الأحد، 11 أغسطس 2024

عن إعلام سوء الأدب

عن إعلام سوء الأدب
جعفر عباس

جعفر عباس

بصفة عامة، يمكن القول إن الأدب هو “أحد أشكال التعبير الإنساني، عن مجمل عواطف الإنسان، وفِكَره وخواطره وهواجسه، بأرقى الأساليب الكتابية التي تتنوع من النثر إلى النثر المنظوم، إلى الشعر الموزون، لتفتح للإنسان أبواب القدرة للتعبير عما لا يمكن أن يعبر عنه بأسلوب آخر”.


وليس هناك ما يمكن أن يسمَّى بالأدب الإعلامي، ولكن هناك آداب إعلامية، هي عبارة عن ضوابط توافَق عليها الإعلاميون، والتزموا بها بدرجات متفاوتة، حسب هامش حرية التعبير وإبداء الرأي المتاح عُرفا وقانونا في كل بلد، والركن الأساسي لتلك الضوابط هو حسن الأدب، لأن الإعلامي بالضرورة “معلم”،  فجذر الكلمة هو “علم، يعلم، تعليما/ إعلاما”، ولارتباط كلمة “التعليم” بالمدارس، رأى رواد الصحافة العربية (وهي نواة الإعلام الحديث)، اشتقاق كلمة إعلام من ذلك الجذر، والإعلام بمفهومه الحديث صناعة غربية، وبكل لغات الغرب فإنها تعني على وجه التحديد information وجذر الكلمة inform وهي الإبلاغ، وتوصيل المعلومة (الخبر)، والإبلاغ والتبليغ أمانة ومسؤولية.


انظر ماذا وكيف كان تكليف الرسول محمد عليه السلام، المؤيد بالوحي: {وما على الرَّسول إلَّا البلاغ المبين} [العنكبوت: 18]، و{فإنَّما عليك البلاغ وعلينا الحساب} [الرعد: 40]، و{فذكِّر إنَّما أنت مذكِّر* لست عليهم بمسيطر} [الغاشية: 21-22].. 

حامل الرسالة السماوية المكلف بتوصيلها، ما عليه سوى التبليغ، مع الإبانة والتوضيح والشرح بالأدلة والبراهين، وبعد أن يتلقى العباد البلاغ يكون “المُبلِّغ” قد أدى دوره كاملا، وبعدها من شاء فليصدق ما جاء في البلاغ، ومن شاء فليُنكر، لأنه ليس عليهم بمسيطر، وأمر الحساب متروك لمصدر الرسالة (البلاغ)، وهو الخالق جلّ وعلا. ورسالة الإعلامي ليست في جلال وعظمة وأهمية الرسالة المحمدية، ولكنها تظل “رسالة”، يحاسب من يضطلع بها في الدنيا من قِبل الجمهور المتلقي، ثم يتم عرض كشف حسابه الختامي الإجمالي في الآخرة.


ومن ناحية أخرى، فرغم احتفائنا بتدمير اللات والعزى ومناة وهبل، باعتبار أن القضاء على الأصنام تلك يمثل نقلة كبرى وفاصلة في تاريخنا، ومن ثم في تاريخ البشرية، فإننا ما فتئنا نقيم أصناما من لحم ودم في كل مجال، ونُضفي عليها قدرا من القداسة يجعلها فوق النقد؛ وعلى سبيل المثال لا الحصر، على كل عربي “وطني”، أن يقبل بأن تاريخ النضال الفلسطيني الفعلي بدأ بياسر عرفات وانتهى به (وإن اختلف الرواة الحواة حول ما إذا كان محمود عباس- أبو مازن، أو محمد دحلان، هو حامل لواء العرفاتية).


لعدة قرون ظل قدامة بن جعفر (مات قبل أكثر من ألف عام) هو المرجع لنقد الشعر، فيتم تقويم ونقد كل قصيدة في ضوء المعايير التي وضعها قدامة هذا في كتابه “نقد الشعر”، وبذلك صارت كل قصيدة تخالف المواصفات القياسية التي وضعها قدامة “منحطة”، ثم بأسلوب “هات م الآخر” صارت الفترة، منذ نهاية العصر العباسي وحتى سقوط الدولة العثمانية، توصف بأنها – بكاملها- عصر الانحطاط في الأدب.


ما سبق توطئة للحديث عن الحال المتردي للإعلام العربي في السنوات الأخيرة، ولا أتحدث هنا عن القنوات الفضائية التي تبث مواد تنقض الوضوء، ولا عن قنوات الشعوذة والدجل والتدليس، بل عن قنوات رسمية وشبه رسمية، تزعم أنها تتخصص في تناول شؤون الناس العامة، ويكون تناولها بكل المقاييس الأخلاقية طامّة.


وعرفت التلفزة العربية سوء الأدب بظهور البث الفضائي، عندما تخصصت قنوات في مجالي الغناء والرقص، بل هناك فضائيات عربية تعمل على استقطاب المشاهدين بمخاطبة الغرائز الجنسية عبر تعرية الجسم، والرقص الشرقي الذي هو تعبير رأسي عن رغبات أفقية؛ وحتى من يروجون لهذا اللون من الرقص يدركون ذلك، ولهذا لم يسموه الرقص العربي بل “الشرقي”، وهي كلمة مطاطية، فباكستان وأفغانستان أيضا “شرق”، وهما مبرأتان من هذه العلة.


في زمننا هذا صار التلفزيون من الضروريات في كل البيوت، ولكن متابعة ما يصدر عن الشبكات التلفزيونية اختياري، ومعظم البيوت التي تقوم على قواعد التربية السليمة المتفق عليها، تحظر على أفرادها الاقتراب من القنوات التجارية الملوثة؛ ولكن ماذا عن قنوات تطرح نفسها كمنابر لتناول القضايا العامة، المتعلقة بمعاش الناس وساس يسوس، بينما هي سوس ينخر في القيم، وسم غير مدسوس؟ وليس من العسف القول إنها قنوات وشبكات تتغذى من أنابيب الصرف الصحي، وينسى من يقذفون آذاننا بحمم من الشتائم والألفاظ التي تقشعر لها الرأس الصلعاء، أن معمر القذافي كان رائدا في مجال صرف البذاءات، ثم جاء يوم اضطر فيه إلى اللجوء إلى أحد أنابيب الصرف الصحي الأرضية، فكانت القاضية.


هذا زمان  تفتح فيه التلفزيون وأنت تقول: اللهم إني أعوذ بك من الخبث والخبائث، وتغلقه وأنت تهمهم: الحمد لله الذي أذهب عني الأذى وعافاني، وحتى قبل نحو ثلاثة عقود، كان الإعلاميون يمارسون الشتم فقط بحق القيادات السياسية، ولكن بمفردات من شاكلة: رجعي، عميل، خائن، ديكتاتور؛ ثم صرنا نسمع سبابا من نوع أولاد الـ…، ونرى مقدم برامج يخلع حذاءه ويلوح به أمام الكاميرا، متوعدا هذا الشعب أو ذاك بـ”الضرب بالجزمة”.


فقد تحول عدد من قنوات التلفزة العربية إلى منابر للردح الممعن في البذاءة والفجور، ولا تقوم تلك القنوات بتوجيه مدفعيتها نحو القادة السياسيين وحدهم، بل تقصف شعوبا بأكملها، وتصمها بالبله والخبل والتخلف العقلي، ولو رجعت إلى أرشيفها لوجدت فيه أن تلك الشعوب كانت يوما ما “شقيقة تربطنا بها أواصر الدم واللغة والعقيدة”.


والأدهى والأنكى من كل ذلك، أن مقدمي البرامج التلفزيونية، الذين مرجعيتهم بواليع ومجارير اللغة السوقية، كثيرا ما ينقلب بعضهم على بعض، وعندها تهبط لغة السباب إلى العورات، وعورات الأمهات على وجه التحديد.. ويجعلني ذلك أستحضر الحديث الشريف الذي نهى فيه الرسول صلى الله عليه وسلم الناس عن سب آبائهم وأمهاتهم، فسألوه متعجبين: وكيف يسب الإنسان والديه؟ فأوضح لهم أن شخصا ما قد يسب أب وأم شخص آخر، فيرد عليه بسب أبيه وأمه.


على مدى قرون من تاريخ العرب والمسلمين، كان الشاعر هو “ضابط الإعلام والعلاقات العامة”، المكلف بتعداد مناقب القبيلة أو السلطان، وهجاء الخصوم من القبائل الأخرى أو معارضي صاحب السلطة، ولكن حتى في العصر الجاهلي، ومهما أقذع الشاعر في الهجاء، فإنه كان شديد الحرص على عدم الخروج على ضوابط الأدب المتعارف عليها في عموم جزيرة العرب، فلا تجد في شعر ذلك العصر ما يقابل كلمات “معاصرة” مثل: معفِّن وتافه وداعر وفاجر وحقير.


وعلى إجماع العرب فإن حواء العربية لم تنجب قط شاعرا في قامة أبي الطيب المتنبي، إلا أن قيام ضبّة – الذي كان معروفا بأنه ابن سفاح- بقتله، لم يثر دهشةَ ولا غضبَ محبي الشاعر، لأنه حط من قدر نفسه بهجاء ضبة: “ما أنصف القوم ضبة… وأمه الطرطبة”، لأنه كان هجاء فاحشا قذرا ومبتذلا، لا يليق بمن نظر الأعمى إلى أدبه، وأسمعت كلماته من به صمم.


وقد ظلت الصحافة العربية الورقية ونظيرتها الألكترونية، وعلى مدى عقود، بمنجاة من لغة الإسفاف التي تتعرض للأعراض أو تمارس نقد الخصوم بمفردات وعبارات “سوقية”، ولكن بعض الصحف – وأحيانا بإيعاز من الحكام- صارت تخرج عن ضوابط الأدب والأخلاق والمهنية المتعارف عليها، وصار هناك صحفيون يؤجرون “أعمدتهم” مفروشة بالسباب القادح الجارح بأمر “المُستأجر”.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق