الاثنين، 10 أبريل 2023

أرواح مشرقة .. محمد حميد الله

 أرواح مشرقة .. محمد حميد الله


الدكتور محمد حميد الله 

عاش الدكتور محمد حميد الله عمرا مديدا بنفس أبية وعلم غزير وقلب واجف متبتل، ترك الدنيا وراء ظهره، وانكب على العلم والتعليم وخدمة الإسلام، فكان مثالا للعالم الموسوعي المتبحر الذي لا يجد لفضوله المعرفي نهاية، والعابد الزاهد الذي لا تساوي الدنيا عنده نقيرا.

ولد محمد  حميد الله عام 1908 في حيدر آباد بجنوب الهند، وينتسب إلى أسرة ترجع جذورها إلى قبيلة قريش، وقد هاجرت أسرته من الحجاز إلى البصرة خوفا من بطش الحجاج بن يوسف، ثم استقر المقام بسلالتها في الهند خلال القرن الثامن الهجري، وتحدر من هذه الدوحة النبيلة قضاة ورجال دولة، وعلماء أعلام ذاع صيتهم في الهند على مدى قرون من الحكم الإسلامي لها، وكان من آخرهم الشيخ حبيب الله أخو الدكتور محمد حميد الله الأكبر، وهو مترجم كتاب "أنساب الأشراف" للبلاذري إلى اللغة الأوردية، والشيخة أمة العزيز أخته الكبرى ومترجمة "شرح النووي على صحيح مسلم" إلى الأوردية.

من إسطنبول استدعاه المستشرق الألماني فريتز كرنكو، لاستكمال دراسته العليا في جامعة بون، فحصل منها على شهادة دكتوراه عن موضوع مبدأ الحياد في القانون الدولي الإسلامي

نهم للعلم لا ينقضي

لم يكن نهم محمد حميد الله للمعرفة يعرف حدودا، فقد حصل على شهادتي ليسانس وشهادتي ماجستير وشهادتي دكتوراه، وتعلم حوالي 20 لغة، منها العربية والأوردية والفارسية والتركية واللاتينية والفرنسية والإنجليزية والألمانية والإيطالية والروسية والبولونية والدانماركية والسويدية والفنلندية، وكان من آخر ما تعلم من اللغات اللغة التايلندية التي درسها بعدما تجاوز عمره الثمانين.

وبعد حصوله على كل هذه الشهادات العلمية سافر إلى موسكو لدراسة اللغة الروسية، وسعى إلى الحصول على شهادة الدكتوراه من جامعتها لولا أن ظروف الحرب العالمية الثانية حرمته من ذلك، فكرّ إلى المدينة المنورة ولزم شيخ قرائها حسن بن إبراهيم الشاعر حتى حصل منه على إجازة في القرآن الكريم كانت أثمن شهاداته وأحبها إلى قلبه.

تلقى محمد حميد الله تعليمه الإسلامي الأول باللغة الأوردية في دار العلوم الشرقية، وفيها ألم باللغات العربية والفارسية والإنجليزية، ثم التحق عام 1919 بـ"المدرسة النظامية" إحدى أعرق المؤسسات العلمية الإسلامية في الهند، وحصل منها على ليسانس عام 1923.

بعد ذلك بعام التحق بـ"الجامعة العثمانية" التي أسسها الأمير عثمان علي خان في حيدر آباد عام 1918، وحصل منها على شهادة ليسانس أخرى عام 1928 وهو في العشرين من العمر، وحصل من الجامعة نفسها على شهادتي الماجستير: الأولى في الدراسات الإسلامية، والأخرى في القانون الدولي.

وفي عام 1932 ابتعثت الجامعة العثمانية طالبها اللامع ليطلع على المخطوطات الإسلامية في تركيا ومصر وسوريا والسعودية.

ومن إسطنبول استدعاه المستشرق الألماني فريتز كرنكو، لاستكمال دراسته العليا في جامعة بون، فحصل منها على شهادة دكتوراه عن موضوع "مبدأ الحياد في القانون الدولي الإسلامي"، ودرّس فيها اللغتين العربية والأوردية لعامين.

وفي العام 1934 التحق بجامعة السوربون الفرنسية، فحصل منها على شهادته الثانية للدكتوراه عن رسالته المعنونة "الدبلوماسية الإسلامية في العصر النبوي والخلافة الراشدة"، وهي التي أصبحت في ما بعد كتابه الأشهر باللغة العربية "مجموعة الوثائق السياسية للعصر النبوي والخلافة الراشدة".

وعاد محمد حميد الله إلى حيدر آباد عام 1935 حاملا معه علما واسعا وخبرة بالعالم وتمرسا بالحياة على حداثة سنه يومذاك، فعمل محاضرا في قسم الدراسات الإسلامية بالجامعة العثمانية في حيدر آباد وعميدا لكلية القانون فيها إلى حدود العام 1948.

لم يترك حميد الله فرنسا إلا بعد أن أعياه رهق السنين، واستنزف عمره البحث العلمي الدائب والعمل الدائم لخدمة الإسلام، فقد ألحت عليه حفيدة أخيه السيدة المفضالة سديدة عطاء الله المقيمة في الولايات المتحدة بمصاحبتها إلى هناك حرصا على صحته المنهكة ورحمة بضعفه وكبره

عزة نفس وإباء

كان محمد حميد الله من أشد المدافعين عن استقلال إمارة حيدر آباد الإسلامية عن دولة الهند، وهي إمارة لعبت دورا تاريخيا مجيدا في تاريخ المسلمين، وكانت مركزا مزدهرا من مراكز الحضارة الإسلامية في القارة الهندية، فحري بها أن تبقى منارة إسلامية، فسافر إلى الأمم المتحدة عام 1948 ضمن وفد دبلوماسي يسعى إلى الاعتراف باستقلال الإمارة بعد استقلال الهند عن التاج البريطاني، ورفض الإمارة الانضمام إليها، وحينما اجتاحت القوات الهندية الإمارة وفشل الوفد في الحصول على الاعتراف باستقلالها قرر محمد حميد الله بإباء ألا تطأ قدمه أرض الهند بعدها، وهو قرار التزم به طول عمره المديد رغم تجواله في أرجاء الأرض.

عاش العلامة حميد الله في فرنسا مدة مديدة ناهزت نصف القرن (1948-1996) احتفظ خلالها بجنسيته الحيدر آبادية، ورفض عرضا من الحكومة الفرنسية ومن حكومات دول إسلامية عدة بمنحه الجنسية، عزة نفس وإباء ووفاء لموطنه المغدور حيدر آباد، واكتفى بوثيقة إقامة في فرنسا حملها معه أكثر من نصف قرن.

ولم يترك حميد الله فرنسا إلا بعد أن أعياه رهق السنين، واستنزف عمره البحث العلمي الدائب والعمل الدائم لخدمة الإسلام، فقد ألحت عليه حفيدة أخيه السيدة المفضالة سديدة عطاء الله المقيمة في الولايات المتحدة بمصاحبتها إلى هناك حرصا على صحته المنهكة ورحمة بضعفه وكبره، فقبل توسلاتها بعد لأي عام 1996 وأقام معها سنوات عمره الأخيرة حتى رحل بنفس مطمئنة عن هذه الدنيا في مدينة جاكسونفيل بولاية فلوريدا الأميركية عام 2002، مخلفا وراءه ذكرا عطرا وأثرا لا يمحي.

وقد ذكرت ابنة أخيه البارة سديدة عطاء الله في عدد خاص من مجلة "إمباكت إنترناشونال" (Impact International) مخصص لرثاء محمد حميد الله أنه كان يمازحها شفقة بها فيقول "سأفاوض ملك الموت بكل ما أستطيع من حجة، لكي لا يقبض روحي بحضورك"، وقد تحققت أمنيته، فتوفاه الله في نومه ضحى وهي غائبة عن البيت.

كان شديد الزهد والاحتساب، حتى أنه عندما عرض عليه الترشح لجائزة الملك فيصل رفض بشدة، وقال: (أنا لم أكتب ما كتبت إلا من أجل الله عز وجل، فلا تفسدوا علي ديني)

على درب الزاهدين

كان محمد حميد الله عابدا زاهدا متواضعا برا موطأ الأكناف، حتى أنه كان يخرج مع الشباب المسلمين في المخيمات الثقافية بفرنسا -وهو أستاذ في جامعة السوربون- فيغسل آنية الطعام بيده، ويجلس معهم على الأرض كواحد منهم رغم مكانته العظيمة في العلم والشهرة.

وحينما دخل "دار المصنفين" -وهي إحدى أشهر المؤسسات العلمية بالقارة الهندية- دخلها حافي القدمين، وعلل ذلك بأنه يكره أن يدخل منتعلا إلى دار ألف فيها كتاب في السيرة النبوية، يقصد كتاب "سيرة النبي صلى الله عليه وسلم" للعلامة سليمان الندوي في 7 مجلدات.

وكان شديد الزهد والاحتساب، حتى أنه عندما عرض عليه الترشح لجائزة الملك فيصل رفض بشدة، وقال "أنا لم أكتب ما كتبت إلا من أجل الله عز وجل، فلا تفسدوا علي ديني".

في خدمة القرآن الكريم أسهم بترجمته البديعة للكتاب العزيز إلى اللغة الفرنسية، وقدم لها بمقدمة ضافية في علوم القرآن وتاريخه، ولم تكن توجد ترجمة ذات قيمة للقرآن الكريم إلى هذه اللغة المهمة إلا ما كان من أعمال استشراقية شابها التحيز وضعف التذوق للغة القرآن

تبتل في محراب العلم

يعتبر الدكتور محمد حميد الله من العلماء المكثرين من التأليف، كيف لا وقد أوقف حياته الطويلة العريضة على البحث العلمي والكتابة حتى أنه عاش عازبا طوال عمره، فكان حريا بالشيخ الحافظ عبد الفتاح أبي غدة أن يترجم له في كتابه الفريد في بابه "العلماء العزاب الذين آثروا العلم على الزواج".

