هل تصلح بعد هذا الخراب؟
الجواب:
سؤال يتبادر لأذهان الكثيرين، هل ستصلح غزة بعد كل هذا الدمار والطغيان الذي ارتسم على أرضها بحقد يهود والغرب؟
وبعد كمّ الخذلان الذي زاد المحتل تجبرا؟!
أقول نعم تصلح ويتغير الحال ويتبدل، لأن سنة الله تعالى في الظالمين الزوال، ولكن لن يكون الأمر بتلك السرعة والسهولة وفي الواقع ليس مهما أن تصلح لترتفع المباني وتزدهر المدن بينما يحكمها الاحتلال ويحاصرها ويمنعها عوامل الازدهار، إنما الأهم هو التخلص من خراب العقول والغايات ليس على مستوى غزة بل على مستوى العالم الإسلامي حتى نتمكن من اجتثاث الاحتلال والنعيم بالعمران وبنيان الأرض في غزة وفي كل مكان.
والنظر لخريطة غزة وما تعرضت له مساحة صغيرة نسبيا من دمار هائل لم يتمكن إلى اللحظة – رغم التبجح بالتقدم العسكري والتقني والاستخباراتي – من تحرير أسرى الاحتلال يعطينا الأمل الكبير بل الدليل الواقعي في أن القضاء على هذا الكيان المسخ ممكن جدا بإذن الله تعالى.
فهم كبيت العنكبوت، ولولا الدعم الدولي المستمر لبلغت التكبيرات ساحات الأقصى.
ولكن أقول يجب أن يحدث الخراب، لأنه مهم جدا في حركة انبعاث المسلمين، وتربيتهم على محبة الجهاد والقناعة به حلا لا بد منه. بعد عقود من القعود والتعايش والعيش تحت وطأة الحكم الجبري بلا هوية ولا شريعة الله المستقلة والرائدة. بدل تشتيت العقول والجموع بين مشاريع متفرقة مقلدة للغرب وبعيدة عن غاية الإسلام العظيم.
فهذه الابتلاءات والحروب والنوازل حاضرة دوما في المشهد في زاوية أو أخرى في العالم الإسلامي لتذكرنا أن المسلمين لا ينفع لهم العيش تحت هيمنة أو احتلال ولا يمكنهم الاستمرار بانهزامية أذلة!
إنها تأتي لتوقظ الضمائر وتعيد الناس للمربع الأول، أنتم لم تخلقوا للعبث والتبعية المهينة بل خلقتم لتكونوا عبادا لله عز وجل دعاة أحرارا لدينه العظيم تحكمون بين الناس بالعدل، حين تحكمون بشريعة ربكم في مقام ريادة وسيادة في العالم وليس مجرد تحرر في مساحة محدودة في الأرض، وتلك هي السبيل للتخلص من وطأة الأعداء. لأن السيادة تتطلب قوى وانتشار نفوذ، يحققه المسلمون فقط إن رجعوا لدينهم بلا أدنى تردد أو تطفيف أو تنطع!
لا بد من خراب كي يتوقف الناس عن التعلق المزمن بالدنيا وزخرفها الزائل ويتعظوا مما يجري لإخوانهم ويتعلموا أن الميراث الحقيقي الذي يستحق كل البذل هو العمل الصالح وخاتمة الشرف. وكل ذلك يحققه الأخذ بالأسباب والإعداد والجمع.
لا بد من خراب ليرتقي الشهداء ويشتد عود الفتيان وتكبر طموحات الصغار، وتستبين القلوب المتدبرة السبيل.
لا بد من خراب كي يخرج جيل شرس لا يقبل الدنية في دينه ولا يهاب الموت لم يعد يرى حلولا في تبعية غربية ولا سلمية إنما في الاعتزاز بالهوية الإسلامية!
لا بد من خراب كي نستذكر حديث التداعي والجهاد والفتح والوعد الحق وينبعث اليقين يمهد لدين الله تعالى حكم الأرض!
لا بد من خراب لنبدأ البناء من جديد بهمم أكثر نضوجا ووعيا بواقعها واستفادة واعتبارا من ماضيها، أكثر انفكاكا عن الدنيا ودنو المطالب.
لنستدرك ما فات ونصحح الأخطاء ونجتمع بدون حدود تفرقنا.
حتما لن يستجيب الجميع لما يعقب الخراب في واقعنا، لكن استجابة النصاب الكافي لتحقيق التغيير موجب للفتح!
نحن نعيش تداول الأيام،وهي تأتي لتذكرنا بحقيقة وجودنا وضرورة التمسك بديننا، وكل مكان في العالم الإسلامي مرتبط بمستقبل الآخر وواقعه، رغم محاولات التفرقة والتفكك بدعوات الوطنية التي أخرتنا كثيرا، والعصبية التي قطعت أوصالنا شديدا. تتصدر حقيقة الأمة الواحدة لتدفع التفرقة وتستمر بقدر تمسكنا بالقرآن والسنة.
إن المتأمل في مشهد العالم الإسلامي يرى درسا عظيما قد يخفى على الناس، فكل مسلم وكل جماعة وكل محاولة بغض النظر عن تفاصيل الاختلاف بينها للتحرر من الهيمنة والاحتلال كانت دامية، وكان لها الثمن الباهظ ولكنه لا يذهب سدى فكل الجهود في هذه المراحل التي قطعت بغض النظر عن الخسائر التي لا مفر منها، ستتراكم وتتلاحم لتصنع مستقبل التمكين بإذن الله تعالى .. إن أحسنا الحفاظ على مكاسبها.
ولو رصدنا نتائج كل ما مضى لأبصرنا حقيقة التقدم الذي أحرزه المسلمون ويخفيه الإعلام وتغيبه مراكز الدراسات وتشغل الناس عنه قنوات الإعلام، بل هناك حقا صعود إسلامي يتهيأ وحتما غدا لن يكون مثل أمس، وإن تأخر إدراك الناس لذلك.
إن خراب غزة وعلاج واقعها لا يكون بدون علاج الجسد، جسد الأمة المكلوم، فغزة عضو، وعلاج عضو في حين أن الجسد كله يئن، محاولة فاشلة!
ولذلك على مشاريع التحرر اليوم أن تتعلم من خراب غزة، أن لا بد من وحدة وشمولية ومعالجة متكاملة لقطع أيدي التحالف الصهيوصليبي ومنعه من العبث بديار المسلمين والاستفراد بها. ولن تكون في حال الأمة الإسلامية وحدة تحت إملاءات نظام دولي محارب ولا وطنية ولا قومية تعاند، إنما تكون بالإسلام منهجا ومرجعية، وبالاجتماع على القرآن والسنة.
غير ذلك فمزيد تفكك وتفرق وخراب! كما نرى في كل مرة!
ولعل ما يجب أن نستبشر به ونحمد الله عليه أن هذه الأمة لا تموت مهما نزفت، فحتى لو قعد أغلب المسلمين تبقى هناك دائما ثلة مثابرة ظاهرة معتزة بدينها ترفض الانصياع والخنوع وتجاهد وتبذل النفس والنفيس للتحرر من قبضة الاحتلال والهيمنة بالتوكل على الله تعالى، وهذه الثلة حين تنتشر في الأرض فنحن نرى أركان مشروع تحرري واعد.
وإن كان الخراب لا مفر منه ما دام هناك ظلم وطغيان للكافر إلا أن العمران قادم وواعد حتما ما دام هناك دفع وجهاد
نعم إنه لمحزن أن يتشرد المسلمون وتهدم ديارهم وتقصف مساجدهم ومدارسهم ومستشفياتهم .. ولكن حتى لو لم يحدث ذلك كانت حياتهم مرهونة برضا هذا المحتل الذي يحاصرهم ويخنقهم ويهينهم والتدافع يوجب الدفع وإضعاف العدو وإعداد الأجيال للاستقلالية والتمكين!
فعلى أهل غزة أن يحتسبوا كل ما كان والله تعالى يرفع مراتبكم ويطهركم ويجبركم الجبر الأوفى بقدر إخلاصكم واحتسابكم.
وأما بقية المسلمين فيجب أن نستفيد من قصة الخراب هذه لنعيد ترتيب حياتنا كما يحب الله ويرضى، لنعيد التفكير في موقعنا في مستقبل الأمة. لنتخلص من مرحلة خراب الهمم والغايات!
فلا نبقى متفرجين في مقاعد النحيب على مصاب المسلمين كما يحدث كل مرة. بل نستعد لما يليق بأمة مسلمة.
الحمد لله أرى في أعين صغار غزة أملا يرتسم! وقوة وشجاعة رغم الرجفة من البرد والخوف والفجيعة!
ذلك أن بناء الأجيال المنتصرة يصنعه البرد والخوف والفجيعة، هذه حقائق يلخصها التاريخ في كل دورة انبعاث.
وإن طالت الاستجابة وأبى أكثر الناس إلا كفورا ونفورا وسوء تأدب مع آيات الله جل جلاله، فستطول مرحلة الامتحان والتمحيص وستحل سنة الاستبدال! وتلك هي القاصمة.
لذلك أشدد في هذه المرحلة:
- على ضرورة التواد والتراحم بين المسلمين وجبر الخواطر والكسور وتضميد القلوب النازفة. ففي ذلك الأثر الممتد للإصلاح لا يخفى وخفض للجناح واجب وعامل من عوامل النصر.
- على العناية بشدة بالتربية الإيمانية والإسلامية القويمة للأجيال وتصحيح الأداء الشخصي بالاستقامة، فذلك هو الأمل الأرجى وإن لم نشهد الفتوحات فهو الإعذار والإصلاح والتمهيد لحكم الإسلام.
- على الاستفادة من الدروس التي نعيشها بفقه وبصيرة وليس بوقاحة وشماتة، بل بقلب وجل يرجو رحمة الله تعالى، ونحاول أن نصنع من الأخطاء أسباب إصلاح بتربية الناس على الحق وجمعهم على منهاج النبوة بحكمة.
- على إعادة فقه الجهاد في المقدمة، وصناعة الهمم والأمل، والخروج من مرحلة الاستضعاف لمرحلة التخطيط للسيادة فقطع العالم تتحرك وتتدافع ولا بد أن نستفيد من كل انفراجة، ومن أهمل الإعداد حُرم الغنيمة.
- على حقن الجدية في العقول والسواعد، لننتقل من مرحلة الاتكالية والتسويف إلى صناعة القرار والتأثير.
- على بناء دولة إسلامية موازية للنظام العالمي وإن لم يُر لها ملامح البناء في الأرض عيانا، لكنها حاضرة بتعظيم التوحيد والسنة ومرجعية الشريعة وتربية طموحة للتمكين لدين الله تعالى والاستفادة من كل معركة وميدان لإعلاء كلمة الله عز وجل حتى يأذن الله تعالى ببروز العمران.
هذا غيض من فيض وإن كان هناك بقية كلمة فلتخرب وليهدموا كل مدننا ولكن لا يهدموا ديننا وعقيدتنا، فبها نرجع ونعيد البناء الأفضل والأجمل، وسنبني بدل المسجد عشرا وبدل المدرسة والمشفى والمنازل وكل ما هدم عشرات!
فبالإسلام نقيم دولا وحضارات وفتوحات مهيبة! وبدونه نحن الأسرى والأفشل!
نعم سيمكننا تعليم الأبناء ومعالجة المرضى والسكن وإقام الصلاة في مباني متواضعة وحتى تحت الخيم، بعزيمة لا تنهزم لكن يجب أن يكون ذلك مهر الحرية والتمكين والانبعاث الأرجى!
فطوبى لمن أنفق من قبل الفتح!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق