Smile! You’re at the best WordPress.com site ever
« سّيار الجميل يفتح النار من جديد على هيكل !!
يسقط هيكل!.. تسقط النخبة!..يحيا الشعب بقلم د محمد عباس »
الدكتور الغتيت يقتل هيكل / د محمد عباس
الدكتور الغتيت يقتل هيكل (1/2)
د محمد عباس
mohamadab@hotmail.com
الضربة الهائلة التي وجهها الفقيه القانوني الدولي الأستاذ الدكتور على الغتيت إلى محمد حسنين هيكل وقناة الجزيرة أصابتني أنا بالدوار فهل شعرا بها؟!
لقد قتل الدكتور الغتيت محمد حسنين هيكل.. وفجر قناة الجزيرة..
ولقد نقل موقع صوت المقاومة للأستاذ صلاح بديوي ما نشرته صحيفة المسائية عن تصريحات خطيرة للدكتور على الغتيت، وهو من كبار أساطين القانون و حجة عالمية في القانون الدولي وعضو المجلس الرئاسي للاتحاد الدولي للمحامين، وهو قيمة وطنية كبرى وعقل منهجي جبار، عزوف عن الشهرة بعيد عن الأضواء إلا إذا اضطر مثلما حدث عندما كان هو المحامي العربي الوحيد الذي تطوع للدفاع عن الفيلسوف الفرنسي المسلم رجاء جارودي.
إن النص من الخطورة بحيث لا يجدي اختصاره أو الاستشهاد بفقرات منه..
إنه حكم بالإعدام لابد من قراءته كله.. ذلك أن القارئ هو المكلف بتنفيذ حكم الإعدام!!
قال الدكتور على الغتيت بالنص:
” فوجئت وغيري كثيرون بما أعلنه الأستاذ محمد حسنين هيكل في قناة «الجزيرة» طيلة فبراير الماضي عن أن مصر أممت شركة قناة السويس فقط، أما المرفق نفسه فيخضع لاتفاقية القسطنطينية، وهو كلام بالغ الخطورة لأنه يمس السيادة المصرية في الصميم، فالمرفق متواجد في ثلاث محافظات مصرية وهذا الكلام مضمونه الإلغاء العملي لتأميم قناة السويس، كحق مصري أصيل، خاصة وأن خطورة هذا الكلام تتزايد عندما نعلم أن هناك مؤامرة دولية تجري الآن في الظلام، وتستهدف قناة السويس كهدف استعماري أصيل وكجزء من الحملة التي تستهدف استعادة النفوذ الاستعماري القديم في المستعمرات السابقة ويكفي أن نعلم أنه تم تكوين شركة في باريس من أحفاد فرديناند دي ليسبس تستهدف استعادة قناة السويس من المصريين أصحاب القناة والبلد والمؤسف أن لهذه الشركة وكلاء مصريين في القاهرة يعملون لحسابها علنا، ويؤسفني أن أقول أن ما ادعاه الأستاذ هيكل في قناة «الجزيرة» عار من الصحة ويفتح الطريق لعودة قناة السويس للأجانب، وللعلم فقد أثارني ما أعلنه هيكل علي مدار أربع حلقات في الجزيرة طيلة فبراير من تشكيك في أحقية مصر في قناة السويس ودفعني ذلك إلي إرسال خطاب رسمي إلي وضاح خنفر مدير عام قناة الجزيرة بتاريخ 12 مارس 2008، وأطالبه بعرض الرأي الآخر وإتاحة الفرصة لي للرد تليفزيونيا علي هيكل من نفس المنبر، خاصة وأن كلام هيكل شكل تشويشاً خطيراً علي السيادة المصرية علي قناة السويس وطالبت قناة الجزيرة بإتاحة الفرصة لي لتوضيح الوضع القانوني الصحيح لقناة السويس بعد تشويش هيكل، لكن لم أتلق رداً من قناة «الجزيرة» مما دفعني لإرسال خطاب آخر إلي وضاح خنفر أيضاً بتاريخ 27 مارس الماضي أطالبه للمرة الثانية بإتاحة الفرصة للرد علي مزاعم هيكل دون فائدة، مما جعلني أتيقن من أن «الجزيرة» تلعب دوراً في مخطط التشويه والتشويش علي مصر في قضية قناة السويس، خاصة وأنه تشويش يفتقر للحقائق القانونية الدولية المحسوم جوهرها وشكلها منذ أكثر من 120 عاماً. ورغم ذلك رفضت الجزيرة إتاحة الفرصة للدفاع المصري، ومن جانبي أرسلت خطاباً شخصياً إلي الأستاذ محمد حسنين هيكل بتاريخ 18 فبراير 2008 أكدت فيه حق مصر التاريخي والقانوني في قناة السويس شركة ومرفق وأن اتفاقية القسطنطينية لا تتضمن سوي ضمان مصر لحرية الملاحة لأي دولة في قناة السويس؛ طالما أن هذه الدولة ليست في حالة حرب مع مصر؛ أما خلاف ذلك فليس هناك أي التزامات علي مصر ومما يؤسفني أن مزاعم الأستاذ هيكل تأتي في وقت تتعاظم فيه مؤامرات دولية مهددة لمصر ومشروعات صهيونية بحرية مهددة لمصر في قناة السويس وسيناء وبأحداث وشيكة في لبنان وفلسطين وسوريا؛ فضلاً عن أن هذا الكلام يعد استدعاء غريباً لمعركة استعمارية بين انجلترا والدول الاستعمارية ألمانيا وفرنسا وروسيا والنمسا بعد الاحتلال البريطاني لمصر مباشرة خلال الفترة من 1882 إلي 1888 عموماً المعركة مستمرة ولن نسمح بتنفيذ مخططات شركة أحفاد ديليسبس.”
***
الدكتور على الغتيت من أبرز الشخصيات الحيادية المتوازنة ذات الثقل الدولي في العالم العربي، وقد قدمته قناة الجزيرة في حلقات عديدة خاصة مع المذيع المشهور أحمد منصور، الذي وصفه في إحدي حلقات برنامجه:”أكثر من رأي” بما يلي:
الدكتور على الغتيت عضو المجلس الرئاسي للاتحاد الدولي للمحامين، وُلد في القاهرة عام 1940، حصل على ليسانس الحقوق عام 1961 في جامعة القاهرة وعلى الماجستير في القانون في الجامعة وفي عام 1974 حصل على الدكتوراه في جامعة بريكلي في الولايات المتحدة الأميركية عام 1972، ثم عمل أستاذا مشاركا بها مع كبار أستاذة القانون لعلم الفلسفة الدستورية والمضمون الجوهري لقوانين المقارنة والمنازعات، متخصص في القانون الاقتصادي الدولي والمقارن وعضو بمجلس التحكيم الدولي ويعمل أستاذا لعلم الاقتصاد المقارَن والقانون الدولي الخاص بكلية الحقوق جامعة القاهرة ومعهد قانون الأعمال الدولي في جامعة السوربون في باريس، عضو بالمجلس الرئاسي للاتحاد الدولي للمحامين وعضو بمجلس إدارة المفوضية الدولية للمحاكمين في باريس، نائب رئيس الجمعية المصرية للقانون الدولي، رئيس مشارك لتحرير مجلة التحكيم الدولي التي تصدر ربع سنويا في كلٍ من ميلان والقاهرة، عضو نقابة المحامين بمدينة نيويورك الأميركية والمعهد البريطاني للقانون المقارن والقانون الدولي بمدينة لندن، عضو في المعهد الدولي لقانون الأعمال الدولي بباريس وعضو بجمعية القانون الدولي الأميركية وعضو سابق بلجنة تمثيل الدول العربية للجمعية الدولية للأعمال في لندن والممثل الإقليمي للمجموعة العربية بقسم القانون الدولي بالنقابة الدولية للمحامين، مستشار قانوني للجمعية العربية لمكافحة التمييز وعضو في اللجنة القانونية العليا للتحكيم الاقتصادي الدولي وعضو بمجلس إدارة مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم الدولي وعضو في مجلس إدارة الجمعية الدولية للمرافعين أمام القضاء الدولي منذ العام 1980، ترافع في كثير من القضايا الدولية المعروفة ولعل أبرز مرافعاته كانت فيما يتعلق بالدفاع عن المفكر البارز روجيه غارودي في باريس، يجيد العربية والإنجليزية والفرنسية.
***
لماذا لم تستجب قناة الجزيرة لرجاء هذا العالم الكبير بتصحيح الخطأ.. ولماذا لم يستجب هيكل؟!
الإجابة عن السؤال تفضح الأمر كله..
***
لقد انتهي كلام الدكتور على الغتيت.. وانتهى معه ما ربطني طيلة نصف قرن بهيكل.. وكان ما ربطني به هو الاحترام والاختلاف والاعتراف بأستاذيته في الصحافة.. وظني أنه لا يكذب وإن كان يخفي كثيرا من الحقائق.. وكنت مدركا أن ذلك يكون أحيانا كثيرة أسوأ من الكذب الصريح..
صحيح أن هذه العلاقة ظلت في تدهور مستمر حتى مات هيكل في قلبي وفي عقلي منذ أعوام.. ولم تفاجئني مقالة الدكتور علي الغتيت إلا في المدى الذي يمكن أن يكون هيكل قد وصل إليه..
وبرغم الموت.. فإن لعملية الدفن أحزانها.. ولقد كانت مقالة الدكتور الغتيت تصريحا بالدفن..
الآن ينتهي هذا كله..
أحسست بألم في قلبي..
وأحسست بنار في قلمي!..
غالبت رغبة عنيفة في البكاء..
وشعرت بحاجة دونها الموت للعزاء..
وانهارت أمام ناظري الأشياء..
بكى عقلي وبكي عمري وبكت الأيام والشهور والسنين..
بكت آلاف الصفحات التي صدقته فيها..
بكت الأرصفة التي وقفت عليها باحثا عن كتبه المصادرة المهربة..
بكت ذكريات الأصدقاء الذين دافعت أمامهم عن هيكل..
بكى احتجاجي على جلال كشك الذي كذبته وصدقت هيكل فانطبق على الزمان وعلى شخصي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزمان يأتي يُكذب فيه الصادق ويُصدق الكذاب.
بكت دهشتي على اتهام مصطفى أمين بالجاسوسية..
وبكت أكثر دهشتي على اتهام أشرف مروان..
بكت الحروف والألم والسهر والانفعال والدهشة ..
بكى التحليل والمنطق والفلسفة..
بكى الاقتناع..
بكى السراب الذي حسبته ذات يوم يقينا.
بكى الفؤاد الفجيعة وبكى المنطق الخديعة..
بكى التاريخ..
بكت حتى الدموع..
الآن تستقر النقاط على الحروف ويستقر الجمر في القلب ويتأجج..
الآن أنظر إلى رف كتبه في مكتبتي.. وكان رغم الاختلاف الشديد في الرؤى من أكثر أجزاء مكتبتي أهمية..
الآن أنظر له فتغرورق عيناي بالدموع..
يــــــــا للخديعة..
يــــــا للخيانة..
رحت أنظر إلى كتبه نظرة أب – في نهاية عمره- إلى أبنائه الذين كشف له اختبار الحمض النووي “الدي إن إيه” أنهم ليسوا أبناءه..
ولم يكن الحزن والألم لمحض الخديعة والخيانة..
بل كانت المعضلة تعود كألم لم يبرح أبدا رغم أنه يظهر حينا ويختفي حينا آخر..
تلك المعضلة التي تنغرس في القلب كسكين:
– إذا كان ما تيقنا ذات يوم أنه عين الصواب هو بذاته عين الخطأ.. فكيف نأمن على أنفسنا اليوم وغدا.. وكيف نحصن أنفسنا.. كيف نأمن وقد بلغنا الزمن الذي أخبرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم.. الزمن الذي يصبح فيه المرء مؤمنا ويمسي كافرا..
رحت ألوك مرارة الألم مرددا لنفسي:
على أي حال لقد كان الدكتور على الغتيت هو اختبار الحمض النووي”الدي إن إيه” الذي أثبت لنا أن هيكل ليس منا..
***
لماذا لم تستجب قناة الجزيرة لرجاء هذا العالم الكبير بتصحيح الخطأ.. ولماذا لم يستجب هيكل؟!
الإجابة عن السؤال تفضح الأمر كله..
وهي إجابة أحاول الوصول إليها طيلة الأعوام الأخيرة وكتبت فيها بالفعل مقالات عديدة..
***
نعم.. تسقط القيم جميعا..
وبدون الإسلام تصبح العبودية لأمريكا ( قد ننال فيها الفتات) خيرا من العبودية لحكام لا ننال معهم إلا السجن والقهر والموت..
أتذكر أحمد.. ذلك الشاب من العريش.. والذي قال لي أنه جرب تعامل الموساد وتعامل مباحث أمن الدولة في مصر.. و أنه لولا الإسلام لاختار الموساد.
أتذكر أيضا الحلقة الثامنة لهيكل، عندما قال أن الأمريكيين المجرمين، عندما كانوا يحتاجون إلى درجات من التعذيب للمعتقلين يخشون من مواجهة عواقبها أمام شعوبهم، عندما كان يحدث ذلك، كانوا يرسلون هؤلاء المعتقلين ، إلى أجهزة أشد إجراما، بل أشد كفرا، في أربع عواصم عربية، القاهرة وعمان ودمشق والرباط، حيث وصلت تكنولوجيا التعذيب في هذه العواصم إلى مستوى غير مسبوق في التاريخ.
نعم..
خارج الإسلام لا توجد قضية..
وخارج الإسلام فإن مأمون فندي وفريدمان وحتى مايلز كوبلاند أفضل من هيكل!!..
***
وبادي ذي بدء، فإنني أقولها للعلمانيين العرب، بمنتهى المرارة والألم والاحتقار والازدراء، أنني عندما أقارنهم بالعلمانيين اليهود، أجد أن اليهود حتى بعد أن كفروا بالدين، و ألحدوا، إلا أنهم أخذوا كل محتوى دينهم المحرف، و أساطيرهم المختلقة، لا ليسخروا منها، ولا ليعلقوا لمن ما يزال يتبعها المشانق، أو يتهموهم بالإرهاب، بل أخذوا هذا المحتوى كله، وليس فيه شئ يمكن احترامه أو تقديره عقليا، ومع ذلك، فقد أخذوه بمنتهى الاحترام، وصبوه في وعاء القومية اليهودية، إدراكهم مدى قوة الدين كرابط ومكون للدولة..
علمانيونا الأشرار فعلوا العكس، هجروا ديننا الصحيح المحترم الذي يكاد يذهل العقل بما فيه من إعجاز وحكمة، وجعلوا منه سخرية وهزوا وتهمة. ونكلوا به وبأهله، ونصبوا لهم المشانق، رغم أن هؤلاء الأهل يشكلون الأغلبية الساحقة في المجتمع، ولم يكفوا عن الملاحقة والتشهير بالباطل أبدا، حتى أنني كنت أقول لنفسي دائما أنهم الوجه الآخر لحمزة البسيوني وصلاح نصر وصفوت الروبي و أحمد أنور وحسين عرفة، نعم، الوجه الآخر، و أن هؤلاء لم يكونوا بقادرين على القيام بعملهم لولا وجود أولئك، والعكس صحيح.
أفرغوا محتوى الإسلام كله وجعله مرمى تصويبهم، متجاهلين أنه كان الرابط والضام والضامن لاستمرار الدولة، ولطالما حذرناهم، ولم يستمعوا إلينا أبدا، حتى تحقق ما قلناه كله.
أفرغوا محتوى الإسلام ووضعوا مكانه محتوى غربيا فاجرا، لا محتوى العلم والاجتهاد وعلوم الطب والزراعة والصواريخ والفضاء والذرة، لا ، لم يأخذوا أيا من ذلك، إنما أخذوا الشذوذ والفجور والعهر، وراحوا يسومون الأمة العذاب كي تسير على ضلالهم وتؤمن بشياطينهم.
لم تكن لهم براجماتية العلمانيين اليهود. ولكن هؤلاء كانوا يبنون دولة، أما علمانيونا فكانوا يفككون دولة.. بل دولا..
ولو أن أساسهم النظري كان قويا لالتمست لهم العذر، ولو ظهر في القرآن- كما ظهر في التوراة على سبيل المثال- خرافات و أساطير مضحكة، و أباطيل يعرف تلميذ المدرسة الابتدائية زيفها، لالتمست لهم العذر، لكنهم لم يعتبروا حتى بالألوف الذين يعتنقون الإسلام في الغرب كل عام، وجلهم من صفوة المجتمع، ولا راجعوا أنفسهم، بل اندفع كل واحد منهم اندفاع كلب أجرب مسعور، يمزق بمخالبه و أنيابه أصحابه و أهله ودين قومه.
لا أجد أي سبيل لالتماس المعاذير لهم، وحتى على أرضية الفلسفة ، وما أشد بغضي لها – دون خصام- ، فإنهم إن كانوا يدعون أن العلم والفلسفة لا يعرفان دليلا يقينيا على وجود الله، دعونا الآن من أن ما يقولونه حماقة وباطل، ونقول لهم: فهل عندكم في العلم والفلسفة دليل يقيني على عدم وجوده ( تعالى الله.. لا إله إلا هو)..
هل لديكم دليل يقيني على عدم وجوده؟!..
فإن كنتم لا تملكون دليلا يقينيا على عدم وجوده، فلماذا مزقتم أمتكم وهدمتم دولتكم وفعلتم بأهلكم ما فعلتموه دون أي دليل علمي .
طرح اليهود الملاحدة الأمر هذا الطرح فلم ينقلبوا على أمتهم.
لكن ملاحدتنا لم يكتفوا بالانشقاق.. فبرغم أنهم قلة عددية لا تكاد تذكر، إلا أنهم بمعونة الأجنبي الصليبي اليهودي استولوا على مقاليد الأمور، وانشقوا عن الأمة، ثم اعتبروا ماءهم العطن العفن هو مجرى النهر الرئيسي، أما النهر، الأمة، نحن، فقد كان عليهم أن يحاصرونا.
***
كانت هذه مقدمة لازمة قبل أن أتجه للتعليق على هيكل في الجزيرة. هيكل، ذو الشهرة الطاغية، و أكثر صحافي عربي يتابعه الجمهور، لكن الجمهور الذي يجتمع ليتابعه هذه المرة لم يجئ للمتعة العقلية ، ولا حتى لحل مشكلة، و إنما جاء مدفوعا بالوهم في إمكانية استعادة حلم تحول إلى كابوس، أو على الأقل في حدوث معجزة على يد الساحر العجوز الذي أعطته الجماهير ذات يوم: ليس قلبها بل عقلها ووعيها، ولقد تناقض ما بشر به الساحر في البدايات مع النهايات الفاجعة، والناس حين تجتمع الآن حوله، لا أظنها – رغم كل محاولات صناعة النجم- تجتمع تمسكا به أو حبا فيه، و إنما كما يتجمع الدائنون حول المدين العائد، الذي أخذ منهم كل ما يملكون كي يستثمره لهم، فبارت التجارة وخربت الديار، وهاهو يعود، وهاهم أولئك يتكأكئون عليه ويتكالبون، على أمل استعادة ولو جزء من ديونهم.
ولكن هذا التصور المأساوي الأسود لا ينفي وجود استثناءات في كل اتجاه، يحركها المنى والوهم والخرافة، كذلك الذي قال أنه – هيكل – سيحرك بخبرته الفذة، في إحدى الحلقات، الشارع المصري لمواجهة نوايا التوريث الفاجرة، بل ويصل الأمر بالبعض لتصور أنه في الحلقة التي ستذاع أسبوع الانتخابات الأمريكية، سيكشف أسرارا تسقط بوش، ومن قائل أنه بعد أن ظل ستين عاما يصقل فكره، سيخرج على الناس بمشروع لا يختلف عليه اثنان، ولا ينتطح فيه حزبان: أحدهما قومي والآخر شيوعي. مشروع يمسح الهزائم كلها ويقودنا إلى وحدة عربية لا يغلبها غلاب طالما بشرنا بها في الأيام الخوالي وقد آن الأوان لتنفيذ وعده وسداد دينه، مشروع يتجنب فيه السقطات والكوارث التي قادنا إليها هو أو أصحابه فيما مضى، مشروع يتجنب أن يتستر على الجرائم المخزية، التي كان مقترفوها بشكل أو بآخر زملاء وأقرانا في صدر السلطة وواجهتها، فلم أسمع على سبيل المثال أنه تحدث عن مجرمين كشمس بدران وحمزة البسيوني ولا حتى صفوت الروبي، ولا عن مختلسين، تحدث عنهم غيره، ولا عن اتهامات لم يواجهها بل صادر أو طالب بمصادرة المجلات التي تنشرها، مثل الاتهامات التي وجهها له مايلز كوبلاند.
أقول أن مثل هذا الجمهور الواسع المتعقب لحلقات الأستاذ جمهور خطر، ( يقال أن كلمة الأستاذ حين تنطق مفردة فلا تعني إلا الأستاذ هيكل، تماما كما أن كلمة “المعلم” المفردة تعني أرسطو ) أقول أن هذا الجمهور جمهور خطر سرعان ما ينقلب، عندما لا يجد ما يريد، أوحينما يجد ما لا يريد، و أخشى أن يحدث ذلك في حالتنا هذه، فالرجل المعجزة لم يأت بأي معجزات، ولا هو أبرأ الأكمه ولا شفى الأبرص ولا أحيى الموتى، ولا هو حتى علم ما قلوب الناس وكم خاب أملهم فيه، وما يطلقون عليه “سيكلوجية الجماهير الحاشدة تختلف كثيرا عن سيكلوجية الفرد، فالجماهير التي فقدت معنى الولاء والبراء وتمرست على عبادة غير الله، الجماهير المخدوعة بالتغييب والمغيبة بالتغريب، الجماهير المطعونة في عقلها، لا في قلبها، إما أن تعبُدَ و إما أن ترجُمْ، فإذا ما ثبت لها أن معبودها ليس نبيا ولا صاحب معجزة فإن تحولها الخطر لن تجعلها تكتفي بالانصراف عنه، بل ستنظر إليه كمشعوذ أو دجال أو عميل، لابد من رجمه..
( أثق في بقايا عقل عند العلمانيين.. بقايا تجعلهم يفهمون بعضا من أساليب البلاغة.. لكي لا يندفع منهم من يقول أنني ناديت برجم هيكل!!.. أو أنني ذكرت عنوانه الذي يتحدث فيه: قناة الجزيرة.. تحريضا على قتله..)..
أقول أن الرجل يتحدث في حلقاته بالجزيرة عن موضوع آخر، حتى أنني قلت لنفسي أن الأمر لا يستحق المتابعة ولا التعقيب، و أن ما أشعر به من حسرة ليس بسبب أن الرجل لم يقدم حلا، أو أنه أقل توهجا مما كان، لكن بسبب أنني أكتشف أنني عشت وهما تطاول فتجاوز نصف قرن. ولم يكن الأمر سوى سراب – نعم.. سراب.. أو على الأحرى قوس قزح كي يوافق التشبيه.. السير( بالراء) هيكل!..
***
لا يحتاج القارئ منى أن أطيل في شكوكي تجاه الأمر كله، ولقد صارحت القراء في أكثر من مقال لم يكن أولها بعد أحداث 11 سبتمبر ، بل قبلها بكثير، أنني أتوقع أن أمريكا ستدفع للصدارة القوميين ( من شيوعيين وناصريين) كي يزيحوا الإسلاميين الحقيقيين من الساحة، كما أنها ستدفع الفكر الصوفي بكل سلبياته كي يخفف أو يميع من عقيدة الجهاد ، ذلك أن المخابرات الأمريكية عندما تختار، ستختار الأكثر خسة والأكثر انحرافا و كفرا في كل مجال واتجاه.
كنت أرى الزحف يتقدم تجاه كل مؤسساتنا حتى يكاد يغطى العالم العربي كله، مزيحا المسلمين من طريقه، موفرا البيئة المثالية لتـَـخفّـي ونمو الجواسيس والخونة، الصهاينة المباشرين، والصليبيين بفكرهم، وبالطبع، لن يمثل القوميون والشيوعيون، وحتى الصوفة، سوى مرحلة انتقالية، يتم بعدها التخلص منهم، كمرتزقة تفوق نفقات إعاشتهم فوائدهم.
أقول كان الهاجس داخلي..
و أقول أيضا أنني أحترم قناة الجزيرة.. كما أن في داخلي تاريخ طويل من احترام هيكل.. (اعذرني بجهلي يا رب).. أحترم قناة الجزيرة.. رغم يقيني بأنها تخضع لضغط أمريكي مباشر يجعل ثلاثة أرباع ما تذيعه يصب في النهر الأمريكي ( كنت أنوي أن أقول 90%).. و أن الباقي يفلت بالكاد.. وهو حين يفلت، لا يفلت سليما بل مثخنا بالجراح. وبهذا الفهم، و لإدراكي لحجم هيكل، فقد كنت على يقين أن المخابرات الأمريكية قد استشيرت وباركت دعوة هيكل ليكون ضيفا للقناة على مدى ستين حلقة..
هيكل.. سلاح إستراتيجي لا يستعمل إلا لمنع كارثة .. أو لإحداث كارثة .. أو للأمرين جميعا..
إنني أعلم أن الجزيرة تستأذن المخابرات الأمريكية في شخصيات دون هيكل بكثير.. فكيف بهيكل؟!..
والأمر لا يعني الآن إدانة لهذا أو لذاك.. الآن!..
ولكنني فقط أذكركم بما حدث منذ شهور عندما طلبت الإدارة الأمريكية، متخفية خلف فريدمان إن لم تخني الذاكرة، قد طالبت صحيفة الأهرام المصرية أن تفرد مساحات أوسع و أماكن أبرز ومقالات أكثر لصحافيين مصريين، هما رضا هلال و مأمون فندي ( هل هي صدفة أنهما يساريين.. وبالمناسبة إلى كل من يريد أن يطلع على الفكر المتعفن لليسار المصري بدون تمويه ولا أقنعة أن يقرأ مقالات مأمون فندي)..
نعم..
هيكل ضرورة هذه المرحلة.. فالساحة خالية.. ولا يجب أن تظل خالية و إلا احتل الإسلام الساحة كلها و أثبت أنه لا بديل سواه..
لاتوجد قوة أخري في المجتمع.. لأن قوى التغريب المباشر والصهيونية الكاملة ما زالت أضعف بكثير من أن تواجه في العراء، إنها تحتاج – كالطفيليات – إلى عائل وسيط.. هذا العائل الوسيط لا يمكن أن يكون أمريكا و إسرائيل (إلا في حالة خاصة كالعراق) و لا يمكن أن يكون الدول الإسلامية، والتي ستتكفل حتى مناعتها المنهارة بالقضاء عليه..لذلك فإن العائل الوسيط المثالي هو رحم القوميين واليسار..
هل كان يمكن مثلا أن تدعو الجزيرة الشيخ أسامة بن لادن كي يعطينا ستين محاضرة يعلمنا فيها كيف نحل مشاكلنا؟..
بالطبع مستحيل..
ولهذا جئ بهيكل..
ليس مجرد حب فيه..
ولكن..
لأنه إن لم يظهر على الشاشة أحد ستتجه عيون الأمة إلى هناك.. حيث ساكن الجبال العظيم.. الشيخ أسامة بن لادن.. رضى الله عنه.
***
في الحلقات المذاعة حتى الآن لم يذكر هيكل الإسلام كعامل سلبي أو إيجابي كما لا يذكر أي دور له، ومنذ عام وبعض العام في قناة دريم لم تكن العراق – طبقا لرؤيته – تمثل أي هدف إستراتيجي لأمريكا في حد ذاتها، لم يكن الأمر حتى صراع حضارات فأظنه لا يرى إلا حضارة واحدة، ولم تكن حربا صليبية جديدة، ولا هدفها التبشير والقضاء على الإسلام، كل ذلك لم يكن واردا، لأنه لو كان واردا لأصبحت العراق مقصودة، ولكانت مهمة لأنها مقصودة، لكن الأستاذ غير مقتنع بذلك، ولذلك يرى أنه بمجرد الصدفة كان من سوء حظ العراق أن تكون ميدانا لاستعراض النار والخراب والدمار أمام الصين والهند بل وفرنسا واليابان، أما العراق، بما فيها من إسلام و عروبة، العراق عاصمة معمورة عدة قرون، فإن الأستاذ يراها أذل و أقل و أهون من أن تموت مستهدفة، ويرى أنها إنما تموت بالصدفة كالحيوانات الضالة.
ومن أجل ذلك، ومن أجل غيره، بلغ الأمر بالكاتب ” سيار الجميل” أستاذ التاريخ في عديد من الجامعات العربية، أن يتصور أن هيكل يحمل قدرا كبيرا من الازدراء للعراق بالذات، بل إن هذا الازدراء يتعداها للعالم العربي كله أما فلسطين فالباقي منها شظايا قضية.
يقول سيار الجميل:
” إن أبرز إشكالية عند هيكل.. لابد أن يلتفت إليها النقاد والمحللون العرب في المستقبل، أنه يفكر سلبا في كل ما هو عربي أنتجه العرب في التاريخ، وخصوصا في تاريخهم الحديث، وهو لا يطمئن إلى أي سياسة أو قرار أو حوار أو مفاوضات أو حركة أو خطاب أو نتاج.. الخ مهما كانت طبيعته التاريخية والفكرية والسياسية، إذ يقلل من شأنها جدا حتى تلك التي تأتي من قبل تقدميين وقوميين عرب! وليفحص القراء الكرام ذلك مقارنة بإعجابه الشديد لكل ما يأتي به الغربيون: زعماء وقادة وساسة وصحافيين (أسطوريين) ومنهم صهاينة وجواسيس وسفراء ومتآمرين”.
***
تمنيت أن يقف هيكل في أول الحلقات ليجيب على أسئلة جوهرية لا يجوز إغفالها..
فمن حق الناس أن يعرفوا من أي منطلق يتحدث، و على أي أساس سيقدم لهم العلاج، وما هي مرجعياته.
أن يقف ليقول هل يتحدث من منظور عربي أم من منظور غربي..
لن ندخل في تفاصيل ألوان الطيف للمرجعية الغربية لكننا كنا نود أن نعرف إذا كانت مرجعيته قومية، فأي قومية يعني؟ هل هي القومية الطيبة الحنون التي تسمح ( بالمسلمين الفقراء أما الإسلام فلا)..وتسفك دماء بضع مئات فقط وتعذب وتسجن عشرات الآلاف فقط.. أم القومية القاسية التي ترفض الدين كله وتقتل أربعة آلاف في ليلة و أربعين ألف في نهار..
نعم .. أي قومية؟.. قوميته هو وجمال عبد الناصر؟ أم قومية صدام حسين؟ أم قومية حافظ الأسد؟..
وكان على ” الأستاذ” أن يطمئن مستمعيه عن الآليات التي تحمى الكيان القومي الذي يدعو إليه، وبصورة أكثر تحديدا، في إطار مشروعه، كيف يتصور اكتماله، هل ستتوحد الدول العربية بالتراضي، بالاتفاق بين الصباح والقذافي وعلاوي وعبد لله ومبارك؟.. وهل حدثت الوحدة في التاريخ دون حروب ( كالحرب الأهلية الأمريكية مثلا) ، وهل هو مباح أو متاح في عالمنا العربي أن نستعمل القوة للتوحيد؟.. ثم على فرض المستحيل، لو أننا نجحنا في تحقيق الوحدة بمجرد النوايا الطيبة، والحلقات التليفزيونية، ولو كانت على فضائية الجزيرة، لو أننا توحدنا، ثم فوجئنا بأن دولة كالكويت، فضلت القومية الأمريكية على القومية العربية، فكيف لمشروع الأستاذ أن يمنع هذا الانخلاع والتفتت، وكيف يواجهه إذا حدث، وبأي وسائل..
( أتذكر في أسي بلا حدود إهدار العقل والمنطق والفن في أغنية لبلبل العهد الناصري عبد الحليم حافظ.. حين هدد الرجعيين بأنه سيغني ضدهم: ” يا عدو الاشتراكية.. يا عديم المسئولية” ثم يردف ذلك بتهديد مرعب:” ونطبل لك كدهه.. ونزمر لك كدهه”!!..
وينطلق الطبل والزمر..
فهل نفعل لدولة مثل الكويت مثل هذا؟!..
بل لعلى أستدرك: هل فعلنا غير هذا؟!!
***
الحل والوسائل والآليات كلها واضحة في بلاد مرجعها الإسلام ، لن يختلف اثنان في أن دولة توالي أعداء الله، وتجعل من ثلاثة أرباع أرضها قاعدة لمن يحاد الله ورسوله، هي دولة مهدرة الدم لكل من سعى إلى ذلك، وكل من كرسه بل وكل من أيده، نعم، يدرك الإسلام خطورة مثل ذلك، ويكافحه بحكمه الحاد الباتر القاسي، خسارة الدنيا والآخرة، ويجعل قتال حكامها وجيشها، و أهلها إن أيدوا جيشها، فرضا على المحيطين جميعا.
كما أنني أواصل التساؤل: وماذا يفعل مشروع “الأستاذ” في بلاده نفسها: مصر الرسمية، التي تفضل الآن القومية اليهودية على القومية العربية، و إسرائيل على فلسطين ( وراجعوا والقلب يتمزق، موقف الأزهر بقدره ورمزه يسجد راكعا لا لله، بل لصحفية يهودية في السفارة الأمريكية في القاهرة ، حيث احتجت السفارة على إنكار الكاتب رفعت سيد أحمد للهولوكوست في مقال له نشرته مجلة لواء الإسلام، فأوقف الكاتب، وضغط على رئيس التحرير لا لكي يعتذر فقط بل لكي يركع لغير الله، فأبى واستقال، فأتوا بأزهري – لا غفر الله له- قدم الاعتذار وكتبه في مقال فجعلوه رئيس تحرير المجلة لا بارك الله له، و لم يكتف العملاء بكل هذا فإذا بوزير الإعلام بنفسه يكتب اعتذارا في الصفحة الأولي للمجلة يثبت الهولوكوست ولا يذكر مذابح الصهاينة في فلسطين..
صرخت – حين علمت – :
– وزير الإعلام شخصيا.. حتى صفوت الشريف – رغم حكايات الفنانات و أفلام الجنس والمخابرات.. وما هو أكثر – أشرف منه.
***
قضية لواء الإسلام هي قضية اختراق الأزهر وامتهانه، وهي أهم و أخطر من أن أمر بها مرورا عابرا، لكنني ذكرتها لغرض آخر سوف يتبينه القارئ على الفور.
باختصار شديد، فإن قضية الهولوكوست، يجب أن تكون قضية تاريخية علمية يحكم فيها أساتذة التاريخ وعلماؤه، بعد أن يدعموا دراستهم بمختلف الأسانيد ليضعوا مختلف الاحتمالات.
( كتطبيق للمنهج العلمي في الطب، فليس من حق الطبيب أن يضع تشخيصا واحدا للمرض، بل هو يرسب في الامتحان إذا ما شخص المرض تشخيصا واحدا، مهما كان هذا التشخيص صحيحا، إذا ما أغفل الاحتمالات الأخرى للمرض)..
فإذا ما أحيطت قضية علمية بوسط غير علمي، فإن الأمر يخرج عن نطاق العلم تماما إلى نطاق الكذب والدجل والتزوير. تماما كما لو أنك أتيت بطبيب وأمرته أن يشخص تشخيصا معينا والمسدس على رأسه: فإما أن يطيعك و إما أن تطلق عليه الرصاص.
إن قضية الهولوكوست، مثل صارخ على ذلك لكنها ليست هي المثل الوحيد، بل ربما يوجد فيها بعض عناصر تجعلها أقل فداحة وفظاعة من قضايا أخرى يتبع فيها نفس المنهج غير العلمي.
يحضرني في ذلك على سبيل المثال قضايا بعضها تافه وسطحي والآخر جوهري، وسوف أذكر مثالا من كل ، فقط لأجعل القارئ يعيش معي هذا الوضع الكارثي لمن يدعون أنهم يتبعون المنهج العلمي.
لقد أنفقت شركات صناعة السجائر مئات الملايين من الجنيهات في شكل رشاوى مباشرة وغير مباشرة لجهات طبية كي تقلل من الحديث عن مخاطر التدخين، كما أن شركة أدوية عملاقة، طرحت في الأسواق منشطا جنسيا (الفياحرا).. وبعد أن تشبع السوق العالمي، تفتق نهم الشركة عن وسيلة لمضاعفة مبيعاتها وبالتالي أرباحها، فقدمت عشرات الملايين رشاوى إلى أطباء النساء والولادة، كي يجروا أبحاثا تثبت أن فائدة الفياحرا للنساء لا تقل عن فائدته للرجال، ونشرت الأبحاث، وكانت مزورة.
لكن القضية الأكبر، التي أود أن أكتب عنها منذ أعوام طويلة، دون أن تتيح لي الحوادث أي فرصة، هي نظرية التطور لدارون، والمقالة معدة، لكن لا الوقت ولا الظرف يسمح، ولقد تعمدت فيها أن تكون كل مراجعي غربية، وعلى الأخص أمريكية، حيث يتناولها العلماء بقدر من السخرية لا يكاد يتصور، لكن هؤلاء، لا ينشر لهم أحد ، بل يطاردون في جامعاتهم ويحاصرون، تماما كما يطارد ويحاصر كل من ينكر الهولوكوست. ولقد بلغ الأمر أن علماء كبار قد لفقوا أدلة بالغة السذاجة لإثبات النظرية ( أحدهم وهو “جارلسن داوصن” أتى في عام 1912 بفك قرد وزرع فيه أسنانا بشرية ثم ركبه على جمجمة بشرية) وظلت الفرية عشرات الأعوام كأقوى دليل على وجود الحلقة الوسيطة الدالة على صحة نظرية دارون، بينما العشرات تلو العشرات من العلماء يصرخون أن الدليل دليل زور.. و أن تزويره غير متقن حتى يمكن لأي مبتدئ أن يكشفه على الفور، وظلت الميديا الإعلامية في العالم كله تتجاهل ذلك، حتى اعترف العالم المزور بنفسه عام 1953، أن الجمجمة والفك والأسنان التي ركبها، يعود أقدمها إلى ألف عام فقط وليس إلى مئات الآلاف من الأعوام، كما اعترف العالم، بأنه إن كان قد زور كي يشتهر ويغتني، فإن 90% من العلماء يفعلون نفس الشيء. ( فكرة الحلقة الوسيطة دليل من آلاف الأدلة التي تجعل من نظرية دارون تهريجا، فعلى سبيل المثال تدل الحفريات على أن الجراثيم التي كانت موجودة منذ مئات ملايين الأعوام ما زالت كما هي، دون أي تطور، ومن ناحية أخرى فلم تفلح كل الحفريات في العثور على زرافة واحدة قصيرة الرقبة، من تلك التي ادعي دارون أنها ماتت وعاشت ذوات الرقاب الأطول لتمكنها من التهام أوراق أعالي الأشجار.. دون أن يفسر لنا أيضا كيف عاشت الخراف.. والحمير!!)وكان أحد من تناولوا تلك القضية هو العالم الأمريكي: البروفيسور دوان ت كيتش، حيث اعتبر أن التطور ليس حقيقة علمية ولا حتى نظرية، وإنما مجموعة من التلفيقات الساذجة التي لا يقبلها أي عقل علمي، نعم، يقول الرجل، إنها ليست نظرية، إنها عملية غسيل مخ قام بها الساسة كي يسوغوا التهام الأقوى للأضعف. إن الرجل يصرخ أن نظرية التطور عقيدة لا يمكن تصديقها، وهي ليست علما على الإطلاق.. عقيدة وليس علما.. .
وتتناول إليانور كلايمر الأمر بسخرية لتقول:
انظروا كيف تحولت الأسماك إلى برمائيات حسب تصور التطوريين: (… وظهر الجفاف بالقرب من نهاية الزمن الباليوزي، واستطاعت الأسماك القديمة – بعد جفاف البرك والأنهار- أن تزحف على الأرض للوصول إلى ما تبقى من تلك البرك، وكان لهذه الأسماك التي استطاعت أن تتحرك على سطح الأرض أحفادا استطاعت هي نفسها أن تبقى خارج الماء لفترات أطول)..
وتواصل المؤلفة في سخرية: ولا تسألوهم كيف استطاعت الأسماك أن تزحف على الأرض أو أن تتحرك على سطح الأرض، إنها لا تستطيع هذا ولا ذاك، و إنما تستطيع فقط أن تتقافز في مكانها خارج الماء، بضع دقائق ثم تموت!!
***
إن كان يمكن للتزوير الكامل الشامل أن ينجح هذا النجاح المذهل في مجال العلم التجريبي فكيف به في علوم إنسانية غير خاضعة لوسائل البحث العلمية.
وبرغم كل ذلك فما زالت نظرية التطور تحاط بحصانة شاملة و تدرس في مدارسنا وجامعاتنا كحقيقة علمية غير قابلة للنقاش إلا من الظلاميين المتحجرين الحمقى، أو من السلفية الدينية والرجعية السياسية، وكلها تعبيرات لا يقصد بها إلا الإسلام.
***
لم يفلت مني الخيط يا قراء..
فقط أريد أن أقول لكم أن الضجة الإعلامية المصاحبة لحلقات هيكل على قناة الجزيرة أيقظت الإحساس بالخطر عندي..
ومنذ البداية الأولي..
هل هي عملية غسل مخ جديدة؟..
خاصة أن هيكل واحد من الناس المحاطين بحصانة عجيبة – خاصة في العقود الأخيرة- تجعل معارضته إدانة للمعارض وليس له.. كما أن أفكاره تُتَلقى من أنصاره على الأقل، بوله المريد الصوفي، الذي يكسر القواعد إذا ما عن له أن يسأل بله يختلف.
جعلوا منع صنما و نشروا حوله هالة من التقديس و أوهموهم أن هذا هو من يملك الحقيقة المطلقة..
أقول أن هيكل محاط بنوع من الحصانة تثير قلقي، حصانة كحصانة الهولوكوست ونظرية التطور، وهو بذلك يتحول شيئا فشيئا، إلى واحد من تلك الرموز التي تتمتع بنفس الحصانة ابتداء من الطهطاوى ومرورا بشبلي شميل وسلامة موسى وعلى عبد الرازق وطه حسين ولويس عوض – سجن العلامة محمود شاكر لمجرد أنه فضحه.. وكان هيكل شاهدا.. ومسئولا.. فقد كان يفسح أقوى صحيفة في مصر للويس عوض- .. الآن ينضم هيكل إلى هذا الرعيل.
و لست ضد تبجيل أي مفكر، لكنني ألاحظ نوعا من غسيل الدماغ في تبجيل هؤلاء، غسيل للدماغ يمحو كل مساوئهم ويضخم مزاياهم، و أولئك، أصحاب المنهج التجريبي العلمي، لا يريدون منك الاقتناع العقلي بل الإيمان القلبي.. الإيمان الذي أنكروه على الله – لأنه يخالف المنهج العلمي التجريبي- يطالبون به لأنفسهم!!..
سبّ من شئت من شيوخ الأزهر مهما كانت عظمتهم وجهادهم.. ستجد ألف قلب تدافع عنك معتبرة ذلك جزءا جوهريا من حرية الفكر.. هاجم من شئت من شيوخ الأزهر متطاولا على ثوابت الدين.. ستجد ألف قلب – بل ألف كلب- تؤيدك..
لكن حاول أن تنتقد على عبد الرازق و أن تفضح دور السفارة البريطانية في كتابة كتابه “الإسلام و أصول الحكم”..
حاول وجرب..
و إن أتيحت لك الفرصة بعد أن يمزقك وينهشك ألف كلب فتعال وقل لنا..
نفس الأمر ينطبق على الباقين.. شخوص معينة.. يضعونها موضع القديسين في الديانة المسيحية.. فهي منارات على الطريق.. مناقشتها خطيئة ومعارضتها كفر.. وكل هذه الشخصيات .. كلها بلا استثناء توجد أدلة قوية على ارتباطها المباشر بأجهزة مخابرات أجنبية.. و أنها استعملت للنيل من الإسلام..
كلهم..
حتى محمد حسنين هيكل.
***
إنني أحذر القارئ من أن ما يمكن وصفه بظاهرة حصانة الهولوكوست أو نظرية التطور، و أعني بهذه الظاهرة وجود قوة جبارة فاجرة لديها القدرة على إحياء الأساطير وطمس الحقائق، وقسر الناس على الإيمان بالأوهام، هذه الظاهرة في شقها الأعظم تنتمي لقوة خارجية عن الإنسان الفرد.
هذا معروف ومفضوح ومشهور.. وكنا جميعا بعض ضحاياه في فترات من حياتنا.. والكثيرون منا يموتون دون أن يعرفوا فيم خدعوا وكم خدعوا ومتى خدعوا ولماذا خدعوا..
معروف ومفضوح ومشهور.. وكيف لا وكل وسائل الإعلام والفضائيات ومنشورات الكتب الحكومية ومكتبة الأسرة ووزارات الثقافة وكتاب في صحيفة.. كل ذلك مكرس لترويج غسيل المخ وتكريسه..
لكنني في هذه الفقرة لا أقصد ذلك كله.. إنما أقصد سواه.. الهولوكوست القابع داخل كل واحد منا.. وكل من لا يرى بنور الله..
نعم.. أتحدث عن هذا الجزء من الهولوكوست الموجود داخلنا، حيث يصيب فكرنا بما يصيب مفاصلنا بترسب الكلس فيها، لتصبح الحركة الطبيعية مستحيلة.
نعم..
عنصر داخلي في فطرة الإنسان نفسه يجعل تصديق الأكاذيب أيسر من الإيمان بالحقائق.. فالحق ثقيل و إن كان أبلج.. والباطل خفيف ولو كان لجلج.. ولنلاحظ: كم مسلما آمن بالرسول الخاتم صلوات الله وسلامه عليه في سنوات الدعوة الأولى.. والإجابة: عشرات لا يزيدون.. ولنقارنهم بمن آمن بالدعي الكذاب مسيلمة في شهور دعوته الأولى.. عشرات الألوف!!
ولنسأل الآن على الفور نفس السؤال..
كم واحدا آمن في بداية الخمسينيات (بعد حملة التشويه والتشهير والتمزيق) بالشهيد سيد قطب..
وكم واحدا آمن بمحمد حسنين هيكل!!
***
مثال على ذلك، لو أنني قلت لك أن ثمة دلائل قوية على بصمات أمريكية واضحة على ثورة 23 يوليو، فإن الرفض سيسبق السؤال عن الدليل وفحصه، حتى لو كان هذا الدليل هو أقوال الضباط الأحرار أنفسهم.
وفي الاتجاه المضاد، فإن أي محاولة لتبرئة السادات من تهمتي الجاسوسية اللتين نسبتا إليه، أو تبرئة حسن التهامي وعبد المنعم أمين من العمالة للأمريكيين.. وجمال سالم وسامي شرف وعلى صبري من العمالة للروس..أي محاولة محكوم عليها بالفشل.. رغم أن المنطق المجرد المحايد يقول: أن الإمكانية موجودة ولا عصمة ولا استثناء لأحد.وأنه إذا جاز أن يكون السادات عميلا للمخابرات الأمريكية فلماذا لا يجوز ذلك بالنسبة لعبد الناصر.. و إذا جاز أن يكون مصطفى أمين جاسوسا للمخابرات الأمريكية فلماذا يستحيل أن يكوم هيكل مثله.
والعلمانيون الذين يطلبون منا الشك حتى في الله كدليل على تطورنا يرفضون الشك في الهولوكست أو دارون.. أو محمد حسنين هيكل!!
***
يتساءل عادل حمودة: هل كان الضباط الأحرار على علاقة تحت الأرض وقبل الثورة مع المخابرات المركزية الأمريكية؟ وأين موقع هيكل على هذه الخريطة؟ فبعد 35 سنة على الثورة وبعد 17 سنة على رحيل جمال عبد الناصر خرج من يقول علنا: (أن الثورة وقائدها هما (صناعة) أو (صنيعة) أمريكية, وان تغيير النظام في مصر في يوليو 1952 هو مسرحية ألفتها أخرجتها المخابرات المركزية, وقام ببطولتها جمال عبد الناصر ورفاقه, وجاءت هذه الاتهامات في وقت كانت معظم الأشياء في مصر مباحة ومهزوزة وبلا حصانة, كما أن الذين تحمسوا لذلك الاتهام وروجوا له كانوا من أنصار العقل مثل الدكتور فؤاد زكريا (كتابه: كم عمر الغضب؟) ومن أنصار التشهير وتصفية الحسابات مثل جلال كشك (كتابه: ثورة يوليو الأمريكية) وكان بعضهم طرفا مباشرا في اللعبة الرسمية للسلطة مثل حسن التهامي.
ويواصل عادل حمودة:
وفي الحقيقة كان ذلك الاتهام قديما, فقد سبق أن قاله رجل المخابرات المركزية (مايلز كوبلاند) في كتابه الشهير (لعبة الأمم) الذي صدر في عام 1969 كان (كوبلاند) الساعد الإقليمي لمسئول الوكالة في الشرق الأوسط (كيرميت روزفلت) أو (كيم) على حد اسم تدليله, وقد أثار كتاب (كوبلاند) الكثير من عواصف الغضب عليه, لكن المثير للدهشة انه طلب تأشيرة لدخول مصر وحصل عليها بعد نشره الكتاب, ولم يجد من يوقفه في مطار القاهرة, ووجد طريقة من دون مشقة إلى فندق (هيلتون ـ النيل) ولابد أن ذلك جعله يشعر بالزهو والغرور, فها هو جمال عبد الناصر الذي اتهمه في كتابه بأنه من إنتاجهم لا يقدر على منعه, أو الوقوف في وجهه, ثم إنها فرصة لان يكسب من ابتزازه, ولكن ذات ليلة وهو عائد إلى فندقه فوجئ بشاب قوي يعترض طريقه ويصر ـ في استفزاز واضح ـ على أن يبيع له بعض منتجات (خان الخليلي) التي يشتريها السياح, وبدا واضحا أن البائع (المزعوم) له هدف آخر, على أن تدخل بعض المارة أفسد خطته, في اليوم التالي في ميدان (العتبة) كان هناك من كان قادرا على تنفيذ الهدف, فقد عاد (كوبلاند) من جولة لم تكتمل في الميدان القديم وقد امتلأ وجهه بالجروح وجسده بالكدمات, لقد افتعل رجال الأمن السريون معه مشاجرة كان هو الوحيد الخاسر فيها وفهم (كوبلاند) الرسالة وغادر القاهرة على أول طائرة, ولم يعد إليها إلا بعد رحيل جمال عبد الناصر.
وفي كتابه (قصة السويس) يقول هيكل: إن كوبلاند كغيره من موظفي الوكالة لا يستطيع أن يكتب أو ينشر بغير إذن (ومعنى ذلك أن ما كتبه ونشره كان محل موافقة من وكالة المخابرات المركزية التي يهمها تلطيخ الثورة المصرية والإساءة إلى قائدها جمال عبد الناصر.
وقد نشر كوبلاند في كتاب آخر هو (بلا خنجر وبلا عباءة) لم يحظ بشهرة كتابه (لعبة الأمم) وإن كان قد أضاف فيه بعض التفاصيل وكشف فيه بعض الأسرار, منها أن كيرميت روزفلت جاء إلى مصر قبل الثورة وحاول إقناع الملك فاروق بالقيام بثورة (سلمية) بيضاء لتقوية نظام حكمه المعتدل لتفويت الفرصة على قوى الشيوعيين والإخوان في القضاء عليه, وكانت الخطة ـ التي سميت في ملفات المخابرات المركزية بعملية (الزير السمين) ـ تقضي بأن يقوم الملك بحملة تطهير كبيرة للقضاء على الفساد المستشري في أوصال النظام, وبأن يعيد تقديم نفسه في صورة الحاكم التقي الورع, ولكن (كيم) شعر باليأس بعد أن قابل الملك فاروق أكثر من مرة, ووجده على حد وصفه (من أصحاب الأجسام الثقيلة والعقول الخفيفة) وهو ما جعل (كيم) يبحث عن بديل آخر, وهكذا اتجه بصره إلى الجيش, على حد رواية كوبلاند.
ولم يمر وقت طويل حتى أدرك إن كيرميت روزفلت هو حفيد الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت
أن تحريك الأحداث في الظلام يجذبه ويثيره أكثر من مجرد جمع المعلومات, وانتقل بذلك من التحليل إلى التآمر, وحتى يقفز رجل مخابرات هذه الخطوة الواسعة فإن عليه أن يكون شبكة معقدة من العملاء والعلاقات تفيده في الوقت المناسب, وقد تحقق له ذلك عندما كوّن في عام 1951 جمعية الصداقة العربية الأمريكية التي اتخذت من بيروت مقرا رئيسيا لها وامتدت فروعها إلى القاهرة ودمشق وعمان وبنغازي وتونس والرباط, وكما يقول آلن جران في كتابه عن رجال المخابرات المركزية (ترجمه جورج عبدو ونشرته دار المروج في بيروت) فإنه تحت شعار تعزيز الروابط الثقافية والعلمية بين الولايات المتحدة والعالم العربي قام (مناضلو) هذه الجمعية بنشاط تجسسي خطير للغاية, وقد حانت الفرصة لكيرميت روزفلت لتجريب مواهبه في تدبير الانقلابات في إيران عندما طرد الدكتور محمد مصدق وأعاد الشاه للسلطة
ما زلنا مع عادل حمودة:
حسب رواية كوبلاند: فإن كيم أمضى في القاهرة الشهرين الأولين من عام 1952 مع الملك فاروق يلهوان بتنفيذ مخطط الثورة السلمية, وذلك بدفع رجل الحكم القوي مرتضى المراغي لخلق أزمة وزارية, وقام الملك بتكليف نجيب الهلالي (الذي كان هيكل على علاقة متينة به) لتسلم الوزارة, وقد اتصل به كيم وطلب منه تطهير جهاز الدولة من الفساد, فربما أصبح زعيم الثورة السلمية, لكن ما جرى هو أن الضباط الأحرار قد سارعوا بالاستيلاء على السلطة ولم يتسن لنجيب الهلالي تنفيذ مخطط محاربة الفساد, فهل كان كيرميت روزفلت وراء ما فعله الجيش كما يدعي خصوم جمال عبد الناصر؟
لقد قال كوبلاند أن كيم عرف بأمر تنظيم الضباط الأحرار في شهر مارس 1952, أي قبل الثورة بأربعة أشهر تقريبا, ويقول كوبلاند أيضا: (انه سعى إلى الاتصال بهذا التنظيم بعد أن أدرك أن المراهنة على الجيش هي الحل الوحيد المتاح) ولأن كيم لم يبدأ ـ حسب المصدر نفسه ـ في رهانه على الجيش إلا في شهر مايو 1952 فإن الفترة التي يكون قد تم فيها الاتصال بينه وبين تنظيم الضباط الأحرار هي ما بين مايو ويوليو أي حوالي الشهرين فقط.
وفي الجزء الأول من كتابه الشهير (قصة ثورة يوليو) يقول أحمد حمروش: (إن منشورات الضباط الأحرار وانتصارهم في انتخابات نادي الضباط استثارت رجال المخابرات المركزية في القاهرة, فبذلوا غاية جهدهم للتعرف عليهم واكتشاف آرائهم ومحاولة اجتذابهم) . و(كانت حلقة الاتصال مع ضابط في المخابرات المصرية تسمح طبيعة عمله بالاتصال بالملحقين العسكريين الأجانب بينما هو مرتبط بالضباط الأحرار وبجمال عبد الناصر شخصيا) . لم يذكر أحمد حمروش اسم هذا الضابط.. وربما يكون علي صبري, وهو بالمناسبة سافر قبل عام 1952 في بعثة إلى الولايات المتحدة لدراسة المخابرات الحربية, وبصفة خاصة مخابرات الطيران, وعندما عاد عين مديرا لمخابرات الطيران, وأصبح على صلة بالملحق الجوي الأمريكي في القاهرة.
***
يقول الدكتور فؤاد زكريا – وهو مفكر لا أحترمه ولا أحبه- أن هيكل لم يكن قادر لوحده أبدا أن يجمع كل المعلومات الوثائقية، ويرتبها بمنتهى الدقة.. ” ولكنني كلما أمعنت الفكر في هذه الظاهرة بدا لي أنها أعقد وأوسع نطاقا من إمكانات أي فرد، بل من إمكانات أي جهاز في دولة متخلفة، وخيل إلي أننا نجد أنفسنا هنا على مستوى يكاد يصل لأجهزة المخابرات في الدول الكبرى ” ..كما يقول أنه لاحظ عرضا لمرض خطير في كتابات هيكل، ذلك أنه يستثني نفسه تماما من اللوم وكأنه كان طوال الوقت مشاهدا محايدا، أو ناصحا أمينا لا يستمع إليه أحد..
***
ويقول سيار الجميل – أستاذ التاريخ في جامعة الموصل وفي الجامعات الأردنية والإمارتية- :
..”.. في الأرشيف قضايا كثيرة لهيكل لو استخدمت استخداما عاديا فستصيب مقتلا منه.. ذلك أن جملة كبيرة من الوثائق تتضمن معلومات خطيرة عنه، و أن هناك مادة أرشيفية هائلة يمكن أن تستخدم ضد هيكل بسهولة تامة. و أن الأشخاص الذين اتهمهم هيكل كونهم من الحاقدين عليه والحاسدين له، ويعتقد الباحثون الأكاديميون بأن كلاما قاله كل من: محمد نجيب ومايلز كوبلاند وخروتشوف..لم يصدر كونهم حقدوا عليه أو حسدوه، فلقد اتهمه الرئيس محمد نجيب بالخيانة لحساب دولة أجنبية.(كتابه: كلمتي للتاريخ ).. كما أتهمه مايلز كوبلاند بالعمالة المخلصة.. كما اتهمه خروتشوف بالتهمة نفسها، وذكره بالمبالغ والشيكات التي تسلمها من وكالة المخابرات- المركزية في اجتماع كان يعقد في موسكو أمام جمال عبد الناصر، مما اضطر هيكل إلى أن يقفل راجعا إلى مصرفي اليوم الثاني من الرحلة!
ويذكر حسنين كروم في كتابه مقاطع من حوار أجرته مجلة الحوادث اللبنانية مع محمد نجيب أول رئيس جمهورية لمصر اثر سقوط النظام الملكي عام 1952 والذي أبعد عن الحكم عام 1954 من قبل عبد الناصر أنه رفض أن يقابل محمد حسنين هيكل أربع مرات لأن معلومات زوده بها جهاز الاستخبارات المصرية تقول بأن هيكل هو عميل لدوائر المخابرات..
ويواصل سيار الجميل:
لعل أبرز ما يمكن أن يهتم به الباحثون والدارسون في قابل الأيام: مسألة التهم التي وجهت إلى محمد حسنين هيكل من قبل أكثر من جهة وطرف، حول ارتباطه بالمخابرات المركزية الأمريكية.. والتي لم يدافع عنها الرجل دفاعا قويا! وبرغم عدم وجود مستندات قوية بيد خصومه، فقد كان عليه أن يكون أقوى مما بدا عليه.. إذ وجدته ضعيفا إزاء ذلك! فلماذا يهرب من وجه خروتشوف مثلا؟ ولماذا لم يذكر قيمة الأجور التي تسلمها من الصحف الأمريكية لقاء نشر مقالاته فيها؟ ولكن الأمر الملفت للنظر، أن هذه التهم التي حبكها خصومه ضده.. لا تختلف في شيء من الأشياء عن التهم التي كان قد نسجها هو نفسه ضد كل من أساتذته في المهنة: علي أمين ومصطفى أمين..
لقد ثارت ثائرة هيكل بطبيعة الحال، إذ كتب عدة مقالات في جريدة الأهرام وكان لم يزل رئيسا لتحريرها، وطالب السادات أن يوقف توزيع مجلة الحوادث في مصر.. ولقد زادت الحوادث من تصعيدها للموقف خصوصا وان حدة الضجة الإعلامية ضد هيكل قد لها أبعادا جديدة بعد أن نشر مايلز كوبلاند كتابه الثاني الذي قدم أدلة جديدة.. فضلا عن أن مجلة الحوادث قامت بالكشف عن معلومات مضافة مستندة إلى مصادر سوفيتية.. إذ تقول تلك ” المعلومات ” أن نيكيتا خروتشوف رئيس مجلس السوفييت الأعلى اتهم محمد حسنين هيكل أثناء عقد أحد الاجتماعات في موسكو عام 1957 وكان في وفد يرأسه جمال عبد الناصر بأنه عميل لأجهزة المخابرات الأمريكية، إذ كانت السفارة الأمريكية تزوده بمعلومات ينتقد من خلالها الاتحاد السوفييتي، وأنه تلقى مبالغ من الأموال بشيكات إبان زيارته للولايات المتحدة الأمريكية..
وينقل سيار الجميل عن جمال الشلبي في أطروحته التي أعدها في جامعة باريس (السوربون) بفرنسا عام 1995، معتمدا على حوار شخصي مع هيكل أجراه معه بالإسكندرية عام :1995 “غير أن هيكل نفى هذه المعلومات وقال أن المال الذي تلقاه كان لقاء المقالات التي نشرها في نيويورك تايمز وواشنطن بوست حول حرب كوريا، لكن خروتشوف لم يقتنع بهذه التوضيحات مما اضطر هيكل إلي مغادرة الاتحاد السوفييتي في اليوم التالي”..
كما أن هيكل نفى التهمة عنه في أكثر من كتاب له مقدما حججه ضد أولئك الذين اتهموه، وخصوصا نيكيتا خروتشوف.. ولكنه لم يرد على مايلز كوبلاند وغيره من الخصوم المصريين الذين لم يكتفوا بمقالاتهم في الصحف المصرية ضده، بل وصل الأمر بأحدهم واسمه محمد جلال كشك أن يؤلف كتابا كاملا ضد التجربة الناصرية التي يتهمهما، مركزا على هيكل بشكل خاص وعنوان الكتاب: ” ثورة يوليو الأمريكية وعلاقة عبد الناصر مع المخابرات الأمريكية “). كما أن الصحف الرسمية المصرية إبان عهد السادات كانت توجه انتقاداتها واتهاماتها لهيكل.. ووصل الأمر إلى السادات نفسه الذي وصف هيكل دون أن يذكر أسمه علنا، بل قال بأن: (لهذا الصحفي موقف مختلف من السوفييت: فهو يطالب دائما بحوار مع الولايات المتحدة الأمريكية لأنه كان عميلا ذا علاقات منتظمة معها قبل عبد الناصر( الشلبي ص291- نقلا عن الأهرام 21 أبريل عام 1977) “”
***
يقول سيار الجميل أن سر عقدة هيكل أنه يتوهم أنه يكشف أسرارا لم يكشفها سواه ولم يكن يعرفها غيره، و أنه صانع تاريخ لا كاتبه فقط، و أن الزعماء العرب لا دراية لهم من دون أن يوجههم محمد حسنين هيكل! وانه مستودع أسرارهم وحركاتهم وسكناتهم، وهو يعرف مخادع نومهم وتفصيلات برامجهم ومناهـج بروتوكولاتهم، لقد توضح لنا الآن عند نهايات عمر محمد حسنين هيكل ورؤية نتاجاته، مما كتبه من الأسرار والمعلومات والأفكار والأخبار والآراء التي قالها وحكاها له زعماء عديدون لم ينشرها في حياتهم، إنما أبقاها- إن كانت صحيحة كما يدعي- كي ينشرها بعد وفاتهم واحدا بعد الآخر، ومنهم: جمال عبد الناصر ومحمد رضا بهلوي، شاه إيران أنور السادات والملك الحسين بن طلال والملك الحسن الثاني وغيرهم من الزعماء والمسؤولين العرب وغير العرب.. وهو الآن، ينتظر أجل أحد من الزعماء العرب في دولة عربية كبيرة أو أكثر من دولة كي يبدأ بنشر تفصيلات وأسرار سياساته، وطبيعة علاقاته.. ثم يكرس الصفحات الطوال لتدبيج لقاءاته به، وما حكاه إليه، وما ساقه عنه.. إلي آخره من البضاعة المعهودة .. ناهيكم عن دور هيكل في رسم طريق تلك الدولة فضلا عن دوره في الكشف عن أسرار زعيمها وعلاقاته وارتباطاته وزياراته! وعليه، لماذا تمكث المعلومة الخطيرة حسب ما يراه هيكل، طويلا في أرشيفه الخاص ولا يفكر بنشرها إلا حين يكون شهودها غائبين.
يضع هيكل نفسه باستمرار في مركزية الأشياء محاولا أن يضع الآخرين من حوله مهما بلغت قيمة ذلك الآخر؟ انه دوما يختارهم أو بالأحرى يلتقطهم من ذوي الكاريزمات التاريخية الباهرة.. وسرعان ما يضعهم جميعا في نقاط خلاف سياسية معه، بعد أن يجعلهم مهتمين به أشد الاهتمام وان لا عمل لديهم إلا السعي لملاقاته والتحدث إليه ساعات وساعات.. وانه يستجيب لذلك من خلال المهام الموكولة إليه، يدخل معهم في جدل مصورا إياهم كونه في مستواهم.. فيعطي لنفسه الحق في أن يجيبهم بحدة!! كما ويحرص على أن يشعر القراء أنه يعرفهم منذ زمن طويل وان ثمة ذكريات يحملها حتى عن مشتريات خاصة بهم من أحد أسواق القاهرة..
***
من أجل ذلك كله دقت أجراس الخطر داخل رأسي.. واشتعلت المصابيح الحمراء تنذر..
لماذا لم يبدأ هيكل – وكان أولي به أن يفعل- أن يبين لنا موقع الإسلام من منظومته الفكرية وموقعه في مشروع إنقاذ الأمة..
هل يعترف له بدور خارج نطاق المسلمين الفقراء؟..
بل كان عليه أن يقول لنا خاصة بعدما اتهمه الرئيس السادات و آخرون بالإلحاد، كان من حقنا عليه أن يقول لنا هل ما زال مسلما، فذلك هام لتقبل مشروعه أو لرفضه، و أعترف، أنا شخصيا، أنه مما قربه كثيرا إلى قلبي ذات يوم إجابته على سائل سأله: هل قرأت القرآن؟ فإذا به يجيب إجابة أذهلتني: تقول قرأته؟.. بل حفظته كله!!..
جزء مهم من مشروعه الفكري إذن أن يحدثنا عن منطلقاته ومرجعياته والأسس التي سنتحاسب في النهاية عليها.
لا أعتقد أنني مجبر على كثير من الاعتذارات لأنني أسأل الرجل عن دينه، فقد تفضل هو نفسه بإباحة هذا، وبإبراز أهميته في التأثير على الرأي العام وعلى رأس الحكم، وذلك عندما كتب في العديد من كتبه متهما الملكة نازلي بالخيانة الزوجية والعلاقات غير الشرعية والارتداد عن الإسلام.. واتهام ابنتيها باتهامات مماثلة.. هيكل إذن يهتم بدين الشخصية العامة لانعكاساتها السياسية.. إذن.. الحديث عن الشخصية العامة لا يعتبر السؤال عن الدين كفرا يُذهب إلى النار أو إرهابا يرسل إلى جوانتانامو.
دعنا الآن من باقي الاتهامات الجنسية التي لم يكتف هيكل بالرمز إليها بل ذكرها في تفصيل مقزز، كما ذكرت في مقالة سابقة ( من ذلك وعذرا للغثيان الذي سأسببه للقارئ كتابته عن أن الملك فاروق كان مصابا بالتهاب صديدي في اللثة، و أنه بسبب كراهيته لناريمان، كان يتعمد نقل العدوى إلى لثتها أثناء علاقتهما الخاصة.. وهو ما أقصده بأنه لا يمكنه إثبات ذلك ولو كان شريكهما في الفراش).. دعنا من ذلك، فالأهم هو المنهج الذي واجه به هذه الاتهامات، هل قدم الدليل؟ هل قدم الشهود؟ هل قدم الإقرار؟
بل من الأصل: هل يمكن إثبات أي من ذلك بصورة تستحق أي قدر من التقدير والاحترام..
ودعنا من الأدلة الشرعية الآن فالمسافة بعيدة بعد المشرقين..
والإجابة عن السؤال : لا.. عدا رواية يتيمه مصدر الثقة الوحيدة فيها عند هيكل أن كاتبها “خواجة”..
وهذه واحدة أخرى.. فلو أننا تناولنا ما كتبه مايلز كوبلاند .. الموظف الكبير في المخابرات المركزية الأمريكية، في كتابه الشهير: ” لعبة الأمم” والذي نفدت طبعته اللندنية الأولى في ثلاثة أيام.. لوجدنا أن اتهاماته لهيكل مستندة إلى أدلة وقرائن أقوى بمئات المرات من أدلة وقرائن هيكل حين يكتب التاريخ.
إذن..
مع كل احترامنا للأستاذ إلا أننا نقرر أن قرائنه ضعيفة و أدلته مشكوك فيها ورواياته بذلك يمكن أن تكون مطعونا عليها.
لكننا قبل أن نترك هذا الجزء نذكر عرضا تعليق صحافي عربي على ما كتبه هيكل عن التفاصيل الجنسية لحياة الأسرة المالكة بحجة أن ذلك كان له تأثيره البعيد على السياسة. يقول الصحافي العربي: ولماذا لم يتحدث هيكل عن الفضائح الجنسية التي كان المشير وحاشيته أبطالها، وتأثيرها على السياسة كان أفدح بكثير من تأثير والدة الملك وشقيقتيه.
***
كنت أود أن يبدأ هيكل حديثه عن أمة الإسلام ببيان موقفه من الإسلام..
لكن هيكل لا يريد أن يراه على الإطلاق..
لسبب جوهري..
أدركته فجاشت مشاعري..
ذلك أن هيكل ينظر إليه كبقايا جسم جريمة.. هو فاعلها..
وكالقاضي.. كان يجب أن يستشعر حرجا يجعله يتنحى عن نظر القضية.. أقصد عن إلقاء المحاضرات..
***
تذكرت الدكتور إسماعيل بطل رواية قنديل أم هاشم للأديب الشهير يحيى حقي، الذي ذهب إلى الغرب حيث حصل علمه وشهادته وفقد أخلاقه ودينه، وعاد ليصيب مريضته وحبيبته (يمكن أن نقرأها: شعبه و أمته) بالعمي، وعندما يندفع لتحطيم قنديل أم هاشم ( كرمز للإيمان) لا ينقذه من فتك الناس إلا شفاعة الحارس “الشيخ درديري” الذي يقول للجماهير: “اتركوه، إنني أعرفه هذا هو إسماعيل ابن الشيخ رجب من حتتنا، اتركوه، ألا ترون أنه مربوح :(ركبه عفريت) ..
تمنيت أن يقول هيكل في بداية الحلقات أنه آخر من يصلح للحديث فيها، ليس لأنه ” مربوح” ولكن لأنه يمثل ثقافة أخرى، و أن هذه الثقافة تجعله جزءا من الداء فكيف يصف الدواء.
تمنيت أن يدرك هيكل كما أدرك الدكتور إسماعيل أنه لم يستطع شفاء حبيبته إلا بعد أن استرد إيمانه..
***
محمد جلال كشك، موسوعة فذة، شد ما كرهته في البداية، كنت أكرهه بفعل ظاهرة الهولوكوست، التي جعلتني أنا نفسي لا أطيق من يأتي ليقلب جزءا مهما من أفكاري رأسا على عقب، أو بفعل ظاهرة مسيلمة، التي تجعل الباطل أعلى نفيرا، وكان من أسباب كراهيتي له إحساسي أنه يظلم محمد حسنين هيكل( وهذا منشور في بعض كتبي)، واستمر الحال على ذلك حتى اكتشفت مع كل قراءة جديدة، كم كان هذا الرجل صادقا.
ولقد ساعدني على الخطأ في الحكم على جلال كشك نزق ينتاب قلمه أحيانا يبتعد به عن الوقار.. لكنه لم يبتعد به عن الحقيقة ولا عن الصدق أبدا.. ومن ذلك كتابه في المسألة الجنسية.
***
يصرخ جلال كشك أنه ناقم على محمد حسنين هيكل ، الذي لم يقاض مؤلف ولا ناشر كتاب ” حبال على الرمال” حيث ذكر المؤلف أن هيكل قد جندته المخابرات الأمريكية منذ بداية الخمسينيات.
ورغم أن قضايا التعويض في الغرب يمكن أن تخلف ثروة، وعلى الرغم من سعة اتصالات هيكل في الخارج، فلم يفكر أبدا في رفع قضية.
نفس الموقف الذي اتخذه مع مايلز كوبلاند.
و على الرغم من ذلك، أصبح هيكل بطريقة ما، المتحدث الرسمي باسم الوطنية الناصرية والقومية العربية.
***
ولنأخذ هذه الفقرة الساخرة من حديث لجلال كشك، وبرغم نبرة السخرية العالية فيها إلا أنها تحتوى معلومات في غاية الأهمية والخطورة لا أتذكر أن هيكل قد أبرزها قبل ذلك بهذا الوضوح، إلا في الحلقة الثامنة على قناة الجزيرة، فعندما كانت الحرب على إسرائيل هي الدافع الرئيسي للثورة كان عبد الناصر بطل الحرب الأول، والآن ، مع الهزيمة والانهيار، وليس النكسة، عندما أصبحت المودة هي السلام، أصبح عبد الناصر رجل السلام، بل إنه خفض ميزانية الجيش في مصر في أول عام بعد الثورة بنسبة 15%.
والآن لنر كيف يصف محمد جلال كشك أحد المواقف بسخريته اللاذعة:
ننتقل الآن إلى السؤال الكبير.. ما موقف عبد الناصر من المواجهة المصرية- الإسرائيلية؟ هل حقا كانت هذه المواجهة- في تصوره- هي قضية الأمن القومي لمصر ومستقبل القومية العربية، ومن ثم تحتل قائمة الأولويات في استراتيجيته..؟ نحن نقول: لا.. بل ونضيف إن العكس تماما هو الذي حكم سلوك عبد الناصر في الفترة من 1952 إلى 1967.. ونحب أن نبدأ بناصري شديد الحماسة، بل لعله من أطهر الناصريين نفسا وأعفهم يدا ولسانا، وفي مقدمة الذين قيل فيهم: إن الطريق إلى جهنم مرصوف بذوي النوايا الحسنة” وهو أمين هويدي ” من ضباط عبد الناصر المقربين له- أو هو يعتقد ذلك- المؤمنين به، عمل في فترة الثورة العراقية في بغداد، ثم وزيرا للحربية كفترة انتقال ثم مديرا للمخابرات.
يهاجم أمين هويدي ” (السذج) و ” المغرضين، الذين يقيمون الأحداث الآن، قائلين: إن عبد الناصر كان عليه أن يترك فلسطين في ذمة التاريخ لنتفرغ لأحوالنا ومشاكلنا، وأنه كان عليه أن يقفل عليه حدوده، وبذلك يتفادى الصدام مع إسرائيل)..
ويواصل جلال كشك:
احترنا والله ما بين الهويدي أمين والأمين هيكل..
الأول يقول: إن الدعوة إلى التفرغ لمشاكل مصر وتفادي الصدام مع إسرائيل لا تصدر إلا عن السذج والمغرضين. والأمين هيكل الواصل للخزائن والوثائق يؤكد لنا: أن أول من طرح هذا الشعار في مصر بل في الوطن العرب هو الزعيم عبد الناصر الذي قال لـ: ر. ك (اختصار ريتشارد كروسمان) الذي بدوره قال لـ:ب. ج (إشارة إلى بن جوريون) وهذا وحده دليل أكيد على صحة الرواية!!
قال الزعيم أنه لا يشغل نفسه بإسرائيل ، وإنما يركز عل التنمية الداخلية في مصر وأنه لذلك خفض ميزانية القوات المسلحة بخمسة ملايين جنيه عن السنة الماضية “.
حتى أن بن جوريون هرش شعره المنكوش ” لما سمع ذلك ” وتمتم بصوت خفيض وهو يهز رأسه: هذه أنباء سيئة.. أنباء سيئة جدا.
ولا أظن أن هناك مجالا للشك بعد هذا الوصف الدقيق للطريقة التي تصرف بها ب. ج عند سماع الخبر.. فهو أولا كان منكوش الشعر كما وصفه شاهد عيان وأخبر هيكل، وهو ثانيا هرش شعره هذا المنكوش ولم يمسح عليه أو ينتفه تماما.. ثم “تمتم” .. لا “همس” ولا “صرخ”.. إنما “تمتم”.. وبصوت خفيض.. كل هذه الأدلة تجعلنا نصدق انزعاج بن جوريون لأن عبد الناصر غير مشغول بإسرائيل ويعمل على خفض قدرات مصر العسكرية! وهي حالة معروفة بين العشاق.. حتى أن أم كلثوم تشكوا حتى الجفا محروم منه.. ياريتها دامت أيامه ، والأغاني المصرية حافلة بمثل خليني ع البال يا خلي البال ” ولا شك أن بن جوريون كان يعاني من هذه الحالة التي للأسف هيكل هو المصدر الوحيد للإعلام عنها..
دعنا من الجزء الخاص برأس بن جوريون ومشاعره.. المهم أن عبد الناصر- وهذه واقعة مؤكدة يخفض الميزانية وبخطب الرئيس وبمسلكه- كان يرى عدم التحرش بإسرائيل، عدم الانشغال بها، والتركيز على مشاكلنا الداخلية.. فلماذا يهاجم (هويدي ” هذا الموقف وينسبه للسذج والمغرضين إلا إذا كان قد قرر الانضمام إلى (جوقة عدم الوفاء ” وتشويه سيرة الزعيم الخالد؟! أو لم يقل حمروش أنه بقبول مصر قوات الطوارئ لتكون حاجزا بينها وبين القوات الإسرائيلية حتى لا تتكرر الاشتباكات تحققت أفكار عبد الناصر وهي: ” ليس هناك محل للحرب مع سياستنا الإنشائية التي قررناها لتحسين مستوى الشعب “. وهو أيضا الذي جزم وقدم أدلة: مما يظهر أن عبد الناصر لم يكن ضد إسرائيل ولم يكن من دعاة تدميرها) خريف عبد الناصر ص 33.
على أية حال بعد سطر واحد اندفع أمين هويدي يثبت أن مصر لم تتحرش قط بإسرائيل.. وأنها فعلا كانت تود لو أن بينها وبين إسرائيل جبلا من نار فلا يصلون إليها ولا تصل إليهم.. إذ يقول: ا ولكن هل تحرشت مصر بإسرائيل حينما قامت بغارتها الوحشية في غزة وأتبعتها بغاراتها في مناطق عديدة بعد ذلك؟ هل تحرشت مصر بإسرائيل حينما انضمت الأخيرة إلى بريطانيا وفرنسا في العدوان الثلاثي.
***
تتحدث كلمة الغلاف على الطبعة الإنجليزية من ملفات السويس عن أن الأهمية الحقيقية لهذا الكتاب تكمن في أنه لأول مرة يمكننا من رصد أحداث معروفة في ضوء جديد تماما، فهي ليست مجرد كارثة نهاية إمبراطورية ولكن كفصل من العملية التي حاولت بها الولايات المتحدة استبدال الاستعمار القديم بنوع جديد من الهيمنة، وهي ليست مجرد حدث تطويه كتب التاريخ بل فصل في دراما تجري أحداثها.
إذن.. هذا اعتراف كامل بأن ثورة 23 يوليو كانت فصلا في تاريخ التحول الإمبراطوري الأمريكي.
وتتحدث كلمة الغلاف في كتاب ثورة يوليو الأمريكية فتقول: منذ 75 سنة نفذت المخابرات البريطانية ما أسمتها الثورة العربية! ومنذ أربعين سنة نفذت المخابرات الأمريكية ما أسموه ثورة يوليو الأولى أعطت نصف فلسطين لليهود والثانية مكنت اليهود من السيطرة على العالم العربي.
***
وفي جزء آخر، تصل فيه السخرية إلى آفاق غير مسبوقة، وهو يرفض رواية هيكل والتي يدعي فيها أن السفارة الأمريكية لم تعلم بالثورة إلا صباح يوم 23 يوليو، حيث تم إبلاغ السفارة الأمريكية بقيام الثورة، وطلب منها التدخل الأمريكي لمنع بريطانيا من التدخل العسكري.
ومن رأي جلال كشك أن أي ثورة محترمة في التاريخ لا يمكن أن تترك نقطة كهذه للصدفة، و إنما لابد أن تكون مخططة سلفا ومتفقا عليها، وليس في ذلك عيب، ولا عيب أيضا أن يتصل الضباط الأحرار بضباط المخابرات الأمريكية، قبل الثورة، العيب أن يستمر الاتصال بهؤلاء الضباط بعد الثورة وهو ما حدث، إذ كان يجب بعد نجاح الثورة أن تنتقل العلاقات من طور السرية مع ضباط المخابرات إلى طور العلنية مع السفير وموظفيه..
أقول أن جلال كشك يرفض تماما رواية هيكل عن كيفية إبلاغ السفارة الأمريكية بنجاح الانقلاب.. ويضع هذا التصور الهزلي الخيالي لما حدث:
لاشك أن اضطرابا شديدا قد وقع في صفوف الناصريين والمتاجرين بالناصرية والكائدين لمصر باسم الناصرية، عندما نشرت كتابي “(كلمتي للمغفلين) حيث طرحت فيه لأول مرة دراسة كاملة بالوثائق لطبيعة الانقلاب العسكري الذي نفذه جمال عبد الناصر ولم يكن- في بدايته على – الأقل- أكثر من واحد من عشرات الانقلابات العسكرية التي نفذتها المخابرات الأمريكية في شتى أنحاء العالم الثالث.. ولم يجرؤ ناصري واحد على أن ينقد حرفا في هذا الكتاب، ولكن لما نصب المولد، وجاء الحاوي الطروب وأحاطت به القردة، في ذكرى هزيمة سيناء الأولى، ومرة أخرى وجدوني أتصدى لهم ناقلا المناقشة من أعظم ثورات العرب التحررية، كما يخلعون على انقلاب ناصر الذي أفضى بالعرب إلى أحلك وأذل مرحلة في تاريخهم.. نقلت المناقشة إلى ” أمريكية الانقلاب، وهل كان عميلا.. أم مجرد متعطش للسلطة قبل أن يحقق هدفه بمساعدة المخابرات الأمريكية..
ولما كان نفي الاتصال بالأمريكان أو إنكار دعم الأمريكان للثورة مستحيلا بعدما قدمنا من أدلة ووثائق ومنطق، وبعدما نشر في العالم كله من حقائق، فقد دب الاضطراب في صفوفهم، وراحوا يحاولون إخفاء الدور الأمريكي في انقلاب يوليو بمحاولات وتصريحات وتفسيرات مضحكة إلى حد البكاء، وقد تغلبت غريزتي المسرحية (وأنا كاتب لمسرحية واحدة يتيمة) وأسلوبي الذي يقول البعض إنه ساخر، تغلب عليّ فكتبت على ظهر تصريح للسيد علي صبري، التعليق التالي، ورأيت أن أنشره ترويحا للنفس قبل أن نخوض في كآبة ما أنزلته بنا ثورة يوليو الأمريكية! .
فاقرءوا السطور التالية كنكتة..
أدلى ” علي صبري” بتصريح قال فيه إنه قابل عبد الناصر لأول مرة في حياته ليلة الثورة وطلب منه عبد الناصر في أول مقابلة: حاجة بسيطة خالص.. يخطف رجله للسفارة الأمريكية ويطلب منهم منع بريطانيا من التدخل ضد الثورة!..
واسمعوا القصة: وكان من الطبيعي أنه في ليلة 23 يوليو أن الرسالة التي يراد أن تبلغ إلى السفارة الأمريكية تبلغ من خلالي بحكم العلاقة الشخصية مع الملحق الجوي الأمريكي وقد اتصل بي البغدادي ليلة الثورة واستدعيت إلى القيادة وقابلت عبد الناصر وكانت هذه أول مقابلة، وأبلغني نص الرسالة الشفوية التي من المفروض أن أبلغها للملحق الجوي الأمريكي والرسالة بسيطة جدا فالجيش قد قام بحركته لتطهير القوات المسلحة من العناصر الفاسدة وليس للحركة أية أبعاد سياسية والشعب كله سيؤيدها لأنها ستتمشى مع مصالحه، والمطلوب أن تتدخل سفارة الولايات المتحدة لمنع أي تحرك للقوات البريطانية من منطقة القناة وقد ذهبت إلى الملحق الجوي الأمريكي وأبلغته الرسالة واتصل أمامي بالسفير الأمريكي في الإسكندرية لينقل إليه ما سمعه منى وفعلا وصلت الرسالة إلى السفارة البريطانية فيما بعد وكان ذلك من الأسباب التي أدت إلى عدم تدخل عسكري بريطاني في الأيام الأولى “.
وتفسير ذلك بالبلدي أن الملحق الجوى الأمريكي قاعد لا بيه ولا عليه بياكل همبرجر.. دق الباب..
– مين؟
– آنا علي صبري.
– أهلا علوة.!.. اتفضل همبرجر.. بيبسي!
– ألف هنا وشفا.. أصل أنا مستعجل..
– خير كفى الله الشر..
– لأ أنا قصدك في خدمة..
– تؤمر ياعلوة.!
– إحنا احتلينا القيادة العامة والإذاعة ومسكنا البلد.. لكن وحق العيش والهامبرجر.. ولا ينقلب على عيني عدس يا شيخ لا إحنا بتوع سياسة ولا لينا أهداف سياسية.. غيرشي كام ضابط عايزين نطهرهم!!
الملحق الجوى- أنا تحت أمرك عايز مطهرات من أمريكا؟!
علي صبري- لأ.. أبسط من كد… عايزين السفارة تشد تليفون للسفير البريطاني وقائد جيش الاحتلال البريطاني.. وتقول لهم حسك عينك تقربوا ناحية الجيش وحركة الجيش..
الملحق الجوي- غالي والطلب رخيص يا علي!.. والله ما تقوم إلا مبسوط هاتي التليفون يابت.
ألو- السفير كافري؟! حذر فزر مين هنا؟!.. لأ.. هيكل مشغول معاهم؟!.. علي صبري صاحبي اللي كنت بأسهر عنده… هو الحقيقة جاي قاصدني.. وأنا قلت بقى إنك مش حتكسفنا.. هو أصله قاصدنا ندى إنذار لبريطانيا العظمى حليفتنا رقم واحد في حلف الأطلنطي، والمسئولة رقم واحد عن مصر.. لأن هم عملوا حركة قصدها تطهير الجيش.. وأنا صدقته وقلبي انشرح له.
السفير الأمريكي- على ضمانتك؟ أوعوا يكونوا بتوع سياسة..
الملحق الجوي- أعوذ بالله.. دا وشه سمح ولا يمكن يكذب!
واتصل السفير الأمريكي على الفور بوزير الخارجية في واشنطن:
اتشيسون: خير الساعة كام دلوقتي.. فيه ايه؟. الملك عايز حاجة؟!
كافري: ملك مين؟ كل سنة وأنت طيب.. في واحد اسمه علي صبري.. طبعا ما تعرفوش ولا أنا أعرفه.. لكن هو بينه وبين الملحق الجوي بتاعنا عيش وملح.. الستات زي الأخوات.. وهو اتصل بالملحق الجوي علشان التطهير..
– تطهير ايه يا سفير الكلب!!.. تصحيني من النوم علشان عاوز شوية مبيدات..
– لأ اسم الله على مقامك.. دول مش عايزين حاجة غير إنذار صغير يرسل للندن الليلة علشان ما حدش يتدخل.
واتصل وزير الخارجية الأمريكي بالرئيس الأمريكي..
اتشيسون: صباح الخير يا ريس.
رئيس الولايات المتحدة: خير ايه وبتاع ايه الساعة كام؟!
وزير الخارجية: متأسف يا ريس.. إنما تعرف سفيرنا اللى في مصر؟ لأ. اسمه كافري.. عنده ملحق، والملحق مراته تعرف مرات واحد اسمه علي صبري.. لأ .. بالإس يا ريس!!..
أيوه طول بالك.. علي ده زار الملحق النهارده وطالبين إنذار لبريطانيا.. هم مش بتوع سياسة أبدا، ولا ليهم أهداف سياسية.. دا مجرد تطهير.
– طب ما يكلموا منظمة الصحة العالمية؟ ..
– لأ هم عندهم مستشفى المواساة وعندهم مطهراتية بس عاوزين تليفون منك لتشرشل تقول له إذا تدخلت بريطانيا الأسطول السادس حيضربها..
وقد كان واتصل ايزنهاور بتشرشل وشلت يد بريطانيا ولم تتدخل بفضل زائر الفجر علي صبري ووجهه السمح الذي كسب قلب الملحق الجوي!
***
يواصل جلال كشك جادا هذه المرة:
هل يليق هذا العبث؟.. ولماذا هذا اللف والدوران.. مادام عبد الناصر يخشى تدخل اَلْإِنْجِلِيز ضد الثورة، فهل يعقل أن ينتظر إلى أن تصبح أمرا وَاقِعَا، وماذا يحدث لو رفض الأمريكان.. تضيع البلد؟ أليست رواية جميع المصادر العاقلة أكثر منطقية.. وهي أن عَبْد الناصر الحريص على تأمين الثورة، اتصل قبل الثورة بالأمريكان شَارِحًا أهدافه، عَارِضَا التعاون، وعلي صبري نفسه يشهد حرفيا بالتقاء المصالح عندما قال: أعتقد أن الأمريكان قد وجدوا فِي الثورة فرصة، فهم بمساندتهم لها يستطيعون أن يقلصوا نفوذ اَلْإِنْجِلِيز وتحل أمريكا مكان الإنجليز، وكان هذا هَدَفًا استراتيجيا لأمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، ومصر مفتاح الشرق الأوسط وَإِذَا استطاع اَلْأَمْرِيكَان أن يزعزعوا النفوذ اَلْبِرِيطَانِيّ في مصر وبالتالي المنطقة العربية، وَكَانَتْ هذه هي الأرضية اَلْمُشْترِكَة التي عمل عبد الناصر على اللعب بها فهناك تَنَاقُض بين الاستراتيجية الأمريكية والاستراتيجية البريطانية. وهذا لا يعنى أن تأييد الأمريكان للثورة كان تَأيَيَّدَا مُطْلَقًا ولكنه بهدف تثبيت أوضاع الثورة ثم الانطلاق منه إلى تقليص النفوذ اَلْبِرِيطَانِيّ تمهيداللسيطرة ” (حَرْفِيًّا حديث صحفي- نوفمبر 1986).
صدقنا وآمنا.. وقلنا كما قال النجاشي.. هذا وَالْإِنْجِيل مثل هذين! وسبحان من ضرب مَثَلًا ما جناح بعوضة..
• اَلْأَمْرِيكَان استراتيجيتهم هي إخراج بريطانيا من مصر.
• وجدوا في ثورة عد الناصر فرصة لتحقيق ذلك.
• عبد الناصر وجد أن هذه أرضية مشتركة، تمكنه من الحصول على الدعم الأمريكي لثورته.
• اَلْأَمريكان رأوا أن دعم هذه الثورة وتثبيتها يحقق لهم تصفية النفوذ البريطاني والسيطرة على مصر..
وكل امرأة طالق وكل رقبة حرة إن كنا قَدْ قلنا أكثر من ذلك، إلا أن اِسْتِرَاتِيجِيَّة أمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، لا يمكن أن تنام عليها أمريكا حتى ينبهها علي صبري ليلة الثورة أو صباحيتها.. واستراتيجية خطيرة مثل هذه. لا يمكن أن يكتشفها عبد الناصر ليلة اَلثَّوْرَة، ولا يمكن أن يُؤَجَّل دَرَاسَتهَا وتجربتها ومحاولتها إلى أن يغامر بها مرة واحدة يوم الثورة..
لقد اتفق الطرفان على تنفيذ اَلثَّوْرَة، ولا يضير الناصريين اَلشُّرَفَاء أبدأ الاعتراف بهذه الحقيقة فهي لا تجعل من عبد اَلنَّاصِر عَمِيلَا، وإنما متآمرا.. وقد قلنا إن هذه المؤامرة ضمنت نجاح الانقلاب، ومنعت تدخل اَلْإِنْجِلِيز وحققت الكثير من النجاح، ولكن لأنها كانت مؤامرة ومع المخابرات الأمريكية فقد انقلبت بعد ذلك على اَلْمُتَآمِر ودمرت كل شيء ومكنت إسرائيل من إلحاق الهزيمة التاريخية بمصر والعرب..
فلا داعي للف والدوران وتغطية الرأس بكشف السوءة، الاتفاق اَلْاِسْتِرَاتِيجِيّ بين” انقلاب يوليو وَالْأَهْدَاف الاستعمارية اَلْأَمْرِيكِيَّة متفق عليه.. نحن نقول ” قبل ” وهم يقولون ” بعد”.. فأي الروايتين أكثر مَنْطِقًا وعقلانية؟!
***
ويذكر مايلز كوبلاند أن هيكل كان حلقة الوصل بين الضباط الأحرار وبين المسؤول السياسي في السفارة الأمريكية بالقاهرة وليام ليكلاند.
***
الغريب أن بعض الكتاب الذين يحترمون هيكل احتراما كبيرا، يصدقون في نفس الوقت ما ذكره مايلز كوبلاند.
فهمي هويدي على سبيل المثال، في مقالة بصحيفة الأهرام، كتب مشيدا بهيكل العظيم الذي عاد ليرسخ الثوابت، لكنه منذ أسابيع، وفي مقال بعنوان لا وقت للمماحكة يكتب عن :
“وقد تحدث الأمريكي «مايلز كوبلاند» في كتابه «لعبة الأمم» عن الدور الأمريكي في انقلاب حسني الزعيم بسوريا عام 1949، وانقلاب عبد الكريم قاسم في العراق عام 1958، وهناك انقلابات أخرى حدثت في الستينيات لم تكن الأصابع الأمريكية بعيدة عنها. في الوقت ذاته فان ظهور النفط في العالم العربي أضاف سبباً جديداً لمضاعفة دور قوى الهيمنة في المنطقة، وهي التي أدركت أن من يسيطر على منابع النفط يسيطر على العالم الصناعي بأسره. وهو ما لفت الانتباه إليه الأستاذ محمد حسنين هيكل أثناء غزو العراق حين قال أن المعركة ليست ضد العراق، ولكنه ميدان لضرب النار في التنافس على المستقبل بين الولايات المتحدة وأوروبا.”
الغريب حتى الدهشة، أن هويدي، أغفل تماما أن الموضوع الرئيسي لكتاب مايلز كوبلاند هو ثورة يوليو الأمريكية وتجنيد هيكل بواسطة المخابرات الأمريكية..
ولو أن هويدي لا يصدق كوبلاند فلماذا يستشهد به.. وإن كان يصدقه فلماذا يخفي الحقيقة.
***
لدينا شاهد آخر على صدق كوبلاند..
ففي حوار مع الدكتور مصطفى خليل رئيس الوزراء الأسبق في مصر، والوزير في عهد عبد الناصر يسأله أحمد منصور سؤالا فيجيبه:
د. مصطفى خليل:
دور الولايات المتحدة أعتقد إن المرجع فيه لكتاب لعبة الأمم ..
أحمد منصور:
ما يلز كوبلاند.
د. مصطفى خليل:
أيوه مايلز كوبلاند، والكتاب شائع.
أحمد منصور:
هل تعتقد إن اللي ذكره كوبلاند -وأنت كنت وزيراً ونائباً لرئيس الوزراء في عهد عبد الناصر- إن ما ذكره كوبلاند صحيح كله؟
د. مصطفى خليل:
أعتقد إنه قال: الحقيقة في جزء كبير من الكتاب بتاعه .
***
يقول سيار الجميل عن نفس الواقعة:
د. مصطفى خليل وهو شخصية مصرية سياسية معروفة تقلد عدة مناصب عليا في عهد عبد الناصر وعهد السادات، بأن كل ما كتبه مايلز كوبلاند في كتابه لعبة الأمم صحيحا ” شاهد على العصر ” ” قناة الجزيرة الفضائية، مساء يوم27-2-2000م
والحقيقة أنني أعاتب المؤلف هنا، فمقتضيات الأمانة والتجرد تقتضي أن نذكر الكلمات التي قالها مصطفي خليل حرفيا.. رغم أنه من الناحية العملية لا يكاد يوجد أي فارق.
***
ثمة رواية أخرى شاهدتها بنفسي في حوار تلفازي، وفات علىّ توثيقها، وسأكون ممتنا لمن شاهد البرنامج أن يوثقها لي.
والواقعة تتعلق بالدكتور عبد العزيز حجازي، وهو واحد من أقوى و أنظف و أكفأ رؤساء الوزارات في مصر ، قد أكد أنه بعد أن تولى الوزارة في أوائل عهد السادات، جاءه مايلز كوبلاند يعرض عليه أن يعمل لصالح المخابرات الأمريكية.
ما يلز كوبلاند ليس صعلوكا إذن ولا مبتزا، إنه واحد من كبار المسئولين في المخابرات الأمريكية وقد استمرت علاقته بكل الضباط الأحرار وهيكل ومصطفي أمين لفترة طويلة.
يقول إيفيلاند، وهو ضابط مخابرات أمريكي آخر، مؤيدا كوبلاند:
منذ أوائل الخمسينيات جند كيم روزفيلت ومحطة السي آي إيه في القاهرة ثلاثة من الصحفيين المصريين البارزين كعملاء للمخابرات الأمريكية هم محمد حسنين هيكل والأخوان أمين.. مصطفى وعلى.. و أن عبد الناصر كان يعرف ذلك .
***
ما زال التساؤل يطاردني : لماذا لم يحدد هيكل موقفه من الإسلام.. أو على الأقل دور الإسلام في الصراع..
هل نشهره؟..
هل نقتله؟؟
هل نخفيه كعوره؟؟!!
ولككني أقرأ في لعبة الأمم:
” وقد بذلت المخابرات الأمريكية كل جهودها في استبعاد الإسلام عن أي سلطة، فقد أشار مايلز كوبلاند عميل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، والذي أشرف على تنفيذ كثير من الانقلابات في العالم العربي، أشار في كتابه الشهير (لعبة الأمم) إلى أنهم قرروا أن يرفع جمال عبد الناصر في مصر شعار القومية العربية على الرغم من أن الشعار الإسلامي سيعطيه مساحة جماهيرية أكبر، ولكنهم خافوا من انتشار الإسلام، كما أرادوا أن تكون القومية العربية أداة لكبح جماح التيار الإسلامي المتنامي، فحصل المراد وتم ضرب ذلك التيار في مصر وكثير من الدول العربية ضربة كبيرة.”
***
لا يثق سيار الجميل بصدق روايات هيكل ولا بقوة توثيقه ويرى أن كتاباته كلها تهدف إلى هدف سياسي بغرض معين .. والغرض مرض تموت فيه الحقيقة.. يقول سيار:
دعونا نتوقف عن واحد من أبرز كتب محمد حسنين هيكل وأهمها.. عنوانه “سنوات الغليان ” في جزئه الأول الذي يتضمن حالة العرب وأوضاعهم، وخصوصا في المشرق العربي أبان عقدي الخمسينيات والستينيات، وقد عالج فيه صاحبه جملة من الموضوعات الساخنة التي عايشها عندما كان هو نفسه في قلب الأحداث على عهد الرئيس جمال عبد الناصر.. وقد آليت إلا أن أقف عندما أثارتني بعض النصوص التي أوردها هيكل، وكأنه كتب الكتاب على هواه دون أي مرجعيات ومصادر تاريخية ووثائقية.. (…)
في مقدمته، يسهب هيكل في الحديث عن نفسه، ولم يستطع- كعادته- إلا أن يضفي عليه هالة من النوع الذي عرفناه في بقية كتبه.. فهو يكتب في مقدمته: ” وأتذكر أن الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران دعاني يوما إلى غداء كنا على مائدته وحدنا في مطعم ليب بـ: سان جرمان، وناولني نسخة من كتابه السنبلة وحبة القمح وهو يحوي طرفا من مذكراته وخواطره.. ” (سنوات الغليان، ص 8) وراح يكتب عن حوار بينه وبين ميتران حول فلسفة الحرب والسلام، حتى يصل إلى أن يقول: “ثم آثرت أن أغير الموضوع وانتقل منه إلى غيره! ” (سنوات الغليان، ص 9).. نعم، إنه لوحده على مائدة فرانسوا ميتران، وأنه أهداه نسخة من كتابه، وأنه حاوره في الحرب والسلم.. ولما لم يعجب هيكل بما قاله ميتران آثر أن يغير الموضوع، وينتقل منه إلى غيره!
***
يقول جلال كشك في كتابه ثورة يوليو الأمريكية – دار الثقافة الجديدة ط 3 – :
” كانت التقاليد المصرية العريقة تقضى بدفن الجثة بعد أربعين يوما، ولك هاهي رمة تاريخية مر عليها أربعون عاما ويرفض البعض أن نواريها التراب أو أن يفتح ملفها السري ليعرف المصريون سر ما حاق بدولتهم وأمتهم. سر هذه المعجزة- الكارثة التي غيرت خريطة الشرق الأوسط- وحسمت الصراع العربي الإسرائيلي فيما يبدو، وكأنه الهزيمة الشاملة لمصر والعرب والانتصار الإسرائيلي الساحق في حجمه وسهولته.. ولابد أن نواجه الحقيقة.. إن كان ثمة أمل في خلاص لابد أن نقول إن عبد الناصر كان ضرورة لقيام إمبراطورية إسرائيل، ولم يحدث أن تحقق خلال سبع عشرة سنة أن انهارت دولة وتألق خصمها مثلما حدث في عهد عبد الناصر بين مصر وإسرائيل.
إن الصراع بين مصر و إسرائيل لم يكن أبدا مجرد غضبة لحقوق الشعب الفلسطيني، و إن دار فترة على أرض فلسطين، إنما المواجهة الرئيسية بين مصر و إسرائيل كانت حول الشرق الأوسط، (…) وقد استطاع انقلاب يوليو أن يمنع الشعب المصري من القيام بمهمته التاريخية، وهي التصدي للاستعمار الإسرائيلي.(…)..
والآن بعد أربعين سنة تبدو النتيجة شديدة الوضوح غير قابلة للمكابرة. إسرائيل أقوى دولة في الشرق الأوسط، ومصر تراجعت إلى الدرجة الرابعة بعد أن تفوقت عليها إسرائيل وتركيا وإيران. (…) إسرائيل في رعاية الولايات المتحدة وبفص صدام التي أسقطت التكليف عن دول الخليج، تتفاوض من أجل التطبيع مع العرب كلهم وبلا أي تنازل من جانبها، بل لاقتسام ثروة وماء العرب، وأخذ حصة الأسد في أسواقهم. وما كان يمكن أن يتحقق ذلك إلا بفضل ثورة يوليو وما أفرخت من ثعابين! (…)
***
يقول جلال كشك في مكان آخر من نفس الكتاب أن إسرائيل لم تكن تبحث عن دولة بل عن قاعدة لإمبراطورية.
***
إنني أرجو القارئ أن يلاحظ أن تعبير الإمبراطورية الإسرائيلية ، والذي لا بد روع معجبي هيكل، فاعتبروه دليلا على نفاذ بصره وسعة بصيرته، هذا التعبير بحذافيره استعمله جلال كشك قبل هيكل بعشرين عاما على الأقل، أما محتواه ومضمونه فقد كان معروفا منذ الفراعنة، وأنه، قبل قيام دولة إسرائيل، كان هناك من يقول – لعله الشيخ مصطفي صبري- أنه طوال ألف و أربعمائة عام فإن المنطقة الممتدة من الصين إلى المغرب قد تعودت أن تعيش بعاصمة مركزية واحدة، و أنه يخشى أن تكون هذه العاصمة – بعد انهيار دولة الخلافة – دولة يهودية.
ولقد أدرك كل المفكرين الإسلاميين هذه الحقيقة..
وكان منهم أولئك المفكرون الذي شارك هيكل في إعدامهم.. وعلى رأسهم الشهيدين سيد قطب وعبد القادر عودة.
الإمبراطورية الإسرائيلية التي تمتد خارج العالم العربي ليست إذن اكتشافا عبقريا مذهلا لهيكل، وليست حتى سرا، إنما حقيقة جاهد هو أن يطمسها نصف قرن حتى لم يعد إلى طمسها سبيل فعاد ليطرحها بصورة أخرى.
بل إن هيكل نفسه يعترف أن ثورة 23 يوليو نفسها كانت جزءا من هذا التصور والتطور، تطور الإمبراطورية الأمريكية وفي بؤبؤ العين منها إسرائيل وكان هذا شديد الوضوح منذ البداية، وليس الأمر وضوحه فقط، بل وتم الاتفاق عليه، فلماذا أجل هيكل اكتشافه خمسين عاما ليبدو لنا مزهوا باكتشافه ضائقا بغبائنا.
***
لقد حاولت كثيرا يا قراء أن أنقل لكم وجهة نظر جلال كشك كاملة، لكن وجهة نظره تستعصي على التلخيص. لذلك أنتهز فرصة قيام الجميل بعرض فصل من فصول ثورة يوليو لأستعين به. وقد أورده الكاتب كدليل ليس على عدم مصداقية هيكل فقط، بل على تعمده التزوير..
يقول الجميل:
التاريخ البلاستيك: وقفة عند اتهامات كشك لهيكل..
كان هذا هو عنوان الفصل الأول من كتاب محمد جلال كشك الذي خصصه في الهجوم الصارخ على محمد حسنين هيكل.. وخص الفصل الأول في نقد كتاب “ملفات السويس” في طبعتيه العربية والإنجليزية، علما بأن عنوان الطبعة الإنجليزية للكتاب هو: “السويس قطع ذيل الأسد: نظرة مصرية”. ويعد جلال كشك من أقسى المهاجمين الذين تعرضوا لهيكل ، فقد وصم كشك محمد حسنين هيكل بالكذب والتزوير والاستهتار والتهريج (المرجع نفسه، ص 37- 38)الكتاب بل ووصل في هجومه عليه ليصفه بالعمالة والخيانة والمأجورية والتجسس (المرجع نفسه، فصول الكتاب.
يقول الجميل أنه راجع بدقة مقارنات جلال كشك، و أنه يشهد بأنها كلها صحيحة..
ملحوظة: ولعل القارئ يذكر ما نشرته منذ شهور، عندما تعرضت لكون لإصلاح الزراعي هو فكرة أمريكية، ألح بها الرئيس الأمريكي روزفيلت على الملك فاروق منذ عام 1945. وساعدني صديقي الأستاذ محمد طاهر في كندا في العثور على نسخة من الطبعة الإنجليزية كي أتأكد بنفسي من تعمد هيكل للتدليس.. ولقد تأكدت!! انتهت الملحوظة.
نعود إلى سيار الجميل في قراءته لكتاب جلال كشك: ثورة يوليو الأمريكية:”
1. الطبعة العربية من كتاب ” ملفات السويس “- يقول كشك- ” هي التي سقطت منها وقائع وحقائق في غاية الأهمية، وأنها طالت بشقشقة اللسان والتهريج ببطولات كاذبة استحى هو أن يعرضها للقارئ الأجنبي، أو أخطر ناشرة الإنجليزي إلى حذفها تمسكا بشرف الكلمة، واحتراما لهذا القارئ الأجنبي.. الذي كان عند حسن ظنهما فاستقبل هذه الطبعة ببرود لم يجابه به أي كتاب لهيكل ذاته.
يكتب هيكل في الطبعة العربية من ملفات السويس عن مجموعة من الناشرين الإنجليز والفرنسيين والأمريكان والألمان واليابانيين يطالبونه بكتاب عن السويس.. وهذا ما كرره هيكل في مقدمة كتاب قصة السويس (بالعربية)، وسنراه يكرره في مقدمة كتاب حرب الخليج (بالعربية).. أما في الطبعة الإنجليزية، فلا نجد فيها هكذا كلام وادعاءات .. لماذا؟ إن ذلك ببساطة هو جزء من صناعة دعائية واضحة للمؤلف هيكل بنفسه عن نفسه لترويج نفسه عربيا.. وقد نجح كثيرا في مهمته هذه، إذ كان معظم القراء العرب وما زالوا يصدقون ما يكتبه هيكل وما يروجه عن نفسه بنفسه.
2. لقد سجل الناقد على هيكل بعد مقارنته بين الطبعتين من ” الكتاب مسألة تشويه هيكل لوثيقة روزفلت والتي أرسلها إلي الملك فاروق، إذ حذف من الطبعة العربية جملة خطيرة جدا تقول: ” واقترح الرئيس الأمريكي على ملك غير متجاوب، اقترح تقسيم الملكيات الكبيرة في مصر وتسليمها للفلاحين لزراعتها (وكلمة الفلاحين بالأحرف اللاتينية إذ ظهرت بشكل Fellahin) ( ) السويس: قطع ذيل الأسد وقارن ذلك مع الطبعة العربية التي حذفت منها الفقرة كاملة، لا لسبب إلا لأن القارئ العربي سيعلم بأن مشروع الإصلاح الزراعي هو أصلا مطلب أمريكي منذ 13 فبراير / شباط 1945، أي قبل ثورة يوليو المصرية بسبع سنوات!
3. تشويه هيكل قضية الأمة العربية في صراعها الاستراتيجي ضد الصهيونية، واعتباره في النسخة الإنجليزية ” قطع ذيل الأسد ” بأن إسرائيل خاضت حربا ضد بريطانيا وعملاء بريطانيا من الحكام العرب وان الإنجليز أرادوا الدخول المصري في حرب فلسطين لحرف أنظار المصريين عن النزاع معهم، وكان في وسع الإنجليز الاعتماد أبدا في الطبعة العربية الموسعة. أما هذا الكلام الذي كتبه هيكل، فما هو إلا تشويه متعمد لطبيعة الصراع المبدئي بين العرب والصهاينة.
4. وبصدد وحدة وادي النيل، نرى هيكل يقول في كتابه ” قطع ذيل الأسد ” (بالإنجليزية): ” مسألة السودان أو ما يسمى بوحدة وادي النيل لعبت دورا هاما في مفاوضات ما بعد الحرب، فقد كان مفهوما أنها قضية عزيزة على قلب الملك فاروق، الأمر الذي لا يستطيع أحد من وزرائه تجاهله. لكن عندما اختفت الملكية أصبح الطريق سالكا للسودان لكي يستقل عن كل من مصر وبريطانيا ” (قطع ذيل الأسد) إلا أن هذا الكلام ينافي الحقيقة التاريخية، فلقد صوت السودانيون بأغلبية ساحقة مع وحدة وادي النيل في أول انتخابات حرة تشهدها بلادهم. وأن أول خطاب أذاعه محمد نجيب بصوته كان موجها إلي : “إخواني أبناء وادي النيل “. وان البرلمان المصري على امتداد عهده شهد مشروعية وحدة وادي النيل (ثورة يوليو)..
5. ونشهد قراءة النص التالي في الطبعة الإنجليزية ” قطع ذيل الأسد ” والمفتقد من الطبعة العربية، إذ يقول: ” كان ناصر وصحبه يتطلعون بأمل للأمريكيين، لم يكن عالم اتصال مباشر سابق مع الأمريكيين ” (قطع ذيل..، ص 33). ونسأل أيضا: لماذا لم نجد هذه “المعلومة” فعلا في الطبعة العربية “ملفات السويس، وإذا لم يكن هناك ثمة اتصال مباشر سابق.. معنى ذلك أن هناك اتصال غير مباشر سابق! علما بأن هيكل نفسه كتب قبل عشر سنوات من نشره هذا الكلام، وبالذات في كتابه “قصة السويس “، أي في سنة 1976 كتب يقول: لم يكن هناك اتصال بين الثورة (1952) والولايات المتحدة قبل ليلة 23 يوليو ” (قصة السويس، ص 68). في حين يغير النص في طبعة سنة 1986 المزيدة والمنقحة، ليقول: لم يكن لهم اتصال مباشر مع الأمريكيين (قطع ذيل الأسد، ص 33).
6. عندما يتحدث انتوني ايدن وزير خارجية بريطانيا عن ذكرياته مع الملك فاروق وباشوات مصر.. فان هيكل يخفي النص كاملا في الطبعة العربية ” ملفات السويس “، في حين ينشره كاملا في الطبعة الإنجليزية “قطع ذيل الأسد “، لماذا؟ لأن نص كلام إيدن يمتلأ بالكراهية للملك والاستصغار بمصطفى النحاس وتحذير ساسة مصر القدماء. إذ يقول انتوني ايدن بحكم معرفته بحكام مصر السابقين من طراز فاروق والنحاس، فان الثورة لم تفاجئه، وأنه طالما حذر السياسيين القدامى من اللعب بالنار بإثارة مشاعر الجماهير بالدعاية ، وكان واضحا أن هذا تحذير موجه للجدد أيضا ” (قطع ذيل..، ص 64).
7. في الطبعة العربية، يكتب هيكل بأن الولايات المتحدة هي المتبنية لحلف بغداد، وكانت مصممة على ضم مصر إليه، ولكن بسبب مقاومة مصر قررت عزلها فترة حتى “تستبعد مصر وتأثيرها عن الموضوع كله حتى يستقر رأيها على ما سوف تفعله، وسوف تجد نفسها (أي: مصر في النهاية مرغمة على اللحاق بالآخرين، وإلا وجدت نفسها معزولة” (ملفات السويس، ص 360). أما في الطبعة الإنجليزية، فلقد أقتصر هيكل على أن يقول: ” أكد الأمريكيون لعبد الناصر أنه لا نية لديهم في الانضمام لحلف بغداد ” (قطع ذيل الأسد، ص71).
8. ثمة انتقادات ومقارنات وتعليقات وملاحظات دقيقة أخرى سيجدها القارئ في الفصل الأول الموسوم: التاريخ البلاستيك وهيكل في كتاب ” ثورة يوليو.. ” لمحمد جلال كشك، وجميعها صحيحة بعد مطابقة الطبعات العربية من “ملفات السويس ” بالطبعة الإنجليزية من ” قطع ذيل الأسد “
ويستطرد سيار الجميل:
وبرغم الأسلوب السياسي الذي هاجم فيه محمد جلال كشك عدوه اللدود محمد حسنين هيكل، واختلافي مع اللغة التي استخدمها كشك في هجومه على هيكل، في استخدام الأسلوب السياسي ضده، إلا أن في كتاب ” ثورة يوليو الأمريكية.. ” إدانات “واضحة ومقارنات صحيحة لا حصر لها في المعلومات التي سجلها المؤلف على كتب هيكل، وان كشك قد وثق جملة كبيرة من مقارناته التي سيستخدمها الباحثون في نقد هيكل بمتابعاتهم عنه مستقبلا.. علما بأن هيكل لم يرد حتى يومنا هذا على اتهامات كشك وغيره ، وهذا ما يضعف من كتابات الرجل، خصوصا وان الاتهامات لم تكن قليلة، فلقد بلغت عدد صفحات كتاب كشك (645) صفحة. ومن يقرأ كتاب محمد جلال كشك سيقف جائرا جدا ليست إزاء رجل اسمه محمد حسنين هيكل، بل إزاء جملة من الأسرار التاريخية في حياة العرب إبان النصف الثاني من القرن العشرين.. والتي اعتقد أن ألغازها ستحلها الأجيال العربية القادمة في القرن الحادي والعشرين.
***
قلت لكم يا قراء ذات مرة أن المرض يصيبني كلما قرأت جلال كشك .. لا بسبب فداحة ما فيه.. ولكن بسبب آخر مضاف.. إذ كيف لم نكتشف الحقيقة مع وضوح الأدلة..
كيف لم نفهم بالدرجة الكافية موقف هيكل وانتصاره للصليبي الجاسوس لويس عوض على العلامة محمود شاكر..
و أنه جعل من الأهرام – وما زال- وكرا للملحدين حراما على المسلمين..
كيف التمسنا له المعاذير..
أذكر مرة منذ أعوام كان يتحدث عن عظمة سلامة موسى الذي لم تعطه الصحافة في مصر حقه..
ولو أنني أدركت ذلك في الوقت المناسب لوفرت على نفسي عشرين عاما ضبابية هاربة خلف ادعاء الموضوعية..
سلامة موسى لم يأخذ حقه..
وهيكل هو الذي يقول ذلك..!!
سلامة موسى.. أحقر من كتب في مصر في القرن العشرين و أكثر من اجترأ على الإسلام ..
عدو العروبة والإسلام.. عميل من أخطر عملاء الغزو الفكري.. أرادوه أن يمثل دورا بعينه.. أن يحمل معول الهدم، ليدمر تراثنا العربي، وعقيدتنا الإسلامية.
إن هناك مئات المصادر تكشف سلامة موسى وتفضحه، من أهمها رسالة للماجستير للكاتبة شروق محمد، لكنني أكتفي هنا باستعراض جلال كشك لفضائح موسى ومخازيه:
أرادوه أن يكون هو الأداة التي يحركها المستشرقون والمبشرون والخواجات.. فهو على الأقل يحمل اسما مصريا.. وان يكن فجوره وتوقحه وأغراقه في عداوة وطنه قد جعل شيخ العملاء ” يعقوب صروف ” يتشكك في مصريته ويصر على أن به عرقا غير مصري. وما كان غيره يقبل هذا الدور.. التقطوه من على مقاهي الإسكندرية، بلا مؤهلات، فشل في تعلم القراءة والكتابة حتى سن الحادية عشرة.. رغم تردده على مدارس الأقباط والمسلمين.. وعجز عن مواصلة الدراسة إلى أبعد من الشهادة الابتدائية.. وأرسلوه إلى أوروبا ليدرب ويعد للمهمة التي اختاروه لها. في لحظة حاسمة من تاريخ أمتنا.. ومصطفى كامل يمزق حجب اليأس، وينفث في الأمة روح الأمل. يحاول أن ينسيها مرارة هزيمة الثورة العرابية.. ويدفع في عروقها بحرارة اليقين، بقوتها، وقدرتها على هزيمة المحتلين.
أخذوه ودربوه.. ليعود فيبشر فينا بأننا جزء منهار من كل، والكل حكم عليه بالفناء والموت.. وأن الغرب هو القوة المسيطرة.. وهو المنتصر.. جاء يبشرنا بأن الدين رجعية، وأفكار بالية و مناقض للعلم.. و أن العروبة بداوة وجهل وخرافة.. وأن اللغة العربية هي أبشع لغات العالم، وأحراها بالزوال العاجل.. وكانت أصول اللعبة تقضي أن يحمل معول الهدم من له اسم مصري..
لأن خبرة الصيادين تعرف أن الفيلة لا يقودها إلي سجن الصياد الماكر، إلا فيل عميل أتقن تدريبه، ليتسلل بين القطيع، فيألفه القطيع لأن جلده مثل جلدهم .. ويسمعون له، لأن صوته يشبه صوتهم، فينقل من حقد قلبه المأجور، ما لقن من لفظ مسموم حتى يغرر بهم ويسوقهم إلي حظيرة الصائد، الذي ينتزع أنيابهم ليصنع منها منافض لسجائره ومقابض لعصيه وكرات يلعب بها، ويحيلها، من شموس سيدة الغابة، إلى مهرجة في السيرك و مطية لأطفاله العابثين.
وقد فهم سلامة موسى دوره هذا، فنراه في الوثيقة التي كتبها إلي وكيل وزارة الداخلية في حكومة محمد محمود يعرض خدماته بأن يتولى هو إحداث انشقاق في الأقباط الملتفين حول الوفد ليقودهم لتأييد المعاهدة مع بريطانيا.. ويقول بالحرف الواحد وبخط يده ” قد كنت منذ أشهر طلبت الترخيص لي بإصدار جريدة يومية باسم ” الدينا ” لكي أخدم الحكومة في الدعوة لها بين الأقباط؟…..
عاش عدوا للعروبة والإسلام مبشرا بالحضارة الغربية والنفوذ الغربي ومات.. ولم يسر في جنازته من أهل الكتابة إلا تسعه وكان أحرى بنا أن نهيل عليه الترب وننساه.. لولا إلحاح البعض على العبث بجيفته.. في محاولة يائسة لصنع قديس من بقاياه.. وكل من درس أساطير القديسين والأشباح والعفاريت، يعرف أن ما قاله العفريت أو فعله لا يساوي شيئا بجانب ما تضفيه الأسطورة عليه وما تحكيه عنه.. ونفس الشيء هو ما يجري الآن حول ” سلامه موسى ” على أمل أن يعبد يوما، ما دام أجدادنا قد عبدوا القطط والبقر والكلاب والقردة والتماسيح والخنافس.. ولكي يعبد سلامه موسى.. يجب ابن يكفر الجيل الجديد بكل تراثه.. ولابد أن يشدو كبار القوم – مثل هيكل- بأفضاله ومديحه.. ولابد أن تعرض مجلة الطليعة ” في دراستها بكل كتابنا ” فاغلب المفكرين عندنا كانوا نقلة، أو أدباء يدورون حول حقائق جزئية وترجع أهمية سلامه موسى إلى أنه المفكر الذي حاول أن يعطينا هده النظرة الشاملة “.. نظرة شاملة.. وهو أكبر ناقل.. بل ليس في كل كتاباته إلا النقل.. قولوا لنا فكرة واحدة بخلاف الجهل والخطأ في الترجمة والفهم.ما هي أفكاره؟.. وما الذي أضافه؟. ما الذي بقى منه .. ما الذي عدله قبل موته وما الذي أنكره وما الذي أصر عليه؟.. نسمع كلا مضحكا.. انه أول من دعا إلى تحديد النسل؟.. ولم يزد دوره عن الترويج لما لا يؤمن به لأن زوجته هو أنجبت ثمانية..
أول ما يذكر من صباه.. انهم أخرجوه للدنيا في ثياب فتاة، وخرقوا أذنه، ووضعوا فيها حلقا، حتى استحال على ” الرائي المدقق أن يكتشف إذا ما كان أنثى أو ذكرا ” (1). فنشأ معقدا جنسيا مدمنا على العادة السرية ” إن العناء والعذاب اللذين كان يلقاهما في المدرسة الثانوية أوقعاه في تلك العربدة الجنسية الذاتية التي انغمس فيها للترفيه عن نفسه، وأفضت به العادة السرية إلي العجز الجنسي.. فعندما سافر إلي أوروبا عجز عن معاشرة الفتيات ” فقد أذهل سحر بدنها الأسطوري رجولته “تعالوا نقرأ ماذا كتب سلامة موسى للبوليس السياسي.. لوزارة الداخلية.. وكيف فضحوه ونشروا صورة تقريره بخط يده.. ففي يوم الجمعة 24 أبريل 1931خرج العدد 341 من مجلة المصور يحمل هذه العناوين داخل برواز اسود بخط يده..
وثائق فاضحة تبين من هو سلامه موسى
نود أن نعتذرإلي قرائنا لأننا شغلنا صفحة كاملة في الكلام عن سلامة موسى.. ولكننا لم نبح لأنفسنا ذلك إلا بعد أن اقتنعنا أن الكشف عن أمره وعن الأغراض الخفية التي يرمي إليها أصبح فرضا يجب علينا تأديته من قبيل محاربتنا للآفات الخلقية والأمراض الاجتماعية.
وقد وفقنا إلي العثور على وثائق تفضح سلامه موسى فضحا ليس بعده ستر.. وهذه الوثائق مكتوبة بخط يده.. (ووضعت المجلة خطا تحدت عبارة (خط يده)) ثم تقول:
ونبدأ اليوم بفقرة واحدة ممهورة بإمضائه وهي من خطاب أرسله
سلامه موسى . النزيه العفيف الأمين إلى موظف كبير بوزارة صاحب الدولة محمد محمود باشا في 22 أغسطس سنة 1929 أي قبل أن يفصل من دار الهلال (إذ فصل في أول أكتوبر من السنة نفسها.
اقرأ.. ثم اقرأ.. وتأمل.. ثم تأمل .
بخط اليد:
فأنا أكتب هذا لسعادتكم وإدارة الهلال تهيئ عددا خاصا من المصور ” لسعد زغلول.. استكتبت فيه عباس العقاد وغيره من كتاب الوفد.. ومثل هذا العمل يتفق مع التجارة ولكنه لا يتفق مع الدعوة للحكومة الحاضرة ومشروع المعاهدة لأن الإكبار من ذكرى سعد وتخصيص عدد له هو في الحقيقة إكبار من شأن الوفد ودعوة إليه.. والمصور يرخص له بالصدور أسبوعيا مرة واحدة وليس مرتين.. فأنا أكرر لسيادتكم أني مستعد للدعوة للمساعدة.. فهل لي أن أنتظر معاونتكم… سلامه موسى ..
***
هذا هو سلامة موسى الذي قال فيه هيكل كلمة لم يقلها في محمود شاكر ولا سيد قطب ولا مصطفى صادق الرافعي!!..
هذا هو سلامة موسى الذي قضى نصف عمره يدافع بجهل ويكتب متعبدا في دارون ونظرية التطور..
هذا هو سلامة موسى ومن المؤكد أن هيكل يعجب فيه بما يوافقه عليه..
فترى ماذا..
التخلص من الإسلام تماما؟..
إلغاء الهوية..
الكتابة بالعامية وإلغاء الفصحى وتغيير الحروف إلى اللاتينية..
أم الطلاق البائن مع العرب والالتحاق كخدم بالغرب.
***
الدكتور الغتيت يقتل هيكل(2من 2)
د محمد عباس
mohamadab@hotmail.com
كان ذلك هو سلامة موسى الذي قال فيه هيكل كلمة لم يقلها في محمود شاكر ولا سيد قطب ولا مصطفى صادق الرافعي!!..
سلامة موسى الذي قضى نصف عمره يدافع بجهل ويكتب متعبدا في دارون ونظرية التطور..
هذا هو سلامة موسى ومن المؤكد أن هيكل يعجب فيه بما يوافقه عليه..
فترى ماذا..
التخلص من الإسلام تماما؟..
إلغاء الهوية..
الكتابة بالعامية وإلغاء الفصحى وتغيير الحروف إلى اللاتينية..
أم الطلاق البائن مع العرب والالتحاق كخدم بالغرب.
طوال الحلقات الماضية كنت أتابع في سأم وأسى متسائلا متى سيعترف بالأخطاء ويعتذر..
و أرجو ألا يجول بخاطر القارئ أننا ابتعدنا عما كنا فيه.. فهيكل شخصية مراوغة .. من الصعب جدا أن تمسك به.. لذلك فإنني أحاول الإمساك به بطرق غير مباشرة.. ومنها تعقب خلانه.. فالمرء على دين خليله، و أحد هؤلاء الخلان شخص آخر.. ليس حقيرا كسلامة موسي.. بل هو عروبي وقومي.. هو ناصر النشاشيبي..
كنت أتابع على قناة الجزيرة في سأم متسائلا : متى سيبكي ويصرخ طالبا المغفرة من الله والعفو من الناس..
و كنت أراقب في ملل متبرما : هل سيجيب على رسالة ناصر الدين النشاشيبي الدامية التي لم يجب عليها أبدا..
و ناصر الدين النشاشيبي صحافي فلسطيني و مؤرخ ودبلوماسي شغل عديدا من المراكز الصحافية العليا في مصر في الستينيات .. وقد كتب في رسالة تمزق القلب وجهها إلى هيكل.. رسالة تكشف كثيرا من الأمور.. رسالة أظن أن كل متابع للأستاذ على قناة الجزيرة يريد أن يوجهها إليه..
والآن.. إلى مقتطفات من رسالة النشاشيبي..
” ليس بالخبز- ولا بالقلم- وحده يحيا الإنسان، وقد عاش هيكل بالقلم وغير القلم. . معا. . وكانت حظوته لدى عبد الناصر لا تعرف الحدود، ولا القيود، ولا التقاليد، ولا المسافات ! وكان اقرب إلى عبد الناصر من أفراد أسرته وكان المؤتمن الوحيد على كل أسراره وعلى كل “قراراته ” !
نعم “كل قراراته” ! أكرر : ” كل قراراته” !
ومن بين هذه ” القرارات ” قرار دخول حرب حزيران “يونيو” 1967 ضد ” إسرائيل ” مع ضياع القدس والضفة، وسيناء، والجولان.
هيكل الصديق العزيز الصحافي المتميز كان على علم تام بكل الظروف والأحوال والملابسات والأسرار المحيطة بأحداث شهر حزيران (يونيو) 1967 التي أطلق عليها هيكل كلمة”النكسة” كلها، من أولها إلى آخرها، بمقدماتها، بفصولها، بالخلافات مع الأردن والسعودية، بالأخطاء القاتلة في الحسابات، كلها، بلا زيادة ولا نقصان ولا حذف ! كلها بما فيها أسرار الحشود المصرية، وقرار إغلاق المضايق، وخلاف عبد الناصر مع عبد الحكيم عامر- وفضائح عبد الحكيم يوم ذاك- مع الممثلة برلنتي عبد الحميد، وموقف المسيو يوثانت، واختلاف وجهات النظر بين قيادة الجيش المصري والرئيس عبد الناصر !
كلها ! . . كلها ! . . بكل أهوالها وأخطارها وفصولها !
يهمني أن اقف لحظة واحدة فقط لكي أسال صديقي وزميلي هيكل عن اَلْمَسْئُول الحقيقي عن ضياع بلدي، وأعني : القدس الغالية ! وأعني التاريخ والمقدسات. وأعني أحلى المدن وأم الأنبياء.
– ترى، من الذي قرر ومن الذي نصح ومن الذي رفض؟
– من الذي تصور شيئا ثم جاعت الأحداث لتنسف تصوراته؟
– ومن هو المستشار اَلْأَوَّل والأكبر والأوحد، لأكبر وأشهر واهم رئيس عربي في غمرة اخطر فترة من تاريخ العرب الحديث المعاصر؟
– من؟
من زاوية انتمائي لمقدسي وهويتي الفلسطينية، ولوني القومي العربي، أجد أن من حقي أن أتلوى ألما، وأتحرق غيظا وكمدا، بانتظار أن يصلني من زميلي وصديقي محمد حسنين هيكل، مستشار عبد الناصر، أي اَلْمَسْئُول الأول والأكبر عن هزيمة 1967، ما يجيب عن أسئلتي ويرد على الكلمتين الاثنتين اللتين تحجرتا كالصخر فوق لساني منذ 1967 حتى اليوم، وهما :
– من اَلْمَسْئُول؟ ! من اَلْمَسْئُول؟ !
يا صديقي هيكل من اَلْمَسْئُول؟ من؟ من؟ !
– هل تسمعني؟ !
– هيكل ! هل تسمعني؟ !
إذ ليس مهما أن نبرر النكسات، أو نفسر النكبات، أو نفلسف الهزائم والضربات ! أو نلقي الخطب والمحاضرات !
المهم هو ان نعرف من كان أكثر الناس أثرا وتأثيرا على جمال عبد الناصر؟ ..
من كان اضخم المستشارين نفوذا لدى عبد الناصر؟..
ومن كان الرقم اَلْأَوَّل في التمتع بأوفر ثقة وأوفر المحبة لديه؟ ومن كان يستهين بالمواقف، ويهزأ بالإنذارات، ويضحك من التهديدات لكي يبقى على مكانه لدى جمال عبد الناصر؟ من الذي كان يؤكد لكل الناس بان إسرائيل لن تحارب ولن تكون صاحبة الضربة الأولى ضد مصر أو سوريا أو الأردن، وأن العملية مجرد لعبة “بوكر” سلاحها قوة الأعصاب لا قوة الحرب، ولا قوة السلاح !
من الذي كان يستهين بالمواقف الحرجة القاتلة ويؤكد أن إسرائيل- إذا قامت بالحرب- فإنها إنما تقوم بحفر قبرها بيدها؟ !
من الذي كان يردد كلام فلان وفلان بان لقاء العرب القريب قد أضحى في قلب. . تل أبيب !
إنني أتلفت اليوم حولي- يا زميلي العزيز- فلا أرى إلا يهودا !
وابحث عن القدس فلا أجدها !
وابحث عن عشرة آلاف مقال وحديث ومحاضرة وكتاب لي وكلها عن القدس وفلسطين والقضية فلا اعثر لها عن اثر ولا أجد لها أي صدى !
لقد سقط الكل ! ضاع الجميع ! ومازال هيكل يكتب، ومازال هيكل يخطب، ومازال هيكل يفلسف الأحداث، وما زال هيكل يعدنا بالغد الوردي !
ومرة أخري :
– يا أخي ويا عزيزي ويا رفيق العمر الصحفي ! لقد ضاعت بلدي. . في عهدكم وعلى يديكم ! فمن هو اَلْمَسْئُول؟ !
من؟ من؟ من؟
كنت أنت، أنت المقرب اَلْأَوْحَد إلى عبد الناصر، وكنت أنت، أنت المؤتمن اَلْأَوْحَد على كل أسراره وعلى كل قراراته. . قبل التنفيذ وبعد التنفيذ !
وكنت أنت اقرب إليه من أفراد عائلته، وكانت خطواتك لديه لا تعرف الحدود ولا القيود ولا التقاليد ولا مراسم الرؤساء !
وكنت أنت، أنت المستشار اَلْأَوَّل والأوحد والأكبر لكل نبضة فكر في عقله وتفكيره. .
فمن أضاع بلدي في غمرة قرار مرتجل أمر بإغلاق المضائق وطلب سحب القوات الدولية، وجرنا إلى الكارثة ا لأعظم في تاريخ العرب والإسلام؟
من؟ من أضاع بلدي. .
من يا هيكل؟
أنا شخصيا انعم على الدوام بذكريات صداقتي مع اشرف رجالات مصر القدامى- قبل ثورة 23 يوليو- من أمثال عبد الرحمن عزام، وصالح حرب، وعزيز المصري، وفؤاد اباظة، والشيخ البنا واردد وعلى رؤوس الأشهاد أن مصر هي البطل الحقيقي لمعركة “عين جالوت “، وان مصر هي التي أوقفت زحف التتار، وان مصر هي التي أنقذت المغرب العربي من مصير بغداد وحلب، وان الغزو الصليبي ما كان بالإمكان تصفيته لولا الشجاعة المصرية، وان صلاح الدين حارب وانتصر بعسكر مصر، وقطز، وبيبرس، وا لناصر قلاوون. . .
لا ! لن أقول ما يردده أعداء مصر عن حرب يونيو 67 من أن الحشيش ضمن نصف النصر في هذه الحرب لإسرائيل، والنصف الثاني تكفلت به شلة عبد الحكيم عامر. . . ! او ان الجيش المصري قد القى السلاح قبل بدء القتال ! هذا كلام هراء !
مصر حاربت بشرف. وهزمت بشرف. ولكني أسال :
– من اَلْمَسْئُول عن الحرب قبل المسئولية عن الهزيمة؟ من يا هيكل؟
حسنا أن نلوم أنور السادات على الانحراف المعيب في عملية “السلام “، ولكن الأحسن أن نعرف من يستحق اللوم في انحرافه بل وفي هزيمته في ساحة ” ا لحرب “!
إن في انحراف المستسلمين، ما يبرر لهم سلامهم واستسلامهم بعد استسلام المحاربين !
ان أنور السادات لم يأت من فراغ، وإنما جاء من هزيمة عسكرية دامية كان بطلها- يا هيكل- من تعرف أنت، واعرف أنا.
أقولها، وكلي دمع ودم وألم وزفرات لا تسامح، ولا تنسى !
. . . ولا تغفر !
***
أعترف للقارئ، أن علاقتي الفكرية بهيكل، قد مرت بمنعطف حاسم يوم أمس( الخميس 3 سبتمبر).. ذلك أنه وهو يتحدث عن السودان تخيلت أن السفير الأمريكي هو الذي يتحدث كي يكرس مؤامراته ويبرر تفكيك السودان..
كان ما يقوله باطلا..
وبلا مستندات..
وبلا مراجع.. إلا لطفي السيد.. وهذا هو المصيبة التي سنعود إليها بعد قليل.
لقد تدني هيكل إلى مستوى لم يكن يليق إلا بفكر أناس من فصيلة عبد المحسن أبو النور وحسين عرفة و أحمد أنور وأمين شاكر والطحاوي والصاوي ومجدي حسنين.. مستوى الهروب من الاعتراف بالخطأ بل بالجريمة في موقف انفصال مصر عن السودان.. السودان الذي كان أحد الأسباب التي دفعت المخابرات الأمريكية لمساعدة الضباط الأحرار.. كان اللقب الرسمي لفاروق ملك مصر والسودان.. ولم تكن ثمة حكومة سواء كان الوفد أو سواه ..تجرؤ على الموافقة على فصل السودان.. وقامت الثورة.. وتم إعلان الجمهورية.. وكان من ضمن الأسباب.. أن تكون جمهورية مصر دون السودان.. كان الحكم العسكري الباطش الغبي قد دفع أربعة آلاف جنيه ثمن مظاهرات طعيمة والطحاوي التي غيرت مستقبل مصر وقضت على الإخوان ومحمد نجيب. جمال عبد الناصر الذي قال بالحرف أنه لم يعد يأبه كثيرا بالشعب بعد أن عرف ثمنه.. جمال عبد الناصر هذا الذي انتصر بأربعة آلاف جنيه.. كان واثقا أنه سيشترى السودان بنصف مليون جنيه, وهو المبلغ الذي وزعه صلاح سالم.. لكن السحر انقلب على الساحر، لأن ما انتصر في مصر، لم يكن الأربعة آلاف جنيه، بل مكر السوء والخداع والخسة والقتل والتعذيب ومحاكم الشيطان النجسة وصحافة مدنسة شهرت بالباطل بخيار الناس عندما قامت الدبابات بلإطلاق العنان لأخس مافي الناس من صفات و أكثرها شرا.. حتى أن الضباط الأحرار حين رفضوا أن يعودوا إلى ثكناتهم استجابة لرغبة الأمة.. لم يرفضوا ذلك رغبة في السلطة بل خوفا من أن يتهموا ويحاكموا كمجرمين .. ثم يأتي هيكل.. بعد خمسين عاما.. لا ليعتذر ولا ليذرف دموع التوبة.. بل ليؤكد أنه وسيده الفرعون كانا على صواب.. دون أي مرجعية إلا ذاته.. مدعمة بحكمة أستاذه و أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد.. حين ذهب إليه.. فلم يقل له شيئا..
وكان هذا هو المرجع..
كل حكومات مصر وسياسييها منذ عهد محمد علي حتى عهد عبد الناصر كانوا سذجا وسطحيين ولم يفهموا السودان أبدا.. هيكل وحده هو الذي فهمها..
بل إنه منذ خمسين عاما رأى مشكلة دارفور وشخصها باسمها..
أي رجال هم؟!..
السادات يهبط عليه وهو يطير فوق جبال آرات وحي يأمره بالذهاب إلى القدس..
وهيكل يتنبأ منذ خمسين عاما بمشكلة دارفور ( لم يخطر بباله أبدا أن دولا تتنافر أعراقها أكثر بكثير ومع ذلك توحدت عندما وجدت زعيما حقيقيا )..
أما حسن التهامي فيرى الخضر عليه السلام..
فأي رجال هم..
نعم .. ها هو هيكل يشرح لنا قضية السودان بأثر رجعي..
فماذا فهم..
ستجد كلاما غبيا غير مترابط كذلك الذي تسمعه من دبلوماسي أمريكي أو إسرائيلي وهو يدافع عن باطل..
فالحقيقة المذهلة التي اكتشفها العبقري هيكل أن السودان مؤهل للتفكيك دائما.. وبيقين كاليقين بنظرية التطور وبالهولوكوست.. يقين كيقين مسيلمة يقول هذا الكلام الذي ليس له أي معنى.. كما يمكن أن يطبق على أي بلد أو حتى جزء من بلد في العالم..
يقول: الجنوب بطبيعته يميل إلى الجنوب.. أما الشرق فيميل إلى القرن الأفريقي..
لكن دارفور قضية أخرى.. فهي تميل إلى ناحية تشاد!!..
إنني أكتب من الذاكرة.. ولكن لا يهم على الإطلاق تبديل كلمة أو تقديم معني.. فكل الكلام باطل وهراء.. و هو إذا ما تعاملنا بحسن الظن فهو محاولة غير كريمة للدفاع عن إحدي جرائم الثورة الكبرى: فصل السودان عن مصر.. فإذا لجأنا إلى سوء الظن فليس الأمر سوى تلقين ضابط مخابرات.
ولنستشهد بشاهد يعرفه هيكل، شاهد من الأهرام، إذ يقول الدكتور محمود شكري في 25 يونيو 2001 :
لا استطيع أن أتحلل من عقيدة راسخة في ضميري أن الشأن السوداني بالنسبة لي يعتبر شأنا مصريا, كما الا أنسي أنني عندما سمعت نبأ استقلال السودان عن مصر دمعت عيناي, وشعرت أن جزءا من وطني قد اقتطع مني, فلقد فتحت عيوني علي دولة مصر والسودان, وعشت في ربوعها رغما عن أني لم أشرف بزيارة السودان إلا بعد التحاقي بالسلك الدبلوماسي ردحا من الزمن, ودرست في مستهل حياتي أن حدود دولتي لاتقف عند أسوان أو النوبة وانما تمتد الي الخرطوم وأم درمان وبورسودان وكسلا وكردفان وبحر الغزال, ولم أكن أتعامل مع الشقيق السوداني كمواطن لدولة أخري بل كأحد أبناء المحافظات, فهذا شرقاوي وذاك دقهلاوي وهذا منوفي وذلك من الصعيد أو النوبة وهؤلاء من السودان.
وعندما كبر وعيي السياسي وبدأت في الدخول في معترك الفكر الاستراتيجي والأمن القومي العربي والمصري خرجت بتصور قد يراه البعض متجاوزا الواقع, إلا أني أراه من منطلق التحليل الاستراتيجي أمرا منطقيا وهو أن فصل السودان عن مصر كان خطأ تاريخيا كبيرا, وذلك للأسباب التالية:ـ
• أن التكامل المصري السوداني هو أكمل اشكال التوحد في المصالح بين دولتين… فنهر النيل يربطهما, والتوازن الجغرافي والديموغرافي المشترك بين البلدين مثالي, ففي الوقت الذي يعاني فيه الشمال من زيادة بشرية ونقص في المساحات التي تصلح للمعيشة, نجد أن الجنوب يعاني من العكس, فهناك مساحات شاسعة لايستطيع الفراغ الديموغرافي أن يملأها.. فضلا عن أن هناك منظومة مثالية للانتاج الزراعي بين البلدين تقوم علي العمالة الزراعية المصرية والاراضي الخصبة المروية وغير المستغلة في السودان,ويدعمها التقارب بين الشعبين المصري والسوداني بما يؤهلهما ليكونا مزرعة الدول العربية بل ويزيد فضلا عن أن المصالح المائية للدولتين سوف تزيد بعد توحد المصالح المشتركة لهما.
• أن فترة تكريس الانفصال المصري السوداني كانت تشهد وبكل جدية مساعي حقيقية لفصل الشمال عن الجنوب بأطر تعدت مجرد التبشير الديني لتصل الي تجنيد المنظمات السياسية وتلك التي تعمل في اطار حقوق الانسان والأخري التي تناهض الرق والعبيد والمنظمات الكنسية العالمية لتكريس عملية الفصل تلك, وكان من غير المنطقي أن يقبل بمبدأ انفصال السودان عن مصر في هذا التوقيت فاحتواء الموقف كان يستدعي وجود حكومة مركزية قوية قادرة علي التصدي لهذه الهجمة الكبيرة لتمزيق وحدة السودان خاصة في اطار دولة مثل السودان والتي تجمع مايقارب500 طائفة وجماعة أشية وعرقية ودينية مختلفة. ولعل الفكر الاستراتيجي المجرد كان محقا عندما وصل الي أن بدء انفصال السودان الحقيقي يرجع الي عام1955 عندما انفصلت السودان عن مصر, فالشمال السوداني يقوي شماله المصري وليس بالانفصال عنه.
***
نكتفي بهذا القدر من كلام السفير..
وهذا هو نوع الكلام العاقل الذي تمنينا أن نسمعه من هيكل وليس مجرد تهويمات ذاتية لمشاعر داخلية غامضة تذكرنا بشخص يسخر هيكل منه كثيرا.. وهو حسن التهامي.. وهو الآخر ضابط من الضباط الأحرار، و أيضا.. عميل للمخابرات الأمريكية.
***
أعود إلى مقال سابق لي:
كانت كل الحكومات قبل الثورة ترفض فصل السودان عن مصر.. وترفض أي استفتاء لتقرير المصير فهو لا يجوز إلا إذا جاز إجراء مثل هذا الاستفتاء لأهل أسيوط..
وكان الإخوان المسلمون ككل المصريين والسودانيين على هذا الرأي..
ممارسات الهمج الهامج الذين قاموا بثورة 23 يوليو روعت الشعب السوداني ومكنت أعداء الأمة وعلى رأسهم الإنجليز من تحذير الشعب السوداني من أنه لو استمر في الوحدة مع مصر فسيعامله العسكر بالطريقة التي يعاملون بها الشعب المصري..
وكان هناك صمام أمان هو محمد نجيب..
كان لمحمد نجيب – بغض النظر عن جدارته – شعبية هائلة في السودان، وكانت أمه سودانية وكان قد عاش في السودان ردحا طويلا من عمره..
وافقت الثورة على استفتاء لتقرير المصير..
وعزلت محمد نجيب..
وذهب صلاح سالم يرقص عاريا في الجنوب فلم يفد رقصه..
وارتكب خطيئة كبرى عندما وزع الهبات والرشاوي على القبائل والعشائر.. ومع الخطايا السياسية والدينية الأخرى تصاعد الاتهام كل من ينادي بالوحدة مع مصر بأنه تلقى رشوة من صلاح سالم..
و أجري الاستفتاء..
وانفصلت السودان عن مصر..
***
لكن هيكل يأتي الآن.. وبدلا من أن يقول أخطأنا في كذا وكذا.. و أنه لو لم نفعل كذا وكذا لما انفصلت السودان عن مصر..
إذا به بمنهج أصبح يثير اشمئزازي يقول أن السودان كان قضية خاسرة منذ البداية.. لا في مجرد انفصاله عن مصر.. بل على قدرته على الاحتفاظ بتماسكه.. رغم أن أي مبتدئ في علوم السياسة والحرب سيفهم على الفور أن وحدة مصر والسودان، وعدم انفصالهما.. كان هو الحامي الرئيسي للسودان من التفكك..
أقول أن هذا المنهج أثار اشمئزازي.. فقد ذكرني بمقال له بعد يونيو 67 وهو يشرح أبعاد الكارثة.. مؤكدا.. أن الطائرات التي دمرت على الأرض كانت ستسقط كلها في الجو.. و أن الفارق الوحيد هو أن الحالة الثانية كانت ستستغرق يوما أو يومين أكثر..
منهج يثير الاشمئزاز..
كان يدرك أن الإهمال الكارثي للجيش وتدمير الطائرات على الأرض سيغير قلوب الأمة تجاه الزعيم وسيقلل من هيبته.. فلم يجد إلا هذه الطريقة البائسة للتبرير والعزاء.. فالمشكلة هنا ليست في تدمير الطائرات على الأرض بل في تدريب الطيارين الذي لا يمكن لأحد أن يعتبر الزعيم مسئولا عنه..
تماما كما حدث قبل ذلك بأعوام مع كتاب للدكتور أحمد شوقي الفنجري، يتحدث فيه حديث شاهد عيان على دفن الأسرى المصريين أحياء في عام 56، وطبع الكتاب في بيروت فعلا ولكنه منع من دخول مصر.. وكانت حجة أجهزة الأمن أن معرفة الناس لذلك سوف يقلل من هيبة الزعيم خاصة أنه لم يرد عليه ولم يثره ولم يبدي النية في ذلك..
***
بعد خمسين عاما يأتي هيكل أيضا مدافعا عن هيبة الزعيم فلا يعترف بجريمة الخيانة العظمى.. جريمة فصل السودان عن مصر..ويتحدث عن انفصال السودان كقدر – قدر أمريكي أو بريطاني وليس قدرا إلهيا- لا مفر منه.. وتجاهل كل من سبقوه ومن لحقوه ليصدق فقط إحساسه العابر الغامض الذي أحس به ذات ليلة عام 50 أو 51..
نعم.. إحساس ذاتي غامض..
ذاتي..
ذات مسيلمة..
ولم يقل لنا مسيلمة أن حكومة الثورة كانت أول من أمد أهل الجنوب الوثنيين بالسلاح نكاية في أهل الشمال المسلمين الذين تعاطفوا مع محمد نجيب ومع الإخوان المسلمين.
***
لن أسرد هنا، أو على الأحرى لن أعيد سرد اعترافات الضباط الأحرار بمختلف اتجاهاتهم ومشاربهم من أن عزل محمد نجيب كان المسمار الأخير في نعش الوحدة.. كلهم تقريبا و أولهم خالد محيي الدين و أحمد حمروش..
لن أسرد ذلك.. ولكنني أنقل صفحات من كتاب محمد نجيب: “كنت رئيسا لمصر” ..
وعندما دخل عبد الحكيم عامر وحسن إبراهيم. ليبلغاني يوم 14 نوفمبر، بقرار إعفائي من رئاسة الجمهورية، قلت لهما في وضوح !
– بصراحة أنا لن أستقيل. .
فسأل عبد الحكيم عامر :
– لماذا؟. .
قلت :
– حتى لا ينسب إلى يوما أنني كنت السبب في انفصال مصر عن السودان.
وفى الحقيقة. . أنا تحملت كل ما جرى لي بعد تمكن عبد الناصر من السلطة، بعد أزمة مارس، حتى لا تؤثر استقالتي على نتيجة الاستفتاء حول الوحدة مع مصر، في السودان. . خاصة أن الحزب الوطني الاتحادي الذي كان يؤيد لاتحاد، والوحدة مع مصر، قد فاز في الانتخابات.
لكن. . عبد الناصر ورجاله في مجلس الثورة لم يكن ليشغلهم في ذلك الوقت موضوع السودان. . كان كل ما يهمهم هو كيف يمكن إزاحتي والتخلص منى. ولست هنا أعطى لنفسي أهمية في ارتباط السودان بي. . بحيث ينفصل عن مصر، إذا أنا تركت الحكم. . لكنني اقرر حقيقة يعرفها الجميع في البلدين. مازالوا. . فأنا جزء من السودان والسودان جزء منى. . وبيني وبين شعبه زعمائه علاقات دم وصداقة وارتباط قوى. . كما أن السودانيين بطبيعتهم لا مميلون إلى الديكتاتورية. . ويصرون على ممارسة حقوقهم السياسية مهما كلفهم لأمر. . وهذا ما جعلهم يشعرون بالخطر على أنفسهم وعلى بلادهم بعد أن نشبت واشتعلت أزمة مارس في مصر، وأحسوا أن هناك حاجزا من الديكتاتورية يقف حائلا بين الوحدة مع مصر. و لأنني كنت أقف مع الديمقراطية كانوا ! يقفون معي. .
ولأن عبد الناصر كان يتجه بالبلاد إلى الديكتاتورية كانوا يخشون الوحدة مع مصر.
لذلك. . .
كان قرار تنحيتي عن رئاسة الجمهورية هو في نفس الوقت قرار انفصال السودان عن مصر. !
مرة أخرى أؤكد أن. . هذا ليس حديثا شخصيا، ولا كلاما نرجسيا، وإنما أمر واقع لا يزال ! يوجد من يقره ويعترف به، خاصة في السودان.
! عندما سئل كثير من زعماء السودان،- بعد ذلك عن سر تدهور العلاقات بين البلدين، قالوا، كلمة واحدة :
– نجيب !
لما قال لهم جمال عبد الناصر
– إن نجيب فرد. . والفرد زائل. . والعلاقة المتينة بين البلدين خالدة. .
كرروا :
– نجيب !
وفقد عبد الناصر أعصابه وقال :
– ليس معقولا أن نضع فردا في كفة وعلاقة بين شعبين فى كفة أخرى.
فقالوا له :
– إننا جعلنا من نجيب رمزا ” لوحدة الوادي”. . شماله مع جنوبه. .
ثم أضافوا في اتهام واضح :
– وأنتم حطمتم هذا الرمز.
و أنهى عبد الناصر الحوار الذي لم يعجبه. . لكنه سمع مرة أخرى، من أحد الوزراء المصريين، الذي كان يتكلم في نفس الموضوع مع أحد الزعماء السودانيين قال الوزير المصري :
– إن إصراركم عل نجيب.. إصرار بلا تفسير يقبله العقل ولا المنطق.
فرد الزعيم السوداني :
– بصراحة إننا في السودان نخشى على بلادنا بعد إن انقلبتم على نجيب. . ماذا يضمن لنا عدم الانقلاب علينا لو اتحدنا معكم. . لقد تصرفتم مع رجل كريم بأسلوب مهين. .
قال الوزير المصري :
– لكن. .
فسارع الزعيم السوداني قائلا :
– لا معنى في السودان لكلمة لكن. . ولا نحب هذه الكلمة المائعة. . نحن بلد وحكومة ديمقراطية حرة. . لا نقبل الانطواء تحت علم وحكومة أو توقرا طية.
وقبل موعد الاستفتاء واصل السودانيون نفس الكلام. . وقالوا :
– إننا سنقرر الانفصال عن مصر، ولو أراد المصريون أن نتحد معهم فلا مفر أمامهم من إعادة نجيب وتغيير نظام الحكم وعرف عبد الناصر هذا الكلام، الذي لم يصلني إلا بعد رفع القيود عنى. لكنه لم يستجب له، ولم يفكر فيه، بل ورد عليه بكلام جارح جدا.
ولم ينفصل السودان عن مصر فقط، بل وتدهورت العلاقات بين البلدين أكثر
وفي ذلك الوقت كنت أطالع الصحف السودانية : “الناس “” والصراحة، ” و”السودان الجديد”، و ” النيل”، و” الأيام”. . وكنت أسجل ما تنشره هذه الصحف. . ولازلت احتفظ بما سجلته إلى الآن.
وللتاريخ أعيد الآن نشر بعضا مما سجلته. .
ففي جريدة النيل نشر صالح عبد القادر قصيدة من 83 بيتا، جاء فيها :
فكم باسم مصر سالت دماؤنا . . . وكم باسمها شعبنا قام مأتم
فمن عهدنا عهد اللواء ونحن ما . . . نزال نعاق ما نعاني ونغرم
وكنا نرى فيها الصديق وعندما . . . اطمأنت بدت أطماعها تتجسم
وجاء فيها :
إذا هان مثلك يا نجيب فما هو . . . الضمان بأنا لا نهون ونهضم
فهل ينتهي أمر الرئيس إلى هنا . . . ومستقبل الأحزاب في مصر مبهم
فليس في مصر اليوم حر وليس في . . . دارها امرؤ بالحق والعقل يحكم
وجاء فيها :
وهاهي أقدار الرجال تدهورت . . . فويل لمن يستاء أو يتبرم
وقد ألغيت فيها العقول فكل من . . . يشير إلى جرم العساكر مجرم
فهل يطمئن لهم بربك عاقل . . . وأطماعهم في أرضنا تتضحم
وفي اليوم التالي لإقالتي، قالت جريدة الأيام في صفحتها الأولى :
حكومة مصر تبعد نجيب.
الرأى العام فى السودان يستنكر القرار.
مبارك زروق يقول : هذا العمل يؤثر على الفهم العاطفي للوحدة..
وقالت الأيام : إن الديكتاتورية الفاشية التي تحكم مصر بقوة الحديد والنار لا يرضيها أن يرتفع صوت واحد ينادى بالديمقراطية.. وكانت جريمة نجيب أنه لم يخضع لحكم البكباشية ..ولم يرض سيطرة الديكتاتورية. . إن الشعب المصري سينتصر في معركته القادمة ومعركة الإطاحة بالحكم الديكتاتوري، والشعب السوداني الذى يؤازر شعب مصر في محنته لن يرضى مطلقا أن يتحد مع ديكتاتورية أو يرتبط بفاشستية.. وليعلم حكام مصر هذا وليعلموا أن أقوالهم وكلماتهم المعسولة لن تجدي في كسب السودانيين.
وتحت هذا الضغط بدأ إسماعيل الأزهري الذي كان يناضل من أجل الاتحاد مع مصر، يتراجع عن موقفه قليلا. . لكن هذا التراجع المحدود لم يرض السودانيين. .
ونشرت جريدة الأمة يوم الأحد 23 يناير 1955 على صفحتها الثالثة البيان التالي من اتحاد طلبة كلية الخرطوم الجامعية :
..(..) إن ارتباط السياسة الخارجية والدفاعية والتجارية مع مصر يعرض سيادتنا للقضاء المحقق خصوصا إذا كان مع حكومات رجعية استبدادية كالحكومة الديكتاتورية التي تحكم مصر الآن والتي حددت موقفها نهائيا من المعسكر الاستعماري بعد أن وقعت معه عدة اتفاقيات خائنة كاتفاقية النقطة الرابعة وهى في طريقها الآن إلى إبرام اتفاق دفاعي جديد يكبل الشعب المصري بمزيد من الأغلال. .
وفى 30 يناير 1955، كان العنوان الرئيسى لجريدة الأمة هو :
” هل يعاد نجيب إلى رئاسة الجمهورية لإنقاذ الموقف الاتحادي بالسودان؟.
وفى 3 فبراير 1955 قالت صحيفة ” التلغراف ” :
“نجيب باق فى المرج ويعامل معاملة سيئة”.
ولم تجد حكومة عبد الناصر ردا مناسبا على كل هذا الكلام، سوى أسلوبها المبتكر، وهو تلفيق التهم والتشهير بالسودانيين. . فقد قبض على الوزير السوداني السيد خضر حمد في القاهرة بتهمة حمل قصيدة كتبها الأستاذ أحمد محمد صالح. . وكانت هذه القصيدة- الأزمة تقول :
ما كنت غدارا ولا خوانا . . . كلا ولم تك يا نجيب جبانا
يا صاحب القلب الكبير تحية . . . من أمة أوليتها الإحسانا
وكانت تقول :
الثورة الحمقاء كنت صمامها . . . من كل شائبة وكنت ضمانا
أخذت من اسمك روحها وحياتها . . . ومضت فكانت رحمة وحنانا
وكانت تقول :
يا ويح مصر ما دهى أبناءها . . . فمضوا على أحفادهم عميانا
ركبوا رؤوسهم فكانت فتنة . . . هوجاء ما تركت لهم إخوانا
وكانت تقول :
باعوا رئيسهم ورمز كفاحهم بيع السماح وحالفوا الشيطانا
ومضى كبيرهم يفاخر جهرة . . . بصنيعه متبجحا فتانا
وكانت تقول :
قالوا أردت تسلطا وتجبرا . . . ومشيت تبغي الحياة والسلطانا
كذبوا فعرشك في القلوب مكانه . . . أتريد من بعد القلوب مكانا
وكانت تقول :
هل يحجبون الشمس في إشراقها . . . أو يطمسون جمالها الفتانا
ما حطموك و إنما قد حطموا . . . أمل البلاد وصوتها الرنانا
هذا جزاء المحسنين وقلما . . . تلقى على إحسانك الإحسانا..
وهكذا ضاع السودان كما ضاعت الديمقراطية.
وكان لا بد أن يقدم عبد الناصر كبش فداء. . ولم يجد بالطبع أفضل من صلاح سالم فأجبره على الاستقالة. . فقد استغل عبد الناصر الأخطاء التي وقع فيها صلاح سالم في السودان، وذبحه. . وخرج هو بريئا من هذه الجريمة. وتمنيت أن أرى صلاح سالم بعد ذلك. . لكن القدر أختطفه قبل أن يحقق أمنيتي وسحبت بريطانيا جيشها من السودان وخرج الجيش المصري من هناك أيضا..
انسحب من جزء من وطنه وتم الجلاء فعلا. . فى نوفمبر 1955. . ولم يكن الانفصال عن مصر في حاجة إلى استفتاء لتقرير المصير. . فلم يجر استفتاء. ولكن الجنوبيين اعتبروا التخلي عن هذا الاستفتاء تخليا عنهم وإساءة لهم، فقامت ثورة في الجنوب على الشمال.
وأعلن قيام الجمهورية السودانية في 19 ديسمبر 1955.
وأعلن استقلال السودان فى أول يناير 1956.
وعند ما ذهب عبد الناصر لزيارة الخرطوم بعد ذلك لم ينس السودانيون مواقفه القديمة وخرجوا لاستقباله وهم يصرخون في وجهه ويلقون موكبه بالطماطم والبيض.
***
زيارة هيكل للسودان إذن لم تعطه أي شئ، ولا تزيد رؤاه فيها عن رؤى حسن التهامي ( لم يقل لنا هيكل أبدا سر احتفاظ عبد الناصر بالتهامي.. مع أن هناك اتفاقا بين كل الفرق أن التهامي: CIA !!..
***
وحيرة هيكل وعدم فهمه لما يجري فيها كانت أشرف مما يفعله الآن من تمهيد لنا بتقسيم السودان..
نعم ..
تمهيد للأمة..
تمهيد لا يدين الخارج أبد.. بل كل إدانته لنا.. للداخل.. وبكل ما يملك من وسائل للازدراء والتبخيس والإدانة لأهله.. قومه الذين ولد فيهم وتحدث بلسانهم..
تمهيد قال أن أحمد لطفي السيد لم يساعده فيه..
ولا أظنه صادقا..
لأن أحمد لطفي السيد قد ساعده قبلها و أثناءها وبعدها.. ساعده بمنهجه وفكره.. أليس أحمد لطفي السيد من رفض أن تساعد مصر ليبيا عمر المختار ضد الاحتلال الإيطالي..
فكيف نتصور منه حديثا طيبا عن السودان؟!!
فأحمد لطفي السيد الذي يتحدث عنه هيكل بوله وثني يثق في صنمه ثقة اليقين المطلق.. أحمد لطفي السيد هذا ليس له أي إنجاز إيجابي في حياته سوى أنه عمّر عمر السلحفاة.. وفي عمر السلحفاة هذا ظل الإسلام عدوه الأول.. وهذا سر تزكيته.. بل ولقد صرح الرجل جهارا أنه إن كان لابد فهو يفضل حكم لندن على حكم استنبول .
وهو لا يكتفي بالدعوة إلى محاسنة الإنجليز ومسالمتهم، ولا إلى إسداء المجاملة لهم، وهو يدافع عن فكرة الاحتفال بتوديع اللورد كرومر، بل إنه يتورط في موبقة أخرى، هي دعوة مواطنيه إلى الإقرار بفضل كرومر على البلاد، وكرومر، هو ممثل الاحتلال، والذي قال للمصريين في هذه الحفلة ذاتها أن الاحتلال باق إلى أبد الآبدين. انظر ماذا قال لطفي السيد في هذا المعنى:
” ما بال بعض الجرائد أخذت- تشهر ببعض الكبراء الذين انضموا إلى لجنة الاحتفال وتغمزهم كل يوم بضروب من ألفاظ السخرية غير اللائقة؟ قال بعض علماء الاجتماع: إ ن الاعتراف بالجميل هو الإحساس بانتظار جميل آخر في المستقبل فإذا كانت الجرائد تريد من الناس ألا يحتفلوا بوداع اللورد كرومر إظهارا لعدم رضاهم عن الإدارة الإنجليزية في عهده، وكان الناس في بلدنا على مذهب ذلك العالم من علماء الاجتماع، وأنهم لا يعملون العرف لذاته بل للاتجار به. أفليس من المصلحة أن يحتفلوا باللورد لينتظروا بذلك خيرا من خلفه؟”..
***
هذا هو أستاذ الجيل الذي لا يجد الأستاذ فتحي رضوان وصفا يصفه به إلا وصف البغي:
” وليس نجد وصفا أليق بالدعوة التي تتضمنها هـذه السطور، مع الأسف المحض، إلا أنها دعوة إلى القيام بدور البغي، مع تحسين هذا الدور، والاستعانة بعلم الاجتماع، وما جرى جرى هذه الرطانة الفارغة، لإسباغ مظهر وقور على هذه الدعوة الخبيثة، لتبدو أنها العلم أو الأخلاق، وهو شئ يأباه العلم، وتثور له الأخلاق بغير جدا. فلطفي السيد يريد من أبناء شعب اقتحم الإنجليز عليه بابه، وفرضوا عنوة إرادتهم على كل مقدراته، أن يتلطفوا لممثليهم، وحاملي سياطهم، فيودعوا الراحل أحسن توديع، ليثيروا في نفس القادم العطف عليهم، فيسخو في معاملتهم. ويصعب على (لطفي السيد) فكرة أن يفهم أن التسليم بالاحتلال هو تنازل عن (مبدأ) لا يحق لأمة تتحلى بأدنى درجات الكرامة، أن تطيق الحياة بعيدا عنه، وإن اختلفت طرائق أبنائها في تنفيذ هذا المبدأ، وفى تطبيقه، ففي كل أمة طوائف من الوطنيين منهم من يتخذ الثورة الصريحة سبيله المقاومة، ومنهم من يتخذ التدرج والتطور، والخطابة والكتابة، سبيله الكفاح، ومنهم من يلجأ إلى العمل العنيف السري، ومنهم من يهيئ المقاومة المسلحة مستعينا بأعداء عدوه في الحلبة الدولية. أما الطائفة التي تقبل يعد جلادها، وتذكر له بالفضل والعرفان بالجميل، إذ هو أطال في حبل أسرها، أو ابتسم لها، مع أنه يعلن في كل لحظة أنا السيف والنطع جاهزان، وأنه مصمم على الإجهاز والقتل، فطائفة لا تمت إلى الوطنيين ولا تنتمي إلى الوطنية.”..
ومن يبدأ السير في هذا المنحدر فإنك لا تعرف إلام ينهى، وقد قاده هذا المنطق، فعلا إلى تفضيل حكم بريطانيا لمصر إن كان لا مفر من أن يحكمها أجنبي ونحن ندع للدكتور محمد حسين هيكل ( حسين وليس حسنين) الكلام في هذا الموضع، قال في صفحة 66 من مذكراته:
عدت إلى القاهرة، مصمما أن أعلن رأيي وأن أدافع عنه، وزادني تصميما أنى رأيت صحيفة المقطم تروج لفكرة رأيتها غاية في الخطورة ة تلك أنه إذا خيرت مصر بين من يحكمها من الدول إنها تختار إنجلترا (…) ولم ألبث حين نزلت القاهرة أن ذهبت إليه وسألته وقد ملكتني ثورة الشباب، حتى لقد قلت: ومتى كان لعبد أن يختار سيده؟ إن الأمة المستبدة يحكمها القوى فإن هي تابعته وأظهرت الرضا به، كان شأنها شأن العبد، أو شأن البغي، وأنا أربأ بمصر أن تكون عبدا أو بغيا “
لطفي السيد وجريدته وحزبه جميعا ، كانا في واقع الأمر، خالصين للاحتلال وقد أغنانا اللورد جورج لويد عن الاستنتاج فقد جاء في كتابه ” مصر في عهد كرومر” ما ترجمته:
و بفضل مجهود اللورد كرومر، تأسس في أ أكتوبر سنة 1907 حزب جديد، هو حزب الأمة، وصحيفة (الجريدة)، وقد كان أكثر أعضاء هذا الحزب، بعثا للأمل، رجل اصبح فيما بعد أهم الأسماء في تاريخ مصر الحديثة، ذا هو سعد زغلول.. كان قد أظهر صفات عظيمة منها الاعتدال في الرأي والشجاعة وقد كان مصريا صميما ومؤمنا بالصداقة البريطانية ” وكان خصما شديدا قويا لسياسة الخديوي ونشاطه السياسي “.
فحزب الأمة باعتراف الإنجليز أنفسهم هو صناعة أيديهم.
وما قاله لورد لويد قاله أيضا تشارلز آدامس في كتابه عن الإسلام والتجديد، قال:
كان سعد في الجانب الأكبر من حياته صديقا للاحتلال ، صادق النية مخلص الرأي وعاون البريطانيين في خطتهم التي أرادوا بها إصلاح الإدارة و اختياره لوزارة المعا رف في الوقت الذي كانت فيه المدارس منبع التهييج الوطني..
فدور هذه المدرسة- التي كان لطفي السيد لسانها، وسعد زغلول زعيمها، والشيخ محمد عبده راعيها الروحي، هو إلقاء الماء البارد على الجذوة الوطنية، والدعوة إلى الإنجليز ، وإلى التودد إليهم، والتحدث بمزاياهم وصفاتهم, وما تجره مصر من الخير بالإخلاد إليهم والثقة بهم فالدعوة إلى المصرية، لم تكن غاية في ذاتها” وإنما كانت التواء، في الدعوة إلى ما هو شر خالص وهو مسألة الاحتلال، والرضاء بحكمه.
ومن ثم فإن نسبة الدعوة إلي (المصرية) إلى لطفي السيد، ليست إلا افتراء على التاريخ، وتزييفا له.
نعم..
راجعوا الجملة الأخيرة يا قراء..
فقد كان الشعار ” مصر للمصريين” مجرد ذريعة لفصل مصر عن الدولة الإسلامية الأم..
ليس لصالح الاستقلال التام..
بل لصالح الاحتلال الإنجليزي..
وكان هذا هو لطفي السيد الذي يعجب به هيكل أيما إعجاب.
***
هذا هو أحمد لطفي السيد الذي يعتبره هيكل أستاذ الجيل..وهو بالفعل أستاذ جيل لكنه الجيل المستعبد للغرب المعلن عداوته للثقافة الإسلامية واللغة العربية، ولطفي من أشهر زعمائه ، أما أعضاء هذه العصابة فزميله ورفيق عمره عبد العزيز فهمي ، وزوج أخته إسماعيل مظهر ، ثم صديقه الحميم طه حسين .
كان أحد زعماء حزب الأمة ، باعتباره رئيس تحرير “الجريدة” صحيفة الحزب، واشتهر بعدواته لفكرة الجامعة الإسلامية، ورفعه شعار مصر للمصريين، وشعار: سياسة المنافع لا سياسة العواطف.
أما فكره فكان متأثراً جداً بـداروين ومل وروسو وأضرابهم من الغربيين، وكان مع كل ناعق من دعاة التفرنج والعصرية، فقد حظيت دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة من تأييد لطفي السيد بما لم تحظ بها من كاتب أو صحفي آخر.
وعندما أصدرت الحكومة قراراً بنقل صديقه وشريك دعوته طه حسين من الجامعة – بسبب الضجة التي ثارت حوله وحول إيمانه – لم يسع لطفي السيد إلا أن يقدم استقالته من منصب وزير المعارف احتجاجاً على ذلك .
ومع زعمه أن الفصحى معقدة وقديمة نراه يمضي ربع قرن من حياته في ترجمة كتب أرسطو ( يسخر منه فتحي رضوان فعمر الرجل 93 عاما ترجم فيها ألف صفحة من أرسطو بمعدل أقل من صفحة في الشهر!!)..
وقد ذكر مؤرخ حياته حسين فوزي النجار بعض الحوادث التي تدل – كما يرى – على أنه كان لا يؤمن بالغيبيات والقوى الخفية.
وقد علل لطفي السيد لتأخر مصر وتقدم الغرب، بأن مصر تستعمل لغتين: لغة للثقافة وأخرى للتخاطب، والحل الذي رآه وقدم له الاقتراحات الكثيرة هو النزول بالفصحى إلى مستوى العامية، حتى يتم مع الزمن توحيد اللغتين في لغة واحدة هي -بالطبع- العامية .
***
نفس التفاصيل ينادي بها كل عميل..
نعم..
لقد كان كل دعاة العامية أناساً مشبوهين وصلتهم بالدوائر الاستعمارية واضحة، وذلك ما يؤكد أنها كانت جزءاً من المخطط اليهودي الصليبي للقضاء على الإسلام، بل إنه من المؤكد أن الدعوة العامية إنما ظهرت أصلاً من أفكار المستعمرين وفي أحضان المبشرين يتضح ذلك من أسماء دعاتها الأوائل، أمثال بوريان وماسبيرو .
وكان من ضمن القائمين بهذه الحركة إسماعيل أحمد أدهم ، الذي حاول نشر الأفكار الإلحادية في مصر، وقد ألف رسالة صغيرة عنوانها: لماذا أنا ملحد ؟ وطبعها في مطبعة التعاون بـالإسكندرية وكان نتيجة ذلك تحويل اسم الجماعة إلى المجمع الشرقي لنشر الإلحاد، متعاونا مع إسماعيل مظهر والذي كان في ذلك الوقت – 1928- يصدر مجلة العصور في مصر ، وكانت تدعو للإلحاد . و تُعتبر جماعة ( العصور ) المجموعة الفكرية الأولى التي اقتحمت ساحة نقد الدين والفكر الديني ، ويرجع الفضل – إن كان في ذلك أي فضل- في تأسيس هذه الجماعة إلي إسماعيل مظهر الذي أسس مجلة ( العصور ) والتي كانت لسان حال هذه المجموعة والناطقة باسمها
كان المؤثر الأكبر على إسماعيل مظهر والسبب في إلحاده هو تأثره بخاله..
فهل تعلمون يا قراء من هو خاله..
إنه معبود محمد حسنين هيكل:
إنه أحمد لطفي السيد.
والحق أن إسماعيل مظهر لم يكن إلا نموذجاً لكتاب كثيرين يتفاوتون في درجة التصريح بما يعتقدون لكنهم متساوون في المنطلق والغاية، مثل منصور فهمي ولطفي السيد وأمين الخولي وطه حسين ، وأخيراً صادق العظم صاحب كتاب (نقد الفكر الديني )، وآخرين ممن لا تأويل لما يكتبون إلا الخروج على الإسلام، غير أن بعضهم تخفى تحت أقنعة البحث العلمي أو التمذهب الأدبي، حتى لا يصدم مشاعر الجماهير فتنصرف عن إنتاجه.
***
هذا هو أحمد لطفي السيد مثل هيكل الأعلى و أستاذ جيله..
كان يدعو إلى حياد مصر في هجوم إيطاليا على ليبيا، حين رأى تعاطف المصريين مع الدولة العثمانية، وقيامهم بجمع التبرعات، وحشد المؤن والأسلحة لإرسالها إلى الجيش العثماني في طرابلس بليبيا، يقول لطفي السيد: “وقد أخذت أنبه على استحياء إلى واجب مصر من هذه الحرب، وهي أن تكون على الحياد، وأن سيادة تركيا لا تجلب لمصر منفعة ولا تدفع عنها ضرًا. انضم إلى سعد زغلول ثم انشق عليه وكان من أكبر مؤسسي حزب الأحرار الدستوريين الذين انشقوا عن سعد زغلول سياسيا، وكان يدعو إلى الإقليمية الضيقة وهو صاحب العبارة المشهورة التي أطلقها عام 1907م وهي مصر للمصريين.
تحدث عن الديموقراطية وشارك في أشد حكومات الأقلية بطشا: إسماعيل صدقي ومحمد محمود..
***
أحمد لطفي السيد هو الشخص الوحيد الذي ذكره هيكل بعد تسع ساعات من الحديث الممل الطويل كأستاذ له لذلك أرجو من القارئ ألا يمل من حديثي عنه ، فمنه سنستشف مواصفات هيكل نفسه..
نعم..
ليسمح لي القارئ أن أستعرض دراسة وافية عن أستاذ الجيل ( أستاذ ماذا ولماذا .. لا أدري كما يقول فتحي رضوان)..خاصة أنها تعتمد على عدد كبير من المراجع.
***
نظرة شرعية في فكر (أحمد لطفي السيد)
بقلم / سليمان الخراشي
انحرافاته :
1. أعظم انحراف له، بل هو من الكفريات –والعياذ بالله- أنه –كما يقول ألبرت حوراني- :” لم يكن مقتنعاً كأساتذته! بأن المجتمع الإسلامي أفضل من المجتمع اللا إسلامي” !! [الفكر العربي في عصر النهضة، ص211] وتوضيح هذا كما يقول حوراني : أن “الدين –سواء كان الإسلام أو غيره- لا يعنيه إلا كأحد العوامل المكونة للمجتمع” . (…)
قلت: فلطفي السيد إذاً لا يفرق بين الإسلام وغيره من الأديان أو النِحل! فجميعها –في نظره سواء- ما دامت تجعل معتنقها يحب الخير ويفعله، ويكره الشر ويبتعد عنه! فنعوذ بالله من خلط الكفر بالإسلام.
2. دعوته إلى (العلمانية) وعزل الإسلام عن أن يكون مرجعاً لسلوك الفرد والمجتمع إلى كونه مجرد علاقة بين العبد وربه يحتفظ بها في ضميره!!.
يقول مجيد خدوري في كتابه (عرب معاصرون) :”إن تأكيد لطفي السيد على العلمانية وإحالة الدين إلى ضمير الفرد أثار النقاد الذين نددوا به واتهموه بالإلحاد” [ص 329].
3. إلحاده !! –إن صح النقل عنه- فقد قال مجيد خدوري في كتابه (عرب معاصرون) :” أخبرني عبد الرحمن الرافعي المحامي المؤرخ مرة أن لطفي السيد كان شيخ الملحدين . ولكن عبد الرزاق السنهوري الذي سمع هذه الملاحظة قال: إن شيخ الملحدين هو شبلي شميّل وليس لطفي السيد، على الرغم من أن لطفي نفسه من الملحدين!! وقال الرافعي إن لطفي كمدير للجامعة المصرية دافع عن ملحدين آخرين ؛ كطه حسين ومنصور فهمي وحسين هيكل ” [ص329] .
“وقال لي السنهوري –وهو صديق حميم للطفي السيد- إن لطفي أثار شكوكاً جدية في المعتقدات الدينية التقليدية” وأنه “أعرب عن شكوك خطيرة فيها، وقد ظل مشككاً حتى آخر حياته” !! [ص330].
4. طعنه في الشريعة الإسلامية بأنها غير صالحة لهذا العصر!! يقول مجيد خدوري في كتابه (عرب معاصرون) : “قال لي -أي لطفي السيد- مرة في سياق الحديث: إن الشريعة الإسلامية وهي في حالة ركود منذ زمن بعيد لم تعد تتفق والأوضاع الجديدة للحياة”!! [ص330].
5. دعوته إلى الوطنية الضيقة التي رفعت شعار “مصر للمصريين” ! فأعادت النعرة الجاهلية من جديد، حيث استبدل لطفي السيد رباط الأخوة الإسلامية بهذا الرباط الجاهلي.
يقول ألبرت حوراني في كتابه (الفكر العربي في عصر النهضة) : “كان لطفي كغيره من المفكرين المصريين لا يحدد الأمة على أساس اللغة أو الدين، بل على أساس الأرض، وهو لم يفكر بأمة إسلامية أو عربية، بل بأمة مصرية: أمة القاطنين أرض مصر” [ص216].
وأن “لمصر في نظره ماضيان: الماضي الفرعوني والماضي العربي، ومن المهم أن يدرس المصريون الماضي الفرعوني، لا للاعتزاز به فحسب! ، بل لأنه يلقنهم قوانين النمو الارتقاء” [ص 216-217] .
وقد ذهب لطفي السيد في غلوه الجاهلي إلى القول بأن “القومية الإسلامية ليست قومية حقيقية، وأن الفكرة القائلة بأن أرض الإسلام هي وطن كل مسلم إنما هي فكرة استعمارية تنتفع بها كل أمة استعمارية حريصة على توسيع رقعة أراضيها ونشر نفوذها” !! [ص 218].
ويقول –أيضاً- : “أما الأمة الإسلامية فكادت تقع خارج نطاق تفكيره” [ص 224] .
ويقول مجيد خدوري في كتابه (عرب معاصرون) : “كانت فكرته –أي لطفي- في الأمة –كما استقاها من الفكرة الأوروبي ! إقليمية، لا إسلامية” [ص328].
ويقول –أيضاً- : “نادى بهوية مصرية وطنية تستند إلى تاريخها المتواصل، الذي لم يكن الحكم الإسلامي فيه إلا مجرد فصل واحد” [ص328].
6. الدعوة إلى العامية: وقد سار في هذا التيار مؤيداً الخطوات التي كان قد قطعها المستشرقون والمنصرون قبله، وكان أبرز ما دعا إليه:
أ – إبطال الشكل وتغييره بالحروف اللينة.
ب- تسكين أواخر الكلمات.
ج- إحياء الكلمات العامية المتداولة، وإدخالها في صلب اللغة الفصحى” [انظر: رجال اختلف فيه الرأي، لأنور الجندي، ص 4، بتصرف].
قلت: وانظر للتدليل على ما سبق من كلام لطفي السيد، كتاب (قمم أدبية) للدكتورة نعمات أحمد فؤاد.
7. دعوته إلى مذهب (المنفعة) دون ضوابط شرعية لهذه المنفعة، وقد استقى هذا المذهب كما يقول الدكتور حسين النجار من الفيلسوف الإنجليزي (جون ستيوارت مل) .
قال الدكتور: ” فمذهب المنفعة هو القاعدة في تفكيره السياسي والاجتماعي، فالمنفعة هي الحافز الأصيل للعلاقة بين الدول بعضها ببعض، وبين الحكومة والأفراد، أو بين الأفراد فيما بينهم” [أحمد لطفي السيد، للنجار، ص202-203] .
قلت: وتطبيقاً لهذا المذهب الغربي فقد عارض لطفي السيد “مساعدة المصريين لجيرانهم في طرابلس الغرب أثناء الغزو الإيطالي الاستعماري عام 1911، وكتب في هذا المعنى تحت عنوان (سياسة المنافع لا سياسة العواطف)! مقالات متعددة دعا فيها المصريين إلى التزام الحياد المطلق في هذه الحرب الإيطالية التركية وإلى الضن بأموالهم أن تبعثر في سبيل أمر لا يفيد بلادهم” [رجال اختلف فيهم الرأي، للجندي، ص5].
8. دعوته للديمقراطية: ولم يعد يخفى على عاقل مخالفة هذا المذهب للإسلام، وأنه مذهب يحوي الكثير من الكفريات، بداية بتحكيم ما لم ينـزل الله، وانتهاء بنقض مبدأ الولاء والبراء الشرعي… الخ.
يقول الدكتور حسين النجار: “أما لطفي السيد وأضرابه من المثقفين فقد استهوتهم الديمقراطية كمذهب” [أحمد لطفي السيد، ص 82].
ويقول عنه بأنه : ” بهرته الحياة السياسية للدولة القومية في الغرب، فكانت وحياً لفلسفته السياسية التي أخذ يبشر بها المصريين” [المرجع السابق، ص199].
9. دعوته لمذهب (الحرية) بالمفهوم الغربي، دون أي ضوابط شرعية لهذه الحرية!
يقول الدكتور النجار: “الفكرة في عقيدة لطفي السيد هي الحرية، الحرية في كل صورها ومعانيها” [أحمد لطفي السيد، ص 331].
ويقول –أيضاً- : “أما مذهب الحرية الذي نادى به جون ستيوارت مل أساساً للنظام الاجتماعي فقد اتخذه لطفي السيد أساساً لما أسماه “مذهب الحريين” للدولة” [المرجع السابق، ص 203].
ويقول مجيد خدوري : “ازداد حب لطفي السيد للحرية بدراسته للفكر الأوروبي” [عرب معاصرون، ص 326].
ويقول ألبرت حوراني: “كان مفهوم لطفي السيد للحرية –كما يعترف هو نفسه باعتزاز – مفهوم ليبراليي القرن التاسع عشر” [الفكر العربي في عصر النهضة، ص 213].
10. أنه كان مهادناً للاستعمار الإنجليزي لمصر، بل كان صنيعة لهم؛ ليحقق هو وأضرابه أهدافهم بعد الرحيل عن مصر.
يقول الأستاذ أنور الجندي: “لقد كان الاستعمار حريصاً على صنع طبقة خاصة من المثقفين، عمل كرومر على إعدادها، ووعدها بأن تتسلم قيادة الأمة بعد خروج الإنجليز، ووفى لها، وكان أبرزها: لطفي السيد” [عقبات في طريق النهضة، ص 59].
ويقول –أيضاً-: “إن حزب الأمة الذي أنشأه لطفي السيد كان بإجماع الآراء صناعة بريطانية أراد بها اللورد كرومر أن يواجه الحركة الوطنية بجموع من الإقطاعيين والثراة والأعيان (الذين وصفهم بأنهم أصحاب المصالح الحقيقية) وقد كان هدف حزب الأمة والجريدة بقيادة الفيلسوف الأكبر لطفي السيد تقنين الاستعمار والعمل على شرعية الاحتلال والدعوة إلى المهادنة مع الغاصب، وتقبل كل ما يسمح به دون مطالبته بشيء” [رجال اختلف فيهم الرأي ، ص 7].
ويقول مجيد خدوري :” وكان اللورد كرومر قبل مغادرته مصر بقليل، قد أعجب باعتدال هذه الكتلة –أي مدرسة محمد عبده- وراح يشجعها على تأسيس حزب الأمة، بغية مجابهة نفوذ أتباع مصطفى كامل من الوطنيين” [عرب معاصرون، ص315].
ويقول فتحي رضوان: ” إنك لتقرأ كل ما كتب لطفي السيد في الجريدة في موضوع علاقة مصر ببريطانيا، وفي موضوع علاقة مصر بتركيا، فإذا به في الموضوع الأول لطيفاً، كأنه مر النسيم، يخاف أن يخدش خد الاستعمار، أما في الموضوع الثاني فهو متحمس غضوب فما سر هذا، وما تفسيره؟ ” [عصر ورجال، ص 443].
قلت: ولأجل هذا نفهم تمجيده ومدحه للورد كرومر الحاكم البريطاني الذي أذل المصريين لمدة ربع قرن!! حيث قال يوم خروجه من مصر:” أمامنا الآن رجل عظيم، من أعظم عظماء الرجال، ويندر أن نجد في تاريخ عصرنا نداً له يضارعه في عظائم الأعمال” !! نشر هذا في “الجريدة” في نفس اليوم الذي ألقى فيه كرومر خطاب الوداع، فسب المصريين جميعاً وقال لهم: إن الاحتلال البريطاني باقٍ إلى الأبد !! [انظر : رجال اختلف فيهم الرأي، لأنور الجندي، ص 5-6].
11. دعوته ومؤازرته لحركة تحرير المرأة التي قادها صاحبه قاسم أمين –عليه من الله ما يستحقه- قول الدكتور حسين النجار: “حظيت دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة من تأييد لطفي السيد بما لم تحظ به من كاتب أو صحفي آخر” [أحمد لطفي السيد، ص 243].
وقال –أيضاً- :” ويقيم لطفي السيد من دار “الجريدة” منتدى للمرأة تقصده محاضرة ومستمعة” [المرجع السابق، ص248].
قلت: ولذا فقد كتب في جريدته مقالات بعنوان: “قاسم أمين القدوة الحسنة” !! يقول فيها مخاطباً الشباب المصري: “ليعتنق كل عامل منهم أنماط قاسم في حُسن تفكيره” [المنتخبات (1/11)]
وأثنى كثيراً على دعوته الفاجرة، [انظر:المنتخبات، (1/268 وما بعدها)]
***
هذا هو الأستاذ.. فهل علمتم كيف يكون التلميذ والمعجب..
ولكن بقي أن تعلم ما قاله الأستاذ أنور الجندي في هذه الترجمات التي قام بها لطفي السيد .
قال الأستاذ أنور: “تبين أن مترجمات لطفي السيد عن أرسطو (التي ترجمت من الفرنسية) (السياسة. الكون والفساد. الأخلاق) وهي منسوبة إليه، تبين أنه ليس مترجمها وأن مترجمها الحقيقي هو قسم الترجمة في دار الكتب المصرية!! وذلك بشهادة عديد من معاصري هذه الفترة” [رجال اختلف فيهم الرأي، ص6]
***
هذا هو الرجل.. أستاذ الجيل.. وقد تعرفتم على الفور على ابن أخته الذي كان عظيم التأثير به.. وكان رائدا لجمعية تدعو إلى الإلحاد.
والآن.. هيا لنتعرف على ابن أخيه.. وهو مجنون آخر لا يقل عن إسماعيل مظهر ولا عن أحمد لطفي السيد نفسه.
فلقد تقدم المحامي “محسن لطفي السيد”- ابن شقيق المفكر الراحل “أحمد لطفي السيد”- بأوراق حزب جديد للجنة شئون الأحزاب يحمل اسم “مصر الأم”، وقد حمَّل الحزب الجديد حركة الضباط الأحرار المسئولية عن تهميش الثقافة والهوية المصرية، لصالح الثقافة والهوية العربية، مطالبًا بإلغاء المادة الثانية من الدستور المصري، والتي تنص على أن “الدين الرسمي لمصر هو الإسلام”، وكذا إلغاء خانة الدين من كافة الوثائق الرسمية في البلاد، درءًا لشبهة التمييز على أساس العقيدة التي يلتزم بها الدستور في مواضع أخرى. وأكد “محسن لطفي السيد” رئيس الحزب الجديد، أنه لا ينبغي أن يكون هناك دين رسمي للدولة العصرية، وأنه ليست هناك سوابق مماثلة في مختلف التطبيقات الديمقراطية حول العالم، وحتى بافتراض إقرار ذلك- جدلاً- فلماذا لا تؤخذ بعين الاعتبار مصالح وثقافة شركائنا في الوطن والتاريخ والمستقبل من الأقباط المسيحيين، فينص الدستور على الكتاب المقدس أيضًا إلى جانب القرآن الكريم، والمسيحية جنبًا إلى جنب مع الإسلام، خاصةً وأن النص الدستوري بالغ الأهمية ويقرر مصير أجيال. ويهدف ابن شقيق أحمد لطفي السيد إلى فك الارتباط بالعروبة، وإعادة ربط المصريين بقوميتهم المصرية وحدها .. ويستند البرنامج السياسي للحزب في العديد من أفكاره إلى أدبيات “أحمد لطفي السيد” عم رئيس الحزب، ومنها عبارته الشهيرة التي نشرت في الخامس من فبراير عام 1908م، والتي قال فيها: “إن من بيننا من لا ينفك يفخر بانتسابه للعرب الأولين، كأنما انتسابه إلى الجنس المصري نقص وعيب، كما أن منا من يفضل الرابطة الدينية على رابطة الجنسية الوطنية، فإن لم نذهب عنا هذا التحلل نمت أسبابه، وفشت نتائجه وتعذَّر علينا أن نوسع دائرة المشابهات وتضيق دائرة الفروق”..
وفي رد محسن لطفي السيد على سؤال حول طلب حذف المادة التي تنص على أن الإسلام هو الدين الرسمي لمصر، قال مسؤول الحزب العلماني: إذا كان لك كتيار إسلامي سند من الدستور فلا شيء يعوقك عن أن تتمادى، فأنا ضد تطبيق الشريعة الإسلامية في الحدود، وأنادي بألا تقطع يد السارق أو يرجم الزاني أو تقطع الأيدي والأرجل!!
كما يطالب الحزب أيضاً بإلغاء لفظ (العربية) من الاسم الرسمي للبلاد، ليصبح الاسم “جمهورية مصر” فقط.
وأضاف : ما الذي يمنع التيار الإسلامي إذا وصل إلى الحكم، استنادًا لهذه المادة أن يفعل هذا، ربما يأتي التيار الإسلامي على رأس الحكم، وقتها ما الذي يمنعه إذا كان لديه سند من الدستور أن يطبق الشريعة في العقوبات، كلنا مسلمون نؤمن بالله، على حد قوله، لكن نريد أن يكون الإسلام علاقة بينك وبين الله، والسياسة شيء آخر..
ويوضح البرنامج السياسي للحزب الجديد أن كون اللغة العربية هي اللغة السائدة الآن، فإن ذلك لا ينبغي أن ينسينا لغتنا القومية وهي “العامية المصرية” التي يدعو الحزب إلى تدريسها بتطوراتها المختلفة، من الهيروغليفية إلى الديموطيقية إلى القبطية، وصولاً إلى المرحلة الحديثة المسماة بالعامية، في المدارس والجامعات المصرية، ويدعو إلى إعادة كتابة التاريخ المصري .
ويصف البرنامج السياسي لحزب “مصر الأم” دخول العرب إلى مصر بالغزو، الذي أدى إلى خسارة قيم مصرية كثيرة ” ثم يقارن بين القومية المصرية وبين القومية العربية الغازية”، على حد تعبيره، مشيرًا إلى أن هؤلاء الغزاة ينتمون إلى بدو أقل حضارة ويعتمدون على القمر في توقيتهم كما أنهم تربوا على احترام التكوين القبلي وليس المجتمع المدني، كما أنهم أحاديو الفكر، عصبيو المزاج يستبيحون دماء مخالفيهم، وليست في ثقافتهم مسألة قبول الآخر، فضلاً عن مواقفهم السلبية حيال كثير من الفنون والآداب”.
***
هذا هو أحمد لطفي السيد.. حبيب محمد حسنين هيكل.. وهذه هي عائلته غير الكريمة .. وهي عائلة تثير قدرا من الشبهات لا تمر ببساطة على عقل فذ مثل عقل محمد حسنين هيكل..
لقد كان اختيار محمد حسنين هيكل لأحمد لطفي السيد اختيارا مقصودا وهو يحمل رسائل مجهولة إلى جهات مختصة..
رسائل تقول : أفكارهم أفكاري ومبادئهم مبادئي و أنا ما زلت على العهد..
نعم.. اختيار أحمد لطفي السيد هو اختيار غريب وشاذ وناب ومقصود..
و إن كان يمثل اتجاها أصليا في الثورة كلها.. فقد كان أحمد لطفي السيد هو الذي وقع اختيار الضباط الأحرار عليه ليشغل مكان اللواء محمد نجيب كرئيس للجمهورية.. عبر واحد آخر من العائلة غير الكريمة وهو ابن أخته الشيوعي لطفي واكد ( من الضباط الأحرار). لكن لطفي السيد كان قد تجاوز الثمانين.. فنصحهم بأن يكون عبد الناصر هو رئيس الجمهورية..
الاختيار مقصود وشاذ في البداية والنهاية..
والثورة كلها امتداد لفكر الرجل الشاذ غير المؤمن.
***
نعم..
تطاول الأسى والسأم والملل طيلة الحلقات حتى كانت الحلقة الأخيرة – التاسعة- حين تحولت من الشعور بالسأم إلى الشعور بالغضب.. أقصى درجات الغضب..
وفي أجزاء كثيرة.. كنت أسأل نفسي والقلب يعتصر:
– لماذا دافعت عنه ذات يوم..
في مذكرات كرومر ارفع اسم كرومر وضع اسم روزفيلت أو مايلز كوبلاند.. وارفع اسم أحمد لطفي السيد وضع اسم جمال عبد الناصر أو محمد حسنين هيكل..
افعل ذلك.. يستقيم المعنى..
***
في البداية كنت أقول لنفسي: أنت كمن جاء ليسمع محاضرة عميقة في الطب آملا أن تحل بها مشكلة في ذاتك أو في أعز بنيك، محاضرة سيلقيها أشهر طبيب ونطاسي في مجاله على الإطلاق، ولكنك فور أن تكلم الرجل، أدركت على الفور، أنه ليس طبيبا على الإطلاق، وليت الضرر يقتصر على ذلك، على كونه ليس طبيبا و أنه يتكلم عن مرض آخر..
لا ..
فالأمر أفدح من ذلك..
إنه مصر على أن داءك ليس ما تعرفه و إنما ما يدعيه..
ثم أنك تذكر فجأة أن هذا الرجل نفسه، ليس طبيبا، و إنما دعى طب، وهو بذاته من قتل ابنك وفلذة كبدك منذ ما يقرب من أربعين عاما، وبالتحديد في ينيو 1967. و أنه حين قتله، قتله بعلاج خاطئ كان هو الذي صنعه بيديه.. ولم يكن هناك أيامها من يصنع الدواء سواه، لم يكن مسموحا بذلك، بل إن من كان يحاول، كان يُعاقب بالموت.
يا هيكل يا مسئول..
لم يعد فينا سوى ذبالة حياة فهل تنقذها أم يقضي عليها؟..
***
كنت أظن أن هيكل سيفعل مثلما فعل جان فالجان ليرفع الثقل الهائل وحده..
ولكنه ليس “جان فالجان” في بؤساء فكتور هوجو..
كان جان فالجان يسرق الأغنياء والكنائس ليعطي الفقراء منها فيسعدهم ..
” جان فالجان” المجرم القديم ذي القوة الخارقة يضحي بكل ما يملك .. بالحاضر والماضي والمستقبل كي ينقذ إنسانا.. مجرد إنسان..
أما هيكل.. فقد فعل العكس..
لقد دمر الأغنياء والمساجد والفقراء جميعا..
وما زال يفعل بعد أن انتهت الحكاية.. ليسقط في أسوأ ما يمكن أن يقع فيه مواطن من أمة في محنة.. أن يسعى إلى خلاصه الشخصي وبراءته الذاتية من الاتهام.. حتى و إن كان بريئا.. فما بالك إن كان متهما.. وما بالك أكثر إذا كان المتهم الأول.
إن هيكل على عكس “جان فالجان” يضحي بالماضي والحاضر والمستقبل.. ويضحي بالصدق، لمجرد أن يثبت – بالباطل- أن جمال عبد الناصر – وبالتالي هو- لم يخطئ..
لقد سنحت الفرصة لهيكل لكي يكفر عن ذنوبه لكنه أبى.. ولنلاحظ أن جرم هيكل أكبر حتى من جرم الفاعل.. لأنه يحمل جرم الفاعل وجرم منع الإنقاذ.. فهو شريك رئيسي في الفعل.. وهو في نفس الوقت شريك رئيسي في الشروع في قتل المعنى الذي كان يمكن أن يخرجنا الآن من الورطة المميتة التي نغرق فيها.. والتي كان هيكل دون سواه، من قادنا إليها، بعد أن اجتهد في قتل الدليل الذي كان يمكن – بل كان بالتأكيد- سيقودنا إلى طريق آخر.
هذا الشخص.. أو على الأحرى المعنى ..
اسمه الإسلام..
لكن هيكل كعبد الناصر كانا يحملان شعارا يقول:
” إسلام لا.. مسلمون فقراء نعم..”
وهو يقصد أنه مستعد لتقوية الثاني أما الأول فلا..
وليس عندي شك في الأصول الصهيونية والبروتستانتية لهذا الشعار
***
لا يحدثنني أحد عن التكفير فالرجل لم يتوان أبدا عن إبداء رأيه ولا عن ازدراءه للإسلام بل ومحوه.. وهذا باب في الفقه لابد أن يواكب المخاطر التي تواجهنا.. ليس بالتطوير أو التجديد.. بل بتفعيل نصوص فقهية موجودة فعلا.
ثم أن الاتهام بالكفر أيام كان لنا أمة ودولة ومجتمع وجيش كان بمثابة إعدام مدني وربما جسدي.. أما الآن فالاتهام بالكفر جالب للمنافع وواق من المخاطر..
ثم أننا لا نهزل..
ولا يسألنني أحد عن جمال عبد الناصر..
ذلك أنني أدرك بعد نصف قرن أن جمال عبد الناصر كان بطلا في رواية ألفها هيكل.. أو أُلّفت لهما معا..
و أقول صادقا أنني لا أقلل ولا أمتهن بهذا الأول ولا أضخم من الثاني.. لكنني أقوله لأسباب عديدة منها أنني أعتبر هيكل مسئولا عن كل ما فعله عبد الناصر.. لأنه كان يستطيع أن يستقيل على الأقل..
نعم..
العلاقة بين هيكل وعبد الناصر ليست إلا كالعلاقة بين نجيب محفوظ وعمر الحمزاوي..
كما أن هيكل نفسه ليس سوى ثلاثية، كان جزؤها الأول: صحيفة الأهرام، وجزؤها الثاني صحف الدنيا ودور نشرها، أما الجزء الثالث فهو الذي يجري الآن أمامنا.. جزء الجزيرة.. و أخشى أن يكون أكثر الأجزاء خطورة.. لأنني أخشى أن يكون تكريسا للفكر الذي أدى بنا إلى هزائم الماضي، كي نكرره فنكرر الهزائم.
يا إلهي..
هل يملك الجرأة على محاولة إقناعنا أن الفكر الذي قادنا إلى هزيمة 67 كان فكرا صحيحا..
***
نعم..
جاشت مشاعري حين رأيت أشهر فضائية عربية تأتي لنا بأشهر صحافي عربي ليتحدث عن مشكلتنا.. ومشكلتنا في جوهرها مشكلة إسلامية.. لكن الذي جاء ليس غير متخصص فقط في المرض الذي تعاني الأمة من نقصه.. بل هو أصلا يستنكر وجود بقاياه.
نعم يستنكر الإسلام كمنهج..
وطريق..
وخلاص..
بينما نحن لا نعترف بسواه..
نعم..
هيكل يتحدث – كما كتبت منذ أعوام- مثل لورد إنجليزي أو خواجة ” أمريكاني”..
ومشكلتنا كلها إسلامية..
تخيل أن تأتي بحاخام ليعلمك الصلاة أو بلحاد ليمرضك..
و أنا لا أقصد الإساءة لهيكل..
والله الذي لا إله إلا هو لا أقصد الإساءة إليه..
ولكم وددت أن يخرج علينا في حلقة واحدة ليصارحنا في نبل وحزن أنه آن الأوان ليعترف لنا أنه كان معولا من أهم المعاول التي أدت إلى الكارثة.. و أن القومية التي جاء بها بديلا عن الإسلام كانت – بلهجة شمس بدران بعد هزيمة 67: ” أما إحنا أكلنا حتة مقلب”!!.. و أن يصارحنا أنه لم يدرس الأمر ليكتشف أيامها أن القومية كانت إفرازا غربيا وكانت مفيدة للغرب حين جمعت المقاطعات والأعراق وجعلت منها دولا، أما عندنا فقد فرقت وهدمت دولة قائمة بالفعل.. وأن القومية، وصفته السحرية، قد جاءت بنتائج عكسية، فوحدت أشتات قبائل تفرقت في أصقاع العالم منذ أربعة آلاف عام.. بينما – في نفس الوقت – شرذمت أمة كانت من القوى العظمى حتى عام 1924.
لكم وددت أن يخرج علينا نبيلا حزينا ليملأ آلاف الأماكن الخالية التي لا يستطيع أن يملأها لنا سواه..
يملأ مكانا – على سبيل المثال – يملأه ضباط المخابرات الأمريكية مثل كوبلاند وليكلاند بالحديث عنه وعن ثورة يوليو..
و لكم وددت أن يخرج علينا نبيلا حزينا ليعترف: نحن لسنا خونة.. ولا عملاء للـ:CIA ولكنني أعترف بعلاقتنا مع المخابرات الأمريكية، علاقة لا عمالة، بدأنا ذلك قبل الثورة لحماية الثورة، لم يكن ذلك للبحث عن مغنم، وكنا بلا خبرة، وظننا أن الفهلوة المصرية كفيلة بتجنيبنا دأب الجهد وجهد الجهاد في كواليس السياسة.. ثم أغوتنا السلطة.. وتمت المقايضة بيننا وبين المخابرات الأمريكية.. بين كيرميت روزفيلت ومايلز كوبلاند وبين الضباط الأحرار بزعامة عبد الناصر وكنت أنا الواسطة.. و أعلم كل شئ.. لذلك دعوني أعترف به.. كان لأمريكا مطالب ثلاثة:
1. لا للإسلام..
2. لا للشيوعية.
3. لا لتهديد أمن إسرائيل
وكانت هناك نصائح مثل التخلي عن السودان.
وقد كانت مطالبنا:
1. منع بريطانيا من مواجهة الانقلاب عسكريا.
2. التمكين لمجموعة عبد الناصر دون الآخرين من الحكم ( باقي كتل الجيش- الإخوان- الوفد).
3. السماح لنا بتصنيع بلادنا..
كانت القسمة عادلة..
ووافقنا..
موافقة ند لند لا عميل لمخابرات..
وكانوا أكثر من مخلصين.. ولولا نصائحهم الرائعة ما سارت الأمور أبدا على ما سارت عليه.. هم الذين وضعوا سيناريو تحطيم فؤاد سراج الدين ومحمد نجيب، كانوا في غاية الكرم والتفهم فلم يعترضوا على المجازر التي سميناها زورا محاكم كمحاكم الشعب أو الثورة أو الغدر.. ولم يعلقوا ولا هم سلطوا علينا أجهزة إعلامهم لتفضحنا.
***
ووددت أن يواصل هيكل:
كنا كفرسي رهان و أعطينا لهم قدر ما أخذنا منهم.. حتى كانت لحظة التحول بعد حادث المنشية.. كانوا هم الذين وضعوا السيناريو.. ولقد تم التنفيذ منا بأخطاء قاتلة كادت تفضح الأمر كله.. لكنهم تستروا علينا وتم القضاء على العمود الفقري للإسلام..
لقد جال بخاطري حينها أننا دمرنا السلاح الوحيد الذي يمكن أن نستعمله في مواجهتهم ذات يوم إذا ما قلبوا لنا ظهر المجن..
لكنني كنت أدرك أننا قد قطعنا كل صلة بيننا وبين الإخوان المسلمين..
أعترف .. أننا نفضل الأمريكيين بل والصليبيين على الإخوان المسلمين..
إنهم أشد عداوة و أعظم خطرا….
***
كنا أندادا..
أو كنا نظن ذلك..
إلى أن فوجئنا بأن الأمريكان يعاملوننا كعملاء لا كأنداد..
كانوا كشخص سوقي ظل ردحا طويلا من الزمن يغوي فتاة حتى أفقدها أعز ما تملك.. وظنت التعيسة هي أنها سترتفع من مستوى الصديقة إلى مستوى الحليفة.. لكننا فوجئنا بالعكس.. كان السوقي يريد أن يعاملنا كبغي..
رفضنا..
غضبنا.. وقاومنا.. فسحقونا..
أعترف..
قتلنا عبد القادر عودة و إخوته ظلما وغيلة..
قتلنا سيد قطب .. أعظم مفكر في القرن العشرين ظلما و إجراما وغيلة..
حتى بريطانيا في سبعين عاما من الاحتلال لم ترتكب ما ارتكبناه من جرائم..
ولقد فوجئنا بعد بداياتنا مع المخابرات الأمريكية أننا وقعنا في فخ.. ذلك أننا نسير في طريق ذي اتجاه واحد غير مسموح فيه بالرجوع..
وظللنا نسير حتى سقطنا في الهاوية..
***
كنت أتصور أن يقول محمد حسنين هيكل ذلك وأن يفسر لنا ما غمض و أن يكشف لنا ما استتر كي لا نقع في هذه الكارثة مرة أخرى..
***
كنت أتمنى أن يملأ هيكل مكانا خاليا لم يسده بالرد على ما أثاره جلال كشك بالحديث عن ثورة يوليو الأمريكية..
وأن يملأ مكانا خاليا واجهه فيه الرئيس السوفيتي السابق خروشوف..
و أن يحكي لنا حقيقة العلاقات المتشابكة التي أحاطت بالثورة..(فهل يتناسب مع فخامة ألفاظه في الحديث عن العصر الإمبراطوري أن أمريكا لم تعرف بثورة يوليو إلا بعد أن حدثت)..
إن جلال كشك وكوبلاند وليكلاند و آخرين عديدين يقولون عن ثورة يوليو كلها أنها عملية أمريكية.. وكنا نود أن نسمع رأي هيكل.. رأي الحق لا رأي الكذب.. رد التوبة لا رد التستر..
كنت أتمنى أن يعترف على سبيل المثال : حتى في هذه المرة فقد أتيت لكم بطلب أمريكي، كان المطلوب أن أتحدث عن السودان ودارفور بهذه الطريقة التي تحدثت بها تمهيدا للناس.. نعم.. تمهيدا لهم لما سيفاجئون به عما قليل من هبوط القوات الأمريكية هناك.. فإذا كنت أنا أعرف أنه لا مناص من التفكك منذ خمسين عاما فلم تغضبون إذن ولم تفاجئون؟!..
وكنت أتمنى أن يعترف: عندما تكلمت عن العراق كنت أقصد استلال الغضب من قلوب الناس.. فالقتل قتل عارض لا قتل عمدي..
وكنت أتمني أن يعترف: لقد حكيت لكم طويلا عن فوزي بجائزة فاروق الأول ثلاثة أعوام متوالية قبل الثورة..
وكنت أعد هذا دليلا على نبوغي وتفوقي دون الحاجة إلى جمال عبد الناصر..
والآن دعوني أعترف.. لم يكن الأمر كذلك .. بل كانت الـ CIA تعرف أي مستقبل باهر ينتظرني فدفعتني إلى الصدارة.. ليس دفعا لعميل.. أنتم لا تفهمون.. هذه أمور بالغة التعقيد.. فلا أنا عميل ولا حتى مصطفى أمين كان جاسوسا.. وكيف يكون .. وكيف أكون ووضعنا الاجتماعي والسياسي هو الوضع الثاني بعد الحاكم.. وضع يفوق وضع رئيس الوزراء.. فلماذا نكون جواسيس إذن.. ولا السادات أيضا ولا التهامي ولا على صبري .. ولا..ولا..ولا..
وكنت أتمني أن يقول:
لا.. لسنا عملاء ولا جواسيس.. باختصار شديد نحن نؤمن بهم ونكفر بكم.. نحترمهم ونزدريكم.. ونحن نرى مثلما يرون الإسلام أكبر خطر على البشرية ولابد من مواجهته مهما كانت النتائج.. فالأمر أخطر مما تظنون.. الإسلام مطلق.. وما حوله كله نسبي.. فلو تركنا الأمر على ما هو عليه لالتهم المطلق النسبي.. من هنا تأتي خطورة الإسلام.. المطلق.. هو العدو الأول.. وغير مسموح بوجوده..
لقد كنا نحمل كل الخير للوطن.. كنا نأمل القضاء على الإخوان المسلمين بسرعة (كممثل للإسلام و إن اختلفت طوائفه) كي نتفرغ لبناء الوطن.. لكن كل شئ ضاع وانهار وتبدد..
نعم.. كنا نريد أن نقصر قضية الإسلام على قضية فقراء يحتاجون الصدقة..
وكنا نريد أن نختزل قضية فلسطين إلى قضية لاجئين يحتاجون المأوى..
كنا نريد ذلك كي نتفرغ لبناء الوطن.. لكننا –لا أدري كيف- حطمنا الوطن ودمرناه.. وها أنذا هنا اليوم كي أشرح لكم كيف حدث ذلك..كي تتجنبوه.. ولا تقعوا فيه مرة أخرى..
إلا أنني غير واثق من استطاعتي قول الحق..فالحق نفسه نسبي والحقيقة كذلك..
وهذا بالذات ما جعلني أحتفظ بعلاقتي بهم في الخارج حتى الآن….
نعم .. أعترف..
نحن ننتمي إليهم لا إليكم..
نحن منهم لا منكم..
ملحوظة – أرجو أن يلحظ القارئ أنني في هذا الجزء أتقمص شخصية هيكل و أتحدث على لسانه – إنني أدرك أن الغالبية الكبرى من القراء سيدرك ذلك دون تنبيه، لكننى أنبه من قد يلتبس عليه الأمر، أنني أتصور أن هذا رأي هيكل، وهو مرفوض بالطبع.
***
كنت أود ذلك كله..
لكن أيا منه لم يحدث ..
بل كان هيكل يبدو مزهوا بذكائه وموسوعيته حتى أنني قلت لنفسي: لشد ما خسرت أوروبا و أمريكا.. وربما اليابان أو حتى الهند ..خسروا لأن هيكل ليس أوروبيا أو أمريكيا أو يابانيا أو حتى هنديا.. فلو أنه كان كذلك لأفادهم.. أما بالنسبة لنا فليس للرجل قيمة.. بل إنه ضار.. لأنه ينصحنا بإعادة تناول نفس الدواء القاتل.. والذي كان هو بنفسه من أعطاه لنا في المرة الأولي.
بل إننا نحن أيضا خسرنا لأنه لم يكن من أي بلد من تلك البلاد..
***
في الحلقة الأخيرة كنت أرقب الرجل في غضب هائل وحزن كظيم..
وكنت أتذكر كتاب سعد زهران المسمى:” الأوردي: مذكرات سجين” الصادر حديثا عن المركز الثقافي العربي (بيروت- الدار البيضاء2004) ويستعرض في بعض صفحاته نماذج التعذيب المروعة في سجون عبد الناصر التي لم يعتذر هيكل عما جرى فيها على الرغم من كونه مسئولا ..
ولقد روى الكاتب واقعة حدثت في نهاية الخمسينيات أو بداية الستينيات.. واقعة حقيقية بطلها الشاويش أمين تومرجي الأوردى، كان الشاويش يعمل في أحد السجون العمومية، وذات ليلة اشتد المرض بأحد المسجونين فحضر الطبيب فوجده قد فارق الحياة فكتب محضرا بذلك، وترك للشاويش أن يقوم بتشريح الجثة..
و في اليوم التالي .. وصل الشاويش أمين إلى السجن في الصباح ليجد جثة السجين المتوفى تنتظر التشريح. ولكن، يا للعجب، حين ضرب الشاويش أمين المشرط في بطن المتوفى، بدأت الجثة تتحرك “.. أدرك الشاويش بسرعة أن طبيب السجن أخطأ في تشخيص الحالة. لم يكن السجين قد توفى وإنما كان في حالة غيبوبة شديدة بسبب المرض، فلما ضرب المشرط أحشائه حركة الألم.
و لم يتردد الشاويش أمين لحظة، اتجهت يداه المهولتان بسرعة نحو عنق السجين وكتـم أنفاسه حتى أجهز عليه هو يصيح بانفعال شديد:
– ارقد يا ابن الكب! ارقد: الدكتور كتب في الأوراق الرسمية أنك مت.. موت يا ابن الكلب حا تعمل مشكلة للدكتور. موت. ! موت “..
حدث هذا على مرأى ومسمع من اثنين من المسجونين العاديين ممن يعملون نوبتجية في مرافق السجن ” (صفحة 161)..
انتهت القصة الفاجعة في كتاب سعد زهران..
وتجسدت الصور أمامي حتى كدت أراها..
كان محمد حسنين هيكل هو الطبيب وهو الشاويش أمين في نفس الوقت..
وكان المريض هو الأمة..
وكان الطبيب هو الذي أخطأ التشخيص طيلة خمسين عاما.. لكنه لم يجرؤ على مواجهة الخطأ.. فبادر عبر قناة الجزيرة بالإجهاز عليه..
موت..
موت..
لقد أوفت أمريكا بتعهداتها.. فما زال مبارك في السلطة.. وليس مبارك سوى امتداد لعبد الناصر.. ونحن يجب أن نوفي بتعهداتنا التي لم يبق متاحا لنا منها سوى:
– لا للإسلام..
فقد انتهت الشيوعية ولم يعد لنا أي سبيل إلى إسرائيل بعد أن انقلب الوضع..
لم يعد من مهامنا إلا:
– لا للإسلام..
و لقد سلطنا كل وسائل القهر والتزوير والتشهير والسحق والقتل ضد الإسلام والمسلمين طيلة خمسين عاما.. أتريدهم أن يكتشفوا الآن أن الإسلام ما يزال حيا..
موت..
موت..
موت..
***
فهل أدركتم الآن يا قراء لماذا لم يتناول هيكل الإسلام أبدا طيلة الحلقات على قناة الجزيرة؟!.
***
***
***
مراجع الدراسة:
سيار الجميل- تفكيك هيكل- مكاشفات نقدية في إشكاليات محمد حسنين هيكل- الأهلية للنشر والتوزيع- عمان – بالاشتراك مع: الزمان- لندن- ط1 .
– دار الصحوة- حلوان. – في نظرية التطور: هل تعرضت لغسيل الدماغ- بروفيسور دوان ت. كيتش
– قصة الحلقة المفقودة- إليانور كلايمر- ترجمة د محمد رشاد الطوبي- مكتبة الأنجلو المصرية
هيكل.. الحرب والحب- عادل حمودة- صحيفة البيان- 10-10-2000
يؤخذ على عادل حمودة الكذب في روايته، و إنما نستعرضها استعراضا للأدلة، فأول من قال بأمريكية الثورة هم الوفديون والشيوعيون والإخوان، فإذا كان يقصد كتاب مايلز كوبلاند لعبة الأمم، فالكتاب نشر وعبد الناصر موجود كما يذكر عادل حمودة في نفس المقال بعد قليل
د. فؤاد زكريا، فؤاد، كم عمر الغضب؟، هيكل وأزمة العقل العربي، دار القاهرة
م س
لجلال كشك عدة كتب عن ثورة 23يوليو منها الكتاب المشار إليه، وكلمتي للمغفلين، كما أن في كتبه الأخرى إشارات مستفسضة إلى الموضوع نفسه : على سبيل المثال: الناصريون قادمون، والحوار أو خراب الديار
ثورة يوليو الأمريكية- م س.
– برنامج شاهد على العصر- قناة الجزيرة- أحمد منصور: الإثنين 8/9/1421هـ الموافق 4/12/2000م.
أربعون عاما من الهزيمة- ثورة يوليو الأمريكية- علاقة عبد الناصر بالمخابرات الأمريكية- المكتبة الثقافية- القاهرة- ط3
محمد جلال كشك- الغزو الفكري- المختار الإسلامي للطباعة والنشر والتوزيع
ناصر الدين النشاشيبي- حضرات الزملاء المحترمين- استحلوا الكرامة والأعراض والأموال والأسرار- دار أخبار البلد- القدس.
مذكرات محمد نجيب – كنت رئيسا لمصر- المكتب المصري الحديث.
عصر ورجال- فتحي رضوان- الهيئة العامة لقصور الثقافة
– العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة- الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي.
– مفكرة الإسلام- موقع محيط- الشبكة العنكبوتية.
د محمد عباس
mohamadab@hotmail.com
18 أكتوبر 2012
لقد قتل الدكتور الغتيت محمد حسنين هيكل.. وفجر قناة الجزيرة..
ولقد نقل موقع صوت المقاومة للأستاذ صلاح بديوي ما نشرته صحيفة المسائية عن تصريحات خطيرة للدكتور على الغتيت، وهو من كبار أساطين القانون و حجة عالمية في القانون الدولي وعضو المجلس الرئاسي للاتحاد الدولي للمحامين، وهو قيمة وطنية كبرى وعقل منهجي جبار، عزوف عن الشهرة بعيد عن الأضواء إلا إذا اضطر مثلما حدث عندما كان هو المحامي العربي الوحيد الذي تطوع للدفاع عن الفيلسوف الفرنسي المسلم رجاء جارودي.
إن النص من الخطورة بحيث لا يجدي اختصاره أو الاستشهاد بفقرات منه..
إنه حكم بالإعدام لابد من قراءته كله.. ذلك أن القارئ هو المكلف بتنفيذ حكم الإعدام!!
قال الدكتور على الغتيت بالنص:
” فوجئت وغيري كثيرون بما أعلنه الأستاذ محمد حسنين هيكل في قناة «الجزيرة» طيلة فبراير الماضي عن أن مصر أممت شركة قناة السويس فقط، أما المرفق نفسه فيخضع لاتفاقية القسطنطينية، وهو كلام بالغ الخطورة لأنه يمس السيادة المصرية في الصميم، فالمرفق متواجد في ثلاث محافظات مصرية وهذا الكلام مضمونه الإلغاء العملي لتأميم قناة السويس، كحق مصري أصيل، خاصة وأن خطورة هذا الكلام تتزايد عندما نعلم أن هناك مؤامرة دولية تجري الآن في الظلام، وتستهدف قناة السويس كهدف استعماري أصيل وكجزء من الحملة التي تستهدف استعادة النفوذ الاستعماري القديم في المستعمرات السابقة ويكفي أن نعلم أنه تم تكوين شركة في باريس من أحفاد فرديناند دي ليسبس تستهدف استعادة قناة السويس من المصريين أصحاب القناة والبلد والمؤسف أن لهذه الشركة وكلاء مصريين في القاهرة يعملون لحسابها علنا، ويؤسفني أن أقول أن ما ادعاه الأستاذ هيكل في قناة «الجزيرة» عار من الصحة ويفتح الطريق لعودة قناة السويس للأجانب، وللعلم فقد أثارني ما أعلنه هيكل علي مدار أربع حلقات في الجزيرة طيلة فبراير من تشكيك في أحقية مصر في قناة السويس ودفعني ذلك إلي إرسال خطاب رسمي إلي وضاح خنفر مدير عام قناة الجزيرة بتاريخ 12 مارس 2008، وأطالبه بعرض الرأي الآخر وإتاحة الفرصة لي للرد تليفزيونيا علي هيكل من نفس المنبر، خاصة وأن كلام هيكل شكل تشويشاً خطيراً علي السيادة المصرية علي قناة السويس وطالبت قناة الجزيرة بإتاحة الفرصة لي لتوضيح الوضع القانوني الصحيح لقناة السويس بعد تشويش هيكل، لكن لم أتلق رداً من قناة «الجزيرة» مما دفعني لإرسال خطاب آخر إلي وضاح خنفر أيضاً بتاريخ 27 مارس الماضي أطالبه للمرة الثانية بإتاحة الفرصة للرد علي مزاعم هيكل دون فائدة، مما جعلني أتيقن من أن «الجزيرة» تلعب دوراً في مخطط التشويه والتشويش علي مصر في قضية قناة السويس، خاصة وأنه تشويش يفتقر للحقائق القانونية الدولية المحسوم جوهرها وشكلها منذ أكثر من 120 عاماً. ورغم ذلك رفضت الجزيرة إتاحة الفرصة للدفاع المصري، ومن جانبي أرسلت خطاباً شخصياً إلي الأستاذ محمد حسنين هيكل بتاريخ 18 فبراير 2008 أكدت فيه حق مصر التاريخي والقانوني في قناة السويس شركة ومرفق وأن اتفاقية القسطنطينية لا تتضمن سوي ضمان مصر لحرية الملاحة لأي دولة في قناة السويس؛ طالما أن هذه الدولة ليست في حالة حرب مع مصر؛ أما خلاف ذلك فليس هناك أي التزامات علي مصر ومما يؤسفني أن مزاعم الأستاذ هيكل تأتي في وقت تتعاظم فيه مؤامرات دولية مهددة لمصر ومشروعات صهيونية بحرية مهددة لمصر في قناة السويس وسيناء وبأحداث وشيكة في لبنان وفلسطين وسوريا؛ فضلاً عن أن هذا الكلام يعد استدعاء غريباً لمعركة استعمارية بين انجلترا والدول الاستعمارية ألمانيا وفرنسا وروسيا والنمسا بعد الاحتلال البريطاني لمصر مباشرة خلال الفترة من 1882 إلي 1888 عموماً المعركة مستمرة ولن نسمح بتنفيذ مخططات شركة أحفاد ديليسبس.”
***
الدكتور على الغتيت من أبرز الشخصيات الحيادية المتوازنة ذات الثقل الدولي في العالم العربي، وقد قدمته قناة الجزيرة في حلقات عديدة خاصة مع المذيع المشهور أحمد منصور، الذي وصفه في إحدي حلقات برنامجه:”أكثر من رأي” بما يلي:
الدكتور على الغتيت عضو المجلس الرئاسي للاتحاد الدولي للمحامين، وُلد في القاهرة عام 1940، حصل على ليسانس الحقوق عام 1961 في جامعة القاهرة وعلى الماجستير في القانون في الجامعة وفي عام 1974 حصل على الدكتوراه في جامعة بريكلي في الولايات المتحدة الأميركية عام 1972، ثم عمل أستاذا مشاركا بها مع كبار أستاذة القانون لعلم الفلسفة الدستورية والمضمون الجوهري لقوانين المقارنة والمنازعات، متخصص في القانون الاقتصادي الدولي والمقارن وعضو بمجلس التحكيم الدولي ويعمل أستاذا لعلم الاقتصاد المقارَن والقانون الدولي الخاص بكلية الحقوق جامعة القاهرة ومعهد قانون الأعمال الدولي في جامعة السوربون في باريس، عضو بالمجلس الرئاسي للاتحاد الدولي للمحامين وعضو بمجلس إدارة المفوضية الدولية للمحاكمين في باريس، نائب رئيس الجمعية المصرية للقانون الدولي، رئيس مشارك لتحرير مجلة التحكيم الدولي التي تصدر ربع سنويا في كلٍ من ميلان والقاهرة، عضو نقابة المحامين بمدينة نيويورك الأميركية والمعهد البريطاني للقانون المقارن والقانون الدولي بمدينة لندن، عضو في المعهد الدولي لقانون الأعمال الدولي بباريس وعضو بجمعية القانون الدولي الأميركية وعضو سابق بلجنة تمثيل الدول العربية للجمعية الدولية للأعمال في لندن والممثل الإقليمي للمجموعة العربية بقسم القانون الدولي بالنقابة الدولية للمحامين، مستشار قانوني للجمعية العربية لمكافحة التمييز وعضو في اللجنة القانونية العليا للتحكيم الاقتصادي الدولي وعضو بمجلس إدارة مركز القاهرة الإقليمي للتحكيم الدولي وعضو في مجلس إدارة الجمعية الدولية للمرافعين أمام القضاء الدولي منذ العام 1980، ترافع في كثير من القضايا الدولية المعروفة ولعل أبرز مرافعاته كانت فيما يتعلق بالدفاع عن المفكر البارز روجيه غارودي في باريس، يجيد العربية والإنجليزية والفرنسية.
***
لماذا لم تستجب قناة الجزيرة لرجاء هذا العالم الكبير بتصحيح الخطأ.. ولماذا لم يستجب هيكل؟!
الإجابة عن السؤال تفضح الأمر كله..
***
لقد انتهي كلام الدكتور على الغتيت.. وانتهى معه ما ربطني طيلة نصف قرن بهيكل.. وكان ما ربطني به هو الاحترام والاختلاف والاعتراف بأستاذيته في الصحافة.. وظني أنه لا يكذب وإن كان يخفي كثيرا من الحقائق.. وكنت مدركا أن ذلك يكون أحيانا كثيرة أسوأ من الكذب الصريح..
صحيح أن هذه العلاقة ظلت في تدهور مستمر حتى مات هيكل في قلبي وفي عقلي منذ أعوام.. ولم تفاجئني مقالة الدكتور علي الغتيت إلا في المدى الذي يمكن أن يكون هيكل قد وصل إليه..
وبرغم الموت.. فإن لعملية الدفن أحزانها.. ولقد كانت مقالة الدكتور الغتيت تصريحا بالدفن..
الآن ينتهي هذا كله..
أحسست بألم في قلبي..
وأحسست بنار في قلمي!..
غالبت رغبة عنيفة في البكاء..
وشعرت بحاجة دونها الموت للعزاء..
وانهارت أمام ناظري الأشياء..
بكى عقلي وبكي عمري وبكت الأيام والشهور والسنين..
بكت آلاف الصفحات التي صدقته فيها..
بكت الأرصفة التي وقفت عليها باحثا عن كتبه المصادرة المهربة..
بكت ذكريات الأصدقاء الذين دافعت أمامهم عن هيكل..
بكى احتجاجي على جلال كشك الذي كذبته وصدقت هيكل فانطبق على الزمان وعلى شخصي حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم عن الزمان يأتي يُكذب فيه الصادق ويُصدق الكذاب.
بكت دهشتي على اتهام مصطفى أمين بالجاسوسية..
وبكت أكثر دهشتي على اتهام أشرف مروان..
بكت الحروف والألم والسهر والانفعال والدهشة ..
بكى التحليل والمنطق والفلسفة..
بكى الاقتناع..
بكى السراب الذي حسبته ذات يوم يقينا.
بكى الفؤاد الفجيعة وبكى المنطق الخديعة..
بكى التاريخ..
بكت حتى الدموع..
الآن تستقر النقاط على الحروف ويستقر الجمر في القلب ويتأجج..
الآن أنظر إلى رف كتبه في مكتبتي.. وكان رغم الاختلاف الشديد في الرؤى من أكثر أجزاء مكتبتي أهمية..
الآن أنظر له فتغرورق عيناي بالدموع..
يــــــــا للخديعة..
يــــــا للخيانة..
رحت أنظر إلى كتبه نظرة أب – في نهاية عمره- إلى أبنائه الذين كشف له اختبار الحمض النووي “الدي إن إيه” أنهم ليسوا أبناءه..
ولم يكن الحزن والألم لمحض الخديعة والخيانة..
بل كانت المعضلة تعود كألم لم يبرح أبدا رغم أنه يظهر حينا ويختفي حينا آخر..
تلك المعضلة التي تنغرس في القلب كسكين:
– إذا كان ما تيقنا ذات يوم أنه عين الصواب هو بذاته عين الخطأ.. فكيف نأمن على أنفسنا اليوم وغدا.. وكيف نحصن أنفسنا.. كيف نأمن وقد بلغنا الزمن الذي أخبرنا به الرسول صلى الله عليه وسلم.. الزمن الذي يصبح فيه المرء مؤمنا ويمسي كافرا..
رحت ألوك مرارة الألم مرددا لنفسي:
على أي حال لقد كان الدكتور على الغتيت هو اختبار الحمض النووي”الدي إن إيه” الذي أثبت لنا أن هيكل ليس منا..
***
لماذا لم تستجب قناة الجزيرة لرجاء هذا العالم الكبير بتصحيح الخطأ.. ولماذا لم يستجب هيكل؟!
الإجابة عن السؤال تفضح الأمر كله..
وهي إجابة أحاول الوصول إليها طيلة الأعوام الأخيرة وكتبت فيها بالفعل مقالات عديدة..
***
يا هيكل: من اَلْمَسْئُول؟ من؟ من؟ !
فليس فى مـصر اليوم حر وليس في … دارها امرؤ بالحق والعقل يحكم
وهاهي أقدار الرجــــال تدهورت … فويل لمن يســـتاء أو يتبرم
وقد ألغيت فيها العـقول فكل من … يشير إلى جـرم العساكر مجرم
نكسة هيكل على قناة الجزيرة
هل يمكن إذا ما جاء أحد بالقرآن مرقوما على جهاز الكمبيوتر فحذف منه كل آيات التوحيد وكل الكلمات التي تشير إلى الله سبحانه وتعالى.. إذا ما فعل هذا الرجل – شلت يمينه – ذلك فهل يكون الباقي قرآنا؟!
و إذا ما جئنا بكتب السيرة فحذفنا منها كل ما يشير إلى قصص الأنبياء أو اسم الرسول صلى الله عليه وسلم.. فهل تبقي بعد ذلك سيرة..؟ و أن نتناولها بالنقد والتمحيص وبالجرح والتعديل على أنها السنة والسيرة؟!..
ولو جئنا بدول العالم لنحاسب أكثرها إجراما.. ووضعنا استثناء أن يتم الاختيار من جميع الدول ما عدا أمريكا وبريطانيا و إسرائيل.. فهل هناك ثمة عبث أسخف من هذا..؟
ولو جئت في أي بلد من بلاد عالمنا العربي وقلت للناس: بدأنا عصر الطهارة والأكفان التي لا جيوب لها.. أمسكوا كل اللصوص.. ما عدا أبناء الحاكم و زوجته وأشقائه فهل ثمة عهر أكبر؟!
لو جئنا في مصر على سبيل المثال لتقول للناس افعلوا ما شئتم لضمان نزاهة الانتخابات لكن وزارة الداخلية خط أحمر.. أو أن تقول لهم فتشوا كل مكان في البلاد لكشف الجلادين المجرمين الذين يقومون بتعذيب الناس الذي تتوهمونه أو تزعمونه.. فتشوا كل مكان إلا مقار أمن الدولة و غرف المباحث في أقسام الشرطة..
لو أنك فعلت أي شئ من هذه الأشياء فهل يمكن أن نتخذ فعلك بأي درجة من الجدية؟!
أم أنه يكون منذ اللحظة الأولي عبث وباطل لا يجدر بمن يحترم نفسه وعقله التوقف عنده.
***
المعني واضح..
ففي كل هذه الأمثلة كان الخطأ يقصد لذاته والصواب يُتجنب من أجل ذاته..
و أخشى أن يكون هذا هو ما يفعله محمد حسنين هيكل مساء كل يوم خميس على قناة الجزيرة والذي تناول القضية ( هل يحتاج القارئ لأي تعريف؟.. وهل هناك من سيتساءل: أي قضية؟) دون أن يظهر الإسلام فيها رغم أنه هو المبتدأ والخبر والبداية والنهاية..
إن الإسلام هو القضية..
ولا قضية خارج الإسلام..
ولست أقصد بذلك مجرد الزخم الوجداني والتأثير العاطفي للإسلام.. و إنما أقصد أن الإسلام هو منبع القيم ومبعث الأخلاق. مما يعني أن الإسلام هو ما يجعل الظلم رذيلة والقتل كبيرة والسرقة ذنبا.. بدون الإسلام تسقط القيم جميعا..نعم.. تسقط القيم جميعا..
وبدون الإسلام تصبح العبودية لأمريكا ( قد ننال فيها الفتات) خيرا من العبودية لحكام لا ننال معهم إلا السجن والقهر والموت..
أتذكر أحمد.. ذلك الشاب من العريش.. والذي قال لي أنه جرب تعامل الموساد وتعامل مباحث أمن الدولة في مصر.. و أنه لولا الإسلام لاختار الموساد.
أتذكر أيضا الحلقة الثامنة لهيكل، عندما قال أن الأمريكيين المجرمين، عندما كانوا يحتاجون إلى درجات من التعذيب للمعتقلين يخشون من مواجهة عواقبها أمام شعوبهم، عندما كان يحدث ذلك، كانوا يرسلون هؤلاء المعتقلين ، إلى أجهزة أشد إجراما، بل أشد كفرا، في أربع عواصم عربية، القاهرة وعمان ودمشق والرباط، حيث وصلت تكنولوجيا التعذيب في هذه العواصم إلى مستوى غير مسبوق في التاريخ.
نعم..
خارج الإسلام لا توجد قضية..
وخارج الإسلام فإن مأمون فندي وفريدمان وحتى مايلز كوبلاند أفضل من هيكل!!..
***
وبادي ذي بدء، فإنني أقولها للعلمانيين العرب، بمنتهى المرارة والألم والاحتقار والازدراء، أنني عندما أقارنهم بالعلمانيين اليهود، أجد أن اليهود حتى بعد أن كفروا بالدين، و ألحدوا، إلا أنهم أخذوا كل محتوى دينهم المحرف، و أساطيرهم المختلقة، لا ليسخروا منها، ولا ليعلقوا لمن ما يزال يتبعها المشانق، أو يتهموهم بالإرهاب، بل أخذوا هذا المحتوى كله، وليس فيه شئ يمكن احترامه أو تقديره عقليا، ومع ذلك، فقد أخذوه بمنتهى الاحترام، وصبوه في وعاء القومية اليهودية، إدراكهم مدى قوة الدين كرابط ومكون للدولة..
علمانيونا الأشرار فعلوا العكس، هجروا ديننا الصحيح المحترم الذي يكاد يذهل العقل بما فيه من إعجاز وحكمة، وجعلوا منه سخرية وهزوا وتهمة. ونكلوا به وبأهله، ونصبوا لهم المشانق، رغم أن هؤلاء الأهل يشكلون الأغلبية الساحقة في المجتمع، ولم يكفوا عن الملاحقة والتشهير بالباطل أبدا، حتى أنني كنت أقول لنفسي دائما أنهم الوجه الآخر لحمزة البسيوني وصلاح نصر وصفوت الروبي و أحمد أنور وحسين عرفة، نعم، الوجه الآخر، و أن هؤلاء لم يكونوا بقادرين على القيام بعملهم لولا وجود أولئك، والعكس صحيح.
أفرغوا محتوى الإسلام كله وجعله مرمى تصويبهم، متجاهلين أنه كان الرابط والضام والضامن لاستمرار الدولة، ولطالما حذرناهم، ولم يستمعوا إلينا أبدا، حتى تحقق ما قلناه كله.
أفرغوا محتوى الإسلام ووضعوا مكانه محتوى غربيا فاجرا، لا محتوى العلم والاجتهاد وعلوم الطب والزراعة والصواريخ والفضاء والذرة، لا ، لم يأخذوا أيا من ذلك، إنما أخذوا الشذوذ والفجور والعهر، وراحوا يسومون الأمة العذاب كي تسير على ضلالهم وتؤمن بشياطينهم.
لم تكن لهم براجماتية العلمانيين اليهود. ولكن هؤلاء كانوا يبنون دولة، أما علمانيونا فكانوا يفككون دولة.. بل دولا..
ولو أن أساسهم النظري كان قويا لالتمست لهم العذر، ولو ظهر في القرآن- كما ظهر في التوراة على سبيل المثال- خرافات و أساطير مضحكة، و أباطيل يعرف تلميذ المدرسة الابتدائية زيفها، لالتمست لهم العذر، لكنهم لم يعتبروا حتى بالألوف الذين يعتنقون الإسلام في الغرب كل عام، وجلهم من صفوة المجتمع، ولا راجعوا أنفسهم، بل اندفع كل واحد منهم اندفاع كلب أجرب مسعور، يمزق بمخالبه و أنيابه أصحابه و أهله ودين قومه.
لا أجد أي سبيل لالتماس المعاذير لهم، وحتى على أرضية الفلسفة ، وما أشد بغضي لها – دون خصام- ، فإنهم إن كانوا يدعون أن العلم والفلسفة لا يعرفان دليلا يقينيا على وجود الله، دعونا الآن من أن ما يقولونه حماقة وباطل، ونقول لهم: فهل عندكم في العلم والفلسفة دليل يقيني على عدم وجوده ( تعالى الله.. لا إله إلا هو)..
هل لديكم دليل يقيني على عدم وجوده؟!..
فإن كنتم لا تملكون دليلا يقينيا على عدم وجوده، فلماذا مزقتم أمتكم وهدمتم دولتكم وفعلتم بأهلكم ما فعلتموه دون أي دليل علمي .
طرح اليهود الملاحدة الأمر هذا الطرح فلم ينقلبوا على أمتهم.
لكن ملاحدتنا لم يكتفوا بالانشقاق.. فبرغم أنهم قلة عددية لا تكاد تذكر، إلا أنهم بمعونة الأجنبي الصليبي اليهودي استولوا على مقاليد الأمور، وانشقوا عن الأمة، ثم اعتبروا ماءهم العطن العفن هو مجرى النهر الرئيسي، أما النهر، الأمة، نحن، فقد كان عليهم أن يحاصرونا.
***
كانت هذه مقدمة لازمة قبل أن أتجه للتعليق على هيكل في الجزيرة. هيكل، ذو الشهرة الطاغية، و أكثر صحافي عربي يتابعه الجمهور، لكن الجمهور الذي يجتمع ليتابعه هذه المرة لم يجئ للمتعة العقلية ، ولا حتى لحل مشكلة، و إنما جاء مدفوعا بالوهم في إمكانية استعادة حلم تحول إلى كابوس، أو على الأقل في حدوث معجزة على يد الساحر العجوز الذي أعطته الجماهير ذات يوم: ليس قلبها بل عقلها ووعيها، ولقد تناقض ما بشر به الساحر في البدايات مع النهايات الفاجعة، والناس حين تجتمع الآن حوله، لا أظنها – رغم كل محاولات صناعة النجم- تجتمع تمسكا به أو حبا فيه، و إنما كما يتجمع الدائنون حول المدين العائد، الذي أخذ منهم كل ما يملكون كي يستثمره لهم، فبارت التجارة وخربت الديار، وهاهو يعود، وهاهم أولئك يتكأكئون عليه ويتكالبون، على أمل استعادة ولو جزء من ديونهم.
ولكن هذا التصور المأساوي الأسود لا ينفي وجود استثناءات في كل اتجاه، يحركها المنى والوهم والخرافة، كذلك الذي قال أنه – هيكل – سيحرك بخبرته الفذة، في إحدى الحلقات، الشارع المصري لمواجهة نوايا التوريث الفاجرة، بل ويصل الأمر بالبعض لتصور أنه في الحلقة التي ستذاع أسبوع الانتخابات الأمريكية، سيكشف أسرارا تسقط بوش، ومن قائل أنه بعد أن ظل ستين عاما يصقل فكره، سيخرج على الناس بمشروع لا يختلف عليه اثنان، ولا ينتطح فيه حزبان: أحدهما قومي والآخر شيوعي. مشروع يمسح الهزائم كلها ويقودنا إلى وحدة عربية لا يغلبها غلاب طالما بشرنا بها في الأيام الخوالي وقد آن الأوان لتنفيذ وعده وسداد دينه، مشروع يتجنب فيه السقطات والكوارث التي قادنا إليها هو أو أصحابه فيما مضى، مشروع يتجنب أن يتستر على الجرائم المخزية، التي كان مقترفوها بشكل أو بآخر زملاء وأقرانا في صدر السلطة وواجهتها، فلم أسمع على سبيل المثال أنه تحدث عن مجرمين كشمس بدران وحمزة البسيوني ولا حتى صفوت الروبي، ولا عن مختلسين، تحدث عنهم غيره، ولا عن اتهامات لم يواجهها بل صادر أو طالب بمصادرة المجلات التي تنشرها، مثل الاتهامات التي وجهها له مايلز كوبلاند.
أقول أن مثل هذا الجمهور الواسع المتعقب لحلقات الأستاذ جمهور خطر، ( يقال أن كلمة الأستاذ حين تنطق مفردة فلا تعني إلا الأستاذ هيكل، تماما كما أن كلمة “المعلم” المفردة تعني أرسطو ) أقول أن هذا الجمهور جمهور خطر سرعان ما ينقلب، عندما لا يجد ما يريد، أوحينما يجد ما لا يريد، و أخشى أن يحدث ذلك في حالتنا هذه، فالرجل المعجزة لم يأت بأي معجزات، ولا هو أبرأ الأكمه ولا شفى الأبرص ولا أحيى الموتى، ولا هو حتى علم ما قلوب الناس وكم خاب أملهم فيه، وما يطلقون عليه “سيكلوجية الجماهير الحاشدة تختلف كثيرا عن سيكلوجية الفرد، فالجماهير التي فقدت معنى الولاء والبراء وتمرست على عبادة غير الله، الجماهير المخدوعة بالتغييب والمغيبة بالتغريب، الجماهير المطعونة في عقلها، لا في قلبها، إما أن تعبُدَ و إما أن ترجُمْ، فإذا ما ثبت لها أن معبودها ليس نبيا ولا صاحب معجزة فإن تحولها الخطر لن تجعلها تكتفي بالانصراف عنه، بل ستنظر إليه كمشعوذ أو دجال أو عميل، لابد من رجمه..
( أثق في بقايا عقل عند العلمانيين.. بقايا تجعلهم يفهمون بعضا من أساليب البلاغة.. لكي لا يندفع منهم من يقول أنني ناديت برجم هيكل!!.. أو أنني ذكرت عنوانه الذي يتحدث فيه: قناة الجزيرة.. تحريضا على قتله..)..
أقول أن الرجل يتحدث في حلقاته بالجزيرة عن موضوع آخر، حتى أنني قلت لنفسي أن الأمر لا يستحق المتابعة ولا التعقيب، و أن ما أشعر به من حسرة ليس بسبب أن الرجل لم يقدم حلا، أو أنه أقل توهجا مما كان، لكن بسبب أنني أكتشف أنني عشت وهما تطاول فتجاوز نصف قرن. ولم يكن الأمر سوى سراب – نعم.. سراب.. أو على الأحرى قوس قزح كي يوافق التشبيه.. السير( بالراء) هيكل!..
***
لا يحتاج القارئ منى أن أطيل في شكوكي تجاه الأمر كله، ولقد صارحت القراء في أكثر من مقال لم يكن أولها بعد أحداث 11 سبتمبر ، بل قبلها بكثير، أنني أتوقع أن أمريكا ستدفع للصدارة القوميين ( من شيوعيين وناصريين) كي يزيحوا الإسلاميين الحقيقيين من الساحة، كما أنها ستدفع الفكر الصوفي بكل سلبياته كي يخفف أو يميع من عقيدة الجهاد ، ذلك أن المخابرات الأمريكية عندما تختار، ستختار الأكثر خسة والأكثر انحرافا و كفرا في كل مجال واتجاه.
كنت أرى الزحف يتقدم تجاه كل مؤسساتنا حتى يكاد يغطى العالم العربي كله، مزيحا المسلمين من طريقه، موفرا البيئة المثالية لتـَـخفّـي ونمو الجواسيس والخونة، الصهاينة المباشرين، والصليبيين بفكرهم، وبالطبع، لن يمثل القوميون والشيوعيون، وحتى الصوفة، سوى مرحلة انتقالية، يتم بعدها التخلص منهم، كمرتزقة تفوق نفقات إعاشتهم فوائدهم.
أقول كان الهاجس داخلي..
و أقول أيضا أنني أحترم قناة الجزيرة.. كما أن في داخلي تاريخ طويل من احترام هيكل.. (اعذرني بجهلي يا رب).. أحترم قناة الجزيرة.. رغم يقيني بأنها تخضع لضغط أمريكي مباشر يجعل ثلاثة أرباع ما تذيعه يصب في النهر الأمريكي ( كنت أنوي أن أقول 90%).. و أن الباقي يفلت بالكاد.. وهو حين يفلت، لا يفلت سليما بل مثخنا بالجراح. وبهذا الفهم، و لإدراكي لحجم هيكل، فقد كنت على يقين أن المخابرات الأمريكية قد استشيرت وباركت دعوة هيكل ليكون ضيفا للقناة على مدى ستين حلقة..
هيكل.. سلاح إستراتيجي لا يستعمل إلا لمنع كارثة .. أو لإحداث كارثة .. أو للأمرين جميعا..
إنني أعلم أن الجزيرة تستأذن المخابرات الأمريكية في شخصيات دون هيكل بكثير.. فكيف بهيكل؟!..
والأمر لا يعني الآن إدانة لهذا أو لذاك.. الآن!..
ولكنني فقط أذكركم بما حدث منذ شهور عندما طلبت الإدارة الأمريكية، متخفية خلف فريدمان إن لم تخني الذاكرة، قد طالبت صحيفة الأهرام المصرية أن تفرد مساحات أوسع و أماكن أبرز ومقالات أكثر لصحافيين مصريين، هما رضا هلال و مأمون فندي ( هل هي صدفة أنهما يساريين.. وبالمناسبة إلى كل من يريد أن يطلع على الفكر المتعفن لليسار المصري بدون تمويه ولا أقنعة أن يقرأ مقالات مأمون فندي)..
نعم..
هيكل ضرورة هذه المرحلة.. فالساحة خالية.. ولا يجب أن تظل خالية و إلا احتل الإسلام الساحة كلها و أثبت أنه لا بديل سواه..
لاتوجد قوة أخري في المجتمع.. لأن قوى التغريب المباشر والصهيونية الكاملة ما زالت أضعف بكثير من أن تواجه في العراء، إنها تحتاج – كالطفيليات – إلى عائل وسيط.. هذا العائل الوسيط لا يمكن أن يكون أمريكا و إسرائيل (إلا في حالة خاصة كالعراق) و لا يمكن أن يكون الدول الإسلامية، والتي ستتكفل حتى مناعتها المنهارة بالقضاء عليه..لذلك فإن العائل الوسيط المثالي هو رحم القوميين واليسار..
هل كان يمكن مثلا أن تدعو الجزيرة الشيخ أسامة بن لادن كي يعطينا ستين محاضرة يعلمنا فيها كيف نحل مشاكلنا؟..
بالطبع مستحيل..
ولهذا جئ بهيكل..
ليس مجرد حب فيه..
ولكن..
لأنه إن لم يظهر على الشاشة أحد ستتجه عيون الأمة إلى هناك.. حيث ساكن الجبال العظيم.. الشيخ أسامة بن لادن.. رضى الله عنه.
***
في الحلقات المذاعة حتى الآن لم يذكر هيكل الإسلام كعامل سلبي أو إيجابي كما لا يذكر أي دور له، ومنذ عام وبعض العام في قناة دريم لم تكن العراق – طبقا لرؤيته – تمثل أي هدف إستراتيجي لأمريكا في حد ذاتها، لم يكن الأمر حتى صراع حضارات فأظنه لا يرى إلا حضارة واحدة، ولم تكن حربا صليبية جديدة، ولا هدفها التبشير والقضاء على الإسلام، كل ذلك لم يكن واردا، لأنه لو كان واردا لأصبحت العراق مقصودة، ولكانت مهمة لأنها مقصودة، لكن الأستاذ غير مقتنع بذلك، ولذلك يرى أنه بمجرد الصدفة كان من سوء حظ العراق أن تكون ميدانا لاستعراض النار والخراب والدمار أمام الصين والهند بل وفرنسا واليابان، أما العراق، بما فيها من إسلام و عروبة، العراق عاصمة معمورة عدة قرون، فإن الأستاذ يراها أذل و أقل و أهون من أن تموت مستهدفة، ويرى أنها إنما تموت بالصدفة كالحيوانات الضالة.
ومن أجل ذلك، ومن أجل غيره، بلغ الأمر بالكاتب ” سيار الجميل” أستاذ التاريخ في عديد من الجامعات العربية، أن يتصور أن هيكل يحمل قدرا كبيرا من الازدراء للعراق بالذات، بل إن هذا الازدراء يتعداها للعالم العربي كله أما فلسطين فالباقي منها شظايا قضية.
يقول سيار الجميل:
” إن أبرز إشكالية عند هيكل.. لابد أن يلتفت إليها النقاد والمحللون العرب في المستقبل، أنه يفكر سلبا في كل ما هو عربي أنتجه العرب في التاريخ، وخصوصا في تاريخهم الحديث، وهو لا يطمئن إلى أي سياسة أو قرار أو حوار أو مفاوضات أو حركة أو خطاب أو نتاج.. الخ مهما كانت طبيعته التاريخية والفكرية والسياسية، إذ يقلل من شأنها جدا حتى تلك التي تأتي من قبل تقدميين وقوميين عرب! وليفحص القراء الكرام ذلك مقارنة بإعجابه الشديد لكل ما يأتي به الغربيون: زعماء وقادة وساسة وصحافيين (أسطوريين) ومنهم صهاينة وجواسيس وسفراء ومتآمرين”.
***
تمنيت أن يقف هيكل في أول الحلقات ليجيب على أسئلة جوهرية لا يجوز إغفالها..
فمن حق الناس أن يعرفوا من أي منطلق يتحدث، و على أي أساس سيقدم لهم العلاج، وما هي مرجعياته.
أن يقف ليقول هل يتحدث من منظور عربي أم من منظور غربي..
لن ندخل في تفاصيل ألوان الطيف للمرجعية الغربية لكننا كنا نود أن نعرف إذا كانت مرجعيته قومية، فأي قومية يعني؟ هل هي القومية الطيبة الحنون التي تسمح ( بالمسلمين الفقراء أما الإسلام فلا)..وتسفك دماء بضع مئات فقط وتعذب وتسجن عشرات الآلاف فقط.. أم القومية القاسية التي ترفض الدين كله وتقتل أربعة آلاف في ليلة و أربعين ألف في نهار..
نعم .. أي قومية؟.. قوميته هو وجمال عبد الناصر؟ أم قومية صدام حسين؟ أم قومية حافظ الأسد؟..
وكان على ” الأستاذ” أن يطمئن مستمعيه عن الآليات التي تحمى الكيان القومي الذي يدعو إليه، وبصورة أكثر تحديدا، في إطار مشروعه، كيف يتصور اكتماله، هل ستتوحد الدول العربية بالتراضي، بالاتفاق بين الصباح والقذافي وعلاوي وعبد لله ومبارك؟.. وهل حدثت الوحدة في التاريخ دون حروب ( كالحرب الأهلية الأمريكية مثلا) ، وهل هو مباح أو متاح في عالمنا العربي أن نستعمل القوة للتوحيد؟.. ثم على فرض المستحيل، لو أننا نجحنا في تحقيق الوحدة بمجرد النوايا الطيبة، والحلقات التليفزيونية، ولو كانت على فضائية الجزيرة، لو أننا توحدنا، ثم فوجئنا بأن دولة كالكويت، فضلت القومية الأمريكية على القومية العربية، فكيف لمشروع الأستاذ أن يمنع هذا الانخلاع والتفتت، وكيف يواجهه إذا حدث، وبأي وسائل..
( أتذكر في أسي بلا حدود إهدار العقل والمنطق والفن في أغنية لبلبل العهد الناصري عبد الحليم حافظ.. حين هدد الرجعيين بأنه سيغني ضدهم: ” يا عدو الاشتراكية.. يا عديم المسئولية” ثم يردف ذلك بتهديد مرعب:” ونطبل لك كدهه.. ونزمر لك كدهه”!!..
وينطلق الطبل والزمر..
فهل نفعل لدولة مثل الكويت مثل هذا؟!..
بل لعلى أستدرك: هل فعلنا غير هذا؟!!
***
الحل والوسائل والآليات كلها واضحة في بلاد مرجعها الإسلام ، لن يختلف اثنان في أن دولة توالي أعداء الله، وتجعل من ثلاثة أرباع أرضها قاعدة لمن يحاد الله ورسوله، هي دولة مهدرة الدم لكل من سعى إلى ذلك، وكل من كرسه بل وكل من أيده، نعم، يدرك الإسلام خطورة مثل ذلك، ويكافحه بحكمه الحاد الباتر القاسي، خسارة الدنيا والآخرة، ويجعل قتال حكامها وجيشها، و أهلها إن أيدوا جيشها، فرضا على المحيطين جميعا.
كما أنني أواصل التساؤل: وماذا يفعل مشروع “الأستاذ” في بلاده نفسها: مصر الرسمية، التي تفضل الآن القومية اليهودية على القومية العربية، و إسرائيل على فلسطين ( وراجعوا والقلب يتمزق، موقف الأزهر بقدره ورمزه يسجد راكعا لا لله، بل لصحفية يهودية في السفارة الأمريكية في القاهرة ، حيث احتجت السفارة على إنكار الكاتب رفعت سيد أحمد للهولوكوست في مقال له نشرته مجلة لواء الإسلام، فأوقف الكاتب، وضغط على رئيس التحرير لا لكي يعتذر فقط بل لكي يركع لغير الله، فأبى واستقال، فأتوا بأزهري – لا غفر الله له- قدم الاعتذار وكتبه في مقال فجعلوه رئيس تحرير المجلة لا بارك الله له، و لم يكتف العملاء بكل هذا فإذا بوزير الإعلام بنفسه يكتب اعتذارا في الصفحة الأولي للمجلة يثبت الهولوكوست ولا يذكر مذابح الصهاينة في فلسطين..
صرخت – حين علمت – :
– وزير الإعلام شخصيا.. حتى صفوت الشريف – رغم حكايات الفنانات و أفلام الجنس والمخابرات.. وما هو أكثر – أشرف منه.
***
قضية لواء الإسلام هي قضية اختراق الأزهر وامتهانه، وهي أهم و أخطر من أن أمر بها مرورا عابرا، لكنني ذكرتها لغرض آخر سوف يتبينه القارئ على الفور.
باختصار شديد، فإن قضية الهولوكوست، يجب أن تكون قضية تاريخية علمية يحكم فيها أساتذة التاريخ وعلماؤه، بعد أن يدعموا دراستهم بمختلف الأسانيد ليضعوا مختلف الاحتمالات.
( كتطبيق للمنهج العلمي في الطب، فليس من حق الطبيب أن يضع تشخيصا واحدا للمرض، بل هو يرسب في الامتحان إذا ما شخص المرض تشخيصا واحدا، مهما كان هذا التشخيص صحيحا، إذا ما أغفل الاحتمالات الأخرى للمرض)..
فإذا ما أحيطت قضية علمية بوسط غير علمي، فإن الأمر يخرج عن نطاق العلم تماما إلى نطاق الكذب والدجل والتزوير. تماما كما لو أنك أتيت بطبيب وأمرته أن يشخص تشخيصا معينا والمسدس على رأسه: فإما أن يطيعك و إما أن تطلق عليه الرصاص.
إن قضية الهولوكوست، مثل صارخ على ذلك لكنها ليست هي المثل الوحيد، بل ربما يوجد فيها بعض عناصر تجعلها أقل فداحة وفظاعة من قضايا أخرى يتبع فيها نفس المنهج غير العلمي.
يحضرني في ذلك على سبيل المثال قضايا بعضها تافه وسطحي والآخر جوهري، وسوف أذكر مثالا من كل ، فقط لأجعل القارئ يعيش معي هذا الوضع الكارثي لمن يدعون أنهم يتبعون المنهج العلمي.
لقد أنفقت شركات صناعة السجائر مئات الملايين من الجنيهات في شكل رشاوى مباشرة وغير مباشرة لجهات طبية كي تقلل من الحديث عن مخاطر التدخين، كما أن شركة أدوية عملاقة، طرحت في الأسواق منشطا جنسيا (الفياحرا).. وبعد أن تشبع السوق العالمي، تفتق نهم الشركة عن وسيلة لمضاعفة مبيعاتها وبالتالي أرباحها، فقدمت عشرات الملايين رشاوى إلى أطباء النساء والولادة، كي يجروا أبحاثا تثبت أن فائدة الفياحرا للنساء لا تقل عن فائدته للرجال، ونشرت الأبحاث، وكانت مزورة.
لكن القضية الأكبر، التي أود أن أكتب عنها منذ أعوام طويلة، دون أن تتيح لي الحوادث أي فرصة، هي نظرية التطور لدارون، والمقالة معدة، لكن لا الوقت ولا الظرف يسمح، ولقد تعمدت فيها أن تكون كل مراجعي غربية، وعلى الأخص أمريكية، حيث يتناولها العلماء بقدر من السخرية لا يكاد يتصور، لكن هؤلاء، لا ينشر لهم أحد ، بل يطاردون في جامعاتهم ويحاصرون، تماما كما يطارد ويحاصر كل من ينكر الهولوكوست. ولقد بلغ الأمر أن علماء كبار قد لفقوا أدلة بالغة السذاجة لإثبات النظرية ( أحدهم وهو “جارلسن داوصن” أتى في عام 1912 بفك قرد وزرع فيه أسنانا بشرية ثم ركبه على جمجمة بشرية) وظلت الفرية عشرات الأعوام كأقوى دليل على وجود الحلقة الوسيطة الدالة على صحة نظرية دارون، بينما العشرات تلو العشرات من العلماء يصرخون أن الدليل دليل زور.. و أن تزويره غير متقن حتى يمكن لأي مبتدئ أن يكشفه على الفور، وظلت الميديا الإعلامية في العالم كله تتجاهل ذلك، حتى اعترف العالم المزور بنفسه عام 1953، أن الجمجمة والفك والأسنان التي ركبها، يعود أقدمها إلى ألف عام فقط وليس إلى مئات الآلاف من الأعوام، كما اعترف العالم، بأنه إن كان قد زور كي يشتهر ويغتني، فإن 90% من العلماء يفعلون نفس الشيء. ( فكرة الحلقة الوسيطة دليل من آلاف الأدلة التي تجعل من نظرية دارون تهريجا، فعلى سبيل المثال تدل الحفريات على أن الجراثيم التي كانت موجودة منذ مئات ملايين الأعوام ما زالت كما هي، دون أي تطور، ومن ناحية أخرى فلم تفلح كل الحفريات في العثور على زرافة واحدة قصيرة الرقبة، من تلك التي ادعي دارون أنها ماتت وعاشت ذوات الرقاب الأطول لتمكنها من التهام أوراق أعالي الأشجار.. دون أن يفسر لنا أيضا كيف عاشت الخراف.. والحمير!!)وكان أحد من تناولوا تلك القضية هو العالم الأمريكي: البروفيسور دوان ت كيتش، حيث اعتبر أن التطور ليس حقيقة علمية ولا حتى نظرية، وإنما مجموعة من التلفيقات الساذجة التي لا يقبلها أي عقل علمي، نعم، يقول الرجل، إنها ليست نظرية، إنها عملية غسيل مخ قام بها الساسة كي يسوغوا التهام الأقوى للأضعف. إن الرجل يصرخ أن نظرية التطور عقيدة لا يمكن تصديقها، وهي ليست علما على الإطلاق.. عقيدة وليس علما.. .
وتتناول إليانور كلايمر الأمر بسخرية لتقول:
انظروا كيف تحولت الأسماك إلى برمائيات حسب تصور التطوريين: (… وظهر الجفاف بالقرب من نهاية الزمن الباليوزي، واستطاعت الأسماك القديمة – بعد جفاف البرك والأنهار- أن تزحف على الأرض للوصول إلى ما تبقى من تلك البرك، وكان لهذه الأسماك التي استطاعت أن تتحرك على سطح الأرض أحفادا استطاعت هي نفسها أن تبقى خارج الماء لفترات أطول)..
وتواصل المؤلفة في سخرية: ولا تسألوهم كيف استطاعت الأسماك أن تزحف على الأرض أو أن تتحرك على سطح الأرض، إنها لا تستطيع هذا ولا ذاك، و إنما تستطيع فقط أن تتقافز في مكانها خارج الماء، بضع دقائق ثم تموت!!
***
إن كان يمكن للتزوير الكامل الشامل أن ينجح هذا النجاح المذهل في مجال العلم التجريبي فكيف به في علوم إنسانية غير خاضعة لوسائل البحث العلمية.
وبرغم كل ذلك فما زالت نظرية التطور تحاط بحصانة شاملة و تدرس في مدارسنا وجامعاتنا كحقيقة علمية غير قابلة للنقاش إلا من الظلاميين المتحجرين الحمقى، أو من السلفية الدينية والرجعية السياسية، وكلها تعبيرات لا يقصد بها إلا الإسلام.
***
لم يفلت مني الخيط يا قراء..
فقط أريد أن أقول لكم أن الضجة الإعلامية المصاحبة لحلقات هيكل على قناة الجزيرة أيقظت الإحساس بالخطر عندي..
ومنذ البداية الأولي..
هل هي عملية غسل مخ جديدة؟..
خاصة أن هيكل واحد من الناس المحاطين بحصانة عجيبة – خاصة في العقود الأخيرة- تجعل معارضته إدانة للمعارض وليس له.. كما أن أفكاره تُتَلقى من أنصاره على الأقل، بوله المريد الصوفي، الذي يكسر القواعد إذا ما عن له أن يسأل بله يختلف.
جعلوا منع صنما و نشروا حوله هالة من التقديس و أوهموهم أن هذا هو من يملك الحقيقة المطلقة..
أقول أن هيكل محاط بنوع من الحصانة تثير قلقي، حصانة كحصانة الهولوكوست ونظرية التطور، وهو بذلك يتحول شيئا فشيئا، إلى واحد من تلك الرموز التي تتمتع بنفس الحصانة ابتداء من الطهطاوى ومرورا بشبلي شميل وسلامة موسى وعلى عبد الرازق وطه حسين ولويس عوض – سجن العلامة محمود شاكر لمجرد أنه فضحه.. وكان هيكل شاهدا.. ومسئولا.. فقد كان يفسح أقوى صحيفة في مصر للويس عوض- .. الآن ينضم هيكل إلى هذا الرعيل.
و لست ضد تبجيل أي مفكر، لكنني ألاحظ نوعا من غسيل الدماغ في تبجيل هؤلاء، غسيل للدماغ يمحو كل مساوئهم ويضخم مزاياهم، و أولئك، أصحاب المنهج التجريبي العلمي، لا يريدون منك الاقتناع العقلي بل الإيمان القلبي.. الإيمان الذي أنكروه على الله – لأنه يخالف المنهج العلمي التجريبي- يطالبون به لأنفسهم!!..
سبّ من شئت من شيوخ الأزهر مهما كانت عظمتهم وجهادهم.. ستجد ألف قلب تدافع عنك معتبرة ذلك جزءا جوهريا من حرية الفكر.. هاجم من شئت من شيوخ الأزهر متطاولا على ثوابت الدين.. ستجد ألف قلب – بل ألف كلب- تؤيدك..
لكن حاول أن تنتقد على عبد الرازق و أن تفضح دور السفارة البريطانية في كتابة كتابه “الإسلام و أصول الحكم”..
حاول وجرب..
و إن أتيحت لك الفرصة بعد أن يمزقك وينهشك ألف كلب فتعال وقل لنا..
نفس الأمر ينطبق على الباقين.. شخوص معينة.. يضعونها موضع القديسين في الديانة المسيحية.. فهي منارات على الطريق.. مناقشتها خطيئة ومعارضتها كفر.. وكل هذه الشخصيات .. كلها بلا استثناء توجد أدلة قوية على ارتباطها المباشر بأجهزة مخابرات أجنبية.. و أنها استعملت للنيل من الإسلام..
كلهم..
حتى محمد حسنين هيكل.
***
إنني أحذر القارئ من أن ما يمكن وصفه بظاهرة حصانة الهولوكوست أو نظرية التطور، و أعني بهذه الظاهرة وجود قوة جبارة فاجرة لديها القدرة على إحياء الأساطير وطمس الحقائق، وقسر الناس على الإيمان بالأوهام، هذه الظاهرة في شقها الأعظم تنتمي لقوة خارجية عن الإنسان الفرد.
هذا معروف ومفضوح ومشهور.. وكنا جميعا بعض ضحاياه في فترات من حياتنا.. والكثيرون منا يموتون دون أن يعرفوا فيم خدعوا وكم خدعوا ومتى خدعوا ولماذا خدعوا..
معروف ومفضوح ومشهور.. وكيف لا وكل وسائل الإعلام والفضائيات ومنشورات الكتب الحكومية ومكتبة الأسرة ووزارات الثقافة وكتاب في صحيفة.. كل ذلك مكرس لترويج غسيل المخ وتكريسه..
لكنني في هذه الفقرة لا أقصد ذلك كله.. إنما أقصد سواه.. الهولوكوست القابع داخل كل واحد منا.. وكل من لا يرى بنور الله..
نعم.. أتحدث عن هذا الجزء من الهولوكوست الموجود داخلنا، حيث يصيب فكرنا بما يصيب مفاصلنا بترسب الكلس فيها، لتصبح الحركة الطبيعية مستحيلة.
نعم..
عنصر داخلي في فطرة الإنسان نفسه يجعل تصديق الأكاذيب أيسر من الإيمان بالحقائق.. فالحق ثقيل و إن كان أبلج.. والباطل خفيف ولو كان لجلج.. ولنلاحظ: كم مسلما آمن بالرسول الخاتم صلوات الله وسلامه عليه في سنوات الدعوة الأولى.. والإجابة: عشرات لا يزيدون.. ولنقارنهم بمن آمن بالدعي الكذاب مسيلمة في شهور دعوته الأولى.. عشرات الألوف!!
ولنسأل الآن على الفور نفس السؤال..
كم واحدا آمن في بداية الخمسينيات (بعد حملة التشويه والتشهير والتمزيق) بالشهيد سيد قطب..
وكم واحدا آمن بمحمد حسنين هيكل!!
***
مثال على ذلك، لو أنني قلت لك أن ثمة دلائل قوية على بصمات أمريكية واضحة على ثورة 23 يوليو، فإن الرفض سيسبق السؤال عن الدليل وفحصه، حتى لو كان هذا الدليل هو أقوال الضباط الأحرار أنفسهم.
وفي الاتجاه المضاد، فإن أي محاولة لتبرئة السادات من تهمتي الجاسوسية اللتين نسبتا إليه، أو تبرئة حسن التهامي وعبد المنعم أمين من العمالة للأمريكيين.. وجمال سالم وسامي شرف وعلى صبري من العمالة للروس..أي محاولة محكوم عليها بالفشل.. رغم أن المنطق المجرد المحايد يقول: أن الإمكانية موجودة ولا عصمة ولا استثناء لأحد.وأنه إذا جاز أن يكون السادات عميلا للمخابرات الأمريكية فلماذا لا يجوز ذلك بالنسبة لعبد الناصر.. و إذا جاز أن يكون مصطفى أمين جاسوسا للمخابرات الأمريكية فلماذا يستحيل أن يكوم هيكل مثله.
والعلمانيون الذين يطلبون منا الشك حتى في الله كدليل على تطورنا يرفضون الشك في الهولوكست أو دارون.. أو محمد حسنين هيكل!!
***
يتساءل عادل حمودة: هل كان الضباط الأحرار على علاقة تحت الأرض وقبل الثورة مع المخابرات المركزية الأمريكية؟ وأين موقع هيكل على هذه الخريطة؟ فبعد 35 سنة على الثورة وبعد 17 سنة على رحيل جمال عبد الناصر خرج من يقول علنا: (أن الثورة وقائدها هما (صناعة) أو (صنيعة) أمريكية, وان تغيير النظام في مصر في يوليو 1952 هو مسرحية ألفتها أخرجتها المخابرات المركزية, وقام ببطولتها جمال عبد الناصر ورفاقه, وجاءت هذه الاتهامات في وقت كانت معظم الأشياء في مصر مباحة ومهزوزة وبلا حصانة, كما أن الذين تحمسوا لذلك الاتهام وروجوا له كانوا من أنصار العقل مثل الدكتور فؤاد زكريا (كتابه: كم عمر الغضب؟) ومن أنصار التشهير وتصفية الحسابات مثل جلال كشك (كتابه: ثورة يوليو الأمريكية) وكان بعضهم طرفا مباشرا في اللعبة الرسمية للسلطة مثل حسن التهامي.
ويواصل عادل حمودة:
وفي الحقيقة كان ذلك الاتهام قديما, فقد سبق أن قاله رجل المخابرات المركزية (مايلز كوبلاند) في كتابه الشهير (لعبة الأمم) الذي صدر في عام 1969 كان (كوبلاند) الساعد الإقليمي لمسئول الوكالة في الشرق الأوسط (كيرميت روزفلت) أو (كيم) على حد اسم تدليله, وقد أثار كتاب (كوبلاند) الكثير من عواصف الغضب عليه, لكن المثير للدهشة انه طلب تأشيرة لدخول مصر وحصل عليها بعد نشره الكتاب, ولم يجد من يوقفه في مطار القاهرة, ووجد طريقة من دون مشقة إلى فندق (هيلتون ـ النيل) ولابد أن ذلك جعله يشعر بالزهو والغرور, فها هو جمال عبد الناصر الذي اتهمه في كتابه بأنه من إنتاجهم لا يقدر على منعه, أو الوقوف في وجهه, ثم إنها فرصة لان يكسب من ابتزازه, ولكن ذات ليلة وهو عائد إلى فندقه فوجئ بشاب قوي يعترض طريقه ويصر ـ في استفزاز واضح ـ على أن يبيع له بعض منتجات (خان الخليلي) التي يشتريها السياح, وبدا واضحا أن البائع (المزعوم) له هدف آخر, على أن تدخل بعض المارة أفسد خطته, في اليوم التالي في ميدان (العتبة) كان هناك من كان قادرا على تنفيذ الهدف, فقد عاد (كوبلاند) من جولة لم تكتمل في الميدان القديم وقد امتلأ وجهه بالجروح وجسده بالكدمات, لقد افتعل رجال الأمن السريون معه مشاجرة كان هو الوحيد الخاسر فيها وفهم (كوبلاند) الرسالة وغادر القاهرة على أول طائرة, ولم يعد إليها إلا بعد رحيل جمال عبد الناصر.
وفي كتابه (قصة السويس) يقول هيكل: إن كوبلاند كغيره من موظفي الوكالة لا يستطيع أن يكتب أو ينشر بغير إذن (ومعنى ذلك أن ما كتبه ونشره كان محل موافقة من وكالة المخابرات المركزية التي يهمها تلطيخ الثورة المصرية والإساءة إلى قائدها جمال عبد الناصر.
وقد نشر كوبلاند في كتاب آخر هو (بلا خنجر وبلا عباءة) لم يحظ بشهرة كتابه (لعبة الأمم) وإن كان قد أضاف فيه بعض التفاصيل وكشف فيه بعض الأسرار, منها أن كيرميت روزفلت جاء إلى مصر قبل الثورة وحاول إقناع الملك فاروق بالقيام بثورة (سلمية) بيضاء لتقوية نظام حكمه المعتدل لتفويت الفرصة على قوى الشيوعيين والإخوان في القضاء عليه, وكانت الخطة ـ التي سميت في ملفات المخابرات المركزية بعملية (الزير السمين) ـ تقضي بأن يقوم الملك بحملة تطهير كبيرة للقضاء على الفساد المستشري في أوصال النظام, وبأن يعيد تقديم نفسه في صورة الحاكم التقي الورع, ولكن (كيم) شعر باليأس بعد أن قابل الملك فاروق أكثر من مرة, ووجده على حد وصفه (من أصحاب الأجسام الثقيلة والعقول الخفيفة) وهو ما جعل (كيم) يبحث عن بديل آخر, وهكذا اتجه بصره إلى الجيش, على حد رواية كوبلاند.
ولم يمر وقت طويل حتى أدرك إن كيرميت روزفلت هو حفيد الرئيس الأمريكي تيودور روزفلت
أن تحريك الأحداث في الظلام يجذبه ويثيره أكثر من مجرد جمع المعلومات, وانتقل بذلك من التحليل إلى التآمر, وحتى يقفز رجل مخابرات هذه الخطوة الواسعة فإن عليه أن يكون شبكة معقدة من العملاء والعلاقات تفيده في الوقت المناسب, وقد تحقق له ذلك عندما كوّن في عام 1951 جمعية الصداقة العربية الأمريكية التي اتخذت من بيروت مقرا رئيسيا لها وامتدت فروعها إلى القاهرة ودمشق وعمان وبنغازي وتونس والرباط, وكما يقول آلن جران في كتابه عن رجال المخابرات المركزية (ترجمه جورج عبدو ونشرته دار المروج في بيروت) فإنه تحت شعار تعزيز الروابط الثقافية والعلمية بين الولايات المتحدة والعالم العربي قام (مناضلو) هذه الجمعية بنشاط تجسسي خطير للغاية, وقد حانت الفرصة لكيرميت روزفلت لتجريب مواهبه في تدبير الانقلابات في إيران عندما طرد الدكتور محمد مصدق وأعاد الشاه للسلطة
ما زلنا مع عادل حمودة:
حسب رواية كوبلاند: فإن كيم أمضى في القاهرة الشهرين الأولين من عام 1952 مع الملك فاروق يلهوان بتنفيذ مخطط الثورة السلمية, وذلك بدفع رجل الحكم القوي مرتضى المراغي لخلق أزمة وزارية, وقام الملك بتكليف نجيب الهلالي (الذي كان هيكل على علاقة متينة به) لتسلم الوزارة, وقد اتصل به كيم وطلب منه تطهير جهاز الدولة من الفساد, فربما أصبح زعيم الثورة السلمية, لكن ما جرى هو أن الضباط الأحرار قد سارعوا بالاستيلاء على السلطة ولم يتسن لنجيب الهلالي تنفيذ مخطط محاربة الفساد, فهل كان كيرميت روزفلت وراء ما فعله الجيش كما يدعي خصوم جمال عبد الناصر؟
لقد قال كوبلاند أن كيم عرف بأمر تنظيم الضباط الأحرار في شهر مارس 1952, أي قبل الثورة بأربعة أشهر تقريبا, ويقول كوبلاند أيضا: (انه سعى إلى الاتصال بهذا التنظيم بعد أن أدرك أن المراهنة على الجيش هي الحل الوحيد المتاح) ولأن كيم لم يبدأ ـ حسب المصدر نفسه ـ في رهانه على الجيش إلا في شهر مايو 1952 فإن الفترة التي يكون قد تم فيها الاتصال بينه وبين تنظيم الضباط الأحرار هي ما بين مايو ويوليو أي حوالي الشهرين فقط.
وفي الجزء الأول من كتابه الشهير (قصة ثورة يوليو) يقول أحمد حمروش: (إن منشورات الضباط الأحرار وانتصارهم في انتخابات نادي الضباط استثارت رجال المخابرات المركزية في القاهرة, فبذلوا غاية جهدهم للتعرف عليهم واكتشاف آرائهم ومحاولة اجتذابهم) . و(كانت حلقة الاتصال مع ضابط في المخابرات المصرية تسمح طبيعة عمله بالاتصال بالملحقين العسكريين الأجانب بينما هو مرتبط بالضباط الأحرار وبجمال عبد الناصر شخصيا) . لم يذكر أحمد حمروش اسم هذا الضابط.. وربما يكون علي صبري, وهو بالمناسبة سافر قبل عام 1952 في بعثة إلى الولايات المتحدة لدراسة المخابرات الحربية, وبصفة خاصة مخابرات الطيران, وعندما عاد عين مديرا لمخابرات الطيران, وأصبح على صلة بالملحق الجوي الأمريكي في القاهرة.
***
يقول الدكتور فؤاد زكريا – وهو مفكر لا أحترمه ولا أحبه- أن هيكل لم يكن قادر لوحده أبدا أن يجمع كل المعلومات الوثائقية، ويرتبها بمنتهى الدقة.. ” ولكنني كلما أمعنت الفكر في هذه الظاهرة بدا لي أنها أعقد وأوسع نطاقا من إمكانات أي فرد، بل من إمكانات أي جهاز في دولة متخلفة، وخيل إلي أننا نجد أنفسنا هنا على مستوى يكاد يصل لأجهزة المخابرات في الدول الكبرى ” ..كما يقول أنه لاحظ عرضا لمرض خطير في كتابات هيكل، ذلك أنه يستثني نفسه تماما من اللوم وكأنه كان طوال الوقت مشاهدا محايدا، أو ناصحا أمينا لا يستمع إليه أحد..
***
ويقول سيار الجميل – أستاذ التاريخ في جامعة الموصل وفي الجامعات الأردنية والإمارتية- :
..”.. في الأرشيف قضايا كثيرة لهيكل لو استخدمت استخداما عاديا فستصيب مقتلا منه.. ذلك أن جملة كبيرة من الوثائق تتضمن معلومات خطيرة عنه، و أن هناك مادة أرشيفية هائلة يمكن أن تستخدم ضد هيكل بسهولة تامة. و أن الأشخاص الذين اتهمهم هيكل كونهم من الحاقدين عليه والحاسدين له، ويعتقد الباحثون الأكاديميون بأن كلاما قاله كل من: محمد نجيب ومايلز كوبلاند وخروتشوف..لم يصدر كونهم حقدوا عليه أو حسدوه، فلقد اتهمه الرئيس محمد نجيب بالخيانة لحساب دولة أجنبية.(كتابه: كلمتي للتاريخ ).. كما أتهمه مايلز كوبلاند بالعمالة المخلصة.. كما اتهمه خروتشوف بالتهمة نفسها، وذكره بالمبالغ والشيكات التي تسلمها من وكالة المخابرات- المركزية في اجتماع كان يعقد في موسكو أمام جمال عبد الناصر، مما اضطر هيكل إلى أن يقفل راجعا إلى مصرفي اليوم الثاني من الرحلة!
ويذكر حسنين كروم في كتابه مقاطع من حوار أجرته مجلة الحوادث اللبنانية مع محمد نجيب أول رئيس جمهورية لمصر اثر سقوط النظام الملكي عام 1952 والذي أبعد عن الحكم عام 1954 من قبل عبد الناصر أنه رفض أن يقابل محمد حسنين هيكل أربع مرات لأن معلومات زوده بها جهاز الاستخبارات المصرية تقول بأن هيكل هو عميل لدوائر المخابرات..
ويواصل سيار الجميل:
لعل أبرز ما يمكن أن يهتم به الباحثون والدارسون في قابل الأيام: مسألة التهم التي وجهت إلى محمد حسنين هيكل من قبل أكثر من جهة وطرف، حول ارتباطه بالمخابرات المركزية الأمريكية.. والتي لم يدافع عنها الرجل دفاعا قويا! وبرغم عدم وجود مستندات قوية بيد خصومه، فقد كان عليه أن يكون أقوى مما بدا عليه.. إذ وجدته ضعيفا إزاء ذلك! فلماذا يهرب من وجه خروتشوف مثلا؟ ولماذا لم يذكر قيمة الأجور التي تسلمها من الصحف الأمريكية لقاء نشر مقالاته فيها؟ ولكن الأمر الملفت للنظر، أن هذه التهم التي حبكها خصومه ضده.. لا تختلف في شيء من الأشياء عن التهم التي كان قد نسجها هو نفسه ضد كل من أساتذته في المهنة: علي أمين ومصطفى أمين..
لقد ثارت ثائرة هيكل بطبيعة الحال، إذ كتب عدة مقالات في جريدة الأهرام وكان لم يزل رئيسا لتحريرها، وطالب السادات أن يوقف توزيع مجلة الحوادث في مصر.. ولقد زادت الحوادث من تصعيدها للموقف خصوصا وان حدة الضجة الإعلامية ضد هيكل قد لها أبعادا جديدة بعد أن نشر مايلز كوبلاند كتابه الثاني الذي قدم أدلة جديدة.. فضلا عن أن مجلة الحوادث قامت بالكشف عن معلومات مضافة مستندة إلى مصادر سوفيتية.. إذ تقول تلك ” المعلومات ” أن نيكيتا خروتشوف رئيس مجلس السوفييت الأعلى اتهم محمد حسنين هيكل أثناء عقد أحد الاجتماعات في موسكو عام 1957 وكان في وفد يرأسه جمال عبد الناصر بأنه عميل لأجهزة المخابرات الأمريكية، إذ كانت السفارة الأمريكية تزوده بمعلومات ينتقد من خلالها الاتحاد السوفييتي، وأنه تلقى مبالغ من الأموال بشيكات إبان زيارته للولايات المتحدة الأمريكية..
وينقل سيار الجميل عن جمال الشلبي في أطروحته التي أعدها في جامعة باريس (السوربون) بفرنسا عام 1995، معتمدا على حوار شخصي مع هيكل أجراه معه بالإسكندرية عام :1995 “غير أن هيكل نفى هذه المعلومات وقال أن المال الذي تلقاه كان لقاء المقالات التي نشرها في نيويورك تايمز وواشنطن بوست حول حرب كوريا، لكن خروتشوف لم يقتنع بهذه التوضيحات مما اضطر هيكل إلي مغادرة الاتحاد السوفييتي في اليوم التالي”..
كما أن هيكل نفى التهمة عنه في أكثر من كتاب له مقدما حججه ضد أولئك الذين اتهموه، وخصوصا نيكيتا خروتشوف.. ولكنه لم يرد على مايلز كوبلاند وغيره من الخصوم المصريين الذين لم يكتفوا بمقالاتهم في الصحف المصرية ضده، بل وصل الأمر بأحدهم واسمه محمد جلال كشك أن يؤلف كتابا كاملا ضد التجربة الناصرية التي يتهمهما، مركزا على هيكل بشكل خاص وعنوان الكتاب: ” ثورة يوليو الأمريكية وعلاقة عبد الناصر مع المخابرات الأمريكية “). كما أن الصحف الرسمية المصرية إبان عهد السادات كانت توجه انتقاداتها واتهاماتها لهيكل.. ووصل الأمر إلى السادات نفسه الذي وصف هيكل دون أن يذكر أسمه علنا، بل قال بأن: (لهذا الصحفي موقف مختلف من السوفييت: فهو يطالب دائما بحوار مع الولايات المتحدة الأمريكية لأنه كان عميلا ذا علاقات منتظمة معها قبل عبد الناصر( الشلبي ص291- نقلا عن الأهرام 21 أبريل عام 1977) “”
***
يقول سيار الجميل أن سر عقدة هيكل أنه يتوهم أنه يكشف أسرارا لم يكشفها سواه ولم يكن يعرفها غيره، و أنه صانع تاريخ لا كاتبه فقط، و أن الزعماء العرب لا دراية لهم من دون أن يوجههم محمد حسنين هيكل! وانه مستودع أسرارهم وحركاتهم وسكناتهم، وهو يعرف مخادع نومهم وتفصيلات برامجهم ومناهـج بروتوكولاتهم، لقد توضح لنا الآن عند نهايات عمر محمد حسنين هيكل ورؤية نتاجاته، مما كتبه من الأسرار والمعلومات والأفكار والأخبار والآراء التي قالها وحكاها له زعماء عديدون لم ينشرها في حياتهم، إنما أبقاها- إن كانت صحيحة كما يدعي- كي ينشرها بعد وفاتهم واحدا بعد الآخر، ومنهم: جمال عبد الناصر ومحمد رضا بهلوي، شاه إيران أنور السادات والملك الحسين بن طلال والملك الحسن الثاني وغيرهم من الزعماء والمسؤولين العرب وغير العرب.. وهو الآن، ينتظر أجل أحد من الزعماء العرب في دولة عربية كبيرة أو أكثر من دولة كي يبدأ بنشر تفصيلات وأسرار سياساته، وطبيعة علاقاته.. ثم يكرس الصفحات الطوال لتدبيج لقاءاته به، وما حكاه إليه، وما ساقه عنه.. إلي آخره من البضاعة المعهودة .. ناهيكم عن دور هيكل في رسم طريق تلك الدولة فضلا عن دوره في الكشف عن أسرار زعيمها وعلاقاته وارتباطاته وزياراته! وعليه، لماذا تمكث المعلومة الخطيرة حسب ما يراه هيكل، طويلا في أرشيفه الخاص ولا يفكر بنشرها إلا حين يكون شهودها غائبين.
يضع هيكل نفسه باستمرار في مركزية الأشياء محاولا أن يضع الآخرين من حوله مهما بلغت قيمة ذلك الآخر؟ انه دوما يختارهم أو بالأحرى يلتقطهم من ذوي الكاريزمات التاريخية الباهرة.. وسرعان ما يضعهم جميعا في نقاط خلاف سياسية معه، بعد أن يجعلهم مهتمين به أشد الاهتمام وان لا عمل لديهم إلا السعي لملاقاته والتحدث إليه ساعات وساعات.. وانه يستجيب لذلك من خلال المهام الموكولة إليه، يدخل معهم في جدل مصورا إياهم كونه في مستواهم.. فيعطي لنفسه الحق في أن يجيبهم بحدة!! كما ويحرص على أن يشعر القراء أنه يعرفهم منذ زمن طويل وان ثمة ذكريات يحملها حتى عن مشتريات خاصة بهم من أحد أسواق القاهرة..
***
من أجل ذلك كله دقت أجراس الخطر داخل رأسي.. واشتعلت المصابيح الحمراء تنذر..
لماذا لم يبدأ هيكل – وكان أولي به أن يفعل- أن يبين لنا موقع الإسلام من منظومته الفكرية وموقعه في مشروع إنقاذ الأمة..
هل يعترف له بدور خارج نطاق المسلمين الفقراء؟..
بل كان عليه أن يقول لنا خاصة بعدما اتهمه الرئيس السادات و آخرون بالإلحاد، كان من حقنا عليه أن يقول لنا هل ما زال مسلما، فذلك هام لتقبل مشروعه أو لرفضه، و أعترف، أنا شخصيا، أنه مما قربه كثيرا إلى قلبي ذات يوم إجابته على سائل سأله: هل قرأت القرآن؟ فإذا به يجيب إجابة أذهلتني: تقول قرأته؟.. بل حفظته كله!!..
جزء مهم من مشروعه الفكري إذن أن يحدثنا عن منطلقاته ومرجعياته والأسس التي سنتحاسب في النهاية عليها.
لا أعتقد أنني مجبر على كثير من الاعتذارات لأنني أسأل الرجل عن دينه، فقد تفضل هو نفسه بإباحة هذا، وبإبراز أهميته في التأثير على الرأي العام وعلى رأس الحكم، وذلك عندما كتب في العديد من كتبه متهما الملكة نازلي بالخيانة الزوجية والعلاقات غير الشرعية والارتداد عن الإسلام.. واتهام ابنتيها باتهامات مماثلة.. هيكل إذن يهتم بدين الشخصية العامة لانعكاساتها السياسية.. إذن.. الحديث عن الشخصية العامة لا يعتبر السؤال عن الدين كفرا يُذهب إلى النار أو إرهابا يرسل إلى جوانتانامو.
دعنا الآن من باقي الاتهامات الجنسية التي لم يكتف هيكل بالرمز إليها بل ذكرها في تفصيل مقزز، كما ذكرت في مقالة سابقة ( من ذلك وعذرا للغثيان الذي سأسببه للقارئ كتابته عن أن الملك فاروق كان مصابا بالتهاب صديدي في اللثة، و أنه بسبب كراهيته لناريمان، كان يتعمد نقل العدوى إلى لثتها أثناء علاقتهما الخاصة.. وهو ما أقصده بأنه لا يمكنه إثبات ذلك ولو كان شريكهما في الفراش).. دعنا من ذلك، فالأهم هو المنهج الذي واجه به هذه الاتهامات، هل قدم الدليل؟ هل قدم الشهود؟ هل قدم الإقرار؟
بل من الأصل: هل يمكن إثبات أي من ذلك بصورة تستحق أي قدر من التقدير والاحترام..
ودعنا من الأدلة الشرعية الآن فالمسافة بعيدة بعد المشرقين..
والإجابة عن السؤال : لا.. عدا رواية يتيمه مصدر الثقة الوحيدة فيها عند هيكل أن كاتبها “خواجة”..
وهذه واحدة أخرى.. فلو أننا تناولنا ما كتبه مايلز كوبلاند .. الموظف الكبير في المخابرات المركزية الأمريكية، في كتابه الشهير: ” لعبة الأمم” والذي نفدت طبعته اللندنية الأولى في ثلاثة أيام.. لوجدنا أن اتهاماته لهيكل مستندة إلى أدلة وقرائن أقوى بمئات المرات من أدلة وقرائن هيكل حين يكتب التاريخ.
إذن..
مع كل احترامنا للأستاذ إلا أننا نقرر أن قرائنه ضعيفة و أدلته مشكوك فيها ورواياته بذلك يمكن أن تكون مطعونا عليها.
لكننا قبل أن نترك هذا الجزء نذكر عرضا تعليق صحافي عربي على ما كتبه هيكل عن التفاصيل الجنسية لحياة الأسرة المالكة بحجة أن ذلك كان له تأثيره البعيد على السياسة. يقول الصحافي العربي: ولماذا لم يتحدث هيكل عن الفضائح الجنسية التي كان المشير وحاشيته أبطالها، وتأثيرها على السياسة كان أفدح بكثير من تأثير والدة الملك وشقيقتيه.
***
كنت أود أن يبدأ هيكل حديثه عن أمة الإسلام ببيان موقفه من الإسلام..
لكن هيكل لا يريد أن يراه على الإطلاق..
لسبب جوهري..
أدركته فجاشت مشاعري..
ذلك أن هيكل ينظر إليه كبقايا جسم جريمة.. هو فاعلها..
وكالقاضي.. كان يجب أن يستشعر حرجا يجعله يتنحى عن نظر القضية.. أقصد عن إلقاء المحاضرات..
***
تذكرت الدكتور إسماعيل بطل رواية قنديل أم هاشم للأديب الشهير يحيى حقي، الذي ذهب إلى الغرب حيث حصل علمه وشهادته وفقد أخلاقه ودينه، وعاد ليصيب مريضته وحبيبته (يمكن أن نقرأها: شعبه و أمته) بالعمي، وعندما يندفع لتحطيم قنديل أم هاشم ( كرمز للإيمان) لا ينقذه من فتك الناس إلا شفاعة الحارس “الشيخ درديري” الذي يقول للجماهير: “اتركوه، إنني أعرفه هذا هو إسماعيل ابن الشيخ رجب من حتتنا، اتركوه، ألا ترون أنه مربوح :(ركبه عفريت) ..
تمنيت أن يقول هيكل في بداية الحلقات أنه آخر من يصلح للحديث فيها، ليس لأنه ” مربوح” ولكن لأنه يمثل ثقافة أخرى، و أن هذه الثقافة تجعله جزءا من الداء فكيف يصف الدواء.
تمنيت أن يدرك هيكل كما أدرك الدكتور إسماعيل أنه لم يستطع شفاء حبيبته إلا بعد أن استرد إيمانه..
***
محمد جلال كشك، موسوعة فذة، شد ما كرهته في البداية، كنت أكرهه بفعل ظاهرة الهولوكوست، التي جعلتني أنا نفسي لا أطيق من يأتي ليقلب جزءا مهما من أفكاري رأسا على عقب، أو بفعل ظاهرة مسيلمة، التي تجعل الباطل أعلى نفيرا، وكان من أسباب كراهيتي له إحساسي أنه يظلم محمد حسنين هيكل( وهذا منشور في بعض كتبي)، واستمر الحال على ذلك حتى اكتشفت مع كل قراءة جديدة، كم كان هذا الرجل صادقا.
ولقد ساعدني على الخطأ في الحكم على جلال كشك نزق ينتاب قلمه أحيانا يبتعد به عن الوقار.. لكنه لم يبتعد به عن الحقيقة ولا عن الصدق أبدا.. ومن ذلك كتابه في المسألة الجنسية.
***
يصرخ جلال كشك أنه ناقم على محمد حسنين هيكل ، الذي لم يقاض مؤلف ولا ناشر كتاب ” حبال على الرمال” حيث ذكر المؤلف أن هيكل قد جندته المخابرات الأمريكية منذ بداية الخمسينيات.
ورغم أن قضايا التعويض في الغرب يمكن أن تخلف ثروة، وعلى الرغم من سعة اتصالات هيكل في الخارج، فلم يفكر أبدا في رفع قضية.
نفس الموقف الذي اتخذه مع مايلز كوبلاند.
و على الرغم من ذلك، أصبح هيكل بطريقة ما، المتحدث الرسمي باسم الوطنية الناصرية والقومية العربية.
***
ولنأخذ هذه الفقرة الساخرة من حديث لجلال كشك، وبرغم نبرة السخرية العالية فيها إلا أنها تحتوى معلومات في غاية الأهمية والخطورة لا أتذكر أن هيكل قد أبرزها قبل ذلك بهذا الوضوح، إلا في الحلقة الثامنة على قناة الجزيرة، فعندما كانت الحرب على إسرائيل هي الدافع الرئيسي للثورة كان عبد الناصر بطل الحرب الأول، والآن ، مع الهزيمة والانهيار، وليس النكسة، عندما أصبحت المودة هي السلام، أصبح عبد الناصر رجل السلام، بل إنه خفض ميزانية الجيش في مصر في أول عام بعد الثورة بنسبة 15%.
والآن لنر كيف يصف محمد جلال كشك أحد المواقف بسخريته اللاذعة:
ننتقل الآن إلى السؤال الكبير.. ما موقف عبد الناصر من المواجهة المصرية- الإسرائيلية؟ هل حقا كانت هذه المواجهة- في تصوره- هي قضية الأمن القومي لمصر ومستقبل القومية العربية، ومن ثم تحتل قائمة الأولويات في استراتيجيته..؟ نحن نقول: لا.. بل ونضيف إن العكس تماما هو الذي حكم سلوك عبد الناصر في الفترة من 1952 إلى 1967.. ونحب أن نبدأ بناصري شديد الحماسة، بل لعله من أطهر الناصريين نفسا وأعفهم يدا ولسانا، وفي مقدمة الذين قيل فيهم: إن الطريق إلى جهنم مرصوف بذوي النوايا الحسنة” وهو أمين هويدي ” من ضباط عبد الناصر المقربين له- أو هو يعتقد ذلك- المؤمنين به، عمل في فترة الثورة العراقية في بغداد، ثم وزيرا للحربية كفترة انتقال ثم مديرا للمخابرات.
يهاجم أمين هويدي ” (السذج) و ” المغرضين، الذين يقيمون الأحداث الآن، قائلين: إن عبد الناصر كان عليه أن يترك فلسطين في ذمة التاريخ لنتفرغ لأحوالنا ومشاكلنا، وأنه كان عليه أن يقفل عليه حدوده، وبذلك يتفادى الصدام مع إسرائيل)..
ويواصل جلال كشك:
احترنا والله ما بين الهويدي أمين والأمين هيكل..
الأول يقول: إن الدعوة إلى التفرغ لمشاكل مصر وتفادي الصدام مع إسرائيل لا تصدر إلا عن السذج والمغرضين. والأمين هيكل الواصل للخزائن والوثائق يؤكد لنا: أن أول من طرح هذا الشعار في مصر بل في الوطن العرب هو الزعيم عبد الناصر الذي قال لـ: ر. ك (اختصار ريتشارد كروسمان) الذي بدوره قال لـ:ب. ج (إشارة إلى بن جوريون) وهذا وحده دليل أكيد على صحة الرواية!!
قال الزعيم أنه لا يشغل نفسه بإسرائيل ، وإنما يركز عل التنمية الداخلية في مصر وأنه لذلك خفض ميزانية القوات المسلحة بخمسة ملايين جنيه عن السنة الماضية “.
حتى أن بن جوريون هرش شعره المنكوش ” لما سمع ذلك ” وتمتم بصوت خفيض وهو يهز رأسه: هذه أنباء سيئة.. أنباء سيئة جدا.
ولا أظن أن هناك مجالا للشك بعد هذا الوصف الدقيق للطريقة التي تصرف بها ب. ج عند سماع الخبر.. فهو أولا كان منكوش الشعر كما وصفه شاهد عيان وأخبر هيكل، وهو ثانيا هرش شعره هذا المنكوش ولم يمسح عليه أو ينتفه تماما.. ثم “تمتم” .. لا “همس” ولا “صرخ”.. إنما “تمتم”.. وبصوت خفيض.. كل هذه الأدلة تجعلنا نصدق انزعاج بن جوريون لأن عبد الناصر غير مشغول بإسرائيل ويعمل على خفض قدرات مصر العسكرية! وهي حالة معروفة بين العشاق.. حتى أن أم كلثوم تشكوا حتى الجفا محروم منه.. ياريتها دامت أيامه ، والأغاني المصرية حافلة بمثل خليني ع البال يا خلي البال ” ولا شك أن بن جوريون كان يعاني من هذه الحالة التي للأسف هيكل هو المصدر الوحيد للإعلام عنها..
دعنا من الجزء الخاص برأس بن جوريون ومشاعره.. المهم أن عبد الناصر- وهذه واقعة مؤكدة يخفض الميزانية وبخطب الرئيس وبمسلكه- كان يرى عدم التحرش بإسرائيل، عدم الانشغال بها، والتركيز على مشاكلنا الداخلية.. فلماذا يهاجم (هويدي ” هذا الموقف وينسبه للسذج والمغرضين إلا إذا كان قد قرر الانضمام إلى (جوقة عدم الوفاء ” وتشويه سيرة الزعيم الخالد؟! أو لم يقل حمروش أنه بقبول مصر قوات الطوارئ لتكون حاجزا بينها وبين القوات الإسرائيلية حتى لا تتكرر الاشتباكات تحققت أفكار عبد الناصر وهي: ” ليس هناك محل للحرب مع سياستنا الإنشائية التي قررناها لتحسين مستوى الشعب “. وهو أيضا الذي جزم وقدم أدلة: مما يظهر أن عبد الناصر لم يكن ضد إسرائيل ولم يكن من دعاة تدميرها) خريف عبد الناصر ص 33.
على أية حال بعد سطر واحد اندفع أمين هويدي يثبت أن مصر لم تتحرش قط بإسرائيل.. وأنها فعلا كانت تود لو أن بينها وبين إسرائيل جبلا من نار فلا يصلون إليها ولا تصل إليهم.. إذ يقول: ا ولكن هل تحرشت مصر بإسرائيل حينما قامت بغارتها الوحشية في غزة وأتبعتها بغاراتها في مناطق عديدة بعد ذلك؟ هل تحرشت مصر بإسرائيل حينما انضمت الأخيرة إلى بريطانيا وفرنسا في العدوان الثلاثي.
***
تتحدث كلمة الغلاف على الطبعة الإنجليزية من ملفات السويس عن أن الأهمية الحقيقية لهذا الكتاب تكمن في أنه لأول مرة يمكننا من رصد أحداث معروفة في ضوء جديد تماما، فهي ليست مجرد كارثة نهاية إمبراطورية ولكن كفصل من العملية التي حاولت بها الولايات المتحدة استبدال الاستعمار القديم بنوع جديد من الهيمنة، وهي ليست مجرد حدث تطويه كتب التاريخ بل فصل في دراما تجري أحداثها.
إذن.. هذا اعتراف كامل بأن ثورة 23 يوليو كانت فصلا في تاريخ التحول الإمبراطوري الأمريكي.
وتتحدث كلمة الغلاف في كتاب ثورة يوليو الأمريكية فتقول: منذ 75 سنة نفذت المخابرات البريطانية ما أسمتها الثورة العربية! ومنذ أربعين سنة نفذت المخابرات الأمريكية ما أسموه ثورة يوليو الأولى أعطت نصف فلسطين لليهود والثانية مكنت اليهود من السيطرة على العالم العربي.
***
وفي جزء آخر، تصل فيه السخرية إلى آفاق غير مسبوقة، وهو يرفض رواية هيكل والتي يدعي فيها أن السفارة الأمريكية لم تعلم بالثورة إلا صباح يوم 23 يوليو، حيث تم إبلاغ السفارة الأمريكية بقيام الثورة، وطلب منها التدخل الأمريكي لمنع بريطانيا من التدخل العسكري.
ومن رأي جلال كشك أن أي ثورة محترمة في التاريخ لا يمكن أن تترك نقطة كهذه للصدفة، و إنما لابد أن تكون مخططة سلفا ومتفقا عليها، وليس في ذلك عيب، ولا عيب أيضا أن يتصل الضباط الأحرار بضباط المخابرات الأمريكية، قبل الثورة، العيب أن يستمر الاتصال بهؤلاء الضباط بعد الثورة وهو ما حدث، إذ كان يجب بعد نجاح الثورة أن تنتقل العلاقات من طور السرية مع ضباط المخابرات إلى طور العلنية مع السفير وموظفيه..
أقول أن جلال كشك يرفض تماما رواية هيكل عن كيفية إبلاغ السفارة الأمريكية بنجاح الانقلاب.. ويضع هذا التصور الهزلي الخيالي لما حدث:
لاشك أن اضطرابا شديدا قد وقع في صفوف الناصريين والمتاجرين بالناصرية والكائدين لمصر باسم الناصرية، عندما نشرت كتابي “(كلمتي للمغفلين) حيث طرحت فيه لأول مرة دراسة كاملة بالوثائق لطبيعة الانقلاب العسكري الذي نفذه جمال عبد الناصر ولم يكن- في بدايته على – الأقل- أكثر من واحد من عشرات الانقلابات العسكرية التي نفذتها المخابرات الأمريكية في شتى أنحاء العالم الثالث.. ولم يجرؤ ناصري واحد على أن ينقد حرفا في هذا الكتاب، ولكن لما نصب المولد، وجاء الحاوي الطروب وأحاطت به القردة، في ذكرى هزيمة سيناء الأولى، ومرة أخرى وجدوني أتصدى لهم ناقلا المناقشة من أعظم ثورات العرب التحررية، كما يخلعون على انقلاب ناصر الذي أفضى بالعرب إلى أحلك وأذل مرحلة في تاريخهم.. نقلت المناقشة إلى ” أمريكية الانقلاب، وهل كان عميلا.. أم مجرد متعطش للسلطة قبل أن يحقق هدفه بمساعدة المخابرات الأمريكية..
ولما كان نفي الاتصال بالأمريكان أو إنكار دعم الأمريكان للثورة مستحيلا بعدما قدمنا من أدلة ووثائق ومنطق، وبعدما نشر في العالم كله من حقائق، فقد دب الاضطراب في صفوفهم، وراحوا يحاولون إخفاء الدور الأمريكي في انقلاب يوليو بمحاولات وتصريحات وتفسيرات مضحكة إلى حد البكاء، وقد تغلبت غريزتي المسرحية (وأنا كاتب لمسرحية واحدة يتيمة) وأسلوبي الذي يقول البعض إنه ساخر، تغلب عليّ فكتبت على ظهر تصريح للسيد علي صبري، التعليق التالي، ورأيت أن أنشره ترويحا للنفس قبل أن نخوض في كآبة ما أنزلته بنا ثورة يوليو الأمريكية! .
فاقرءوا السطور التالية كنكتة..
أدلى ” علي صبري” بتصريح قال فيه إنه قابل عبد الناصر لأول مرة في حياته ليلة الثورة وطلب منه عبد الناصر في أول مقابلة: حاجة بسيطة خالص.. يخطف رجله للسفارة الأمريكية ويطلب منهم منع بريطانيا من التدخل ضد الثورة!..
واسمعوا القصة: وكان من الطبيعي أنه في ليلة 23 يوليو أن الرسالة التي يراد أن تبلغ إلى السفارة الأمريكية تبلغ من خلالي بحكم العلاقة الشخصية مع الملحق الجوي الأمريكي وقد اتصل بي البغدادي ليلة الثورة واستدعيت إلى القيادة وقابلت عبد الناصر وكانت هذه أول مقابلة، وأبلغني نص الرسالة الشفوية التي من المفروض أن أبلغها للملحق الجوي الأمريكي والرسالة بسيطة جدا فالجيش قد قام بحركته لتطهير القوات المسلحة من العناصر الفاسدة وليس للحركة أية أبعاد سياسية والشعب كله سيؤيدها لأنها ستتمشى مع مصالحه، والمطلوب أن تتدخل سفارة الولايات المتحدة لمنع أي تحرك للقوات البريطانية من منطقة القناة وقد ذهبت إلى الملحق الجوي الأمريكي وأبلغته الرسالة واتصل أمامي بالسفير الأمريكي في الإسكندرية لينقل إليه ما سمعه منى وفعلا وصلت الرسالة إلى السفارة البريطانية فيما بعد وكان ذلك من الأسباب التي أدت إلى عدم تدخل عسكري بريطاني في الأيام الأولى “.
وتفسير ذلك بالبلدي أن الملحق الجوى الأمريكي قاعد لا بيه ولا عليه بياكل همبرجر.. دق الباب..
– مين؟
– آنا علي صبري.
– أهلا علوة.!.. اتفضل همبرجر.. بيبسي!
– ألف هنا وشفا.. أصل أنا مستعجل..
– خير كفى الله الشر..
– لأ أنا قصدك في خدمة..
– تؤمر ياعلوة.!
– إحنا احتلينا القيادة العامة والإذاعة ومسكنا البلد.. لكن وحق العيش والهامبرجر.. ولا ينقلب على عيني عدس يا شيخ لا إحنا بتوع سياسة ولا لينا أهداف سياسية.. غيرشي كام ضابط عايزين نطهرهم!!
الملحق الجوى- أنا تحت أمرك عايز مطهرات من أمريكا؟!
علي صبري- لأ.. أبسط من كد… عايزين السفارة تشد تليفون للسفير البريطاني وقائد جيش الاحتلال البريطاني.. وتقول لهم حسك عينك تقربوا ناحية الجيش وحركة الجيش..
الملحق الجوي- غالي والطلب رخيص يا علي!.. والله ما تقوم إلا مبسوط هاتي التليفون يابت.
ألو- السفير كافري؟! حذر فزر مين هنا؟!.. لأ.. هيكل مشغول معاهم؟!.. علي صبري صاحبي اللي كنت بأسهر عنده… هو الحقيقة جاي قاصدني.. وأنا قلت بقى إنك مش حتكسفنا.. هو أصله قاصدنا ندى إنذار لبريطانيا العظمى حليفتنا رقم واحد في حلف الأطلنطي، والمسئولة رقم واحد عن مصر.. لأن هم عملوا حركة قصدها تطهير الجيش.. وأنا صدقته وقلبي انشرح له.
السفير الأمريكي- على ضمانتك؟ أوعوا يكونوا بتوع سياسة..
الملحق الجوي- أعوذ بالله.. دا وشه سمح ولا يمكن يكذب!
واتصل السفير الأمريكي على الفور بوزير الخارجية في واشنطن:
اتشيسون: خير الساعة كام دلوقتي.. فيه ايه؟. الملك عايز حاجة؟!
كافري: ملك مين؟ كل سنة وأنت طيب.. في واحد اسمه علي صبري.. طبعا ما تعرفوش ولا أنا أعرفه.. لكن هو بينه وبين الملحق الجوي بتاعنا عيش وملح.. الستات زي الأخوات.. وهو اتصل بالملحق الجوي علشان التطهير..
– تطهير ايه يا سفير الكلب!!.. تصحيني من النوم علشان عاوز شوية مبيدات..
– لأ اسم الله على مقامك.. دول مش عايزين حاجة غير إنذار صغير يرسل للندن الليلة علشان ما حدش يتدخل.
واتصل وزير الخارجية الأمريكي بالرئيس الأمريكي..
اتشيسون: صباح الخير يا ريس.
رئيس الولايات المتحدة: خير ايه وبتاع ايه الساعة كام؟!
وزير الخارجية: متأسف يا ريس.. إنما تعرف سفيرنا اللى في مصر؟ لأ. اسمه كافري.. عنده ملحق، والملحق مراته تعرف مرات واحد اسمه علي صبري.. لأ .. بالإس يا ريس!!..
أيوه طول بالك.. علي ده زار الملحق النهارده وطالبين إنذار لبريطانيا.. هم مش بتوع سياسة أبدا، ولا ليهم أهداف سياسية.. دا مجرد تطهير.
– طب ما يكلموا منظمة الصحة العالمية؟ ..
– لأ هم عندهم مستشفى المواساة وعندهم مطهراتية بس عاوزين تليفون منك لتشرشل تقول له إذا تدخلت بريطانيا الأسطول السادس حيضربها..
وقد كان واتصل ايزنهاور بتشرشل وشلت يد بريطانيا ولم تتدخل بفضل زائر الفجر علي صبري ووجهه السمح الذي كسب قلب الملحق الجوي!
***
يواصل جلال كشك جادا هذه المرة:
هل يليق هذا العبث؟.. ولماذا هذا اللف والدوران.. مادام عبد الناصر يخشى تدخل اَلْإِنْجِلِيز ضد الثورة، فهل يعقل أن ينتظر إلى أن تصبح أمرا وَاقِعَا، وماذا يحدث لو رفض الأمريكان.. تضيع البلد؟ أليست رواية جميع المصادر العاقلة أكثر منطقية.. وهي أن عَبْد الناصر الحريص على تأمين الثورة، اتصل قبل الثورة بالأمريكان شَارِحًا أهدافه، عَارِضَا التعاون، وعلي صبري نفسه يشهد حرفيا بالتقاء المصالح عندما قال: أعتقد أن الأمريكان قد وجدوا فِي الثورة فرصة، فهم بمساندتهم لها يستطيعون أن يقلصوا نفوذ اَلْإِنْجِلِيز وتحل أمريكا مكان الإنجليز، وكان هذا هَدَفًا استراتيجيا لأمريكا بعد الحرب العالمية الثانية، ومصر مفتاح الشرق الأوسط وَإِذَا استطاع اَلْأَمْرِيكَان أن يزعزعوا النفوذ اَلْبِرِيطَانِيّ في مصر وبالتالي المنطقة العربية، وَكَانَتْ هذه هي الأرضية اَلْمُشْترِكَة التي عمل عبد الناصر على اللعب بها فهناك تَنَاقُض بين الاستراتيجية الأمريكية والاستراتيجية البريطانية. وهذا لا يعنى أن تأييد الأمريكان للثورة كان تَأيَيَّدَا مُطْلَقًا ولكنه بهدف تثبيت أوضاع الثورة ثم الانطلاق منه إلى تقليص النفوذ اَلْبِرِيطَانِيّ تمهيداللسيطرة ” (حَرْفِيًّا حديث صحفي- نوفمبر 1986).
صدقنا وآمنا.. وقلنا كما قال النجاشي.. هذا وَالْإِنْجِيل مثل هذين! وسبحان من ضرب مَثَلًا ما جناح بعوضة..
• اَلْأَمْرِيكَان استراتيجيتهم هي إخراج بريطانيا من مصر.
• وجدوا في ثورة عد الناصر فرصة لتحقيق ذلك.
• عبد الناصر وجد أن هذه أرضية مشتركة، تمكنه من الحصول على الدعم الأمريكي لثورته.
• اَلْأَمريكان رأوا أن دعم هذه الثورة وتثبيتها يحقق لهم تصفية النفوذ البريطاني والسيطرة على مصر..
وكل امرأة طالق وكل رقبة حرة إن كنا قَدْ قلنا أكثر من ذلك، إلا أن اِسْتِرَاتِيجِيَّة أمريكية منذ الحرب العالمية الثانية، لا يمكن أن تنام عليها أمريكا حتى ينبهها علي صبري ليلة الثورة أو صباحيتها.. واستراتيجية خطيرة مثل هذه. لا يمكن أن يكتشفها عبد الناصر ليلة اَلثَّوْرَة، ولا يمكن أن يُؤَجَّل دَرَاسَتهَا وتجربتها ومحاولتها إلى أن يغامر بها مرة واحدة يوم الثورة..
لقد اتفق الطرفان على تنفيذ اَلثَّوْرَة، ولا يضير الناصريين اَلشُّرَفَاء أبدأ الاعتراف بهذه الحقيقة فهي لا تجعل من عبد اَلنَّاصِر عَمِيلَا، وإنما متآمرا.. وقد قلنا إن هذه المؤامرة ضمنت نجاح الانقلاب، ومنعت تدخل اَلْإِنْجِلِيز وحققت الكثير من النجاح، ولكن لأنها كانت مؤامرة ومع المخابرات الأمريكية فقد انقلبت بعد ذلك على اَلْمُتَآمِر ودمرت كل شيء ومكنت إسرائيل من إلحاق الهزيمة التاريخية بمصر والعرب..
فلا داعي للف والدوران وتغطية الرأس بكشف السوءة، الاتفاق اَلْاِسْتِرَاتِيجِيّ بين” انقلاب يوليو وَالْأَهْدَاف الاستعمارية اَلْأَمْرِيكِيَّة متفق عليه.. نحن نقول ” قبل ” وهم يقولون ” بعد”.. فأي الروايتين أكثر مَنْطِقًا وعقلانية؟!
***
ويذكر مايلز كوبلاند أن هيكل كان حلقة الوصل بين الضباط الأحرار وبين المسؤول السياسي في السفارة الأمريكية بالقاهرة وليام ليكلاند.
***
الغريب أن بعض الكتاب الذين يحترمون هيكل احتراما كبيرا، يصدقون في نفس الوقت ما ذكره مايلز كوبلاند.
فهمي هويدي على سبيل المثال، في مقالة بصحيفة الأهرام، كتب مشيدا بهيكل العظيم الذي عاد ليرسخ الثوابت، لكنه منذ أسابيع، وفي مقال بعنوان لا وقت للمماحكة يكتب عن :
“وقد تحدث الأمريكي «مايلز كوبلاند» في كتابه «لعبة الأمم» عن الدور الأمريكي في انقلاب حسني الزعيم بسوريا عام 1949، وانقلاب عبد الكريم قاسم في العراق عام 1958، وهناك انقلابات أخرى حدثت في الستينيات لم تكن الأصابع الأمريكية بعيدة عنها. في الوقت ذاته فان ظهور النفط في العالم العربي أضاف سبباً جديداً لمضاعفة دور قوى الهيمنة في المنطقة، وهي التي أدركت أن من يسيطر على منابع النفط يسيطر على العالم الصناعي بأسره. وهو ما لفت الانتباه إليه الأستاذ محمد حسنين هيكل أثناء غزو العراق حين قال أن المعركة ليست ضد العراق، ولكنه ميدان لضرب النار في التنافس على المستقبل بين الولايات المتحدة وأوروبا.”
الغريب حتى الدهشة، أن هويدي، أغفل تماما أن الموضوع الرئيسي لكتاب مايلز كوبلاند هو ثورة يوليو الأمريكية وتجنيد هيكل بواسطة المخابرات الأمريكية..
ولو أن هويدي لا يصدق كوبلاند فلماذا يستشهد به.. وإن كان يصدقه فلماذا يخفي الحقيقة.
***
لدينا شاهد آخر على صدق كوبلاند..
ففي حوار مع الدكتور مصطفى خليل رئيس الوزراء الأسبق في مصر، والوزير في عهد عبد الناصر يسأله أحمد منصور سؤالا فيجيبه:
د. مصطفى خليل:
دور الولايات المتحدة أعتقد إن المرجع فيه لكتاب لعبة الأمم ..
أحمد منصور:
ما يلز كوبلاند.
د. مصطفى خليل:
أيوه مايلز كوبلاند، والكتاب شائع.
أحمد منصور:
هل تعتقد إن اللي ذكره كوبلاند -وأنت كنت وزيراً ونائباً لرئيس الوزراء في عهد عبد الناصر- إن ما ذكره كوبلاند صحيح كله؟
د. مصطفى خليل:
أعتقد إنه قال: الحقيقة في جزء كبير من الكتاب بتاعه .
***
يقول سيار الجميل عن نفس الواقعة:
د. مصطفى خليل وهو شخصية مصرية سياسية معروفة تقلد عدة مناصب عليا في عهد عبد الناصر وعهد السادات، بأن كل ما كتبه مايلز كوبلاند في كتابه لعبة الأمم صحيحا ” شاهد على العصر ” ” قناة الجزيرة الفضائية، مساء يوم27-2-2000م
والحقيقة أنني أعاتب المؤلف هنا، فمقتضيات الأمانة والتجرد تقتضي أن نذكر الكلمات التي قالها مصطفي خليل حرفيا.. رغم أنه من الناحية العملية لا يكاد يوجد أي فارق.
***
ثمة رواية أخرى شاهدتها بنفسي في حوار تلفازي، وفات علىّ توثيقها، وسأكون ممتنا لمن شاهد البرنامج أن يوثقها لي.
والواقعة تتعلق بالدكتور عبد العزيز حجازي، وهو واحد من أقوى و أنظف و أكفأ رؤساء الوزارات في مصر ، قد أكد أنه بعد أن تولى الوزارة في أوائل عهد السادات، جاءه مايلز كوبلاند يعرض عليه أن يعمل لصالح المخابرات الأمريكية.
ما يلز كوبلاند ليس صعلوكا إذن ولا مبتزا، إنه واحد من كبار المسئولين في المخابرات الأمريكية وقد استمرت علاقته بكل الضباط الأحرار وهيكل ومصطفي أمين لفترة طويلة.
يقول إيفيلاند، وهو ضابط مخابرات أمريكي آخر، مؤيدا كوبلاند:
منذ أوائل الخمسينيات جند كيم روزفيلت ومحطة السي آي إيه في القاهرة ثلاثة من الصحفيين المصريين البارزين كعملاء للمخابرات الأمريكية هم محمد حسنين هيكل والأخوان أمين.. مصطفى وعلى.. و أن عبد الناصر كان يعرف ذلك .
***
ما زال التساؤل يطاردني : لماذا لم يحدد هيكل موقفه من الإسلام.. أو على الأقل دور الإسلام في الصراع..
هل نشهره؟..
هل نقتله؟؟
هل نخفيه كعوره؟؟!!
ولككني أقرأ في لعبة الأمم:
” وقد بذلت المخابرات الأمريكية كل جهودها في استبعاد الإسلام عن أي سلطة، فقد أشار مايلز كوبلاند عميل وكالة المخابرات المركزية الأمريكية، والذي أشرف على تنفيذ كثير من الانقلابات في العالم العربي، أشار في كتابه الشهير (لعبة الأمم) إلى أنهم قرروا أن يرفع جمال عبد الناصر في مصر شعار القومية العربية على الرغم من أن الشعار الإسلامي سيعطيه مساحة جماهيرية أكبر، ولكنهم خافوا من انتشار الإسلام، كما أرادوا أن تكون القومية العربية أداة لكبح جماح التيار الإسلامي المتنامي، فحصل المراد وتم ضرب ذلك التيار في مصر وكثير من الدول العربية ضربة كبيرة.”
***
لا يثق سيار الجميل بصدق روايات هيكل ولا بقوة توثيقه ويرى أن كتاباته كلها تهدف إلى هدف سياسي بغرض معين .. والغرض مرض تموت فيه الحقيقة.. يقول سيار:
دعونا نتوقف عن واحد من أبرز كتب محمد حسنين هيكل وأهمها.. عنوانه “سنوات الغليان ” في جزئه الأول الذي يتضمن حالة العرب وأوضاعهم، وخصوصا في المشرق العربي أبان عقدي الخمسينيات والستينيات، وقد عالج فيه صاحبه جملة من الموضوعات الساخنة التي عايشها عندما كان هو نفسه في قلب الأحداث على عهد الرئيس جمال عبد الناصر.. وقد آليت إلا أن أقف عندما أثارتني بعض النصوص التي أوردها هيكل، وكأنه كتب الكتاب على هواه دون أي مرجعيات ومصادر تاريخية ووثائقية.. (…)
في مقدمته، يسهب هيكل في الحديث عن نفسه، ولم يستطع- كعادته- إلا أن يضفي عليه هالة من النوع الذي عرفناه في بقية كتبه.. فهو يكتب في مقدمته: ” وأتذكر أن الرئيس الفرنسي فرانسوا ميتران دعاني يوما إلى غداء كنا على مائدته وحدنا في مطعم ليب بـ: سان جرمان، وناولني نسخة من كتابه السنبلة وحبة القمح وهو يحوي طرفا من مذكراته وخواطره.. ” (سنوات الغليان، ص 8) وراح يكتب عن حوار بينه وبين ميتران حول فلسفة الحرب والسلام، حتى يصل إلى أن يقول: “ثم آثرت أن أغير الموضوع وانتقل منه إلى غيره! ” (سنوات الغليان، ص 9).. نعم، إنه لوحده على مائدة فرانسوا ميتران، وأنه أهداه نسخة من كتابه، وأنه حاوره في الحرب والسلم.. ولما لم يعجب هيكل بما قاله ميتران آثر أن يغير الموضوع، وينتقل منه إلى غيره!
***
يقول جلال كشك في كتابه ثورة يوليو الأمريكية – دار الثقافة الجديدة ط 3 – :
” كانت التقاليد المصرية العريقة تقضى بدفن الجثة بعد أربعين يوما، ولك هاهي رمة تاريخية مر عليها أربعون عاما ويرفض البعض أن نواريها التراب أو أن يفتح ملفها السري ليعرف المصريون سر ما حاق بدولتهم وأمتهم. سر هذه المعجزة- الكارثة التي غيرت خريطة الشرق الأوسط- وحسمت الصراع العربي الإسرائيلي فيما يبدو، وكأنه الهزيمة الشاملة لمصر والعرب والانتصار الإسرائيلي الساحق في حجمه وسهولته.. ولابد أن نواجه الحقيقة.. إن كان ثمة أمل في خلاص لابد أن نقول إن عبد الناصر كان ضرورة لقيام إمبراطورية إسرائيل، ولم يحدث أن تحقق خلال سبع عشرة سنة أن انهارت دولة وتألق خصمها مثلما حدث في عهد عبد الناصر بين مصر وإسرائيل.
إن الصراع بين مصر و إسرائيل لم يكن أبدا مجرد غضبة لحقوق الشعب الفلسطيني، و إن دار فترة على أرض فلسطين، إنما المواجهة الرئيسية بين مصر و إسرائيل كانت حول الشرق الأوسط، (…) وقد استطاع انقلاب يوليو أن يمنع الشعب المصري من القيام بمهمته التاريخية، وهي التصدي للاستعمار الإسرائيلي.(…)..
والآن بعد أربعين سنة تبدو النتيجة شديدة الوضوح غير قابلة للمكابرة. إسرائيل أقوى دولة في الشرق الأوسط، ومصر تراجعت إلى الدرجة الرابعة بعد أن تفوقت عليها إسرائيل وتركيا وإيران. (…) إسرائيل في رعاية الولايات المتحدة وبفص صدام التي أسقطت التكليف عن دول الخليج، تتفاوض من أجل التطبيع مع العرب كلهم وبلا أي تنازل من جانبها، بل لاقتسام ثروة وماء العرب، وأخذ حصة الأسد في أسواقهم. وما كان يمكن أن يتحقق ذلك إلا بفضل ثورة يوليو وما أفرخت من ثعابين! (…)
***
يقول جلال كشك في مكان آخر من نفس الكتاب أن إسرائيل لم تكن تبحث عن دولة بل عن قاعدة لإمبراطورية.
***
إنني أرجو القارئ أن يلاحظ أن تعبير الإمبراطورية الإسرائيلية ، والذي لا بد روع معجبي هيكل، فاعتبروه دليلا على نفاذ بصره وسعة بصيرته، هذا التعبير بحذافيره استعمله جلال كشك قبل هيكل بعشرين عاما على الأقل، أما محتواه ومضمونه فقد كان معروفا منذ الفراعنة، وأنه، قبل قيام دولة إسرائيل، كان هناك من يقول – لعله الشيخ مصطفي صبري- أنه طوال ألف و أربعمائة عام فإن المنطقة الممتدة من الصين إلى المغرب قد تعودت أن تعيش بعاصمة مركزية واحدة، و أنه يخشى أن تكون هذه العاصمة – بعد انهيار دولة الخلافة – دولة يهودية.
ولقد أدرك كل المفكرين الإسلاميين هذه الحقيقة..
وكان منهم أولئك المفكرون الذي شارك هيكل في إعدامهم.. وعلى رأسهم الشهيدين سيد قطب وعبد القادر عودة.
الإمبراطورية الإسرائيلية التي تمتد خارج العالم العربي ليست إذن اكتشافا عبقريا مذهلا لهيكل، وليست حتى سرا، إنما حقيقة جاهد هو أن يطمسها نصف قرن حتى لم يعد إلى طمسها سبيل فعاد ليطرحها بصورة أخرى.
بل إن هيكل نفسه يعترف أن ثورة 23 يوليو نفسها كانت جزءا من هذا التصور والتطور، تطور الإمبراطورية الأمريكية وفي بؤبؤ العين منها إسرائيل وكان هذا شديد الوضوح منذ البداية، وليس الأمر وضوحه فقط، بل وتم الاتفاق عليه، فلماذا أجل هيكل اكتشافه خمسين عاما ليبدو لنا مزهوا باكتشافه ضائقا بغبائنا.
***
لقد حاولت كثيرا يا قراء أن أنقل لكم وجهة نظر جلال كشك كاملة، لكن وجهة نظره تستعصي على التلخيص. لذلك أنتهز فرصة قيام الجميل بعرض فصل من فصول ثورة يوليو لأستعين به. وقد أورده الكاتب كدليل ليس على عدم مصداقية هيكل فقط، بل على تعمده التزوير..
يقول الجميل:
التاريخ البلاستيك: وقفة عند اتهامات كشك لهيكل..
كان هذا هو عنوان الفصل الأول من كتاب محمد جلال كشك الذي خصصه في الهجوم الصارخ على محمد حسنين هيكل.. وخص الفصل الأول في نقد كتاب “ملفات السويس” في طبعتيه العربية والإنجليزية، علما بأن عنوان الطبعة الإنجليزية للكتاب هو: “السويس قطع ذيل الأسد: نظرة مصرية”. ويعد جلال كشك من أقسى المهاجمين الذين تعرضوا لهيكل ، فقد وصم كشك محمد حسنين هيكل بالكذب والتزوير والاستهتار والتهريج (المرجع نفسه، ص 37- 38)الكتاب بل ووصل في هجومه عليه ليصفه بالعمالة والخيانة والمأجورية والتجسس (المرجع نفسه، فصول الكتاب.
يقول الجميل أنه راجع بدقة مقارنات جلال كشك، و أنه يشهد بأنها كلها صحيحة..
ملحوظة: ولعل القارئ يذكر ما نشرته منذ شهور، عندما تعرضت لكون لإصلاح الزراعي هو فكرة أمريكية، ألح بها الرئيس الأمريكي روزفيلت على الملك فاروق منذ عام 1945. وساعدني صديقي الأستاذ محمد طاهر في كندا في العثور على نسخة من الطبعة الإنجليزية كي أتأكد بنفسي من تعمد هيكل للتدليس.. ولقد تأكدت!! انتهت الملحوظة.
نعود إلى سيار الجميل في قراءته لكتاب جلال كشك: ثورة يوليو الأمريكية:”
1. الطبعة العربية من كتاب ” ملفات السويس “- يقول كشك- ” هي التي سقطت منها وقائع وحقائق في غاية الأهمية، وأنها طالت بشقشقة اللسان والتهريج ببطولات كاذبة استحى هو أن يعرضها للقارئ الأجنبي، أو أخطر ناشرة الإنجليزي إلى حذفها تمسكا بشرف الكلمة، واحتراما لهذا القارئ الأجنبي.. الذي كان عند حسن ظنهما فاستقبل هذه الطبعة ببرود لم يجابه به أي كتاب لهيكل ذاته.
يكتب هيكل في الطبعة العربية من ملفات السويس عن مجموعة من الناشرين الإنجليز والفرنسيين والأمريكان والألمان واليابانيين يطالبونه بكتاب عن السويس.. وهذا ما كرره هيكل في مقدمة كتاب قصة السويس (بالعربية)، وسنراه يكرره في مقدمة كتاب حرب الخليج (بالعربية).. أما في الطبعة الإنجليزية، فلا نجد فيها هكذا كلام وادعاءات .. لماذا؟ إن ذلك ببساطة هو جزء من صناعة دعائية واضحة للمؤلف هيكل بنفسه عن نفسه لترويج نفسه عربيا.. وقد نجح كثيرا في مهمته هذه، إذ كان معظم القراء العرب وما زالوا يصدقون ما يكتبه هيكل وما يروجه عن نفسه بنفسه.
2. لقد سجل الناقد على هيكل بعد مقارنته بين الطبعتين من ” الكتاب مسألة تشويه هيكل لوثيقة روزفلت والتي أرسلها إلي الملك فاروق، إذ حذف من الطبعة العربية جملة خطيرة جدا تقول: ” واقترح الرئيس الأمريكي على ملك غير متجاوب، اقترح تقسيم الملكيات الكبيرة في مصر وتسليمها للفلاحين لزراعتها (وكلمة الفلاحين بالأحرف اللاتينية إذ ظهرت بشكل Fellahin) ( ) السويس: قطع ذيل الأسد وقارن ذلك مع الطبعة العربية التي حذفت منها الفقرة كاملة، لا لسبب إلا لأن القارئ العربي سيعلم بأن مشروع الإصلاح الزراعي هو أصلا مطلب أمريكي منذ 13 فبراير / شباط 1945، أي قبل ثورة يوليو المصرية بسبع سنوات!
3. تشويه هيكل قضية الأمة العربية في صراعها الاستراتيجي ضد الصهيونية، واعتباره في النسخة الإنجليزية ” قطع ذيل الأسد ” بأن إسرائيل خاضت حربا ضد بريطانيا وعملاء بريطانيا من الحكام العرب وان الإنجليز أرادوا الدخول المصري في حرب فلسطين لحرف أنظار المصريين عن النزاع معهم، وكان في وسع الإنجليز الاعتماد أبدا في الطبعة العربية الموسعة. أما هذا الكلام الذي كتبه هيكل، فما هو إلا تشويه متعمد لطبيعة الصراع المبدئي بين العرب والصهاينة.
4. وبصدد وحدة وادي النيل، نرى هيكل يقول في كتابه ” قطع ذيل الأسد ” (بالإنجليزية): ” مسألة السودان أو ما يسمى بوحدة وادي النيل لعبت دورا هاما في مفاوضات ما بعد الحرب، فقد كان مفهوما أنها قضية عزيزة على قلب الملك فاروق، الأمر الذي لا يستطيع أحد من وزرائه تجاهله. لكن عندما اختفت الملكية أصبح الطريق سالكا للسودان لكي يستقل عن كل من مصر وبريطانيا ” (قطع ذيل الأسد) إلا أن هذا الكلام ينافي الحقيقة التاريخية، فلقد صوت السودانيون بأغلبية ساحقة مع وحدة وادي النيل في أول انتخابات حرة تشهدها بلادهم. وأن أول خطاب أذاعه محمد نجيب بصوته كان موجها إلي : “إخواني أبناء وادي النيل “. وان البرلمان المصري على امتداد عهده شهد مشروعية وحدة وادي النيل (ثورة يوليو)..
5. ونشهد قراءة النص التالي في الطبعة الإنجليزية ” قطع ذيل الأسد ” والمفتقد من الطبعة العربية، إذ يقول: ” كان ناصر وصحبه يتطلعون بأمل للأمريكيين، لم يكن عالم اتصال مباشر سابق مع الأمريكيين ” (قطع ذيل..، ص 33). ونسأل أيضا: لماذا لم نجد هذه “المعلومة” فعلا في الطبعة العربية “ملفات السويس، وإذا لم يكن هناك ثمة اتصال مباشر سابق.. معنى ذلك أن هناك اتصال غير مباشر سابق! علما بأن هيكل نفسه كتب قبل عشر سنوات من نشره هذا الكلام، وبالذات في كتابه “قصة السويس “، أي في سنة 1976 كتب يقول: لم يكن هناك اتصال بين الثورة (1952) والولايات المتحدة قبل ليلة 23 يوليو ” (قصة السويس، ص 68). في حين يغير النص في طبعة سنة 1986 المزيدة والمنقحة، ليقول: لم يكن لهم اتصال مباشر مع الأمريكيين (قطع ذيل الأسد، ص 33).
6. عندما يتحدث انتوني ايدن وزير خارجية بريطانيا عن ذكرياته مع الملك فاروق وباشوات مصر.. فان هيكل يخفي النص كاملا في الطبعة العربية ” ملفات السويس “، في حين ينشره كاملا في الطبعة الإنجليزية “قطع ذيل الأسد “، لماذا؟ لأن نص كلام إيدن يمتلأ بالكراهية للملك والاستصغار بمصطفى النحاس وتحذير ساسة مصر القدماء. إذ يقول انتوني ايدن بحكم معرفته بحكام مصر السابقين من طراز فاروق والنحاس، فان الثورة لم تفاجئه، وأنه طالما حذر السياسيين القدامى من اللعب بالنار بإثارة مشاعر الجماهير بالدعاية ، وكان واضحا أن هذا تحذير موجه للجدد أيضا ” (قطع ذيل..، ص 64).
7. في الطبعة العربية، يكتب هيكل بأن الولايات المتحدة هي المتبنية لحلف بغداد، وكانت مصممة على ضم مصر إليه، ولكن بسبب مقاومة مصر قررت عزلها فترة حتى “تستبعد مصر وتأثيرها عن الموضوع كله حتى يستقر رأيها على ما سوف تفعله، وسوف تجد نفسها (أي: مصر في النهاية مرغمة على اللحاق بالآخرين، وإلا وجدت نفسها معزولة” (ملفات السويس، ص 360). أما في الطبعة الإنجليزية، فلقد أقتصر هيكل على أن يقول: ” أكد الأمريكيون لعبد الناصر أنه لا نية لديهم في الانضمام لحلف بغداد ” (قطع ذيل الأسد، ص71).
8. ثمة انتقادات ومقارنات وتعليقات وملاحظات دقيقة أخرى سيجدها القارئ في الفصل الأول الموسوم: التاريخ البلاستيك وهيكل في كتاب ” ثورة يوليو.. ” لمحمد جلال كشك، وجميعها صحيحة بعد مطابقة الطبعات العربية من “ملفات السويس ” بالطبعة الإنجليزية من ” قطع ذيل الأسد “
ويستطرد سيار الجميل:
وبرغم الأسلوب السياسي الذي هاجم فيه محمد جلال كشك عدوه اللدود محمد حسنين هيكل، واختلافي مع اللغة التي استخدمها كشك في هجومه على هيكل، في استخدام الأسلوب السياسي ضده، إلا أن في كتاب ” ثورة يوليو الأمريكية.. ” إدانات “واضحة ومقارنات صحيحة لا حصر لها في المعلومات التي سجلها المؤلف على كتب هيكل، وان كشك قد وثق جملة كبيرة من مقارناته التي سيستخدمها الباحثون في نقد هيكل بمتابعاتهم عنه مستقبلا.. علما بأن هيكل لم يرد حتى يومنا هذا على اتهامات كشك وغيره ، وهذا ما يضعف من كتابات الرجل، خصوصا وان الاتهامات لم تكن قليلة، فلقد بلغت عدد صفحات كتاب كشك (645) صفحة. ومن يقرأ كتاب محمد جلال كشك سيقف جائرا جدا ليست إزاء رجل اسمه محمد حسنين هيكل، بل إزاء جملة من الأسرار التاريخية في حياة العرب إبان النصف الثاني من القرن العشرين.. والتي اعتقد أن ألغازها ستحلها الأجيال العربية القادمة في القرن الحادي والعشرين.
***
قلت لكم يا قراء ذات مرة أن المرض يصيبني كلما قرأت جلال كشك .. لا بسبب فداحة ما فيه.. ولكن بسبب آخر مضاف.. إذ كيف لم نكتشف الحقيقة مع وضوح الأدلة..
كيف لم نفهم بالدرجة الكافية موقف هيكل وانتصاره للصليبي الجاسوس لويس عوض على العلامة محمود شاكر..
و أنه جعل من الأهرام – وما زال- وكرا للملحدين حراما على المسلمين..
كيف التمسنا له المعاذير..
أذكر مرة منذ أعوام كان يتحدث عن عظمة سلامة موسى الذي لم تعطه الصحافة في مصر حقه..
ولو أنني أدركت ذلك في الوقت المناسب لوفرت على نفسي عشرين عاما ضبابية هاربة خلف ادعاء الموضوعية..
سلامة موسى لم يأخذ حقه..
وهيكل هو الذي يقول ذلك..!!
سلامة موسى.. أحقر من كتب في مصر في القرن العشرين و أكثر من اجترأ على الإسلام ..
عدو العروبة والإسلام.. عميل من أخطر عملاء الغزو الفكري.. أرادوه أن يمثل دورا بعينه.. أن يحمل معول الهدم، ليدمر تراثنا العربي، وعقيدتنا الإسلامية.
إن هناك مئات المصادر تكشف سلامة موسى وتفضحه، من أهمها رسالة للماجستير للكاتبة شروق محمد، لكنني أكتفي هنا باستعراض جلال كشك لفضائح موسى ومخازيه:
أرادوه أن يكون هو الأداة التي يحركها المستشرقون والمبشرون والخواجات.. فهو على الأقل يحمل اسما مصريا.. وان يكن فجوره وتوقحه وأغراقه في عداوة وطنه قد جعل شيخ العملاء ” يعقوب صروف ” يتشكك في مصريته ويصر على أن به عرقا غير مصري. وما كان غيره يقبل هذا الدور.. التقطوه من على مقاهي الإسكندرية، بلا مؤهلات، فشل في تعلم القراءة والكتابة حتى سن الحادية عشرة.. رغم تردده على مدارس الأقباط والمسلمين.. وعجز عن مواصلة الدراسة إلى أبعد من الشهادة الابتدائية.. وأرسلوه إلى أوروبا ليدرب ويعد للمهمة التي اختاروه لها. في لحظة حاسمة من تاريخ أمتنا.. ومصطفى كامل يمزق حجب اليأس، وينفث في الأمة روح الأمل. يحاول أن ينسيها مرارة هزيمة الثورة العرابية.. ويدفع في عروقها بحرارة اليقين، بقوتها، وقدرتها على هزيمة المحتلين.
أخذوه ودربوه.. ليعود فيبشر فينا بأننا جزء منهار من كل، والكل حكم عليه بالفناء والموت.. وأن الغرب هو القوة المسيطرة.. وهو المنتصر.. جاء يبشرنا بأن الدين رجعية، وأفكار بالية و مناقض للعلم.. و أن العروبة بداوة وجهل وخرافة.. وأن اللغة العربية هي أبشع لغات العالم، وأحراها بالزوال العاجل.. وكانت أصول اللعبة تقضي أن يحمل معول الهدم من له اسم مصري..
لأن خبرة الصيادين تعرف أن الفيلة لا يقودها إلي سجن الصياد الماكر، إلا فيل عميل أتقن تدريبه، ليتسلل بين القطيع، فيألفه القطيع لأن جلده مثل جلدهم .. ويسمعون له، لأن صوته يشبه صوتهم، فينقل من حقد قلبه المأجور، ما لقن من لفظ مسموم حتى يغرر بهم ويسوقهم إلي حظيرة الصائد، الذي ينتزع أنيابهم ليصنع منها منافض لسجائره ومقابض لعصيه وكرات يلعب بها، ويحيلها، من شموس سيدة الغابة، إلى مهرجة في السيرك و مطية لأطفاله العابثين.
وقد فهم سلامة موسى دوره هذا، فنراه في الوثيقة التي كتبها إلي وكيل وزارة الداخلية في حكومة محمد محمود يعرض خدماته بأن يتولى هو إحداث انشقاق في الأقباط الملتفين حول الوفد ليقودهم لتأييد المعاهدة مع بريطانيا.. ويقول بالحرف الواحد وبخط يده ” قد كنت منذ أشهر طلبت الترخيص لي بإصدار جريدة يومية باسم ” الدينا ” لكي أخدم الحكومة في الدعوة لها بين الأقباط؟…..
عاش عدوا للعروبة والإسلام مبشرا بالحضارة الغربية والنفوذ الغربي ومات.. ولم يسر في جنازته من أهل الكتابة إلا تسعه وكان أحرى بنا أن نهيل عليه الترب وننساه.. لولا إلحاح البعض على العبث بجيفته.. في محاولة يائسة لصنع قديس من بقاياه.. وكل من درس أساطير القديسين والأشباح والعفاريت، يعرف أن ما قاله العفريت أو فعله لا يساوي شيئا بجانب ما تضفيه الأسطورة عليه وما تحكيه عنه.. ونفس الشيء هو ما يجري الآن حول ” سلامه موسى ” على أمل أن يعبد يوما، ما دام أجدادنا قد عبدوا القطط والبقر والكلاب والقردة والتماسيح والخنافس.. ولكي يعبد سلامه موسى.. يجب ابن يكفر الجيل الجديد بكل تراثه.. ولابد أن يشدو كبار القوم – مثل هيكل- بأفضاله ومديحه.. ولابد أن تعرض مجلة الطليعة ” في دراستها بكل كتابنا ” فاغلب المفكرين عندنا كانوا نقلة، أو أدباء يدورون حول حقائق جزئية وترجع أهمية سلامه موسى إلى أنه المفكر الذي حاول أن يعطينا هده النظرة الشاملة “.. نظرة شاملة.. وهو أكبر ناقل.. بل ليس في كل كتاباته إلا النقل.. قولوا لنا فكرة واحدة بخلاف الجهل والخطأ في الترجمة والفهم.ما هي أفكاره؟.. وما الذي أضافه؟. ما الذي بقى منه .. ما الذي عدله قبل موته وما الذي أنكره وما الذي أصر عليه؟.. نسمع كلا مضحكا.. انه أول من دعا إلى تحديد النسل؟.. ولم يزد دوره عن الترويج لما لا يؤمن به لأن زوجته هو أنجبت ثمانية..
أول ما يذكر من صباه.. انهم أخرجوه للدنيا في ثياب فتاة، وخرقوا أذنه، ووضعوا فيها حلقا، حتى استحال على ” الرائي المدقق أن يكتشف إذا ما كان أنثى أو ذكرا ” (1). فنشأ معقدا جنسيا مدمنا على العادة السرية ” إن العناء والعذاب اللذين كان يلقاهما في المدرسة الثانوية أوقعاه في تلك العربدة الجنسية الذاتية التي انغمس فيها للترفيه عن نفسه، وأفضت به العادة السرية إلي العجز الجنسي.. فعندما سافر إلي أوروبا عجز عن معاشرة الفتيات ” فقد أذهل سحر بدنها الأسطوري رجولته “تعالوا نقرأ ماذا كتب سلامة موسى للبوليس السياسي.. لوزارة الداخلية.. وكيف فضحوه ونشروا صورة تقريره بخط يده.. ففي يوم الجمعة 24 أبريل 1931خرج العدد 341 من مجلة المصور يحمل هذه العناوين داخل برواز اسود بخط يده..
وثائق فاضحة تبين من هو سلامه موسى
نود أن نعتذرإلي قرائنا لأننا شغلنا صفحة كاملة في الكلام عن سلامة موسى.. ولكننا لم نبح لأنفسنا ذلك إلا بعد أن اقتنعنا أن الكشف عن أمره وعن الأغراض الخفية التي يرمي إليها أصبح فرضا يجب علينا تأديته من قبيل محاربتنا للآفات الخلقية والأمراض الاجتماعية.
وقد وفقنا إلي العثور على وثائق تفضح سلامه موسى فضحا ليس بعده ستر.. وهذه الوثائق مكتوبة بخط يده.. (ووضعت المجلة خطا تحدت عبارة (خط يده)) ثم تقول:
ونبدأ اليوم بفقرة واحدة ممهورة بإمضائه وهي من خطاب أرسله
سلامه موسى . النزيه العفيف الأمين إلى موظف كبير بوزارة صاحب الدولة محمد محمود باشا في 22 أغسطس سنة 1929 أي قبل أن يفصل من دار الهلال (إذ فصل في أول أكتوبر من السنة نفسها.
اقرأ.. ثم اقرأ.. وتأمل.. ثم تأمل .
بخط اليد:
فأنا أكتب هذا لسعادتكم وإدارة الهلال تهيئ عددا خاصا من المصور ” لسعد زغلول.. استكتبت فيه عباس العقاد وغيره من كتاب الوفد.. ومثل هذا العمل يتفق مع التجارة ولكنه لا يتفق مع الدعوة للحكومة الحاضرة ومشروع المعاهدة لأن الإكبار من ذكرى سعد وتخصيص عدد له هو في الحقيقة إكبار من شأن الوفد ودعوة إليه.. والمصور يرخص له بالصدور أسبوعيا مرة واحدة وليس مرتين.. فأنا أكرر لسيادتكم أني مستعد للدعوة للمساعدة.. فهل لي أن أنتظر معاونتكم… سلامه موسى ..
***
هذا هو سلامة موسى الذي قال فيه هيكل كلمة لم يقلها في محمود شاكر ولا سيد قطب ولا مصطفى صادق الرافعي!!..
هذا هو سلامة موسى الذي قضى نصف عمره يدافع بجهل ويكتب متعبدا في دارون ونظرية التطور..
هذا هو سلامة موسى ومن المؤكد أن هيكل يعجب فيه بما يوافقه عليه..
فترى ماذا..
التخلص من الإسلام تماما؟..
إلغاء الهوية..
الكتابة بالعامية وإلغاء الفصحى وتغيير الحروف إلى اللاتينية..
أم الطلاق البائن مع العرب والالتحاق كخدم بالغرب.
***
الدكتور الغتيت يقتل هيكل(2من 2)
د محمد عباس
mohamadab@hotmail.com
كان ذلك هو سلامة موسى الذي قال فيه هيكل كلمة لم يقلها في محمود شاكر ولا سيد قطب ولا مصطفى صادق الرافعي!!..
سلامة موسى الذي قضى نصف عمره يدافع بجهل ويكتب متعبدا في دارون ونظرية التطور..
هذا هو سلامة موسى ومن المؤكد أن هيكل يعجب فيه بما يوافقه عليه..
فترى ماذا..
التخلص من الإسلام تماما؟..
إلغاء الهوية..
الكتابة بالعامية وإلغاء الفصحى وتغيير الحروف إلى اللاتينية..
أم الطلاق البائن مع العرب والالتحاق كخدم بالغرب.
طوال الحلقات الماضية كنت أتابع في سأم وأسى متسائلا متى سيعترف بالأخطاء ويعتذر..
و أرجو ألا يجول بخاطر القارئ أننا ابتعدنا عما كنا فيه.. فهيكل شخصية مراوغة .. من الصعب جدا أن تمسك به.. لذلك فإنني أحاول الإمساك به بطرق غير مباشرة.. ومنها تعقب خلانه.. فالمرء على دين خليله، و أحد هؤلاء الخلان شخص آخر.. ليس حقيرا كسلامة موسي.. بل هو عروبي وقومي.. هو ناصر النشاشيبي..
كنت أتابع على قناة الجزيرة في سأم متسائلا : متى سيبكي ويصرخ طالبا المغفرة من الله والعفو من الناس..
و كنت أراقب في ملل متبرما : هل سيجيب على رسالة ناصر الدين النشاشيبي الدامية التي لم يجب عليها أبدا..
و ناصر الدين النشاشيبي صحافي فلسطيني و مؤرخ ودبلوماسي شغل عديدا من المراكز الصحافية العليا في مصر في الستينيات .. وقد كتب في رسالة تمزق القلب وجهها إلى هيكل.. رسالة تكشف كثيرا من الأمور.. رسالة أظن أن كل متابع للأستاذ على قناة الجزيرة يريد أن يوجهها إليه..
والآن.. إلى مقتطفات من رسالة النشاشيبي..
” ليس بالخبز- ولا بالقلم- وحده يحيا الإنسان، وقد عاش هيكل بالقلم وغير القلم. . معا. . وكانت حظوته لدى عبد الناصر لا تعرف الحدود، ولا القيود، ولا التقاليد، ولا المسافات ! وكان اقرب إلى عبد الناصر من أفراد أسرته وكان المؤتمن الوحيد على كل أسراره وعلى كل “قراراته ” !
نعم “كل قراراته” ! أكرر : ” كل قراراته” !
ومن بين هذه ” القرارات ” قرار دخول حرب حزيران “يونيو” 1967 ضد ” إسرائيل ” مع ضياع القدس والضفة، وسيناء، والجولان.
هيكل الصديق العزيز الصحافي المتميز كان على علم تام بكل الظروف والأحوال والملابسات والأسرار المحيطة بأحداث شهر حزيران (يونيو) 1967 التي أطلق عليها هيكل كلمة”النكسة” كلها، من أولها إلى آخرها، بمقدماتها، بفصولها، بالخلافات مع الأردن والسعودية، بالأخطاء القاتلة في الحسابات، كلها، بلا زيادة ولا نقصان ولا حذف ! كلها بما فيها أسرار الحشود المصرية، وقرار إغلاق المضايق، وخلاف عبد الناصر مع عبد الحكيم عامر- وفضائح عبد الحكيم يوم ذاك- مع الممثلة برلنتي عبد الحميد، وموقف المسيو يوثانت، واختلاف وجهات النظر بين قيادة الجيش المصري والرئيس عبد الناصر !
كلها ! . . كلها ! . . بكل أهوالها وأخطارها وفصولها !
يهمني أن اقف لحظة واحدة فقط لكي أسال صديقي وزميلي هيكل عن اَلْمَسْئُول الحقيقي عن ضياع بلدي، وأعني : القدس الغالية ! وأعني التاريخ والمقدسات. وأعني أحلى المدن وأم الأنبياء.
– ترى، من الذي قرر ومن الذي نصح ومن الذي رفض؟
– من الذي تصور شيئا ثم جاعت الأحداث لتنسف تصوراته؟
– ومن هو المستشار اَلْأَوَّل والأكبر والأوحد، لأكبر وأشهر واهم رئيس عربي في غمرة اخطر فترة من تاريخ العرب الحديث المعاصر؟
– من؟
من زاوية انتمائي لمقدسي وهويتي الفلسطينية، ولوني القومي العربي، أجد أن من حقي أن أتلوى ألما، وأتحرق غيظا وكمدا، بانتظار أن يصلني من زميلي وصديقي محمد حسنين هيكل، مستشار عبد الناصر، أي اَلْمَسْئُول الأول والأكبر عن هزيمة 1967، ما يجيب عن أسئلتي ويرد على الكلمتين الاثنتين اللتين تحجرتا كالصخر فوق لساني منذ 1967 حتى اليوم، وهما :
– من اَلْمَسْئُول؟ ! من اَلْمَسْئُول؟ !
يا صديقي هيكل من اَلْمَسْئُول؟ من؟ من؟ !
– هل تسمعني؟ !
– هيكل ! هل تسمعني؟ !
إذ ليس مهما أن نبرر النكسات، أو نفسر النكبات، أو نفلسف الهزائم والضربات ! أو نلقي الخطب والمحاضرات !
المهم هو ان نعرف من كان أكثر الناس أثرا وتأثيرا على جمال عبد الناصر؟ ..
من كان اضخم المستشارين نفوذا لدى عبد الناصر؟..
ومن كان الرقم اَلْأَوَّل في التمتع بأوفر ثقة وأوفر المحبة لديه؟ ومن كان يستهين بالمواقف، ويهزأ بالإنذارات، ويضحك من التهديدات لكي يبقى على مكانه لدى جمال عبد الناصر؟ من الذي كان يؤكد لكل الناس بان إسرائيل لن تحارب ولن تكون صاحبة الضربة الأولى ضد مصر أو سوريا أو الأردن، وأن العملية مجرد لعبة “بوكر” سلاحها قوة الأعصاب لا قوة الحرب، ولا قوة السلاح !
من الذي كان يستهين بالمواقف الحرجة القاتلة ويؤكد أن إسرائيل- إذا قامت بالحرب- فإنها إنما تقوم بحفر قبرها بيدها؟ !
من الذي كان يردد كلام فلان وفلان بان لقاء العرب القريب قد أضحى في قلب. . تل أبيب !
إنني أتلفت اليوم حولي- يا زميلي العزيز- فلا أرى إلا يهودا !
وابحث عن القدس فلا أجدها !
وابحث عن عشرة آلاف مقال وحديث ومحاضرة وكتاب لي وكلها عن القدس وفلسطين والقضية فلا اعثر لها عن اثر ولا أجد لها أي صدى !
لقد سقط الكل ! ضاع الجميع ! ومازال هيكل يكتب، ومازال هيكل يخطب، ومازال هيكل يفلسف الأحداث، وما زال هيكل يعدنا بالغد الوردي !
ومرة أخري :
– يا أخي ويا عزيزي ويا رفيق العمر الصحفي ! لقد ضاعت بلدي. . في عهدكم وعلى يديكم ! فمن هو اَلْمَسْئُول؟ !
من؟ من؟ من؟
كنت أنت، أنت المقرب اَلْأَوْحَد إلى عبد الناصر، وكنت أنت، أنت المؤتمن اَلْأَوْحَد على كل أسراره وعلى كل قراراته. . قبل التنفيذ وبعد التنفيذ !
وكنت أنت اقرب إليه من أفراد عائلته، وكانت خطواتك لديه لا تعرف الحدود ولا القيود ولا التقاليد ولا مراسم الرؤساء !
وكنت أنت، أنت المستشار اَلْأَوَّل والأوحد والأكبر لكل نبضة فكر في عقله وتفكيره. .
فمن أضاع بلدي في غمرة قرار مرتجل أمر بإغلاق المضائق وطلب سحب القوات الدولية، وجرنا إلى الكارثة ا لأعظم في تاريخ العرب والإسلام؟
من؟ من أضاع بلدي. .
من يا هيكل؟
أنا شخصيا انعم على الدوام بذكريات صداقتي مع اشرف رجالات مصر القدامى- قبل ثورة 23 يوليو- من أمثال عبد الرحمن عزام، وصالح حرب، وعزيز المصري، وفؤاد اباظة، والشيخ البنا واردد وعلى رؤوس الأشهاد أن مصر هي البطل الحقيقي لمعركة “عين جالوت “، وان مصر هي التي أوقفت زحف التتار، وان مصر هي التي أنقذت المغرب العربي من مصير بغداد وحلب، وان الغزو الصليبي ما كان بالإمكان تصفيته لولا الشجاعة المصرية، وان صلاح الدين حارب وانتصر بعسكر مصر، وقطز، وبيبرس، وا لناصر قلاوون. . .
لا ! لن أقول ما يردده أعداء مصر عن حرب يونيو 67 من أن الحشيش ضمن نصف النصر في هذه الحرب لإسرائيل، والنصف الثاني تكفلت به شلة عبد الحكيم عامر. . . ! او ان الجيش المصري قد القى السلاح قبل بدء القتال ! هذا كلام هراء !
مصر حاربت بشرف. وهزمت بشرف. ولكني أسال :
– من اَلْمَسْئُول عن الحرب قبل المسئولية عن الهزيمة؟ من يا هيكل؟
حسنا أن نلوم أنور السادات على الانحراف المعيب في عملية “السلام “، ولكن الأحسن أن نعرف من يستحق اللوم في انحرافه بل وفي هزيمته في ساحة ” ا لحرب “!
إن في انحراف المستسلمين، ما يبرر لهم سلامهم واستسلامهم بعد استسلام المحاربين !
ان أنور السادات لم يأت من فراغ، وإنما جاء من هزيمة عسكرية دامية كان بطلها- يا هيكل- من تعرف أنت، واعرف أنا.