وقد ألف حميد الله وحقق عشرات المجلدات، وكتب حوالي ألف مقال، واشترك في كتابة وتحرير عدد من الموسوعات، منها "دائرة المعارف الإسلامية" باللغة الأوردية، و"الأطلس الكبير للأديان" باللغة الفرنسية.

جمع حميد الله بين العمق والامتداد في ما كتب، فقد أعانته معرفته الموسوعية على الكتابة في علوم إسلامية شتى، ومكنه دأبه وجده العلمي من تقديم أعمال علمية تأسيسية في بابها:

  • ففي خدمة القرآن الكريم أسهم بترجمته البديعة للكتاب العزيز إلى اللغة الفرنسية، وقدم لها بمقدمة ضافية في علوم القرآن وتاريخه، ولم تكن توجد ترجمة ذات قيمة للقرآن الكريم إلى هذه اللغة المهمة إلا ما كان من أعمال استشراقية شابها التحيز وضعف التذوق للغة القرآن، وقد اشتهرت ترجمة حميد الله وانتشرت بين المسلمين الناطقين بالفرنسية في فرنسا وكندا وغرب أفريقيا، ثم اعتمدها مجمع فهد لطباعة المصحف الشريف وطبعها بأعداد وفيرة، كما تتبع حميد الله في كتابه "القرآن بكل لسان" تاريخ ترجمة القرآن الكريم، وقدم جردا لترجمات الكتاب الكريم إلى حوالي 150 لغة.
  • وفي علوم الحديث الشريف كشف حميد الله النقاب عن أقدم نص مسند من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو صحيفة التابعي همام بن منبه الصنعاني (توفي 101 هـ)، التي رواها عن الصحابي أبي هريرة رضي الله عنه، فبرهن حميد الله بذلك -بخلاف ما هو شائع من الرأي- على أن تدوين الحديث النبوي بدأ في حياة الصحابة رضي الله عنهم، وهو ما يزيد الثقة في تاريخ السنة وإسنادها، كما ألف كتابا عن ترجمات المستشرقين لصحيح البخاري تتبع فيه الخلل في تلك الترجمات، وصححها بعقل منصف وقلب مؤمن.

في مجال تحقيق كتب التراث العربي حقق حميد الله عددا كبيرا من النصوص التراثية القيمة، منها "السير الكبير" لمحمد الشيباني، و"كتاب الردة" للواقدي

  • وفي السيرة النبوية حقق محمد حميد الله سيرة ابن إسحاق (توفي 151 هـ)، وقد أعاد هذا النص العتيق إلى خضم الحياة العلمية الإسلامية بعد أن أهمله الناس اعتمادا على سيرة ابن هشام (توفي 213 هـ) المتأخرة عنها، كما ألف كتابا من أمتع وأجمع ما كتب في السيرة النبوية وأحسنه حبكة وترتيبا، وهو كتابه "رسول الإسلام.. حياته وآثاره" (Le Prophète de l’Islam: Sa vie, son oeuvre) في مجلدين، ولم يترجم هذا الكتاب إلى اللغة العربية في حدود علمي حتى الآن، ومن إسهاماته في السيرة النبوية أيضا كتاب "نظام التربية والتعليم في عصر النبي صلى الله عليه وسلم" وكتاب "ميادين الحرب في العصر النبوي".
  • وفي مجال الفقه السياسي ألف حميد الله عدة كتب، أهمها ثلاثة، هي كتاب "مجموعة الوثائق السياسية للعهد النبوي والخلافة الراشدة"، وهو مصدر قيم وكنز ثمين من الوثائق الأصلية التي لا يستغني عنه أي باحث جاد في الفقه السياسي الإسلامي والتأصيل للعلاقات السياسية بين المسلمين وغير المسلمين، ثم كتاب "أول دستور مكتوب في العالم" (The First Written-Constitution in the World)، وهو تحقيق لوثيقة دستور المدينة في العصر النبوي وترجمة لها إلى اللغة الإنجليزية، مع مقدمة ضافية بيّن فيها المؤلف أسبقية الإسلام إلى فكرة العقد الاجتماعي الذي يؤسس لبناء السلطة وأدائها على أساس التعاقد والتراضي بين الحاكم والمحكوم قبل عصر جون هوبز وجان جاك روسو بقرون متطاولة، ثم كان عمله الثالث المتميز في الفقه السياسي وهو دراسته المعنونة "هل للقانون الروماني تأثير على الفقه الإسلامي؟"، وفيها بيّن أصالة الفقه الإسلامي ورد ردا مفحما على المستشرقين الذي زعموا استمداده من القانون الروماني.
  • وفي مجال تحقيق كتب التراث العربي حقق حميد الله عددا كبيرا من النصوص التراثية القيمة، منها "السير الكبير" لمحمد الشيباني، و"كتاب الردة" للواقدي، و"أنساب الأشراف" للبلاذري، و"كتاب الأنواء" لابن قتيبة، و"كتاب الذخائر والتحف" للغساني، و"كتاب السرد والفرد" للقزويني، و"كتاب النبات" للدينوري، وغيرها كثير.

رحم الله محمد حميد الله.. راهب العلم المتبتل.


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق