. ففهمناها سليمان.. أنا قعدت 50 سنة أدرس يعني إيه دولة.. ما تسمعوش كلام حد غيري، اسمعوا كلامي أنا بس.. إلى آخره من الكلام الذي يدل على مغالاة كبيرة جدا في قيمة نفسه والتي تصل إلى حد الغرور، أو حتى إلى حد الخبل، واعتقاده أنه مُوحى إليه، أو مُكلف بمهمة ربانية لن يسمح أبدا أبدا أبدا لأي شخص أن يزيحه من مكانه، ويقصيه عن كرسيه، الذي يعتقد أنه منحة من الله عز وجل، كما قال هو نفسه!
السيسي المهووس بدخول موسوعة جينيس للأرقام القياسية بأكبر مسجد، وأطول برج، وأعرض كوبري، وأعلى سارية علم، وأثقل نجفة.. إلخ.. إلخ، يعتقد أنه سيدخل التاريخ بهذه "الإنجازات الوهمية"، وأنه لا بد أن يكمل مسيرته على أرض مصر؛ لتحقيق إنجازات أكبر، وأضخم، وأكثر خلودا في التاريخ، وبالتالي لن يسمح أبدا لأحد أن يمنعه من تحقيق تلك الإنجازات، والمعجزات، والكرامات التي أوحى الله له بها.
هذا الهوس بالإنجازات المزيفة يغذيه (في عقل السيسي وقلبه) كل الملتفين حوله؛ كبار قادة المؤسسة العسكرية القابضون على الحكم والسلطة والاقتصاد والثروة، والإعلاميون الداعمون له والمسوقون لشخصه، ولإنجازاته التي حققها للشعب المصري، وشيوخ السلطان الذين يقدمونه للشعب على أنه ولي من أولياء الله الصالحين، والنخبة المثقفة المزيفة التي تتبوأ الصدارة في مجالات الفكر والثقافة والفن.
ولأن هؤلاء جميعا مستفيدون من السيسي وحكمه ونظامه، فهم مستميتون في الدفاع عنه وحمايته، ولن يسمحوا أبدا بإزاحته عن الحكم، وإلا ضاعت كل مكاسبهم ومصالحهم وامتيازاتهم ومناصبهم وثرواتهم، خاصة إذا كان الوافد الجديد مدنيا ولا ينتمي للمؤسسة العسكرية.
في وجود كل تلك العوامل والظروف والملابسات والشخصيات، أتعجب كثيرا ممن يعتقدون أنه يمكن أن تُجرى في مصر انتخابات ديمقراطية حرة نزيهة وشفافة، يفوز فيها شخص مدني على السيسي، وينتزع منه حكم مصر.
أما القوى السياسية الوطنية، وأحزاب المعارضة الكرتونية، ورجال الدولة المدنية الذين يصرون على أنه يمكن لمدني منافسة السيسي، والوصول لحكم مصر، فهؤلاء إما طيبون جدا، أو سُذَّج جدا، أو على نياتهم جدا جدا جدا، ولا أقول متواطئون، أو موالسون، أو منتفعون.
فإذا سألني أحد: كيف سيرحل السيسي إذن؟!
سأجيب عليه: إنني أعتقد، وفي رأيي المتواضع جدا، أن السيسي لن يرحل إلا بواحدة من ثلاث: إما بانقلاب عسكري جديد قد يكون انقلابا صريحا أو غير صريح.. أو بإرادة من الله عز وجل وانتهاء العمر لأي سبب.. أو بانتفاضة شعبية ساحقة تهدد بخراب البلد، فتضطر شلة المنتفعين من السيسي للتخلي عنه.. وهذه بالذات لا أتمنى حدوثها أبدا.
أعتقد أن مواجهة الحقيقة المؤلمة أفضل كثيرا جدا من التعلق بأمل كاذب، أو بوهم خرافي، أو السير وراء أوهام، أو أكاذيب أو تضليل".
بس خلاص!
في فرنسا والدول المتقدمة
"الرئيس الفرنسي ماكرون أصدر قرارا برفع سن المعاش [التقاعد] من 62 سنة إلى 64 سنة، وذلك دون تمرير القرار على البرلمان؛ لأخذ موافقته عليه، وقال: إن هذا القرار سيوفر لخزينة الدولة 18 مليار يورو بحلول عام 2030.
اشتعلت المظاهرات العنيفة في أنحاء البلاد؛ احتجاجا على قرار ماكرون، وحدثت اشتباكات بين المتظاهرين وقوات الشرطة، وتم تخريب وتدمير المرافق العامة، فخرج ماكرون في لقاء تلفزيوني شاهده 10 مليون فرنسي؛ لمخاطبة الشارع وتهدئته، وليبرر قراره، فرحب بالاعتراض على قراره، وأعلن موافقته على التظاهرات الاحتجاجية السلمية، لكنه رفض العنف الذي صاحبها.
المهم.. في أثناء الحوار التلفزيوني، ارتطمت يد ماكرون بالطاولة التي كان يجلس إليها، فاصطدمت ساعته بالطاولة، وأحدثت صوتا عاليا مسموعا، فوضع ماكرون يديه تحت الطاولة، وخلع ساعته بهدوء، ووضعها بعيدا عن الكاميرا، ثم ظهرت يده بدون الساعة.
هنا، هاجت الدنيا على ماكرون، واتهمه رواد السوشيال ميديا الفرنسيون بمحاولة إخفاء ساعته؛ لأنها من ماركة شهيرة غالية جدا، وقدروها بـ85 ألف يورو، فيخرج قصر الإليزيه (القصر الرئاسي) ليعلن في بيان رسمي: إن ساعة ماكرون ساعة عادية، لكنها تحمل شعار رئاسة الجمهورية، وثمنها ألفا يورو فقط لا غير، وهي ساعة ماكرون الوحيدة والتي يرتديها دائما، وظهر بها في أكثر من مناسبة.
لم يسكت رواد السوشيال ميديا، فهاجموه مجددا وقالوا: إن الساعة ربما تكون ساعة عادية، لكنه يرتدي بذلة سعرها 5 آلاف يورو، وهو ضعف الحد الأدنى للأجور في فرنسا، ليخرج ترزي الرئاسة ويعلن: إن بذلة الرئيس بذلة عادية، ولم تُفصل خصيصا له، لكنه اشتراها جاهزة بسعر 450 يورو فقط، وضُبطت على مقاساته.
طيب.. هناك عدة ملاحظات و/ أو تساؤلات:
في بلدنا الطيب، يصدر الرئيس أي قرار دون عرضه على البرلمان، أو على أي جهة أو مؤسسة، فهذه هي القاعدة العامة في مصر المحروسة، لكن هل يستطيع الشعب أن يخرج في مظاهرات اعتراضا على هذا القرار؟
وإذا حدثت تظاهرات احتجاجية فعلا، فماذا سيكون رد فعل الدولة والشرطة والأمن والجهات السيادية العليا؟
وهل تستطيع مؤسسة الرئاسة أن تخبرنا بسعر ساعات يد الرئيس، أو بذلاته، أو أحذيته التي كثيرا ما تساءل المصريون عن أنواعها، وأشكالها، وموديلاتها، وأسعارها؟
وهل تستطيع أي مؤسسة أو جهة رسمية أن تخبرنا عن أسعار ملابس، وأزياء، وفساتين، وحقائب يد السيدة حرم الرئيس، أو عن أسعار المجوهرات والحُلي التي ترتديها، في المناسبات التي تظهر فيها؟
وهل تستطيع أي جهة رسمية أن تخبرنا عن نوع وسعر العقد الذي كانت ترتديه ابنة الرئيس، في حفل زفاف بنت ملك الأردن، والذي أثار دهشة، وتعجب، وتساؤل الكثيرين من المصريين؟
وأخيرا.. هل يمكن أن تخبرنا أي جهة رسمية بمصروفات العائلة الحاكمة.. أقصد عائلة الرئيس، ومقارنتها بمصروفات أي عائلة مصرية من الطبقة المتوسطة العادية؟
ملحوظة: الرئيس قال بنفسه: إنه يحصل على الحد الأقصى للمرتبات في مصر، وهو 42 ألف جنيها شهريا، وأعلن تنازله عن نصف مرتبه لصندوق "تحيا مصر" ما دام في الرئاسة.
بالمرة.. الشعب الفرنسي يعرف أين يسكن الرئيس الفرنسي (قصر الإليزيه بباريس)، والشعب البريطاني يعرف أين يسكن رئيس الوزراء البريطاني (10 شارع دواننج بلندن)، والشعب الأمريكي يعرف أين يسكن الرئيس الأمريكي (البيت الأبيض بواشنطن)، فهل يمكن للشعب المصري أن يعرف أين يسكن الرئيس المصري؟
طبعا سيُقال لي: "جرى إيه يا هاني، إحنا عمرنا سألنا الأسئلة دي؟!".
هذا يوضح الفرق بيننا وبين الدول المتقدمة، هم يسألون ويجدون من يرد عليهم ويوضح لهم، ونحن (إذا حدث وسألنا) لا نجد ردا، ولا إجابة، ولا اهتماما، بل غالبا ما نجد استنكارا، وتعنيفا، وربما عقابا".
وكان "العقاب" بطبيعة الحال، وأول العقاب الخطف، والإخفاء القسري؛ لأنها "المهروسة" أو "المدهوسة" أو "المخروسة" التي يُضطهد فيها الشرفاء، ويسود فيها اللصوص..
بس مش خلاص!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق