السنابل الخضر
د.أيمن العتوم
أيها العربي النقي، أيها القلب الذي لم تلوثه الدعاية الزائفة، ولم يزعزعه الخوف، يا بن أمي، أيها الذي تعرفني جيدا، لقد مشينا هذه الطريق معا منذ فجر الإسلام، وحققنا هذا معا، ولما تعددت الطرق وتشعبت، انفرد بي العدو، وحاصرني من كل جهة، وما أحسبك تتركني وحيدا، فلقد كان هذا من قديم أملي فيك.
وهذه الرسالة التي كتبتها بعد ليل قاس لا أريدها أن تزيد قسوة ليلك، فلربما تشابهت ليالينا وإن اختلفت في طولها وشدة ظلمتها، وها أنا أهمس بها في أذنيك، فإن وجدت فيها عتابا فمصدره الحب، وإن وجدت فيها ألما فمنبعه الصدق، فاترك عتابك وألمي، وانظر ما خلف حروفي.
إن عدوي عدوك مهما زين لك خطابَه، وبدل لك ثيابَه، ومهما زارك في أحيائك ورقص معك وغنى على شبابتك، إنه عدو واحد لا يخفى على أحد فاحذره، لا تبادله شرابا ولا تفتح له في الليل بابا؛ فإنني ما فعلت. إذا خدعك فقد أصابت خديعته مني مقتلا كالذي أصابت منك، إنه أفعى مرقطة لا يقطر نابها عسلا أبدا، إنما هو السم والصاب والعلقم، وإن أغراك ملمسها، ولين جلدها. إن السراب يغري الظماء بالماء، ولكنه كاذب وفيه الحتف، فلا تصدِّق عينيك وصدّق قلبك.
إن الذي رماك بسهم في غفلتي هو الذي رماني به في غفلتك، والذي دعاك إلى حديقته الخلفية ولم يدعُني كان يعرف أن الفلوس تُميل النفوس، وأن الكؤوس تُميل الرؤوس، فإن قدر عليك بهما ولم يقدر عليّ، فسيأتي إليّ ليقتلع رأسي بسيفه، والهدف عنده واحد، أن يلغي وجودنا، بالاستسلام أو الموت.
إنني لا أريد أن أعيد على مسامعك كلماتي التي مللت منها: “إنه عدوي وعدوك، لا تضع يدك في يد قاتل، لا تثق بالحرباء”. دعك من صوتي هذا، ولكن ألا تسمع أصوات الضحايا التي لا تتوقف؟ ألا تسمع صرخات المكلومين التي تنشب في الظهر كأنها المِدى الحادة؟ ألا ترى طوفان الدماء والأشلاء؟! من قتل هؤلاء كلهم؟! أعَلى هذا تريد بينة؟! إن في كل ذرة من رمال غزة ألف جواب.
إنهم يريدون لي أن أستسلم، أن أرضى بالواقع، أن أسكت عن حقي، ولكن أيها العربي النقي.. أنت تعرف أكثر مني أن ثمن السكوت على الذل أفدح بكثير من ثمن الثورة على الظلم، وأنا اخترت الثانية من أجلي ومن أجلك، فلا تتركني وحيدا.
أيها العربي النقي، أنت لا تدري كم تعني لي، ولا تدري كم أنا محتاج إليك، أنا أريدك إذا هويتُ في قراعي المحتل أن تكون جدار روحي، وعزاء قلبي، وأن تسندني على كتفك إذا ملت من تعب النضال.
أنا أعرف لماذا لا تقف إلى جانبي كما عهدتك وكما أريد منك، ذلك أنهم حشوا أذنيك بكل باطل عني، وأوغروا صدرك عليّ، قالوا إنني بعت أرضي، فلماذا عليك أن تدافع أنت عما بعته أنا؟! ولكنهم كذبوا ودمي اليوم شاهد على كذبهم هذا، فأنا قاتلت حتى آخر قطرة من أجل كرامتي وكرامتك، فإياك أن تصغي إلى طنين الذباب أو نعق الغراب.
إن الذئاب لا تلد سوى الذئاب، ولا يمكن لها أن تغير صوتها، أو أن تنسى غريزتها تجاه فرائسها، وأعجب أنك تمد لها يدك، وأنت تعرف ذلك، وترى أثر دمي على مخالبها، وبقايا أشلائي عالقة بأنيابها.
إن ألف يد قد مُدّت إلي لتنهش روحي، وتأكل لحمي، وما علمَتْ أن لحمي مر. وإنني كنت سأحتملها جميعها، ولن أشعر بالخوف منها للحظة، وسأقاتلها بشجاعة، ولكنني لا أريد أن أنظر في هذه الأيادي ذات مرة فأجد يدك من بينها، حينها سأتمنى لو أنني لم أعش إلى هذه اللحظة، أو أن الأرض انشقت وابتلعتني دفعة واحدة.
إنهم لم يحسبوا حسابا لي، لأنهم أفردوني، ولو كنتَ معي لحسبوا حسابنا معا، فإن المؤمن قليل بنفسه كثير بإخوته. ولو أنك مددت رمحك فوق رمحي، لوصلت أرماحنا إلى السماء وثقبنا بها أكباد الشهب، وخافني وخافك العدو الأبعد قبل الأقرب.
أيها العربي النقي، إنها كلمات، ولكنها تعني حياتنا معا، ووجودنا معا، وصمودنا معا.. إنني غرست بذوري في تربتك فاسقها ماء المودة لا الكره، والوفاء لا الخيانة، وإنني تركت هذه السنابل الخضر بين يديك من أجل أن تنمو، لا أن تدعو العدو في غيابي إلى حصادها.
وإن خيولك التي أصيبت هي خيلي، فلقد كانت لنا خيولنا العربية التي لا تشبه خيول أعدائنا. وإن رجلا زلت بك في ركابها هي رجلي، وإننا نسير إلى الغاية غير هيابين ولا جبناء، فإن سمعنا نباح الكلاب يحفُّنا من كل جهة مضينا دون أن نلتفت، وإن الوصول يقتضي السير، وإنه لا يصل مُلتفِت.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق