السبت، 10 أغسطس 2024

متى تطير “ملكة السماء” إلى إسرائيل

 

متى تطير “ملكة السماء” إلى إسرائيل




شيرين عرفة
كاتبة صحفية وباحثة سياسية


في الرابع من نوفمبر/ تشرين الثاني 2013م، أصدر الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين بيانا جاء فيه:

بعد الحمد لله والصلاة على رسوله

فإن الحكومة البنغالية، ومنذ توليها زمام الأمور في البنغال، تشن حرباً على الإسلام وأهله، من اضطهاد ممنهج للعلماء والدعاة والمصلحين، ومحاكمتهم محاكمة صورية في محاكم تفتقد أبسط مقومات العدل؛ لتُصدِر عليهم أحكاماً مُعَدّة سلفاً بالإعدام أو السجن المؤبد، لا لذنبٍ اقترفوه، وإنما لتصفية حسابات سياسية، وانتقاماً منهم لوقوفهم قبل أربعين عاما ضد تفكيك ذلك الجزء من بلاد المسلمين (انفصال بنغلادش عن باكستان).

وإننا في رابطة علماء المسلمين لنستنكر ما تقوم به السلطات البنغالية من قتل وسجن للعلماء والدعاة في ثاني أكبر بلاد الإسلام، وندعوها إلى الكف عن التنكيل بهم، ونذكّرها بعواقب حرب الله ورسوله، وبأنه من يغالبِ اللهَ يُغلَب. كما ندعو الدول الإسلامية إلى الضغط عليها، ومنعها مما تقوم به، وندعو إخواننا في بنغلاديش إلى الصبر والثبات، ونبشرهم بأن النصر مع الصبر، وعاقبة الابتلاء التمكين..

كان هذا أبرز ما جاء في البيان، الذي طالبوا فيه الدول الإسلامية بالضغط على الحكومة القمعية برئاسة الشيخة “حسينة واجد” في بنغلاديش، لكنه لم يجد سوى ابتلاءات ومحنة كبرى تعيشها الأمة، بدءا من الثورات التي تم وأدها (بفعل إجرام الحكام واستعانتهم بقوى خارجية ضد شعوبهم) لتتحول إلى حروب طاحنة، تُدمّر البلاد وتهلك العباد، كما حدث بشكل أو بآخر في سوريا وليبيا واليمن، وانتهاء بالانقلاب العسكري في مصر، الذي حظي بدعم إسرائيلي وخليجي لا محدود.

حيث أطاح الجيش المصري في يوليو/ تموز 2013 م بالرئيس المنتخب “محمد مرسي”، أول حاكم وصل إلى حكم بلاده بإرادة شعبية، كنتيجة لنجاح ثورة المصريين في الخامس والعشرين من يناير/ كانون الثاني 2011م، لكنه لم يستمر في الحكم سوى عام واحد، انتهى بإفشال عبد الفتاح السيسي، وزير الدفاع حينئذ، للتجربة الديمقراطية، حيث قام بسجن الرئيس مع وزرائه ومساعديه وعشرات الآلاف من مؤيديه، وارتكب المذابح الوحشية بحق مناهضي الانقلاب.

وقد شهدت مصر آنذاك حالة قمع واضطهاد غير مسبوق، وتنكيل بأفراد التيارات الإسلامية التي خرج منها الرئيس المنتخب، وأغلبية من فازوا بمقاعد في البرلمان، فكانت ممارسات السيسي تفوق في وحشيتها ما انتهجته حكومة بنغلاديش، حيث بدأ عهده بغلق كافة الفضائيات الإسلامية، ثم سجن وقتل العديد من علماء المسلمين والدعاة، وكل من يشتبه في معارضته للنظام، ونصب المحاكمات التعسفية لهم، وصدرت الأحكام الظالمة ضدهم، بالسجن والإعدام.

يضاف إلى ذلك ما كان من انتهاك المساجد والاعتداء عليها، كما حدث في حصار مسجد القائد إبراهيم ومسجد الفتح، وحرق بعضها كما حدث في مسجد رابعة العدوية ومسجد الإيمان، وذلك أثناء مذبحة فض اعتصامي “رابعة والنهضة”، كما قام لاحقا بهدم عشرات المساجد بحجة مخالفتها لقوانين البناء. وفي مشهد حضره السيسي لحفل تخريج دفعة جديدة من طلبة الكلية الجوية، في 20 يوليو/ تموز 2016م، وتابع فيه مع أفراد حكومته والقادة العسكريين، المناورات التدريبية التي أجراها الجيش في ذلك الاحتفال، وتم بثها على الفضائيات، كان التدريب الأساسي لهؤلاء المتخرجين هو استهداف مجسم لمسجد بكامل تفاصيله، المشهد الذي مثّل صدمة للشعب المصري، الذي تدين غالبيته العظمى بالإسلام.

وفي ظل الأوضاع المزرية للأمة الإسلامية، يبدو أن بيان علماء المسلمين لم يجد آذانا صاغية سوى من الشعب البنغالي، الذي صبر بالفعل على حكومته القمعية لمدة 10 سنوات، ثم خرج أخيرا في احتجاجات دامية بقيادة الطلاب، واستمرت لأسابيع منذ يونيو/ حزيران الماضي، انتهت باستقالة الشيخة حسينة وهروبها خارج البلاد.

والشيخة “حسينة واجد” هي سياسية تبلغ من العمر 76 عاما، شغلت منصب رئيسة وزراء بنغلاديش من يونيو/ حزيران 1996 إلى يوليو/ تموز 2001، ثم مرة أخرى من يناير/ كانون الثاني 2009 إلى أغسطس/ آب 2024، لتكون صاحبة أطول فترة في منصب رئيسة وزراء في تاريخ بنجلاديش.

والشيخة حسينة هي الابنة الكبرى لوالدها الشيخ “مجيب الرحمن” الذي قاد بنغلاديش إلى الانفصال عن باكستان، وتولى الحكم فيها عقب الاستقلال، ثم تعرض لانقلاب عسكري عام 1975، حيث اغتيل  مع والدتها وأشقائها الثلاثة، ونجت حسينة من الموت لتواجدها خارج البلاد، ثم قضت السنوات الست التالية في المنفى، قبل أن تعود إلى وطنها في عام 1981 وتتولى قيادة حزب “رابطة عوامي”، الذي كان يتزعمه والدها وأصبح أكبر منظمة سياسية في بنغلاديش، وتصبح هي زعيمة المعارضة، أيقونة الديمقراطية، حتى تنجح في الفوز بانتخابات يونيو/ حزيران 1996، وتتولى منصب رئيسة الوزراء.

وخلال فترة ولايتها الأولى، شهدت البلاد نموا اقتصاديا وانخفاضا في معدلات الفقر، مع كثير من الاضطرابات السياسية، إلا أن هزيمتها أمام منافستها خالدة ضياء، زعيمة الحزب الوطني البنغلاديشي، التي تولت رئاسة الحكومة من عام 2001 إلى عام 2007، دفعت حسينة لتعود إلى الحكم مرة أخرى في عام 2009، وتقرر أن تفعل كل ما بوسعها في سبيل ألا تتركه لغيرها، فاتسم عهدها بالبطش، وانتهاكات حقوق الإنسان، وأطلق عليه النشطاء اسم “عهد الخوف”، حيث عرف فيه البنغال زوار الفجر، والاعتقالات التعسفية، والأحكام الجائرة، وكانت مؤسستا القضاء والشرطة هما الأكثر فسادا من بين المؤسسات.

وكعادة المستبدين في العالم الإسلامي، سعت “حسينة” لكسب رضا الغرب وتأييده لها، وصمته عن انتهاكاتها، بفرضها لعلمانية شرسة على ثاني أكبر البلاد الإسلامية، فبدأت عهدها بإسقاط عبارة “دولة إسلامية” من الدستور في يوليو/ تموز 2010، وأعقبت ذلك احتجاجات، قابلتها الشرطة البنغالية بعنف شديد، وكان شعارهم “الرصاص في سويداء القلب”، فسقط كثيرون بين قتلى وجرحى.

وأنشأت حسينة ما أسمته “المحكمة الدولية للجنايات”، وكان الغرض منها محاكمة أعضاء وقادة الجماعة الإسلامية في بنغلاديش، وإصدار الأحكام التعسفية بحقهم من السجن المؤبد إلى الإعدام؛ بينما- في المقابل- أطلقت يد المنظمات التبشيرية المسيحية، ووصلت أعدادها إلى عشرات أضعاف ما كانت عليه، كما أعطت للهندوس وضعا تمييزيا يتفوقون به على المسلمين، الذين يمثلون الغالبية الساحقة (ما يزيد عن 90%) من سكان البلاد.

وتعاملت الشيخة حسينة مع شعبها على قاعدة “إحنا شعب وإنتو شعب”، التي انتهجها نظام السيسي في مصر؛ فبحسب تقرير لصحيفة “نيويورك تايمز” قامت حسينة بتقسيم سكان بلادها إلى شطرين، الشطر الأول يشمل المؤيدين لها الذين كافأتهم، وتعهدتهم بالرعاية، ومنحت البارزين منهم النفوذ وحصص التعيين بالوظائف الحكومية وحق الإفلات من العقاب، والشطر الثاني هم المعارضون الذين قادت ضدهم حملات قمع عنيفة، وعاقبتهم بالسجن والتنكيل والإخفاء القسري والحرمان من الوظائف.

ولم تكن الاحتجاجات الأخيرة سوى ردة فعل في إطار ذلك التمييز والإجحاف، فقد اشتعلت التظاهرات على خلفية إعادة المحكمة العليا في يونيو/ حزيران الماضي العمل بنظام المحاصصة، الذي يخصص 56% من الوظائف الحكومية لفئات معينة، من بينها عائلات المحاربين القدامى الذين شاركوا في حرب الاستقلال عام 1971، والتي انفصلت بموجبها بنغلاديش عن باكستان، وتصل حصة هذه الفئة من الوظائف الحكومية إلى 30%. ونسبة هؤلاء المحاربين وعائلاتهم إلى الشعب- وفقا لتقارير بنغالية- لا تتعدى 0.2%، إلا أن زيادة نسبة المحاصصة على مر السنوات كان الهدف الحقيقي منها تمييز مؤيدي حكم “حسينة” بالوظائف والمكاسب والنفوذ، وحرمان بقية الشعب من تلك الحقوق.

وكنتيجة للتظاهرات، واتساع رقعتها بين فئات الشعب، أصدرت المحكمة العليا أمرا إلى الحكومة، في 21 يوليو/ تموز المنصرم،  بتخفيض حصة وظائف الحكومة المخصصة لفئات معينة بينها عائلات المحاربين القدامى إلى 7%، مع تخصيص 93% من الوظائف على أساس الكفاءة، إلا أن إصرار المحتجين على مواصلة الحراك، واقتحام أعداد كبيرة منهم مقر رئيسة الحكومة في دكا، دفع “حسينة” للهروب على متن مروحية عسكرية إلى جارتها الهند، وكانت تربطها علاقات جيدة مع حكومة “ناريندا مودي” الهندية المتطرفة والمعادية لدين الإسلام. وذكرت صحيفة “هندوستان تايمز” أن “القوات الجوية الهندية وفّرت لها الحماية، ونقلتها إلى مكان آمن”.

وفور معرفة المحتجين بخبر هروب “حسينة” ملؤوا الشوارع بالبهجة والاحتفالات، وحطم آخرون بالفؤوس تمثالا لوالدها الشيخ “مجيب الرحمن” زعيم الاستقلال، ونقل الإعلام لنا مشاهد اقتحام بعضهم لسكن رئيسة الوزراء، وتناولهم الطعام في مطبخ قصرها الرئاسي. وقد أعلن قائد الجيش “وقر الزمان” الإثنين 5 أغسطس/ آب أنه أجرى محادثات لتشكيل حكومة مؤقتة، بعد استقالة وهروب رئيسة الوزراء إلى خارج البلاد.

هناك الكثير من المشتركات التي تجمع بين نظام “حسينة” الاستبدادي العلماني وبين نظام “السيسي” العسكري القمعي، واتفاق على كثيرٍ من الممارسات، مثل البطش الأمني بالمعارضين، وإفساد المؤسسات، وتغييب العدالة، وتمييز الأقليات، والحرب على دين الإسلام.. مع وجود فارق مهم بين النظامين؛ حيث كان لنظام الديكتاتورة “حسينة” بعض الإنجازات في مجال الاقتصاد، وهذه لا نجدها مطلقا مع نظام السيسي.

فبنغلاديش التي كانت ذات يوم واحدة من أفقر دول العالم حققت نجاحا اقتصاديا ملموسا، واليوم يعدّ الاقتصاد البنغلاديشي أحد أسرع اقتصادات المنطقة في وتيرة النمو، بمعدل يفوق حتى ما لجارتها العملاقة، الهند. وفي غضون السنوات العشر الأخيرة، بلغ متوسط دخل الفرد في بنغلاديش ثلاثة أمثال ما كان عليه من قبل، كما قال البنك الدولي إن أكثر من 25 مليون نسمة خرجوا من تحت خط الفقر في غضون السنوات العشرين الأخيرة، وهي سياسات مختلفة تماما عن سياسات الإفقار المتعمد للمصريين، التي يتبعها نظام السيسي، وتدميره للموارد والثروات.

لكن التقارير التي تتحدث عن حالة غضب كبير تعم قطاعات واسعة من الشعب المصري بسبب تردي الأحوال الاقتصادية، والغياب التام للحقوق والحريات، تجعلنا نتساءل: إذا شهدت مصر قريبا احتجاجات وتظاهرات ضد نظام السيسي، هل يمكننا أن نراه يستقل طائرته التي اشتراها في عام 2021 بمبلغ نصف مليار دولار، والملقبة بملكة السماء، من أجل أن يفر بها هاربا خارج البلاد؟ وهل يمكنه أن يثق في حليف له وصديق، بخلاف الكيان الصهيوني، أبرز داعميه، كي يستقبله في أعقاب هروبه، ويوفر له الأمن والأمان؟!

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق