الاثنين، 16 سبتمبر 2024

موقف غوستاف لوبون من رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم

موقف غوستاف لوبون من رسول الإسلام محمد صلى الله عليه وسلم



فرج كُندي

فرج كُندي

مدير مركز الكندي للدراسات والبحوث

 تعددت وتنوعت مدارس الاستشراق بتعدد أهدافها ومناهجها ومشاربها ومآربها، لكنها اتفقت جميعا على العداء للإسلام والمسلمين؛ منطلقة من أصول عقائدية تدعمها دول استعمارية ذات نزعة صليبية تباركها كنيسة حاقدة على دين الإسلام ونبي الإسلام وجميع المسلمين.

خرّجت هذه المدارس عددًا كبيرًا من الشخصيات العلمية الموسوعية التي تخصصت في دراسة الإسلام وتعمقت في العلوم الإسلامية وكل ما أنتجته الحضارة الإسلامية من علوم وفكر.

كما توسعت في دقة التخصص لتشمل كافة العلوم التي أنتجتها تلك الحضارة، ولم تغفل عن تقسيم هذه الدراسات إلى تخصصات وفروع محددة، وكان محور التركيز في تناول القرآن الكريم ومصدره؟ والرسول وحقيقة الرسالة وطبيعة الوحي.

تناول هؤلاء الدارسون هذين الموضوعين بمنهجيات مختلفة؛ غلب عليها الحكم المسبق الناتج عن خلفيات سياسية ودينية، وندر ما قامت دراساتهم على الموضوعية العلمية أو اتباع مناهج البحث العلمي المحايد أو القائم على منهج الحقيقة لذاتها لا لتعزيز حكم مسبق وتحقيق غاية معقودة.

وللإنصاف وجد من هؤلاء الباحثين من كان له شيء من الإنصاف أو الاقتراب منه، ومن هؤلاء الذين كانوا أقرب إلى الموضوعية والتقيد بالمنهجية العلمية التي هي الأداة الوحيدة للوصول للحقيقة، هو المستشرق “غوستاف لوبون” في تناوله لشخصية الرسول صلى الله عليه أفضل الصلاة والسلام..

ولد لوبون في 7 مايو 1841م، وتوفي في 13 ديسمبر 1931، وكان طبيبًا ومؤرخًا فرنسيًا، عمل في أوروبا وآسيا وشمال إفريقيا، كتب في علم الآثار وعلم الإنثروبولوجيا.

من أشهر آثاره العلمية: حضارة العرب، وحضارات الهند، والحضارة المصرية، وحضارة العرب في الأندلس، وسر تقدم الأمم، وروح الاجتماع الذي كان إنجازه الأول.

هو أحد أشهر فلاسفة الغرب، وأحد الذين امتدحوا الأمة العربية والحضارة الإسلامية؛ لم يسر “غوستاف لوبون” على نهج معظم مستشرقي أوروبا، حيث أكد وجود فضلٍ للحضارة الإسلامية على الحضارة الغربية المعاصرة.

قام “غوستاف لوبون” برحلاتٍ عدة ومباحثات اجتماعية خلال حياته في العالم الإسلامي، أيقن بموجبها أن المسلمين هم من مَدَّنوا أوروبا، وقد عبَّر عن آرائه بالمسلمين وحضارتهم في كتاب حضارة العرب الذي سلك فيه طريقاً نادراً، إذ جمع فيه عناصر عديدة ممَّا أثرت به الحضارة العربية في العالم، وبحث في قيام دولتهم وأسباب عظمتها وانحطاطها.

من مؤلفاته:

حضارة العرب، روح الثورات والثورة الفرنسية، روح الجماعات، السنن النفسية لتطور الأمم، روح التربية، روح السياسة، فلسفة التاريخ،

اليهود في تاريخ الحضارات، حياة الحقائق، حضارات الهند، روح الاشتراكية.

تناول لوبون شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في كتابه حضارة العرب بعد هجرته إلى المدينة المنورة تحت عنوان: (محمد بعد الهجرة).

وإن تناول شخصية الرسول صلى الله عليه وسلم في الفترة المكية إلا أنه أفرد له عنوانه هذا ليركز على شخصية محمد صلى الله عليه وسلم في المدينة المنورة بعد هجرته إليها، وشروعه في تأسيس المجتمع المدني المسلم كنواة أولى لدولة إسلامية مترامية الأطراف.

يشيد لوبون بتنظيم الحياة في كافة الجوانب وفق نظم الشريعة الإسلامية التي يصفها (بشؤون دينه) وهذه حقيقة أن الحياة في الحضارة الإسلامية وفق شؤون الشريعة الإسلامية التي مصدرها الأول هو القرآن الكريم الذي كان يتنزل على محمد صلى الله عليه وسلم في كل صغيرة أو كبيرة تواجهه طيلة حياته وحتى أكمل الله دينه (الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا) (المائدة: 3).

يقول لوبون: شرع محمد منذ وصوله إلى المدينة ينظم شؤون دينه، وأخذ القرآن الذي كان في طور التكوين يكتمل بفضل توافر نزول الوحي على محمد في جميع الأحوال الصعبة خلا مبادئه الإنسانية.

وفي تناول لوبون لشعائر الإسلام بيّن سنة التدرج في التشريع وممارسة الشعائر الإسلامية وبين دعوة المسلمين إلى التقيد بها وممارستها وقف التشريع الإسلامي، قال: (وضعت شعائر الإسلام بالتعاقب؛ فسُن الأذان لدعوة المؤمنين إلى الصلاوات* الخمس، وفُرض صوم شهر رمضان، أي الامتناع عن الطعام من الفجر إلى غروب الشمس شهراً كاملاً، وفرضت الزكاة التي يُعين المسلم بها الدين الذي أقيم.

وفي حديثه عن غزوة بدر نجد أنه يعتبرها غزوة مهمة ويشيد بشخصية الرسول صلى الله عليه وسلم بكونه قائدًا يشارك بنفسه في المعارك. (وصار محمد بعد وصوله إلى المدينة يقود الغزوات بنفسه، أو بواسطة أحد أصحابه، وغزوة بدر التي وقعت في السنة الثانية من الهجرة هي أولى الغزوات المهمة، ففيها انتصر جنود محمد، الذين لم يزيدوا على (٣١٤) مقاتلاً، والذين لم يكن بينهم سوى ثلاثة فرسان، بينما أعداؤهم كانوا ألفي مقاتل، فكانت هزيمة أعداء النبي التامة في بدر فاتحة شهرته الحربية.

وبكل إنصاف وحياد تام يتناول “لوبون” تعامل الرسول مع خصومه أثناء الحرب التي يصفها بالاعتدال ويستثني مرة واحدة مع اليهود الذين خانوا العهد وتحالفوا مع عدو محارب، وهذه العقوبة تعرف بالخيانة العظمى وعقوبتها لا تختلف عن عقوبة الرسول صلى الله عليه وسلم هؤلاء الخونة.

ويقول: إن محمداً كان يتحلى برباطة جأش وقت الشدائد واعتدال وقت الانتصار، وهذ الصفات لا تتوفر إلا في قائد عظيم بعيد عن القسوة أو حب الانتقام. صلى الله عليه وسلم.

وتوالت الوقائع بين محمد وجيرانه وكانت كل مصيبة تصيبه يعقبها انتصار له في الغالب، وكان يبدو رابط الجأش إذا ما هُزم، ومعتدلاً إذا ما نُصر، وهو لم يقسُ على أعدائه إلا مرة واحدة حين أمر بأن تضرب رقاب سبعمئة معتقل خانوه.

أنصف لوبون حين تناول فتح مكة وكان أمينًا في نقل أقوال المفاوضين المفوضين من قريش في صفات الرسول صلى الله عليه وسلم في محاولتها اليائسة لصده عن دخول مكة.

وعظم شأن محمد في عدة سنين، وأصبح لابد له من فتح مكة حتى يعم نفذوه، ورأى أن يفاوض قبل امتشاق الحسام وصولاً إلى هذا الغرض، فجاء إلى هذا البلد المقدس ومعه (١٤٠٠) من أصحابه ولم يكتب له دخوله، وقد دُهش رُسل قريش من تعظيم أصحابه له؛ فقال أحدهم: – إني جئت كسرى وقيصر في ملكهما فوالله ما رأيت ملكا في قومه مثل محمد في أصحابه.

وقد نقل لوبون في كتابه حضارة العرب العديد من أوصاف الرسول صلى الله عليه وسلم نُقلت عن الصحابة وأكد عليها اعترافا صريحا بما كان يتمتع به رسول الإسلام من صفات حميدة وتصرفات نبيلة (ويضاف إلى الوصف السابق ما رواه المؤرخون العرب الآخرون من أن محمداً كان شديد الضبط لنفسه كثير التفكير صموتاً؛ حازماً سليم الطوية عظيم العناية بنفسه مواظبا على خدمتها حتى بعد اغتنائه.

وفي تناوله لشجاعة الرسول وصبره على المشاق يقول: إنه ثابت عالي الهمة في لين ودعة وكان مقداما في غير تهور يعلم أتباعه الشجاعة والإقدام وهو ما قاله: الإمام علي بن أبي طالب رضي الله عنه. «لقد رأيتنا يوم بدر ونحن نلوذ برسول الله صلى الله عليه وسلم، وهو أقربنا إلى العدو، وكان من أشد الناس يومئذ بأساً» (رواه أحمد وابن أبي شيبة).

وكان محمد صبوراً قادراً على احتمال المشاق ثابتاً بعيد الهمة لين الطبع وديعاً.

وكان محمد مقاتلاً ماهراً، وكان لا يهرب أمام المخاطر ولا يلقي بيديه إلى التهلكة، وكان يعمل ما في طاقته لإنماء خلق الشجاعة والإقدام في بني قومه.

وفي توكيده على فطنة الرسول صلى الله عليه وسلم التي يؤكد عليها سواء كانت آتية من خلفية علمية أو بفطرة الله التي فطره عليها فهي تذكرة بفطنة وذكاء نبي بني إسرائيل سليمان بن داود عليهما السلام.

وكان محمد عظيم الفطنة سواء أكان متعلماً أم غير متعلم، وتذكرنا حكمته بما عزته كتب اليهود إلى سليمان.

وعن حكمته في شبابه ينقل حادثة وضع الحجر الأسود وكيف تصرف بحكمة حقن بها الدماء وأرضى الجميع لم ينحز لطرف على حساب طرف ليزداد هو شرفا ومكانة بين سادة قريش وأقطابها الكبار.

شاءت الأقدار أن يكون محمد، وقد كان شاباً حكيماً بين أقطاب قريش الذين كادوا يقتتلون حين اختلفوا فيمن يضع في أحد جوانب الكعبة. ذلك الحجر الأسود الشهير الذي كان العرب يعتقدون أن ملكاً جاء به من السماء إلى إبراهيم؛ فقال محمد الشاب أمام الخصوم الذين أوشكوا أن يلجؤوا إلى السلاح؛ هلموا إليًّ ثوباً ؛؛ فأتي به منشره وأخذ الحجر الأسود ووضعه بيده فيه، ثم قال: ليأخذ كبير كل قبيلة بطرف من أطراف الثوب؛؛ فحملوه جميعاً إلى ما يحاذي موضع الحجر من البناء؛ ثم تناوله محمد من الثوب ووضعه في موضعه، وانحسم الخلاف.

ورد حاسمًا على أحد كبار المستشرقين المشككين في الوحي وفي نزول جبريل عليه السلام بالقرآن الكريم على الرسول صلى الله عليه وسلم وهو المستشرق “تيودور نولدكه”، وقال في كتابه الشهير (تاريخ القرآن) إن الوحي لم يكن إلا حالة صرع كانت تنتاب الرسول فرد عليه بأن هذه الفرية لم يأت بها أحد قبله، ولم يجد أحدًا من مؤرخي العرب من ذكر ما يقطع بذلك، وحتى خصومه الذين لا يؤمنون “بالوحي” يرون محمدا حصيفاً سليم الفكر.

وقيل إن محمداً مصاب بالصرع، ولم أجد في تواريخ العرب ما يُبيح القطع في هذا الرأي، وكل ما في الأمر هو ما رواه معاصرو محمد وعايشه منهم، من أنه كان إذا نزل الوحي عليه اعتراه احتقان وجه فغطيط فغثيان وإذا عدوت “هوس محمد” ككل مفتون، وجدته حصيفاً سليم الفكر.

إن استخدام لوبون لكلمة هوس فهذا وصف منكر وغير مقبول إلا أنه غير مستغرب فهو مستخدم من المستشرقين في الدراسات الاستشراقية و”لوبون” أحدهم وهو مستشرق لا يؤمن بنبوة محمد ولا يدين بالإسلام؛ فلم يخرج عن كونه أحد أعمدة الاستشراق، وإنه يتكلم من منطلق استشراقي حاول أن يكون فيه على قدر من الإنصاف إلى حد ما؛ فأصاب في بعض المواضع وجانبه الصواب في أخرى.

وأما إفك تهمة محمد بالصرع فقد تولى كبرها كبيرهم نولدكه الذي يصفه جولدتسهير (زعيمنا الكبير تيودور نولدكه في كتابه الأصيل البكر: تاريخ القرآن الذي نال جائزة أكاديمية النقوش الأثرية بباريس) الذي افترى فيه أن محمدًا صلى الله عليه وسلم كان يصاب بحالة من الصرع أثناء نزول الوحي عليه، كبرت كلمة تخرج من أفواههم إن يقولون إلا كذبا.

يثني لوبون على قيام الرسول صلى الله عليه وسلم بتوحيد العرب على دين واحد وتحت قيادة موحدة وهو ما اعتبره آية كبرى.

وجمع محمد قبل وفاته كلمة العرب، وخلق منهم أمة واحدة خاضعة لدين واحد مطيعة لزعيم واحد، فكانت في ذلك آيته الكبرى لم يتحقق في الديانتين اليهودية والنصرانية اللتين سبقتا الإسلام.

ومهما يكن من أمر فإن مما لا ريب فيه أن محمداً أصاب في بلاد العرب نتائج لم تصب مثلها جميع الديانات التي ظهرت قبل الإسلام، ومنها اليهودية والنصرانية، ولذلك كان فضل محمد على العرب عظيماً.

وهذا الكلام يصب أو ينهل مما قرره الإمام ابن خلدون في مقدمته: حتى إذا اجتمعت عصبية العرب على الدين بما أكرمهم الله تعالى من نبوة محمد صلى الله عليه وسلم، زحفوا إلى أمم فارس والروم، وطلبوا ما كتب الله لهم من الأرض بوعد الصدق.

وإذا ما قيست قيمة الرجال بجليل أعمالهم كان محمد من أعظم من عرفهم التاريخ.

وهذ الشهادة المنصفة من رجل لا يؤمن بأن محمدًا صلى الله عليه وسلم نبي مرسل من الله، وكان تناوله لشخصية محمد مجردًا من الإيمان، بل كانت دراسة علمية صرفة، كان الهدف منها معرفة هذه الشخصية على حقيقتها بروح حيادية غير قائمة على أحكام مسبقة قائمة على عقيدة عدائية أو أهداف سياسية تخدم مصلحة حضارة متصارعة مع الإسلام والمسلمين.

وبميزان العدل والإنصاف تظهر الحقائق وتنزاح الغمامة وينجلي الحق الذي هو غاية كل منصف وشخصية محمد صلى الله عليه وسلم لا يعكر صفوها جاحد أو حاقد.

 

المراجع:

1- غوستاف لوبون، حضارة العرب.

2- عبدالرحمن بن خلدون، المقدمة.

3– إجنتس جولدتسهير، مذاهب التفسير الإسلامي.

4– نولدكه، تاريخ القرآن.

5 – أبو الحسن الندوي، الإسلام وأثره في الحضارة وفضله على الإنسانية.

دلالات الصراع بين التليغرام والنظام

 دلالات الصراع بين التليغرام والنظام

د. عطية عدلان
مدير مركز (محكمات) للبحوث والدراسات – اسطنبول- أستاذ الفقه الإسلامي


هل النظام العالمي صادقٌ في دعواه وفي رفْعِهِ للدعاوى ضدّ خلق الله؟ هل هو صادقٌ في حمايةِ أمنِ الشعوب من الإرهاب، وفي صيانة الأطفال مما يخمش الحياء، وفي منع تجارة المخدرات والسلاح؟ وهل هو جادٌّ في محاربة هذه المخاطر وغيرها حتى يُصرّ على فرض الرقابة الصارمة على مواقع التواصل؟

أم إنّها الهيمنة التي تفرض نفسها على الخلق وتدسّ أنفها في خصوصيّاتهم وتأبى إلا أن تحاصر عقولهم وتطارد أفكارهم وتقمع أحلامهم وآمالهم؟ وكيف يكون صادقًا فيما يدعيه وما حلّتْ هذه الكوارث وغيرها إلا على يده ولا راجت إلا على عينه؟
أوليس هذا النظام هو الذي يروج عن قصْدِ للشذوذ وما بعد الشذوذ؟ أوليس الإرهاب الحقيقيّ أحد أدواته المفضلة للهيمنة؟
فلو كان عَهْدُنا عليه أنّه يتوخى الصلاح؛ لأعطيناه كامل الحقّ في أن يقلق على حاضر البشرية ومستقبلها، أمّا وقد عَلِمَ الكافّةُ بالضرورة أنّه محاربٌ للإنسان والإنسانية فلا والله لا نعطيه إلا الإنكار وما وراء الإنكار مما يسوقنا إليه الواحد القهار. 

ولست أعني بالنظام إلا ذلك النظام الواحد المتألِّه الذي يمتطي بالعسف ظهر الإنسانية، ويُطلق عليه النظام العالميّ ومن ورائه الرأسمالية المهيمنة.


بافيل دوروف بين فكونتاكي وتليغرام

هناك في روسيا الاتحادية حيث تحتدم الرغبة في منافسة التكنولوجيا الغربية المهيمنة وُلدت منصة منافسة محليًّا للفيسبوك وتويتر، وهي منصة “فكونتاكتي”، على يد شاب ذكيِّ طموح هو “بافيل دوروف”، وككل أنظمة العالم التي لا تمثل إلا تروسًا في “النظام العالميّ المهيمن” طفق بوتين وأجهزته الأمنية يمارسون التضييق على المنصّة الوليدة، ففي عام 2011م عندما تحرك عشرات الآلاف من الروس في الشوارع احتجاجا على عودة بوتين للترشح أرسلت الأجهزة الأمنية لدوروف أمرًا بإغلاق سبع مجموعات كان لها دور في تأجيج الاحتجاج، لكنه رفض ثم نشر على حسابه على تويتر صورة من الرسالة ومعها صورة لكلب يخرج لسانه، ما أفضى إلى اضطهاد الأجهزة الأمنية له؛ فقرّر الهجرة إلى الغرب.

ولم يتردد النظام في إقصاء الإدارة التابعة لدوروف ومن ثمّ في الهيمنة على المنصة، وقد كفاه الرأسماليون المتحالفون معه مؤنة ممارسة العنف؛ بأن قاموا بشراء جميع أسهم المنصة، فاتجه إلى إنشاء منصة تليغرام، التي انطلقت منذ ميلادها صوب القمة لتسجل اليوم 900 مليون مشترك، متجهةً بقوة إلى المليار، لكنّ النظام أبى إلا أن يعوق سيرها ويعرقل مسيرتها؛ فإذا بمذكرة اعتقال تصدرها الحكومة الفرنسية ضدّ دوروف الذي كان قد حصل على جنسيتها منذ مدّة، وفي المطار أثناء عودته لفرنسا تمّ إلقاء القبض عليه وتوجيه الاتهام، ولا يدري أحدٌّ ماذا سيكون مصير المنصة، لكنّ أقلّ الأضرار التي يمكن أن تحدث هو حجب المنصة عن كثير من دول الغرب على رأسها فرنسا وأمريكا.


الدلالات القريبة للحدث

لا نستطيع أن نتنبأ بمدى قدرة الرجل على الصمود أمام هذه التحديات الجسام، فعلى الرغم من “الشياكة” التي يبديها الغرب في ممارسته للعنف يبدو أنّه صارم في كلّ ما يتعلق بالهيمنة، فالدول الغربية لا تقمع الشعوب إذا تظاهرت ولا تكمم أفواهها إذا اعترضت، لكنّ ذلك كله لا يثني عزمها ولا يصرفها عن مواصلة سيرها نحو الهدف مهما كان متدنّيًا ولاإنسانيًّا، هكذا فعلت عندما غزت العراق وقتلت الأطفال بعشرات الآلاف، وعندما وقفت بإصرار مع الكيان الصهيونيّ الذي يرتكب المجازر في حقّ الأطفال بغزة، ومِن قبلُ فعلت أمريكا لدى حربها على فيتنام، فالمتوقع أن تستمرّ الدول الغربية التي تشكل الهيكل العام للنظام في اضطهادها وتضييقها؛ بما يعني أنّ الصمود لابد له من حشود، أمّا بشكل فرديّ فإنّنا نُحَمّل المنصةَ وصاحبَها ما لا طاقة لها ولا له بالقليل منه؛ وهنا تتجلى أهم الدلالات الظاهرة، وهي أنّ الحرية الحقيقية محاصرة ومضَيّقٌ عليها حتى في الغرب الذي يدَّعي حماية الحريات وتمكين الديمقراطية، والواقع أنّ الديمقراطية في أزمة؛ لأنّها بلا حرية حقيقية، وربما كان “أَلان دونو” متلطفًا عندما قال: “لنتّفِقْ على أنّ النظام الذي نَجِدُ أنفسَنا فيه الآن ما عادَ يهدد الديمقراطية؛ لقد نَفّذَ التهديدات بالفعل، فَلْنُسَمِّ هذا النظام أوليغارشية .. طغيان برلماني .. شمولية مالية .. أو أيَّ شيء آخر”.


الدلالات الأكثر خطرًا

يقول مؤلفو كتاب “استخبارات وسائل التواصل”: “إنّ البحث المعتمد على وسائل التواصل الاجتماعي قد يساهم في فهمنا لعدد من الظواهر، وقد يشمل ذلك قياس مستويات العنف ومؤشراته، والظروف التي تسمح به، والسبل التي تقود للتشدد، وتحليل كيفية تشكل الأفكار وتغيرها”؛ وهذا دليل صريح على اعتماد أجهزة المخابرات بشكل أساسيّ على وسائل التواصل الاجتماعيّ، لكنّ كذب هذه الأنظمة، وتوسعها في استعمال ما تراه حقًا لها، وانحرافها في كل مرحلة من مراحل ممارستها لهذا الحقّ المزعوم؛ يجعلنا نذهب إلى الاعتقاد بأنّ الهيمنة والتأله والاستبداد الرأسماليّ وراء كل هذه الممارسات الفجة، وبأنّ الشعوب تعيش اليوم حبيسة حدودها الجغرافية تحت قبضة “النظام!”.

يقول مؤلفا كتاب ” الأناركية .. الثورة والإنسان”: “أكثر فأكثر أخذ الناشطون يحاولون لفت الانتباه إلى حقيقة أنّ الرؤية النيوليبرالية للعولمة محدودة إلى حد بعيد بحركة رأس المال والبضائع، وتزيد فعلا الحواجز أمام التدفق الحر للبشر والمعلومات والأفكار، وقد تضاعف حجم حرس حدود الولايات المتحدة الأمريكية ثلاث مرات تقريبا منذ التوقيع على اتفاقية التجارة الحرة لأمريكا الشمالية (نافتا)، وهذا ليس مدهشا على الإطلاق؛ إذْ لو لم يكن ممكناً أن تسجن فعليا أغلبية الناس في العالم في معاقل بائسة فلن يكون ثمة حافز لدى شركة Nike أو The Gap لنقل الإنتاج هناك بادئ ذي بدء، مع إتاحة حرية الأشخاص سينهار مجمل المشروع النيوليبراليّ … فالإنجاز الأساسيّ للدولة/الأمّة خلال القرن الماضي كان تأسيس منظومة متجانسة من الحواجز ذات الحراسة المشددة حول العالم”.


وللإسلام الكلمة الفاصلة

لم ير علماء الإسلام فرقًا بين الحاكم والمحكوم في وجوب الخضوع لهذا النهي الصارم: (ولا تجسّسوا)، فكما لا يجوز للفرد أن يتجسس على آخر؛ لا يجوز للدولة أن تتجسس على الأفراد، ولا أن تخترق خصوصياتهم بذريعة الحفاظ عليهم، فمن قام عليه الدليل الماديّ حُكِمَ عليه بِهِ، وإلا فالأصل البراءة.

كيف كشفت الحرب على غزة عن الفاشية الإسرائيلية والغربية


كيف كشفت الحرب على غزة عن الفاشية الإسرائيلية والغربية


بواسطة جوناثان كوك


إن الدعم المادي والخطابي للإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني موجود في كل مكان. حان الوقت للسؤال عن السبب
بعد مرور ما يقرب من عام على أول إبادة جماعية يتم بثها مباشرة في العالم - والتي بدأت في غزة, ويتوسع بسرعة في الضفة الغربية المحتلة - لا تزال وسائل الإعلام الغربية تتجنب استخدام مصطلح “genocide” لوصفه إسرائيل’s هياج الدمار.

وكلما ساءت الإبادة الجماعية، كلما طال أمد استمرار الحصار الإسرائيلي المفروض على المنطقة، وكلما أصبح من الصعب إخفاء الفظائع ــ وكلما قلت التغطية التي تتلقاها غزة.

وكانت هيئة الإذاعة البريطانية هي أسوأ مجرم، نظرا لأنها كذلك بريطانيا’s فقط هيئة البث الممولة من القطاع العام. وفي نهاية المطاف، من المفترض أن تكون مسؤولة أمام الجمهور البريطاني، الذي يطلب منه القانون دفع رسوم الترخيص.

ولهذا السبب كان الأمر أكثر من مثير للسخرية للشهادة ظهرت وسائل الإعلام المملوكة للمليارديرات في الفم في الأيام الأخيرة حول “BBC pise” - وليس ضد الفلسطينيين, ولكن ضد إسرائيل. نعم، لقد سمعت هذا صحيحا.

نحن نتحدث عن نفس “anti- Israel” BBC التي نشرت للتو عنوانًا رئيسيًا آخر - هذه المرة بعد أن أطلق قناص إسرائيلي النار على أمريكي مواطنة في الرأس - تمكنت بطريقة ما، مرة أخرى، من عدم ذكر من قتلها. أي قارئ عادي يخاطر بالاستنتاج من العنوان “قتل ناشط أمريكي بالرصاص في الضفة الغربية المحتلة” بأن الجاني مسلح فلسطيني.

 

ففي نهاية المطاف، يتم تمثيل الفلسطينيين، وليس إسرائيل، من قبل حماس، وهي المجموعة التي صنفتها الحكومة البريطانية كمنظمة إرهابية، كما تستمر هيئة الإذاعة البريطانية في تذكيرنا.

ومن المفترض أن هيئة الإذاعة البريطانية “anti- Israel” هي التي سعت الأسبوع الماضي إلى إحباط الجهود بمقدار 15 وكالات الإغاثة تُعرف باسم لجنة طوارئ الكوارث (DEC) لإدارة حملة جمع تبرعات كبيرة من خلال هيئات البث في البلاد.


لا أحد لديه أي أوهام حول سبب عدم رغبة بي بي سي في المشاركة. وقد اختارت لجنة التنمية غزة غزة لتكون المستفيد من حملة المساعدات الأخيرة التي قامت بها.

واجهت اللجنة نفس المشكلة مع هيئة الإذاعة البريطانية في عام 2009، عندما كانت المؤسسة رفض المشاركة في حملة لجمع التبرعات في غزة بحجة غير عادية مفادها أن القيام بذلك من شأنه أن يضر بقواعدها بشأن “impartiality”.

هؤلاء الصحفيون أنفسهم يرمون الرمال باستمرار في أعيننا بادعاءات مضادة لا معنى لها تشير إلى أن إسرائيل هي في الواقع الضحية، وليس الجاني

ومن المفترض، في نظر بي بي سي، أن إنقاذ حياة الأطفال الفلسطينيين يكشف عن تحيز لا يكشفه إنقاذ حياة الأطفال الأوكرانيين.

وقتلت إسرائيل في هجومها عام 2009 “only” 1،300 أو نحو ذلك الفلسطينيون في غزة، وليس عشرات الآلاف - أو ربما مئات الآلاف، لا أحد يعرف حقًا - لديهم هذه المرة.

ومن المعروف أن السياسي العمالي الراحل ذو العقلية المستقلة توني بن انشقوا عن صفوفهم وتحدوا الحظر الذي فرضته هيئة الإذاعة البريطانية DEC من خلال قراءة تفاصيل حول كيفية التبرع بالمال مباشرة على الهواء، على الرغم من احتجاجات مقدم البرنامج. وكما أشار آنذاك، والأمر أكثر صحة اليوم: “People سيموتون بسبب قرار BBC.”

وبحسب مصادر داخل كل من اللجنة وبي بي سي، فإن المديرين التنفيذيين للشركة يشعرون بالرعب - كما كانوا في السابق - من "رد الفعل العنيف"" من إسرائيل وجماعات الضغط القوية في المملكة المتحدة إذا روجت لنداء غزة.

وقال متحدث باسم بي بي سي لموقع ميدل إيست آي إن حملة جمع التبرعات لم تستوف جميع المعايير المحددة للنداء الوطني، على الرغم من رأي خبراء لجنة الانتخابات المركزية بأنها تفعل ذلك, لكنه أشار إلى أن إمكانية بث الاستئناف "قيد المراجعة".

سحب اللكمات



السبب وراء قدرة إسرائيل على تنفيذ إبادة جماعية، وقدرة القادة الغربيين على دعمها بشكل فعال, وذلك على وجه التحديد لأن وسائل الإعلام المؤسسة تلجأ باستمرار إلى اللكمات - لصالح إسرائيل إلى حد كبير.

ولا يشعر القراء والمشاهدون بأن إسرائيل ترتكب جرائم حرب منهجية وجرائم ضد الإنسانية في غزة والضفة الغربية المحتلة، ناهيك عن الإبادة الجماعية.

يفضل الصحفيون تأطير الأحداث على أنها أزمة إنسانية، لأن هذا يجرد إسرائيل من مسؤولية خلق الأزمة. إنه ينظر إلى الآثار والمعاناة وليس السبب: إسرائيل.

والأسوأ من ذلك أن هؤلاء الصحفيين أنفسهم يرمون الرمال باستمرار في أعيننا بادعاءات مضادة لا معنى لها تشير إلى أن إسرائيل هي في الواقع الضحية، وليس الجاني.



خذ على سبيل المثال “study” الجديد إلى تحيز بي بي سي المفترض ضد إسرائيل، بقيادة محامٍ بريطاني مقيم في إسرائيل. ديلي ميل مرعوب زائف حذر خلال عطلة نهاية الأسبوع، من المرجح أن تتهم “BBC إسرائيل بارتكاب إبادة جماعية بأربعة عشر مرة أكثر من حماس... وسط دعوات متزايدة للتحقيق.

لكن اقرأ النص، والأمر المذهل حقًا هو أنه خلال فترة الأربعة أشهر المختارة، قامت هيئة الإذاعة البريطانية إسرائيل المرتبطة مع مصطلح “genocide” 283 مرة فقط - في إنتاجه الهائل عبر العديد من القنوات التلفزيونية والإذاعية وموقعه الإلكتروني والبودكاست ومنصات التواصل الاجتماعي المختلفة, والتي تخدم عددًا لا يحصى من السكان في الداخل والخارج.

ما لم تذكره صحيفة ميل وغيرها من وسائل الإعلام اليمينية المهاجمة هو حقيقة أن أيًا من هذه الإشارات لم يكن من الممكن أن يكون افتتاحية بي بي سي الخاصة. وحتى الضيوف الفلسطينيين الذين يحاولون استخدام الكلمة في برامجها يتم إغلاقهم بسرعة.

كان من الممكن أن تكون العديد من المراجع عبارة عن تقارير بي بي سي نيوز عن قضية رفعتها جنوب إفريقيا في محكمة العدل الدولية, وهي تحقق مع إسرائيل بشأن ما وصفته المحكمة العليا في العالم في يناير/كانون الثاني بأنه خطر الإبادة الجماعية في غزة.

وللأسف بالنسبة لهيئة الإذاعة البريطانية، كان من المستحيل نقل تلك القصة دون ذكر كلمة “genocide”، لأنها تقع في قلب القضية القانونية.

وما ينبغي لنا في الواقع أن يذهلنا أكثر من ذلك بكثير هو تلك الإبادة الجماعية النشطة، التي يتواطأ فيها الغرب تماما, تم ذكره من قبل الإمبراطورية الإعلامية العالمية لهيئة الإذاعة البريطانية ما مجموعه 283 مرة فقط في الأشهر الأربعة التالية لـ 7 أكتوبر.

حملة الترهيب

إن الحكم الأولي الذي أصدرته المحكمة العالمية بشأن الإبادة الجماعية في إسرائيل يشكل سياقاً حيوياً ينبغي أن يكون في مقدمة ومركز كل قصة إعلامية عن غزة. وبدلا من ذلك، عادة ما يتم عدم ذكره، أو إخفاؤه في نهاية التقارير، حيث لن يقرأ عنه سوى القليل.

أعطت بي بي سي بشكل سيئ السمعة بالكاد أي تغطية إلى قضية الإبادة الجماعية التي قدمتها جنوب أفريقيا في يناير/كانون الثاني إلى المحكمة العالمية، والتي وجدت هيئة القضاة أنها “plusible”. ومن ناحية أخرى، فقد بثت كامل دفاع إسرائيل إلى نفس المحكمة.


والآن، بعد حملة الترهيب الأخيرة التي شنتها وسائل الإعلام المملوكة للمليارديرات، فمن المرجح أن تكون هيئة الإذاعة البريطانية أقل استعداداً لذكر الإبادة الجماعية ــ وهو الهدف على وجه التحديد.

ما كان ينبغي أن يذهل البريد وبقية وسائل الإعلام المؤسسة أكثر بكثير هو أن هيئة الإذاعة البريطانية تبث 19 مراجع إلى حماس “genocide” في نفس فترة الأربعة أشهر.

إن فكرة قدرة حماس على ارتكاب "إبادة جماعية" ضد إسرائيل، أو اليهود، هي فكرة منفصلة عن الواقع بقدر ما هي فكرة منفصلة عن الواقع الخيال أنها "قطعت رؤوس الأطفال" في 7 أكتوبر/تشرين الأول، أو الادعاءات، التي لا تزال تفتقر إلى أي دليل، بأنها ارتكبت "اغتصاباً جماعياً" في ذلك اليوم.


حماس، وهي جماعة مسلحة يبلغ عددها آلاف المقاتلين، محاصرة حاليا في غزة من قبل أحد المقاتلين أقوى الجيوش في العالم، غير قادر تمامًا على ارتكاب “genocide” للإسرائيليين.

وهذا بالطبع هو السبب وراء عدم قيام المحكمة العالمية بالتحقيق مع حماس بتهمة الإبادة الجماعية، ولماذا فقط المدافعون الأكثر تعصباً في إسرائيل يركضون بأخبار كاذبة إما أن حماس ترتكب إبادة جماعية, أو أنه من الممكن أن تحاول القيام بذلك.

لا أحد يأخذ على محمل الجد مزاعم الإبادة الجماعية التي ارتكبتها حماس. كان هذا هو رد الفعل المذهل للعالم عندما تمكنت المجموعة من الفرار من معسكر الاعتقال في غزة ليوم واحد في 7 أكتوبر وتسببت في الكثير من الموت والخراب.

إن فكرة أن حماس قادرة على فعل أي شيء أسوأ من ذلك ـ أو حتى تكرار الهجوم ـ هي ببساطة فكرة وهمية. إن أفضل ما تستطيع حماس أن تفعله هو شن حرب استنزاف ضد الجيش الإسرائيلي من أنفاقها تحت الأرض، وهو ما تفعله على وجه التحديد.

هنا إحصائية أخرى يستحق تسليط الضوء عليه من “study” الأخير: في نفس فترة الأربعة أشهر, استخدمت هيئة الإذاعة البريطانية مصطلح “جرائم ضد الإنسانية” 22 مرة لوصف الفظائع التي ارتكبتها حماس في يوم واحد في أكتوبر الماضي, مقارنة بـ 15 مرة فقط لوصف الفظائع الإسرائيلية الأسوأ التي ترتكب بشكل مستمر خلال العام الماضي.

الفكر المسموح به


إن التأثير النهائي للضجة الإعلامية الأخيرة هو زيادة الضغط على هيئة الإذاعة البريطانية لتقديم تنازلات أكبر لخدمة مصالحها الذاتية, الأجندة السياسية اليمينية لوسائل الإعلام المملوكة للمليارديرات والمصالح المؤسسية لآلة الحرب التي تمثلها.

وتتلخص مهمة هيئة الإذاعة الحكومية في وضع حدود للفكر المسموح به لعامة الناس في بريطانيا ــ وليس على اليمين، حيث يقع هذا الدور على عاتق صحف مثل ميل آند تلغراف, ولكن على الجانب الآخر من الطيف السياسي، فيما يشار إليه بشكل مضلل باسم “the left”.

وتتلخص مهمة هيئة الإذاعة البريطانية في تحديد ما هو مقبول من خطاب وعمل ـ أي مقبول لدى المؤسسة البريطانية ـ من قِبَل أولئك الذين يسعون إلى تحدي سياستها الداخلية والخارجية.
إن جعل هيئة الإذاعة البريطانية فتىً يجلدها ـ ويدينها باعتبارها "يسارية" ـ يشكل شكلاً من أشكال الإضاءة الدائمة المصممة لجعل وسائل الإعلام اليمينية المتطرفة في بريطانيا تبدو وسطية


لقد ظهر زعماء المعارضة اليسارية التقدمية مرتين في الذاكرة الحية: مايكل فوت في أوائل الثمانينيات، و جيريمي كوربين في أواخر عام 2010. وفي كلتا المناسبتين، اتحدت وسائل الإعلام كفريق واحد لتشويه سمعتهم.

وهذا لا ينبغي أن يفاجئ أحدا. إن جعل هيئة الإذاعة البريطانية فتى جلد - وإدانتها باعتبارها “left-wing” - هو شكل من أشكال الإضاءة الدائمة بالغاز المصممة لجعل وسائل الإعلام اليمينية المتطرفة في بريطانيا تبدو وسطية, وتطبيع الدافع لدفع بي بي سي إلى اليمين أكثر من أي وقت مضى.

على مدى عقود من الزمن، صاغت وسائل الإعلام المملوكة للمليارديرات في أذهان الجمهور فكرة مفادها أن هيئة الإذاعة البريطانية تحدد النهاية القصوى للفكر المفترض “left-wing”. كلما أمكن دفع الشركة إلى اليمين، كلما واجه اليسار خيارًا غير مرحب به: إما أن يتبع هيئة الإذاعة البريطانية نحو اليمين، أو يصبح مكروهًا عالميًا باعتباره اليسار المجنون, استيقظ اليسار، والهرولة اليسار، والمتشدد اليسار.

تعزيز هذه الحجة ذاتية التحقق, يمكن استنتاج أي احتجاجات من قبل موظفي بي بي سي من قبل الصحفيين الخدم لروبرت مردوخ وغيره من أباطرة الصحافة كدليل إضافي على التحيز اليساري أو الماركسي للشركة.

النظام الإعلامي مزور، وبي بي سي هي الوسيلة المثالية للحفاظ عليه بهذه الطريقة.

الضغط على الزر

إن ما تقلل هيئة الإذاعة البريطانية وبقية وسائل الإعلام الرئيسية من أهميته ليس فقط حقائق الإبادة الجماعية التي ارتكبتها إسرائيل في غزة، بل وأيضاً نية الإبادة الجماعية الواضحة لدى القادة الإسرائيليين, المجتمع الأوسع للبلاد، والمدافعين عنه في المملكة المتحدة وأماكن أخرى.

لا ينبغي أن يكون موضع نقاش أن إسرائيل ترتكب إبادة جماعية في غزة، في حين أخبرنا الجميع، من رئيس وزرائها إلى الأسفل، أن هذه هي نيتهم إلى حد كبير.


ومن الأمثلة على تصريحات الإبادة الجماعية هذه التي أدلى بها القادة الإسرائيليون الصفحات المملوءة قضية جنوب أفريقيا أمام المحكمة العالمية. مثال واحد فقط: رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو استنكر الفلسطينيون باسم “Amalek” - إشارة إلى قصة كتابية معروفة جيدًا لكل تلميذ إسرائيلي، حيث أمر الله بني إسرائيل بمسح شعب بأكمله, بما في ذلك أبنائهم ومواشيهم من على وجه الأرض. 

وأي شخص يشارك على وسائل التواصل الاجتماعي سيواجه مجموعة من تصريحات الإبادة الجماعية المماثلة من أنصار إسرائيل المجهولين في الغالب. 

لقد اكتسب مشجعو الإبادة الجماعية هؤلاء وجهًا مؤخرًا - وجهان في الواقع. مقاطع فيديو لإسرائيليين اثنين، يتم بثها باللغة الإنجليزية تحت اسم “Two Nice Juish Boys”, لقد انتشرت بسرعة, يظهر الزوجين وهما يدعوان إلى إبادة كل رجل وامرأة وطفل فلسطيني. 

قال أحد مقدمي البودكاست إن “zero الأشخاص في إسرائيل” يهتمون بما إذا كان تفشي شلل الأطفال الناجم عن تدمير إسرائيل لمرافق المياه والصرف الصحي والصحة في غزة سيؤدي في النهاية إلى قتل الأطفال، أم لا, مشيراً إلى أن موافقة إسرائيل على حملة التطعيم مدفوعة فقط باحتياجات العلاقات العامة. 


في مقطع آخر, يتفق القائمون على البث الصوتي على أن الرهائن الفلسطينيين في السجون الإسرائيلية يستحقون الإعدام عن طريق دفع كمية كبيرة جدًا من الأشياء إلى أعلى أعقابهم.

هم أيضا وضح أنهم لن يترددوا في الضغط على زر الإبادة الجماعية للقضاء على الشعب الفلسطيني: “إذا أعطيتني زرًا لمسح غزة فقط - كل كائن حي في غزة لن يعيش غدًا - سأضغط عليه خلال ثانية … وأعتقد أن معظم الإسرائيليين سيفعلون ذلك. لن يتحدثوا عن الأمر مثلي، ولن يقولوا ‘I ضغطت على it’، لكنهم سيضغطون عليه.”

الفساد الذي لا هوادة فيه

من السهل أن نشعر بالقلق إزاء مثل هذه التعليقات اللاإنسانية، ولكن من المرجح أن تنحرف الضجة الناتجة عن هذا الزوج عن نقطة أكثر أهمية: أنهم يمثلون تمامًا ما هو عليه المجتمع الإسرائيلي الآن. إنهم ليسوا على هامش فاسد. إنهم ليسوا قيمًا متطرفة. إنهم بقوة في الاتجاه السائد.

والدليل لا يكمن فقط في حقيقة أن جيش المواطنين الإسرائيلي يقوم بضرب السجناء الفلسطينيين واللواط معهم بشكل منهجي، ويقنص الأطفال الفلسطينيين في غزة معهم طلقات في الرأس, تشجيع تفجير الجامعات والمساجد، وتدنيس الجثث الفلسطينية، وفرض حصار المجاعة على غزة. 

إنه في الترحيب بكل هذا الفساد الذي لا هوادة فيه من قبل المجتمع الإسرائيلي الأوسع. 

بعد ظهور مقطع فيديو لمجموعة من الجنود وهم يمارسون اللواط أسير فلسطيني وفي معسكر التعذيب سدي تيمان الإسرائيلي، احتشد الإسرائيليون إلى جانبهم. وحجم الإصابات الداخلية التي تعرض لها السجين تطلب دخوله المستشفى. 

في أعقاب ذلك، جلس النقاد الإسرائيليون - المتعلمون “liberals” - في استوديوهات التلفزيون مناقشة ما إذا كان ينبغي السماح للجنود باتخاذ قراراتهم الخاصة بشأن اغتصاب الفلسطينيين المحتجزين، أو ما إذا كان ينبغي للدولة تنظيم مثل هذه الانتهاكات كجزء من برنامج تعذيب رسمي.



واحد من الجنود اختار المتهم في قضية الاغتصاب الجماعي ذلك تخلى عن عدم الكشف عن هويته بعد أن دافع عنه الصحفيون الذين أجروا مقابلات معه. لقد تم التعامل معه الآن على أنه المشاهير الصغار في البرامج التلفزيونية الإسرائيلية.

وتظهر استطلاعات الرأي أن الغالبية العظمى من اليهود الإسرائيليين أيضًا الموافقة على هدم غزة, أو تريد المزيد منه. بعض 70 بالمئة نريد أن نحظر من منصات التواصل الاجتماعي أي تعبير عن التعاطف مع المدنيين في غزة.

لا شيء من هذا جديد حقا. لقد أصبح الأمر برمته أكثر تفاخرًا بعد هجوم حماس في 7 أكتوبر/تشرين الأول.

ففي نهاية المطاف، وقعت بعض أعمال العنف الأكثر إثارة للصدمة في ذلك اليوم عندما عثر مقاتلو حماس على مهرجان للرقص بالقرب من غزة.

إن السجن الوحشي لـ 2.3 مليون فلسطيني، والحصار المستمر منذ 17 عاماً الذي يحرمهم من أساسيات الحياة وأي حريات ذات معنى، أصبح أمراً طبيعياً بالنسبة للإسرائيليين إلى هذا الحد, ويمكن للشباب الإسرائيليين المحبين للحرية أن يقيموا بسعادة هذياناً قريباً جداً من تلك الكتلة من المعاناة الإنسانية.

أو كواحد من الصبيان اليهوديين اللطيفين لاحظ عن مشاعره تجاه الحياة في إسرائيل: “ من الجميل أن تعرف أنك ترقص في حفل موسيقي بينما مئات الآلاف من سكان غزة بلا مأوى، ويجلسون في خيمة.” قاطعه شريكه: “ يجعل الأمر أفضل... يستمتع الناس بمعرفة أنهم [الستينيون في غزة] يعانون.”

'الجنود الأبطال'

إن هذه اللامبالاة الوحشية بتعذيب الآخرين، أو حتى المتعة به، لا تقتصر على الإسرائيليين. هناك جيش كامل من المؤيدين البارزين لإسرائيل في الغرب الذين يعملون بثقة كمدافعين عن أعمال الإبادة الجماعية التي تقوم بها إسرائيل.

وما يوحدهم جميعا هو أيديولوجية التفوق اليهودي الصهيونية.

وفي بريطانيا، لم يتحدث الحاخام الأكبر إفرايم ميرفيس علناً ضد المذبحة الجماعية للأطفال الفلسطينيين في غزة، ولم يلتزم الصمت حيال ذلك. وبدلاً من ذلك، أعطى جرائم الحرب الإسرائيلية مباركته.

في منتصف يناير/كانون الثاني، عندما بدأت جنوب أفريقيا في الإعلان عن قضيتها ضد إسرائيل بتهمة الإبادة الجماعية، وجدت المحكمة العالمية أن “plosible”، تحدث ميرفيس في اجتماع عام، حيث كان المشار إليها إلى عمليات إسرائيل في غزة باعتبارها “الشيء الأكثر تميزًا ”.


ووصف القوات الموثقة بوضوح بارتكاب جرائم حرب بأنها “our جنود أبطال” - وهو ما يخلط لسبب غير مفهوم بين تصرفات جيش إسرائيلي أجنبي والجيش البريطاني.

وحتى لو تصورنا أنه كان يجهل حقاً جرائم الحرب التي ارتكبت في غزة قبل ثمانية أشهر، فلا يمكن أن تكون هناك أعذار الآن.

ومع ذلك، في الأسبوع الماضي، ميرفيس تحدث مرة أخرى, هذه المرة لتوبيخ الحكومة البريطانية لفرضها حدًا جزئيًا للغاية على مبيعات الأسلحة لإسرائيل بعد أن تلقت مشورة قانونية مفادها أن إسرائيل من المحتمل أن تستخدم مثل هذه الأسلحة لشن الحرب الجرائم.

بمعنى آخر، دعا ميرفيس حكومته علنًا إلى تجاهل القانون الدولي وتسليح دولة ترتكب جرائم حرب، وفقًا لمحامي حكومة المملكة المتحدة، و“splusible congolacy”, بحسب المحكمة العالمية.

هناك مدافعون مثل ميرفيس في مناصب مؤثرة في جميع أنحاء الغرب.

وظهر على شاشة التلفزيون أواخر الشهر الماضي، نظيره في فرنسا, حاييم كورسيا, وحث إسرائيل على إنهاء المهمة في غزة، ودعم نتنياهو، الذي يلاحقه المدعي العام للمحكمة الجنائية الدولية بتهمة ارتكاب جرائم حرب.

ورفضت كورسيا إدانة قتل إسرائيل لما لا يقل عن 41 ألف فلسطيني في غزة, يتجادل أن تلك الوفيات لم تكن من نفس الترتيب الذي حدث مع 1150 حالة وفاة للإسرائيليين في 7 أكتوبر.

وكان من الصعب ألا نستنتج أنه كان يقصد أن حياة الفلسطينيين ليست بنفس أهمية حياة الإسرائيليين.

الفاشية الداخلية

منذ ما يقرب من 30 عامًا، نشر عالم الاجتماع الإسرائيلي دان رابينوفيتش كتابًا بعنوان, تطل على الناصرة, وهذا ما قال إن إسرائيل مجتمع عنصري بشكل أعمق بكثير مما هو مفهوم على نطاق واسع.


وقد اكتسب عمله أهمية جديدة - وليس فقط بالنسبة للإسرائيليين - منذ 7 تشرين الأول/أكتوبر.

وبالعودة إلى التسعينيات، كما هو الحال الآن، افترض الغرباء أن إسرائيل منقسمة بين المتدينين والعلمانيين، والتقليديين والحديثين؛ بين المهاجرين الجدد المبتذلين و“veterans” الأكثر استنارة.

وكثيراً ما يرى الإسرائيليون أن مجتمعهم منقسم جغرافياً أيضاً: بين المجتمعات الطرفية حيث تزدهر العنصرية الشعبية، ومركز حضري حول تل أبيب حيث تسود الليبرالية الحساسة والمثقفة.

مزق رابينوفيتش هذه الأطروحة إلى أشلاء. وقد اتخذ كدراسة حالة لمدينة الناصرة عيليت اليهودية الصغيرة في شمال إسرائيل، المشهورة بسياساتها اليمينية المتطرفة, بما في ذلك دعم الحركة الفاشية للحاخام الراحل مئير كاهانا.



كان يوم 7 أكتوبر لحظة حاسمة. لقد كشفت عن همجية وحشية يصعب التصالح معها


أرجع رابينوفيتش سياسة المدينة بشكل أساسي إلى حقيقة أن الدولة بنتها على قمة الناصرة، أكبر مجتمع للفلسطينيين في إسرائيل، خصيصًا لاحتوائها, السيطرة على جارتها التاريخية وقمعها.

وكانت حجته أن يهود الناصرة عيليت لم يكونوا أكثر عنصرية من يهود تل أبيب. لقد كانوا ببساطة أكثر تعرضًا لوجود “Arab”. في الواقع، نظرًا لحقيقة أن عددًا قليلاً من اليهود اختاروا العيش هناك، فقد فاق عددهم بشكل كبير جيرانهم “Arab”. وقد وضعتهم الدولة في منافسة مباشرة تصادمية مع الناصرة على الأرض والموارد.

على النقيض من ذلك، لم يصادف يهود تل أبيب أبدًا “Arab” إلا إذا كان في دور خادم: كنادل أو عامل في موقع بناء.

وأشار رابينوفيتش إلى أن الفرق هو أن يهود الناصرة عيليت يواجهون عنصريتهم بشكل يومي. لقد برروا الأمر وأصبحوا سهلين معه. وفي الوقت نفسه، كان بوسع اليهود في تل أبيب أن يتظاهروا بأنهم منفتحون لأن تعصبهم لم يتم اختباره بشكل هادف على الإطلاق.

حسنًا، لقد غيّر يوم 7 أكتوبر كل ذلك. واجه “liberals” في تل أبيب فجأة وجودًا فلسطينيًا غير مرحب به ومنتقمًا داخل دولتهم. لم يعد “Arab” هو الشخص المضطهد والمروض والذليل الذي اعتادوا عليه.

وبشكل غير متوقع، شعر يهود تل أبيب بمساحة اعتقدوا أنها ملكهم يتم غزوها حصريًا، تمامًا كما شعر يهود الناصرة عيليت لعقود من الزمن. وقد استجابوا بنفس الطريقة تمامًا. لقد برروا فاشيتهم الداخلية. بين عشية وضحاها، أصبحوا مرتاحين للإبادة الجماعية.
حزب الإبادة الجماعية

ويمتد هذا الشعور بالغزو إلى ما هو أبعد من إسرائيل بطبيعة الحال.

في 7 أكتوبر/تشرين الأول، لم يكن الهجوم المفاجئ الذي شنته حماس مجرد هجوم على إسرائيل. كان هروب مجموعة صغيرة من المقاتلين المسلحين من أحد أكبر السجون وأكثرها تحصينًا على الإطلاق بمثابة هجوم صادم على الرضا عن النفس لدى النخب الغربية - اعتقادهم بأن إن النظام العالمي الذي بنوه بالقوة لإثراء أنفسهم كان دائمًا ولا يجوز انتهاك حرمته.

لقد هز يوم 7 أكتوبر ثقتهم بشدة في إمكانية احتواء العالم غير الغربي إلى الأبد؛ وأنه يجب عليها الاستمرار في تنفيذ أوامر الغرب، وأنها ستبقى مستعبدة إلى أجل غير مسمى.

وكما حدث مع الإسرائيليين، سرعان ما كشف هجوم حماس عن الفاشية الصغيرة داخل النخبة السياسية والإعلامية والدينية في الغرب, الذي قضى حياته متظاهرًا بأنه حراس مهمة حضارية غربية، مهمة مستنيرة وإنسانية وليبرالية.


لقد نجح هذا الفعل، لأن العالم كان منظمًا بطريقة تمكنهم بسهولة من التظاهر لأنفسهم وللآخرين بأنهم يقفون ضد همجية الآخر.

كان استعمار الغرب بعيدًا عن الأنظار إلى حد كبير، وانتقل إلى الشركات الغربية الممتدة حول العالم والاستغلالية والمدمرة للبيئة وشبكة من بعضها 800 قاعدة عسكرية أمريكية في الخارج, والتي كانت موجودة للركل إذا واجهت هذه الإمبريالية الاقتصادية الجديدة صعوبات.

وسواء كان ذلك عن قصد أم بغير قصد، فقد مزقت حماس قناع هذا الخداع في 7 تشرين الأول/أكتوبر. تبخر التظاهر بوجود صدع أيديولوجي بين القادة الغربيين على اليمين وبين “left” المفترض بين عشية وضحاها. كلهم ينتمون إلى نفس حزب الحرب؛ لقد أصبحوا جميعًا من محبي

حزب الإبادة الجماعية.

لقد طالب الجميع بحق إسرائيل المفترض في الدفاع عن نفسها - في الحقيقة، حقها في مواصلة عقود من اضطهاد الشعب الفلسطيني - من خلال فرض حصار على الغذاء, المياه والكهرباء لسكان غزة البالغ عددهم 2.3 مليون نسمة.

ويوافق الجميع بنشاط على تسليح إسرائيل بذبح وتشويه عشرات الآلاف من الفلسطينيين. ولم يفعل الجميع شيئاً لفرض وقف إطلاق النار باستثناء التشدق بهذه الفكرة.

ويبدو أن تمزيق القانون الدولي والمؤسسات الداعمة له أكثر استعداداً من فرضه ضد إسرائيل. الجميع يدينون معاداة السامية احتجاجات حاشدة ضد الإبادة الجماعية، بدلا من إدانة الإبادة الجماعية نفسها.


كان يوم 7 أكتوبر لحظة حاسمة. لقد كشفت عن همجية وحشية يصعب التصالح معها. ولن نفعل ذلك حتى نواجه حقيقة صعبة 

 

الظلم الغربي في دعم العدوان على غزّة

 

الظلم الغربي في دعم العدوان على غزّة




بقلم: د. علي محمد الصلابي



في القرآن الكريم، وردت الإشارة إلى العدوان سبعاً وستين مرة، 

ضمن سياق استنكاري صارم، ونهي قاطع عن ارتكابه!


تأتي هذه اللفظة قريبًا من لفظة الظلم عددًا ومعنى، حيث اقترنت في النص القرآني بالإثم والبغضاء والظلم، كما في قوله تعالى:{ومن يفعل ذلك عدوانًا وظلمًا فسوف نصليه نارًا وكان ذلك على اللّه يسيرًا}. 
هذه الدلالات القرآنية تتجلى بوضوح في المشهد المروّع للمجازر الوحشية المستمرة التي ترتكبها قوات الاحتلال الإسرائيلي بحق أبناء الشعب الفلسطيني في الضفة الغربية وقطاع غزة، خاصةً الأبرياء والمدنيين العزل.

هذه الأعمال العدوانية المروعة، التي تقع على الشعب المحاصر في غزة أمام أنظار العالم، تتواصل في ظل غطاء سياسي ودعم مستمر من الولايات المتحدة وحلفائها الغربيين؛ فبينما يفترض أن تكون واشنطن وسيطًا في تهدئة النزاع وتبادل الأسرى وإدخال المساعدات الإنسانية إلى غزة، تواصل دعمها العسكري والمالي للاحتلال الإسرائيلي، بصفقات أسلحة ضخمة تجاوزت قيمتها 20 مليار دولار. هذه السياسات تسهم في تعميق مأساة الشعب الفلسطيني وإطالة معاناته، وتهدد حقه المشروع في الحياة الكريمة على أرضه التاريخية.

– مفهوم الظّلم 

إن الظلم في المنظور الإسلامي هو نقيض العدل والإنصاف، وهو عدوان على الآخر بسبب أو من دونه؛ ولذلك كان الظلم صفة ذميمة ترفضها كل بصيرة واعية. (الهرامة، 2007).

– موقف الإسلام من الظالمين  



لا تكاد تجد صفات كرّر الله ذمّها في القرآن الكريم، وأوعد المتصفين بها بأقسى العقوبات مثل صفات الظلم والعدوان، واغتصاب الحقوق.

حظيت صفة الظّلم باهتمام عظيم في القرآن الكريم، وفي سنة نبيه (صلى الله عليه وسلم)، ولذلك كانت إزالة الظلم أساس التربية الدينية القويمة. وهي عنوان أخلاق الأنبياء التي بُعث النبي صلى الله عليه وسلم متمماً لها حتى قال: «إنما بعثت لأتمم مكارم الأخلاق» (الهرامة، 2007: 28). وقد قال الإمام الشافعي: بئس الزاد إلى المعاد العدوان على العباد (سير أعلام النبلاء، شمس الدين الذهبي، ج10/ ص 32). وقد خصص العلامة عبد الرحمن بن خلدون فقرة في مقدمته الشهيرة بعنوان: «في أن الظلم مؤذن بخراب العمران».

وإن للظلم أنواع متعددة ومتفاوتة الضرر والعقوبة، فمنها ظلم الإنسان لربه، وظلمه لأخيه الإنسان، وظلمه للحيوان، وظلمه للطبيعة، وظلمه لنفسه.. ومن الظلم ما هو بدني كالقتل، وما هو مالي كالسرقة والغصب والاحتيال والربا والاستغلال والإسراف والبخل والتقتير والاحتكار، وبخس الناس أشياءهم والغش والخديعة والتطفيف والوزن بمكيالين، قال تعالى: {ويلٌ للمطفّفين* الّذين إذا اكتالوا على النّاس يستوفون* وإذا كالوهم أو وزنوهم يخسرون} [المطففين: 1-3]. 
ومن الظلم ما هو معنوي كالغيبة والنميمة والإهانة والكذب، وأشده البهتان والافتراء على الله والنفاق، ومنه اللمز والهمز والحسد والإرهاب والترويع والطغيان والشتم والغواية وانتهاك العرض والخيانة.

– أثر الظّلم على الخلق   


من الآثار القاسية نتيجة الظلم ما يسببه من الحروب، والثارات الجماعية والفردية، والعدوان بمختلف أشكاله المادية والمعنوية، وما ينتج عن كل ذلك من إراقة للدماء وهتك للأعراض، وإكراه للنفوس، وسلب للأموال، واغتصاب للأرض والعرض، وفي أدنى ذلك ما يثير غضب الله، وغضب الضمائر الحية في الناس؛ قال تعالى: {وما اعتدينا إنّا إذًا لمن الظّالمين} [سورة المائدة: 107].

وإن أسوأ ما يقع من ذلك على النفس البشرية فقدان الأمن والشعور بالخوف والقلق، وهو ما يسبب مشاعر الإحباط وضعف الأمل والإذلال والإقصاء، وما يترتب عليه من قلة الغطاء المادي والمعنوي، وضآلة الإبداع الذي يتطلب الاستقرار النفسي والأمن التام من جميع أنواع الخوف؛ ولذا فقد امتن الله على قريش بالأمن باعتباره أحد أهم الحاجات الضرورية للإنسان، فقال سبحانه: {فليعبدوا ربّ هذا البيت* الّذي أطعمهم من جوعٍ وآمنهم من خوفٍ} [قريش: 3 ـ 4] (الهرامة، 2007: 36).

ويتضح من قراءة بعض آيات القرآن الكريم أن خطر الظلم ليس مقتصراً على المظلومين، بل هو على الظالمين أكثر قسوة وأعظم خطراً؛ لأنه يقودهم إلى جهنم حتى لكأنها لم تخلق لغيرهم، نظراً لسعة الظلم وشدة خطره، قال تعالى: {لهم من جهنّم مهادٌ ومن فوقهم غواشٍ وكذلك نجزي الظّالمين} [سورة الأعراف: 41].

والعدوان ظلمٌ سواء وقع على المسلم أو على غير المسلم، فقد امتدح الرسول الكريم حلف الفضول الذي عقد في الجاهلية؛ لأنه يدعو إلى دفع الظلم عن كل مظلوم، حيث تعاقد مبرموه وتعاهدوا على أن لا يجدوا بمكة مظلوماً من أهلها وغيرهم ممن دخلها من سائر الناس إلا قاموا معه، وكانوا على من ظلمه حتى ترد إليه مظلمته، فسمت قريش ذلك الحلف حلف الفضول، وقال عنه الرسول صلى الله عليه وسلم، وكان فيمن حضره: «لقد شهدت في دار عبد الله حلفاً ما أحب أن لي به حمر النعم، ولو أدعى إليه في الإسلام لأجبت» (سيرة ابن هشام: 1/73).

– سنة الله الجارية في إهلاك واستبدال الظالمين:



إن لله تعالى سننًا ثابتة وجارية في الظالمين، وأتباعهم، ومن 

عاونهم، وإن الآيات الكريمة تقرّر سنةً من سنن الله الربانية التي لا 

تحابي أحداً من خلقه، إنّها سنة زوال الأمم بالفساد والتجبر، وزوالها

 بالطغيان والعدوان، وزوالها أيضاً بالعصيان والبطر والكبرياء،

 كما في قوله تعالى: {وإذا أردنا أن نهلك قريةً أمرنا مترفيها ففسقوا فيها فحقّ عليها القول فدمّرناها تدميرًا} [الاسراء: 16]. 

أي أمرناهم بالأمر الشرعي من فعل الطاعات واجتناب المعاصي،

 فعصوا وفسقوا وحققوا أسباب الزوال والانهيار، فحقّت عليهم سنة

 الأخذ والزوال والتدمير والتنكيل جزاء فسقهم وعصيانهم.

فالأمم والحضارات تهلك، وتزول، إذا فشا فيها الظلم، وساد دون أي

 مقاومة أو محاولة للإصلاح، وإقامة العدل، والأمر بالمعروف 

والنهي عن المنكر، قال تعالى: {وتلك القرى أهلكناهم لمّا ظلموا 

وجعلنا لمهلكهم موعدًا} [الكهف: 59].


ولأن سنن الله تعالى في إهلاك الظالمين واستبدالهم لا تحابي أحداً 

من الخلق، فقد وقعت على بني إسرائيل أنفسهم بعد أن نصرهم الله 

تعالى على جالوت وجنده من قبل، ومكّن لهم في أرض فلسطين 

وحولها، فلما انحرف اليهود عن دعوة أنبياء بني إسرائيل (عليهم 

السلام) تم عزلهم عن منصب قيادة الإنسانية، وقد جاء تفصيل ذلك 

بشكل واضح وصريح في سورة الإسراء 

(المباركفوري، 1996، ص 120).


وقد مضت سنة الله في الاجتماع البشري أن الله تعالى ما أهلك قوماً 

إلا جاء من بعدهم قوم آخرون، يقومون بعمارة الأرض والخلافة 

فيها، قال تعالى: ﴿وإن تتولّوا يستبدل قومًا غيركم ثمّ لا يكونوا 

أمثالكم﴾ [محمد: 38]، وذلك ليستمر العالم قائماً على عقيدة سليمة، 

وأسس وأخلاق وقيم صحيحة صالحة للبقاء (هيشور، 1997: 73).


– العدوان الغاشم على غزّة والظلم الأمريكي والغربي في دعم إسرائيل 


إن الحضارة الأمريكية والأوروبية، حدث لها اختراق حقيقي من قبل الأجهزة الصهيونية المتخصصة بالقضايا الفكرية، والدعاية الدينية، فحرّفت الكثير من الحقائق التاريخية من قضية “أرض الميعاد” و”هيكل سليمان”، ونجحت بدعم بعض حكومات الغرب في اختراق وتشويه المنظومة الأخلاقية والقانونية الغربية. ومارست تلك الأفكار دورها في تغييب القيم التي تخاطب الفطرة السليمة، وجعْل كثير من القادة الغربيين على اختلاف مواقفهم يسقطون في خندق الاستكبار والظلم على حساب قيم شعوبهم ومؤسساتهم، وشعاراتهم الإنسانية والحضارية التي نادوا بها طويلاً.

والحقيقة المرة هي أن دولًا عظمى مثل الولايات المتحدة الأمريكية وكندا وأستراليا، وبعض دول الغرب، وهي البلدان التي أسسها المهاجرون والهاربون من الظلم والاضطهاد، قد أحلوا أنفسهم محل الجبابرة الذين اضطهدوا وعذبوا واستكبروا.

وفي الختام، لا شك أن الدائرة ستدور على المعتدين الظالمين اليوم كما دارت عليهم بالأمس، فهذا الظلم المتراكم الذي يرتكبه الكيان الصهيوني، ومن خلفه الدول الغربية وعلى رأسها الولايات المتحدة، مؤذنٌ بقرب نهاية الحضارة الغربية المادية الضالة عقائدياً والفاسدة أخلاقياً، وأن أجل انهيار وأفول هذه الحضارة وتلك الأمم التي تنضوي تحت شعارها قد اقترب، فهذا وعد الله للمظلومين ووعيده للظالمين المتكبرين، وسنته الثابتة والمتكررة في خلقه عبر التاريخ البشري.

وصدق الله تعالى القائل في كتابه العزيز: ﴿وأقسموا باللّه جهد أيمانهم لئن جاءهم نذيرٌ لّيكوننّ أهدىٰ من إحدى الأمم ۖ فلمّا جاءهم نذيرٌ مّا زادهم إلّا نفورًا* استكبارًا في الأرض ومكر السّيّئ ۚ ولا يحيق المكر السّيّئ إلّا بأهله ۚ فهل ينظرون إلّا سنّت الأوّلين ۚ فلن تجد لسنّت اللّه تبديلًا ۖ ولن تجد لسنّت اللّه تحويلًا﴾ [فاطر: 42-43].