أقولها، وكلي دمع ودم وألم وزفرات لا تسامح، ولا تنسى !
. . . ولا تغفر !
***
أعترف للقارئ، أن علاقتي الفكرية بهيكل، قد مرت بمنعطف حاسم يوم أمس( الخميس 3 سبتمبر).. ذلك أنه وهو يتحدث عن السودان تخيلت أن السفير الأمريكي هو الذي يتحدث كي يكرس مؤامراته ويبرر تفكيك السودان..
كان ما يقوله باطلا..
وبلا مستندات..
وبلا مراجع.. إلا لطفي السيد.. وهذا هو المصيبة التي سنعود إليها بعد قليل.
لقد تدني هيكل إلى مستوى لم يكن يليق إلا بفكر أناس من فصيلة عبد المحسن أبو النور وحسين عرفة و أحمد أنور وأمين شاكر والطحاوي والصاوي ومجدي حسنين.. مستوى الهروب من الاعتراف بالخطأ بل بالجريمة في موقف انفصال مصر عن السودان.. السودان الذي كان أحد الأسباب التي دفعت المخابرات الأمريكية لمساعدة الضباط الأحرار.. كان اللقب الرسمي لفاروق ملك مصر والسودان.. ولم تكن ثمة حكومة سواء كان الوفد أو سواه ..تجرؤ على الموافقة على فصل السودان.. وقامت الثورة.. وتم إعلان الجمهورية.. وكان من ضمن الأسباب.. أن تكون جمهورية مصر دون السودان.. كان الحكم العسكري الباطش الغبي قد دفع أربعة آلاف جنيه ثمن مظاهرات طعيمة والطحاوي التي غيرت مستقبل مصر وقضت على الإخوان ومحمد نجيب. جمال عبد الناصر الذي قال بالحرف أنه لم يعد يأبه كثيرا بالشعب بعد أن عرف ثمنه.. جمال عبد الناصر هذا الذي انتصر بأربعة آلاف جنيه.. كان واثقا أنه سيشترى السودان بنصف مليون جنيه, وهو المبلغ الذي وزعه صلاح سالم.. لكن السحر انقلب على الساحر، لأن ما انتصر في مصر، لم يكن الأربعة آلاف جنيه، بل مكر السوء والخداع والخسة والقتل والتعذيب ومحاكم الشيطان النجسة وصحافة مدنسة شهرت بالباطل بخيار الناس عندما قامت الدبابات بلإطلاق العنان لأخس مافي الناس من صفات و أكثرها شرا.. حتى أن الضباط الأحرار حين رفضوا أن يعودوا إلى ثكناتهم استجابة لرغبة الأمة.. لم يرفضوا ذلك رغبة في السلطة بل خوفا من أن يتهموا ويحاكموا كمجرمين .. ثم يأتي هيكل.. بعد خمسين عاما.. لا ليعتذر ولا ليذرف دموع التوبة.. بل ليؤكد أنه وسيده الفرعون كانا على صواب.. دون أي مرجعية إلا ذاته.. مدعمة بحكمة أستاذه و أستاذ الجيل أحمد لطفي السيد.. حين ذهب إليه.. فلم يقل له شيئا..
وكان هذا هو المرجع..
كل حكومات مصر وسياسييها منذ عهد محمد علي حتى عهد عبد الناصر كانوا سذجا وسطحيين ولم يفهموا السودان أبدا.. هيكل وحده هو الذي فهمها..
بل إنه منذ خمسين عاما رأى مشكلة دارفور وشخصها باسمها..
أي رجال هم؟!..
السادات يهبط عليه وهو يطير فوق جبال آرات وحي يأمره بالذهاب إلى القدس..
وهيكل يتنبأ منذ خمسين عاما بمشكلة دارفور ( لم يخطر بباله أبدا أن دولا تتنافر أعراقها أكثر بكثير ومع ذلك توحدت عندما وجدت زعيما حقيقيا )..
أما حسن التهامي فيرى الخضر عليه السلام..
فأي رجال هم..
نعم .. ها هو هيكل يشرح لنا قضية السودان بأثر رجعي..
فماذا فهم..
ستجد كلاما غبيا غير مترابط كذلك الذي تسمعه من دبلوماسي أمريكي أو إسرائيلي وهو يدافع عن باطل..
فالحقيقة المذهلة التي اكتشفها العبقري هيكل أن السودان مؤهل للتفكيك دائما.. وبيقين كاليقين بنظرية التطور وبالهولوكوست.. يقين كيقين مسيلمة يقول هذا الكلام الذي ليس له أي معنى.. كما يمكن أن يطبق على أي بلد أو حتى جزء من بلد في العالم..
يقول: الجنوب بطبيعته يميل إلى الجنوب.. أما الشرق فيميل إلى القرن الأفريقي..
لكن دارفور قضية أخرى.. فهي تميل إلى ناحية تشاد!!..
إنني أكتب من الذاكرة.. ولكن لا يهم على الإطلاق تبديل كلمة أو تقديم معني.. فكل الكلام باطل وهراء.. و هو إذا ما تعاملنا بحسن الظن فهو محاولة غير كريمة للدفاع عن إحدي جرائم الثورة الكبرى: فصل السودان عن مصر.. فإذا لجأنا إلى سوء الظن فليس الأمر سوى تلقين ضابط مخابرات.
ولنستشهد بشاهد يعرفه هيكل، شاهد من الأهرام، إذ يقول الدكتور محمود شكري في 25 يونيو 2001 :
لا استطيع أن أتحلل من عقيدة راسخة في ضميري أن الشأن السوداني بالنسبة لي يعتبر شأنا مصريا, كما الا أنسي أنني عندما سمعت نبأ استقلال السودان عن مصر دمعت عيناي, وشعرت أن جزءا من وطني قد اقتطع مني, فلقد فتحت عيوني علي دولة مصر والسودان, وعشت في ربوعها رغما عن أني لم أشرف بزيارة السودان إلا بعد التحاقي بالسلك الدبلوماسي ردحا من الزمن, ودرست في مستهل حياتي أن حدود دولتي لاتقف عند أسوان أو النوبة وانما تمتد الي الخرطوم وأم درمان وبورسودان وكسلا وكردفان وبحر الغزال, ولم أكن أتعامل مع الشقيق السوداني كمواطن لدولة أخري بل كأحد أبناء المحافظات, فهذا شرقاوي وذاك دقهلاوي وهذا منوفي وذلك من الصعيد أو النوبة وهؤلاء من السودان.
وعندما كبر وعيي السياسي وبدأت في الدخول في معترك الفكر الاستراتيجي والأمن القومي العربي والمصري خرجت بتصور قد يراه البعض متجاوزا الواقع, إلا أني أراه من منطلق التحليل الاستراتيجي أمرا منطقيا وهو أن فصل السودان عن مصر كان خطأ تاريخيا كبيرا, وذلك للأسباب التالية:ـ
• أن التكامل المصري السوداني هو أكمل اشكال التوحد في المصالح بين دولتين… فنهر النيل يربطهما, والتوازن الجغرافي والديموغرافي المشترك بين البلدين مثالي, ففي الوقت الذي يعاني فيه الشمال من زيادة بشرية ونقص في المساحات التي تصلح للمعيشة, نجد أن الجنوب يعاني من العكس, فهناك مساحات شاسعة لايستطيع الفراغ الديموغرافي أن يملأها.. فضلا عن أن هناك منظومة مثالية للانتاج الزراعي بين البلدين تقوم علي العمالة الزراعية المصرية والاراضي الخصبة المروية وغير المستغلة في السودان,ويدعمها التقارب بين الشعبين المصري والسوداني بما يؤهلهما ليكونا مزرعة الدول العربية بل ويزيد فضلا عن أن المصالح المائية للدولتين سوف تزيد بعد توحد المصالح المشتركة لهما.
• أن فترة تكريس الانفصال المصري السوداني كانت تشهد وبكل جدية مساعي حقيقية لفصل الشمال عن الجنوب بأطر تعدت مجرد التبشير الديني لتصل الي تجنيد المنظمات السياسية وتلك التي تعمل في اطار حقوق الانسان والأخري التي تناهض الرق والعبيد والمنظمات الكنسية العالمية لتكريس عملية الفصل تلك, وكان من غير المنطقي أن يقبل بمبدأ انفصال السودان عن مصر في هذا التوقيت فاحتواء الموقف كان يستدعي وجود حكومة مركزية قوية قادرة علي التصدي لهذه الهجمة الكبيرة لتمزيق وحدة السودان خاصة في اطار دولة مثل السودان والتي تجمع مايقارب500 طائفة وجماعة أشية وعرقية ودينية مختلفة. ولعل الفكر الاستراتيجي المجرد كان محقا عندما وصل الي أن بدء انفصال السودان الحقيقي يرجع الي عام1955 عندما انفصلت السودان عن مصر, فالشمال السوداني يقوي شماله المصري وليس بالانفصال عنه.
***
نكتفي بهذا القدر من كلام السفير..
وهذا هو نوع الكلام العاقل الذي تمنينا أن نسمعه من هيكل وليس مجرد تهويمات ذاتية لمشاعر داخلية غامضة تذكرنا بشخص يسخر هيكل منه كثيرا.. وهو حسن التهامي.. وهو الآخر ضابط من الضباط الأحرار، و أيضا.. عميل للمخابرات الأمريكية.
***
أعود إلى مقال سابق لي:
كانت كل الحكومات قبل الثورة ترفض فصل السودان عن مصر.. وترفض أي استفتاء لتقرير المصير فهو لا يجوز إلا إذا جاز إجراء مثل هذا الاستفتاء لأهل أسيوط..
وكان الإخوان المسلمون ككل المصريين والسودانيين على هذا الرأي..
ممارسات الهمج الهامج الذين قاموا بثورة 23 يوليو روعت الشعب السوداني ومكنت أعداء الأمة وعلى رأسهم الإنجليز من تحذير الشعب السوداني من أنه لو استمر في الوحدة مع مصر فسيعامله العسكر بالطريقة التي يعاملون بها الشعب المصري..
وكان هناك صمام أمان هو محمد نجيب..
كان لمحمد نجيب – بغض النظر عن جدارته – شعبية هائلة في السودان، وكانت أمه سودانية وكان قد عاش في السودان ردحا طويلا من عمره..
وافقت الثورة على استفتاء لتقرير المصير..
وعزلت محمد نجيب..
وذهب صلاح سالم يرقص عاريا في الجنوب فلم يفد رقصه..
وارتكب خطيئة كبرى عندما وزع الهبات والرشاوي على القبائل والعشائر.. ومع الخطايا السياسية والدينية الأخرى تصاعد الاتهام كل من ينادي بالوحدة مع مصر بأنه تلقى رشوة من صلاح سالم..
و أجري الاستفتاء..
وانفصلت السودان عن مصر..
***
لكن هيكل يأتي الآن.. وبدلا من أن يقول أخطأنا في كذا وكذا.. و أنه لو لم نفعل كذا وكذا لما انفصلت السودان عن مصر..
إذا به بمنهج أصبح يثير اشمئزازي يقول أن السودان كان قضية خاسرة منذ البداية.. لا في مجرد انفصاله عن مصر.. بل على قدرته على الاحتفاظ بتماسكه.. رغم أن أي مبتدئ في علوم السياسة والحرب سيفهم على الفور أن وحدة مصر والسودان، وعدم انفصالهما.. كان هو الحامي الرئيسي للسودان من التفكك..
أقول أن هذا المنهج أثار اشمئزازي.. فقد ذكرني بمقال له بعد يونيو 67 وهو يشرح أبعاد الكارثة.. مؤكدا.. أن الطائرات التي دمرت على الأرض كانت ستسقط كلها في الجو.. و أن الفارق الوحيد هو أن الحالة الثانية كانت ستستغرق يوما أو يومين أكثر..
منهج يثير الاشمئزاز..
كان يدرك أن الإهمال الكارثي للجيش وتدمير الطائرات على الأرض سيغير قلوب الأمة تجاه الزعيم وسيقلل من هيبته.. فلم يجد إلا هذه الطريقة البائسة للتبرير والعزاء.. فالمشكلة هنا ليست في تدمير الطائرات على الأرض بل في تدريب الطيارين الذي لا يمكن لأحد أن يعتبر الزعيم مسئولا عنه..
تماما كما حدث قبل ذلك بأعوام مع كتاب للدكتور أحمد شوقي الفنجري، يتحدث فيه حديث شاهد عيان على دفن الأسرى المصريين أحياء في عام 56، وطبع الكتاب في بيروت فعلا ولكنه منع من دخول مصر.. وكانت حجة أجهزة الأمن أن معرفة الناس لذلك سوف يقلل من هيبة الزعيم خاصة أنه لم يرد عليه ولم يثره ولم يبدي النية في ذلك..
***
بعد خمسين عاما يأتي هيكل أيضا مدافعا عن هيبة الزعيم فلا يعترف بجريمة الخيانة العظمى.. جريمة فصل السودان عن مصر..ويتحدث عن انفصال السودان كقدر – قدر أمريكي أو بريطاني وليس قدرا إلهيا- لا مفر منه.. وتجاهل كل من سبقوه ومن لحقوه ليصدق فقط إحساسه العابر الغامض الذي أحس به ذات ليلة عام 50 أو 51..
نعم.. إحساس ذاتي غامض..
ذاتي..
ذات مسيلمة..
ولم يقل لنا مسيلمة أن حكومة الثورة كانت أول من أمد أهل الجنوب الوثنيين بالسلاح نكاية في أهل الشمال المسلمين الذين تعاطفوا مع محمد نجيب ومع الإخوان المسلمين.
***
لن أسرد هنا، أو على الأحرى لن أعيد سرد اعترافات الضباط الأحرار بمختلف اتجاهاتهم ومشاربهم من أن عزل محمد نجيب كان المسمار الأخير في نعش الوحدة.. كلهم تقريبا و أولهم خالد محيي الدين و أحمد حمروش..
لن أسرد ذلك.. ولكنني أنقل صفحات من كتاب محمد نجيب: “كنت رئيسا لمصر” ..
وعندما دخل عبد الحكيم عامر وحسن إبراهيم. ليبلغاني يوم 14 نوفمبر، بقرار إعفائي من رئاسة الجمهورية، قلت لهما في وضوح !
– بصراحة أنا لن أستقيل. .
فسأل عبد الحكيم عامر :
– لماذا؟. .
قلت :
– حتى لا ينسب إلى يوما أنني كنت السبب في انفصال مصر عن السودان.
وفى الحقيقة. . أنا تحملت كل ما جرى لي بعد تمكن عبد الناصر من السلطة، بعد أزمة مارس، حتى لا تؤثر استقالتي على نتيجة الاستفتاء حول الوحدة مع مصر، في السودان. . خاصة أن الحزب الوطني الاتحادي الذي كان يؤيد لاتحاد، والوحدة مع مصر، قد فاز في الانتخابات.
لكن. . عبد الناصر ورجاله في مجلس الثورة لم يكن ليشغلهم في ذلك الوقت موضوع السودان. . كان كل ما يهمهم هو كيف يمكن إزاحتي والتخلص منى. ولست هنا أعطى لنفسي أهمية في ارتباط السودان بي. . بحيث ينفصل عن مصر، إذا أنا تركت الحكم. . لكنني اقرر حقيقة يعرفها الجميع في البلدين. مازالوا. . فأنا جزء من السودان والسودان جزء منى. . وبيني وبين شعبه زعمائه علاقات دم وصداقة وارتباط قوى. . كما أن السودانيين بطبيعتهم لا مميلون إلى الديكتاتورية. . ويصرون على ممارسة حقوقهم السياسية مهما كلفهم لأمر. . وهذا ما جعلهم يشعرون بالخطر على أنفسهم وعلى بلادهم بعد أن نشبت واشتعلت أزمة مارس في مصر، وأحسوا أن هناك حاجزا من الديكتاتورية يقف حائلا بين الوحدة مع مصر. و لأنني كنت أقف مع الديمقراطية كانوا ! يقفون معي. .
ولأن عبد الناصر كان يتجه بالبلاد إلى الديكتاتورية كانوا يخشون الوحدة مع مصر.
لذلك. . .
كان قرار تنحيتي عن رئاسة الجمهورية هو في نفس الوقت قرار انفصال السودان عن مصر. !
مرة أخرى أؤكد أن. . هذا ليس حديثا شخصيا، ولا كلاما نرجسيا، وإنما أمر واقع لا يزال ! يوجد من يقره ويعترف به، خاصة في السودان.
! عندما سئل كثير من زعماء السودان،- بعد ذلك عن سر تدهور العلاقات بين البلدين، قالوا، كلمة واحدة :
– نجيب !
لما قال لهم جمال عبد الناصر
– إن نجيب فرد. . والفرد زائل. . والعلاقة المتينة بين البلدين خالدة. .
كرروا :
– نجيب !
وفقد عبد الناصر أعصابه وقال :
– ليس معقولا أن نضع فردا في كفة وعلاقة بين شعبين فى كفة أخرى.
فقالوا له :
– إننا جعلنا من نجيب رمزا ” لوحدة الوادي”. . شماله مع جنوبه. .
ثم أضافوا في اتهام واضح :
– وأنتم حطمتم هذا الرمز.
و أنهى عبد الناصر الحوار الذي لم يعجبه. . لكنه سمع مرة أخرى، من أحد الوزراء المصريين، الذي كان يتكلم في نفس الموضوع مع أحد الزعماء السودانيين قال الوزير المصري :
– إن إصراركم عل نجيب.. إصرار بلا تفسير يقبله العقل ولا المنطق.
فرد الزعيم السوداني :
– بصراحة إننا في السودان نخشى على بلادنا بعد إن انقلبتم على نجيب. . ماذا يضمن لنا عدم الانقلاب علينا لو اتحدنا معكم. . لقد تصرفتم مع رجل كريم بأسلوب مهين. .
قال الوزير المصري :
– لكن. .
فسارع الزعيم السوداني قائلا :
– لا معنى في السودان لكلمة لكن. . ولا نحب هذه الكلمة المائعة. . نحن بلد وحكومة ديمقراطية حرة. . لا نقبل الانطواء تحت علم وحكومة أو توقرا طية.
وقبل موعد الاستفتاء واصل السودانيون نفس الكلام. . وقالوا :
– إننا سنقرر الانفصال عن مصر، ولو أراد المصريون أن نتحد معهم فلا مفر أمامهم من إعادة نجيب وتغيير نظام الحكم وعرف عبد الناصر هذا الكلام، الذي لم يصلني إلا بعد رفع القيود عنى. لكنه لم يستجب له، ولم يفكر فيه، بل ورد عليه بكلام جارح جدا.
ولم ينفصل السودان عن مصر فقط، بل وتدهورت العلاقات بين البلدين أكثر
وفي ذلك الوقت كنت أطالع الصحف السودانية : “الناس “” والصراحة، ” و”السودان الجديد”، و ” النيل”، و” الأيام”. . وكنت أسجل ما تنشره هذه الصحف. . ولازلت احتفظ بما سجلته إلى الآن.
وللتاريخ أعيد الآن نشر بعضا مما سجلته. .
ففي جريدة النيل نشر صالح عبد القادر قصيدة من 83 بيتا، جاء فيها :
فكم باسم مصر سالت دماؤنا . . . وكم باسمها شعبنا قام مأتم
فمن عهدنا عهد اللواء ونحن ما . . . نزال نعاق ما نعاني ونغرم
وكنا نرى فيها الصديق وعندما . . . اطمأنت بدت أطماعها تتجسم
وجاء فيها :
إذا هان مثلك يا نجيب فما هو . . . الضمان بأنا لا نهون ونهضم
فهل ينتهي أمر الرئيس إلى هنا . . . ومستقبل الأحزاب في مصر مبهم
فليس في مصر اليوم حر وليس في . . . دارها امرؤ بالحق والعقل يحكم
وجاء فيها :
وهاهي أقدار الرجال تدهورت . . . فويل لمن يستاء أو يتبرم
وقد ألغيت فيها العقول فكل من . . . يشير إلى جرم العساكر مجرم
فهل يطمئن لهم بربك عاقل . . . وأطماعهم في أرضنا تتضحم
وفي اليوم التالي لإقالتي، قالت جريدة الأيام في صفحتها الأولى :
حكومة مصر تبعد نجيب.
الرأى العام فى السودان يستنكر القرار.
مبارك زروق يقول : هذا العمل يؤثر على الفهم العاطفي للوحدة..
وقالت الأيام : إن الديكتاتورية الفاشية التي تحكم مصر بقوة الحديد والنار لا يرضيها أن يرتفع صوت واحد ينادى بالديمقراطية.. وكانت جريمة نجيب أنه لم يخضع لحكم البكباشية ..ولم يرض سيطرة الديكتاتورية. . إن الشعب المصري سينتصر في معركته القادمة ومعركة الإطاحة بالحكم الديكتاتوري، والشعب السوداني الذى يؤازر شعب مصر في محنته لن يرضى مطلقا أن يتحد مع ديكتاتورية أو يرتبط بفاشستية.. وليعلم حكام مصر هذا وليعلموا أن أقوالهم وكلماتهم المعسولة لن تجدي في كسب السودانيين.
وتحت هذا الضغط بدأ إسماعيل الأزهري الذي كان يناضل من أجل الاتحاد مع مصر، يتراجع عن موقفه قليلا. . لكن هذا التراجع المحدود لم يرض السودانيين. .
ونشرت جريدة الأمة يوم الأحد 23 يناير 1955 على صفحتها الثالثة البيان التالي من اتحاد طلبة كلية الخرطوم الجامعية :
..(..) إن ارتباط السياسة الخارجية والدفاعية والتجارية مع مصر يعرض سيادتنا للقضاء المحقق خصوصا إذا كان مع حكومات رجعية استبدادية كالحكومة الديكتاتورية التي تحكم مصر الآن والتي حددت موقفها نهائيا من المعسكر الاستعماري بعد أن وقعت معه عدة اتفاقيات خائنة كاتفاقية النقطة الرابعة وهى في طريقها الآن إلى إبرام اتفاق دفاعي جديد يكبل الشعب المصري بمزيد من الأغلال. .
وفى 30 يناير 1955، كان العنوان الرئيسى لجريدة الأمة هو :
” هل يعاد نجيب إلى رئاسة الجمهورية لإنقاذ الموقف الاتحادي بالسودان؟.
وفى 3 فبراير 1955 قالت صحيفة ” التلغراف ” :
“نجيب باق فى المرج ويعامل معاملة سيئة”.
ولم تجد حكومة عبد الناصر ردا مناسبا على كل هذا الكلام، سوى أسلوبها المبتكر، وهو تلفيق التهم والتشهير بالسودانيين. . فقد قبض على الوزير السوداني السيد خضر حمد في القاهرة بتهمة حمل قصيدة كتبها الأستاذ أحمد محمد صالح. . وكانت هذه القصيدة- الأزمة تقول :
ما كنت غدارا ولا خوانا . . . كلا ولم تك يا نجيب جبانا
يا صاحب القلب الكبير تحية . . . من أمة أوليتها الإحسانا
وكانت تقول :
الثورة الحمقاء كنت صمامها . . . من كل شائبة وكنت ضمانا
أخذت من اسمك روحها وحياتها . . . ومضت فكانت رحمة وحنانا
وكانت تقول :
يا ويح مصر ما دهى أبناءها . . . فمضوا على أحفادهم عميانا
ركبوا رؤوسهم فكانت فتنة . . . هوجاء ما تركت لهم إخوانا
وكانت تقول :
باعوا رئيسهم ورمز كفاحهم بيع السماح وحالفوا الشيطانا
ومضى كبيرهم يفاخر جهرة . . . بصنيعه متبجحا فتانا
وكانت تقول :
قالوا أردت تسلطا وتجبرا . . . ومشيت تبغي الحياة والسلطانا
كذبوا فعرشك في القلوب مكانه . . . أتريد من بعد القلوب مكانا
وكانت تقول :
هل يحجبون الشمس في إشراقها . . . أو يطمسون جمالها الفتانا
ما حطموك و إنما قد حطموا . . . أمل البلاد وصوتها الرنانا
هذا جزاء المحسنين وقلما . . . تلقى على إحسانك الإحسانا..
وهكذا ضاع السودان كما ضاعت الديمقراطية.
وكان لا بد أن يقدم عبد الناصر كبش فداء. . ولم يجد بالطبع أفضل من صلاح سالم فأجبره على الاستقالة. . فقد استغل عبد الناصر الأخطاء التي وقع فيها صلاح سالم في السودان، وذبحه. . وخرج هو بريئا من هذه الجريمة. وتمنيت أن أرى صلاح سالم بعد ذلك. . لكن القدر أختطفه قبل أن يحقق أمنيتي وسحبت بريطانيا جيشها من السودان وخرج الجيش المصري من هناك أيضا..
انسحب من جزء من وطنه وتم الجلاء فعلا. . فى نوفمبر 1955. . ولم يكن الانفصال عن مصر في حاجة إلى استفتاء لتقرير المصير. . فلم يجر استفتاء. ولكن الجنوبيين اعتبروا التخلي عن هذا الاستفتاء تخليا عنهم وإساءة لهم، فقامت ثورة في الجنوب على الشمال.
وأعلن قيام الجمهورية السودانية في 19 ديسمبر 1955.
وأعلن استقلال السودان فى أول يناير 1956.
وعند ما ذهب عبد الناصر لزيارة الخرطوم بعد ذلك لم ينس السودانيون مواقفه القديمة وخرجوا لاستقباله وهم يصرخون في وجهه ويلقون موكبه بالطماطم والبيض.
***
زيارة هيكل للسودان إذن لم تعطه أي شئ، ولا تزيد رؤاه فيها عن رؤى حسن التهامي ( لم يقل لنا هيكل أبدا سر احتفاظ عبد الناصر بالتهامي.. مع أن هناك اتفاقا بين كل الفرق أن التهامي: CIA !!..
***
وحيرة هيكل وعدم فهمه لما يجري فيها كانت أشرف مما يفعله الآن من تمهيد لنا بتقسيم السودان..
نعم ..
تمهيد للأمة..
تمهيد لا يدين الخارج أبد.. بل كل إدانته لنا.. للداخل.. وبكل ما يملك من وسائل للازدراء والتبخيس والإدانة لأهله.. قومه الذين ولد فيهم وتحدث بلسانهم..
تمهيد قال أن أحمد لطفي السيد لم يساعده فيه..
ولا أظنه صادقا..
لأن أحمد لطفي السيد قد ساعده قبلها و أثناءها وبعدها.. ساعده بمنهجه وفكره.. أليس أحمد لطفي السيد من رفض أن تساعد مصر ليبيا عمر المختار ضد الاحتلال الإيطالي..
فكيف نتصور منه حديثا طيبا عن السودان؟!!
فأحمد لطفي السيد الذي يتحدث عنه هيكل بوله وثني يثق في صنمه ثقة اليقين المطلق.. أحمد لطفي السيد هذا ليس له أي إنجاز إيجابي في حياته سوى أنه عمّر عمر السلحفاة.. وفي عمر السلحفاة هذا ظل الإسلام عدوه الأول.. وهذا سر تزكيته.. بل ولقد صرح الرجل جهارا أنه إن كان لابد فهو يفضل حكم لندن على حكم استنبول .
وهو لا يكتفي بالدعوة إلى محاسنة الإنجليز ومسالمتهم، ولا إلى إسداء المجاملة لهم، وهو يدافع عن فكرة الاحتفال بتوديع اللورد كرومر، بل إنه يتورط في موبقة أخرى، هي دعوة مواطنيه إلى الإقرار بفضل كرومر على البلاد، وكرومر، هو ممثل الاحتلال، والذي قال للمصريين في هذه الحفلة ذاتها أن الاحتلال باق إلى أبد الآبدين. انظر ماذا قال لطفي السيد في هذا المعنى:
” ما بال بعض الجرائد أخذت- تشهر ببعض الكبراء الذين انضموا إلى لجنة الاحتفال وتغمزهم كل يوم بضروب من ألفاظ السخرية غير اللائقة؟ قال بعض علماء الاجتماع: إ ن الاعتراف بالجميل هو الإحساس بانتظار جميل آخر في المستقبل فإذا كانت الجرائد تريد من الناس ألا يحتفلوا بوداع اللورد كرومر إظهارا لعدم رضاهم عن الإدارة الإنجليزية في عهده، وكان الناس في بلدنا على مذهب ذلك العالم من علماء الاجتماع، وأنهم لا يعملون العرف لذاته بل للاتجار به. أفليس من المصلحة أن يحتفلوا باللورد لينتظروا بذلك خيرا من خلفه؟”..
***
هذا هو أستاذ الجيل الذي لا يجد الأستاذ فتحي رضوان وصفا يصفه به إلا وصف البغي:
” وليس نجد وصفا أليق بالدعوة التي تتضمنها هـذه السطور، مع الأسف المحض، إلا أنها دعوة إلى القيام بدور البغي، مع تحسين هذا الدور، والاستعانة بعلم الاجتماع، وما جرى جرى هذه الرطانة الفارغة، لإسباغ مظهر وقور على هذه الدعوة الخبيثة، لتبدو أنها العلم أو الأخلاق، وهو شئ يأباه العلم، وتثور له الأخلاق بغير جدا. فلطفي السيد يريد من أبناء شعب اقتحم الإنجليز عليه بابه، وفرضوا عنوة إرادتهم على كل مقدراته، أن يتلطفوا لممثليهم، وحاملي سياطهم، فيودعوا الراحل أحسن توديع، ليثيروا في نفس القادم العطف عليهم، فيسخو في معاملتهم. ويصعب على (لطفي السيد) فكرة أن يفهم أن التسليم بالاحتلال هو تنازل عن (مبدأ) لا يحق لأمة تتحلى بأدنى درجات الكرامة، أن تطيق الحياة بعيدا عنه، وإن اختلفت طرائق أبنائها في تنفيذ هذا المبدأ، وفى تطبيقه، ففي كل أمة طوائف من الوطنيين منهم من يتخذ الثورة الصريحة سبيله المقاومة، ومنهم من يتخذ التدرج والتطور، والخطابة والكتابة، سبيله الكفاح، ومنهم من يلجأ إلى العمل العنيف السري، ومنهم من يهيئ المقاومة المسلحة مستعينا بأعداء عدوه في الحلبة الدولية. أما الطائفة التي تقبل يعد جلادها، وتذكر له بالفضل والعرفان بالجميل، إذ هو أطال في حبل أسرها، أو ابتسم لها، مع أنه يعلن في كل لحظة أنا السيف والنطع جاهزان، وأنه مصمم على الإجهاز والقتل، فطائفة لا تمت إلى الوطنيين ولا تنتمي إلى الوطنية.”..
ومن يبدأ السير في هذا المنحدر فإنك لا تعرف إلام ينهى، وقد قاده هذا المنطق، فعلا إلى تفضيل حكم بريطانيا لمصر إن كان لا مفر من أن يحكمها أجنبي ونحن ندع للدكتور محمد حسين هيكل ( حسين وليس حسنين) الكلام في هذا الموضع، قال في صفحة 66 من مذكراته:
عدت إلى القاهرة، مصمما أن أعلن رأيي وأن أدافع عنه، وزادني تصميما أنى رأيت صحيفة المقطم تروج لفكرة رأيتها غاية في الخطورة ة تلك أنه إذا خيرت مصر بين من يحكمها من الدول إنها تختار إنجلترا (…) ولم ألبث حين نزلت القاهرة أن ذهبت إليه وسألته وقد ملكتني ثورة الشباب، حتى لقد قلت: ومتى كان لعبد أن يختار سيده؟ إن الأمة المستبدة يحكمها القوى فإن هي تابعته وأظهرت الرضا به، كان شأنها شأن العبد، أو شأن البغي، وأنا أربأ بمصر أن تكون عبدا أو بغيا “
لطفي السيد وجريدته وحزبه جميعا ، كانا في واقع الأمر، خالصين للاحتلال وقد أغنانا اللورد جورج لويد عن الاستنتاج فقد جاء في كتابه ” مصر في عهد كرومر” ما ترجمته:
و بفضل مجهود اللورد كرومر، تأسس في أ أكتوبر سنة 1907 حزب جديد، هو حزب الأمة، وصحيفة (الجريدة)، وقد كان أكثر أعضاء هذا الحزب، بعثا للأمل، رجل اصبح فيما بعد أهم الأسماء في تاريخ مصر الحديثة، ذا هو سعد زغلول.. كان قد أظهر صفات عظيمة منها الاعتدال في الرأي والشجاعة وقد كان مصريا صميما ومؤمنا بالصداقة البريطانية ” وكان خصما شديدا قويا لسياسة الخديوي ونشاطه السياسي “.
فحزب الأمة باعتراف الإنجليز أنفسهم هو صناعة أيديهم.
وما قاله لورد لويد قاله أيضا تشارلز آدامس في كتابه عن الإسلام والتجديد، قال:
كان سعد في الجانب الأكبر من حياته صديقا للاحتلال ، صادق النية مخلص الرأي وعاون البريطانيين في خطتهم التي أرادوا بها إصلاح الإدارة و اختياره لوزارة المعا رف في الوقت الذي كانت فيه المدارس منبع التهييج الوطني..
فدور هذه المدرسة- التي كان لطفي السيد لسانها، وسعد زغلول زعيمها، والشيخ محمد عبده راعيها الروحي، هو إلقاء الماء البارد على الجذوة الوطنية، والدعوة إلى الإنجليز ، وإلى التودد إليهم، والتحدث بمزاياهم وصفاتهم, وما تجره مصر من الخير بالإخلاد إليهم والثقة بهم فالدعوة إلى المصرية، لم تكن غاية في ذاتها” وإنما كانت التواء، في الدعوة إلى ما هو شر خالص وهو مسألة الاحتلال، والرضاء بحكمه.
ومن ثم فإن نسبة الدعوة إلي (المصرية) إلى لطفي السيد، ليست إلا افتراء على التاريخ، وتزييفا له.
نعم..
راجعوا الجملة الأخيرة يا قراء..
فقد كان الشعار ” مصر للمصريين” مجرد ذريعة لفصل مصر عن الدولة الإسلامية الأم..
ليس لصالح الاستقلال التام..
بل لصالح الاحتلال الإنجليزي..
وكان هذا هو لطفي السيد الذي يعجب به هيكل أيما إعجاب.
***
هذا هو أحمد لطفي السيد الذي يعتبره هيكل أستاذ الجيل..وهو بالفعل أستاذ جيل لكنه الجيل المستعبد للغرب المعلن عداوته للثقافة الإسلامية واللغة العربية، ولطفي من أشهر زعمائه ، أما أعضاء هذه العصابة فزميله ورفيق عمره عبد العزيز فهمي ، وزوج أخته إسماعيل مظهر ، ثم صديقه الحميم طه حسين .
كان أحد زعماء حزب الأمة ، باعتباره رئيس تحرير “الجريدة” صحيفة الحزب، واشتهر بعدواته لفكرة الجامعة الإسلامية، ورفعه شعار مصر للمصريين، وشعار: سياسة المنافع لا سياسة العواطف.
أما فكره فكان متأثراً جداً بـداروين ومل وروسو وأضرابهم من الغربيين، وكان مع كل ناعق من دعاة التفرنج والعصرية، فقد حظيت دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة من تأييد لطفي السيد بما لم تحظ بها من كاتب أو صحفي آخر.
وعندما أصدرت الحكومة قراراً بنقل صديقه وشريك دعوته طه حسين من الجامعة – بسبب الضجة التي ثارت حوله وحول إيمانه – لم يسع لطفي السيد إلا أن يقدم استقالته من منصب وزير المعارف احتجاجاً على ذلك .
ومع زعمه أن الفصحى معقدة وقديمة نراه يمضي ربع قرن من حياته في ترجمة كتب أرسطو ( يسخر منه فتحي رضوان فعمر الرجل 93 عاما ترجم فيها ألف صفحة من أرسطو بمعدل أقل من صفحة في الشهر!!)..
وقد ذكر مؤرخ حياته حسين فوزي النجار بعض الحوادث التي تدل – كما يرى – على أنه كان لا يؤمن بالغيبيات والقوى الخفية.
وقد علل لطفي السيد لتأخر مصر وتقدم الغرب، بأن مصر تستعمل لغتين: لغة للثقافة وأخرى للتخاطب، والحل الذي رآه وقدم له الاقتراحات الكثيرة هو النزول بالفصحى إلى مستوى العامية، حتى يتم مع الزمن توحيد اللغتين في لغة واحدة هي -بالطبع- العامية .
***
نفس التفاصيل ينادي بها كل عميل..
نعم..
لقد كان كل دعاة العامية أناساً مشبوهين وصلتهم بالدوائر الاستعمارية واضحة، وذلك ما يؤكد أنها كانت جزءاً من المخطط اليهودي الصليبي للقضاء على الإسلام، بل إنه من المؤكد أن الدعوة العامية إنما ظهرت أصلاً من أفكار المستعمرين وفي أحضان المبشرين يتضح ذلك من أسماء دعاتها الأوائل، أمثال بوريان وماسبيرو .
وكان من ضمن القائمين بهذه الحركة إسماعيل أحمد أدهم ، الذي حاول نشر الأفكار الإلحادية في مصر، وقد ألف رسالة صغيرة عنوانها: لماذا أنا ملحد ؟ وطبعها في مطبعة التعاون بـالإسكندرية وكان نتيجة ذلك تحويل اسم الجماعة إلى المجمع الشرقي لنشر الإلحاد، متعاونا مع إسماعيل مظهر والذي كان في ذلك الوقت – 1928- يصدر مجلة العصور في مصر ، وكانت تدعو للإلحاد . و تُعتبر جماعة ( العصور ) المجموعة الفكرية الأولى التي اقتحمت ساحة نقد الدين والفكر الديني ، ويرجع الفضل – إن كان في ذلك أي فضل- في تأسيس هذه الجماعة إلي إسماعيل مظهر الذي أسس مجلة ( العصور ) والتي كانت لسان حال هذه المجموعة والناطقة باسمها
كان المؤثر الأكبر على إسماعيل مظهر والسبب في إلحاده هو تأثره بخاله..
فهل تعلمون يا قراء من هو خاله..
إنه معبود محمد حسنين هيكل:
إنه أحمد لطفي السيد.
والحق أن إسماعيل مظهر لم يكن إلا نموذجاً لكتاب كثيرين يتفاوتون في درجة التصريح بما يعتقدون لكنهم متساوون في المنطلق والغاية، مثل منصور فهمي ولطفي السيد وأمين الخولي وطه حسين ، وأخيراً صادق العظم صاحب كتاب (نقد الفكر الديني )، وآخرين ممن لا تأويل لما يكتبون إلا الخروج على الإسلام، غير أن بعضهم تخفى تحت أقنعة البحث العلمي أو التمذهب الأدبي، حتى لا يصدم مشاعر الجماهير فتنصرف عن إنتاجه.
***
هذا هو أحمد لطفي السيد مثل هيكل الأعلى و أستاذ جيله..
كان يدعو إلى حياد مصر في هجوم إيطاليا على ليبيا، حين رأى تعاطف المصريين مع الدولة العثمانية، وقيامهم بجمع التبرعات، وحشد المؤن والأسلحة لإرسالها إلى الجيش العثماني في طرابلس بليبيا، يقول لطفي السيد: “وقد أخذت أنبه على استحياء إلى واجب مصر من هذه الحرب، وهي أن تكون على الحياد، وأن سيادة تركيا لا تجلب لمصر منفعة ولا تدفع عنها ضرًا. انضم إلى سعد زغلول ثم انشق عليه وكان من أكبر مؤسسي حزب الأحرار الدستوريين الذين انشقوا عن سعد زغلول سياسيا، وكان يدعو إلى الإقليمية الضيقة وهو صاحب العبارة المشهورة التي أطلقها عام 1907م وهي مصر للمصريين.
تحدث عن الديموقراطية وشارك في أشد حكومات الأقلية بطشا: إسماعيل صدقي ومحمد محمود..
***
أحمد لطفي السيد هو الشخص الوحيد الذي ذكره هيكل بعد تسع ساعات من الحديث الممل الطويل كأستاذ له لذلك أرجو من القارئ ألا يمل من حديثي عنه ، فمنه سنستشف مواصفات هيكل نفسه..
نعم..
ليسمح لي القارئ أن أستعرض دراسة وافية عن أستاذ الجيل ( أستاذ ماذا ولماذا .. لا أدري كما يقول فتحي رضوان)..خاصة أنها تعتمد على عدد كبير من المراجع.
***
نظرة شرعية في فكر (أحمد لطفي السيد)
بقلم / سليمان الخراشي
انحرافاته :
1. أعظم انحراف له، بل هو من الكفريات –والعياذ بالله- أنه –كما يقول ألبرت حوراني- :” لم يكن مقتنعاً كأساتذته! بأن المجتمع الإسلامي أفضل من المجتمع اللا إسلامي” !! [الفكر العربي في عصر النهضة، ص211] وتوضيح هذا كما يقول حوراني : أن “الدين –سواء كان الإسلام أو غيره- لا يعنيه إلا كأحد العوامل المكونة للمجتمع” . (…)
قلت: فلطفي السيد إذاً لا يفرق بين الإسلام وغيره من الأديان أو النِحل! فجميعها –في نظره سواء- ما دامت تجعل معتنقها يحب الخير ويفعله، ويكره الشر ويبتعد عنه! فنعوذ بالله من خلط الكفر بالإسلام.
2. دعوته إلى (العلمانية) وعزل الإسلام عن أن يكون مرجعاً لسلوك الفرد والمجتمع إلى كونه مجرد علاقة بين العبد وربه يحتفظ بها في ضميره!!.
يقول مجيد خدوري في كتابه (عرب معاصرون) :”إن تأكيد لطفي السيد على العلمانية وإحالة الدين إلى ضمير الفرد أثار النقاد الذين نددوا به واتهموه بالإلحاد” [ص 329].
3. إلحاده !! –إن صح النقل عنه- فقد قال مجيد خدوري في كتابه (عرب معاصرون) :” أخبرني عبد الرحمن الرافعي المحامي المؤرخ مرة أن لطفي السيد كان شيخ الملحدين . ولكن عبد الرزاق السنهوري الذي سمع هذه الملاحظة قال: إن شيخ الملحدين هو شبلي شميّل وليس لطفي السيد، على الرغم من أن لطفي نفسه من الملحدين!! وقال الرافعي إن لطفي كمدير للجامعة المصرية دافع عن ملحدين آخرين ؛ كطه حسين ومنصور فهمي وحسين هيكل ” [ص329] .
“وقال لي السنهوري –وهو صديق حميم للطفي السيد- إن لطفي أثار شكوكاً جدية في المعتقدات الدينية التقليدية” وأنه “أعرب عن شكوك خطيرة فيها، وقد ظل مشككاً حتى آخر حياته” !! [ص330].
4. طعنه في الشريعة الإسلامية بأنها غير صالحة لهذا العصر!! يقول مجيد خدوري في كتابه (عرب معاصرون) : “قال لي -أي لطفي السيد- مرة في سياق الحديث: إن الشريعة الإسلامية وهي في حالة ركود منذ زمن بعيد لم تعد تتفق والأوضاع الجديدة للحياة”!! [ص330].
5. دعوته إلى الوطنية الضيقة التي رفعت شعار “مصر للمصريين” ! فأعادت النعرة الجاهلية من جديد، حيث استبدل لطفي السيد رباط الأخوة الإسلامية بهذا الرباط الجاهلي.
يقول ألبرت حوراني في كتابه (الفكر العربي في عصر النهضة) : “كان لطفي كغيره من المفكرين المصريين لا يحدد الأمة على أساس اللغة أو الدين، بل على أساس الأرض، وهو لم يفكر بأمة إسلامية أو عربية، بل بأمة مصرية: أمة القاطنين أرض مصر” [ص216].
وأن “لمصر في نظره ماضيان: الماضي الفرعوني والماضي العربي، ومن المهم أن يدرس المصريون الماضي الفرعوني، لا للاعتزاز به فحسب! ، بل لأنه يلقنهم قوانين النمو الارتقاء” [ص 216-217] .
وقد ذهب لطفي السيد في غلوه الجاهلي إلى القول بأن “القومية الإسلامية ليست قومية حقيقية، وأن الفكرة القائلة بأن أرض الإسلام هي وطن كل مسلم إنما هي فكرة استعمارية تنتفع بها كل أمة استعمارية حريصة على توسيع رقعة أراضيها ونشر نفوذها” !! [ص 218].
ويقول –أيضاً- : “أما الأمة الإسلامية فكادت تقع خارج نطاق تفكيره” [ص 224] .
ويقول مجيد خدوري في كتابه (عرب معاصرون) : “كانت فكرته –أي لطفي- في الأمة –كما استقاها من الفكرة الأوروبي ! إقليمية، لا إسلامية” [ص328].
ويقول –أيضاً- : “نادى بهوية مصرية وطنية تستند إلى تاريخها المتواصل، الذي لم يكن الحكم الإسلامي فيه إلا مجرد فصل واحد” [ص328].
6. الدعوة إلى العامية: وقد سار في هذا التيار مؤيداً الخطوات التي كان قد قطعها المستشرقون والمنصرون قبله، وكان أبرز ما دعا إليه:
أ – إبطال الشكل وتغييره بالحروف اللينة.
ب- تسكين أواخر الكلمات.
ج- إحياء الكلمات العامية المتداولة، وإدخالها في صلب اللغة الفصحى” [انظر: رجال اختلف فيه الرأي، لأنور الجندي، ص 4، بتصرف].
قلت: وانظر للتدليل على ما سبق من كلام لطفي السيد، كتاب (قمم أدبية) للدكتورة نعمات أحمد فؤاد.
7. دعوته إلى مذهب (المنفعة) دون ضوابط شرعية لهذه المنفعة، وقد استقى هذا المذهب كما يقول الدكتور حسين النجار من الفيلسوف الإنجليزي (جون ستيوارت مل) .
قال الدكتور: ” فمذهب المنفعة هو القاعدة في تفكيره السياسي والاجتماعي، فالمنفعة هي الحافز الأصيل للعلاقة بين الدول بعضها ببعض، وبين الحكومة والأفراد، أو بين الأفراد فيما بينهم” [أحمد لطفي السيد، للنجار، ص202-203] .
قلت: وتطبيقاً لهذا المذهب الغربي فقد عارض لطفي السيد “مساعدة المصريين لجيرانهم في طرابلس الغرب أثناء الغزو الإيطالي الاستعماري عام 1911، وكتب في هذا المعنى تحت عنوان (سياسة المنافع لا سياسة العواطف)! مقالات متعددة دعا فيها المصريين إلى التزام الحياد المطلق في هذه الحرب الإيطالية التركية وإلى الضن بأموالهم أن تبعثر في سبيل أمر لا يفيد بلادهم” [رجال اختلف فيهم الرأي، للجندي، ص5].
8. دعوته للديمقراطية: ولم يعد يخفى على عاقل مخالفة هذا المذهب للإسلام، وأنه مذهب يحوي الكثير من الكفريات، بداية بتحكيم ما لم ينـزل الله، وانتهاء بنقض مبدأ الولاء والبراء الشرعي… الخ.
يقول الدكتور حسين النجار: “أما لطفي السيد وأضرابه من المثقفين فقد استهوتهم الديمقراطية كمذهب” [أحمد لطفي السيد، ص 82].
ويقول عنه بأنه : ” بهرته الحياة السياسية للدولة القومية في الغرب، فكانت وحياً لفلسفته السياسية التي أخذ يبشر بها المصريين” [المرجع السابق، ص199].
9. دعوته لمذهب (الحرية) بالمفهوم الغربي، دون أي ضوابط شرعية لهذه الحرية!
يقول الدكتور النجار: “الفكرة في عقيدة لطفي السيد هي الحرية، الحرية في كل صورها ومعانيها” [أحمد لطفي السيد، ص 331].
ويقول –أيضاً- : “أما مذهب الحرية الذي نادى به جون ستيوارت مل أساساً للنظام الاجتماعي فقد اتخذه لطفي السيد أساساً لما أسماه “مذهب الحريين” للدولة” [المرجع السابق، ص 203].
ويقول مجيد خدوري : “ازداد حب لطفي السيد للحرية بدراسته للفكر الأوروبي” [عرب معاصرون، ص 326].
ويقول ألبرت حوراني: “كان مفهوم لطفي السيد للحرية –كما يعترف هو نفسه باعتزاز – مفهوم ليبراليي القرن التاسع عشر” [الفكر العربي في عصر النهضة، ص 213].
10. أنه كان مهادناً للاستعمار الإنجليزي لمصر، بل كان صنيعة لهم؛ ليحقق هو وأضرابه أهدافهم بعد الرحيل عن مصر.
يقول الأستاذ أنور الجندي: “لقد كان الاستعمار حريصاً على صنع طبقة خاصة من المثقفين، عمل كرومر على إعدادها، ووعدها بأن تتسلم قيادة الأمة بعد خروج الإنجليز، ووفى لها، وكان أبرزها: لطفي السيد” [عقبات في طريق النهضة، ص 59].
ويقول –أيضاً-: “إن حزب الأمة الذي أنشأه لطفي السيد كان بإجماع الآراء صناعة بريطانية أراد بها اللورد كرومر أن يواجه الحركة الوطنية بجموع من الإقطاعيين والثراة والأعيان (الذين وصفهم بأنهم أصحاب المصالح الحقيقية) وقد كان هدف حزب الأمة والجريدة بقيادة الفيلسوف الأكبر لطفي السيد تقنين الاستعمار والعمل على شرعية الاحتلال والدعوة إلى المهادنة مع الغاصب، وتقبل كل ما يسمح به دون مطالبته بشيء” [رجال اختلف فيهم الرأي ، ص 7].
ويقول مجيد خدوري :” وكان اللورد كرومر قبل مغادرته مصر بقليل، قد أعجب باعتدال هذه الكتلة –أي مدرسة محمد عبده- وراح يشجعها على تأسيس حزب الأمة، بغية مجابهة نفوذ أتباع مصطفى كامل من الوطنيين” [عرب معاصرون، ص315].
ويقول فتحي رضوان: ” إنك لتقرأ كل ما كتب لطفي السيد في الجريدة في موضوع علاقة مصر ببريطانيا، وفي موضوع علاقة مصر بتركيا، فإذا به في الموضوع الأول لطيفاً، كأنه مر النسيم، يخاف أن يخدش خد الاستعمار، أما في الموضوع الثاني فهو متحمس غضوب فما سر هذا، وما تفسيره؟ ” [عصر ورجال، ص 443].
قلت: ولأجل هذا نفهم تمجيده ومدحه للورد كرومر الحاكم البريطاني الذي أذل المصريين لمدة ربع قرن!! حيث قال يوم خروجه من مصر:” أمامنا الآن رجل عظيم، من أعظم عظماء الرجال، ويندر أن نجد في تاريخ عصرنا نداً له يضارعه في عظائم الأعمال” !! نشر هذا في “الجريدة” في نفس اليوم الذي ألقى فيه كرومر خطاب الوداع، فسب المصريين جميعاً وقال لهم: إن الاحتلال البريطاني باقٍ إلى الأبد !! [انظر : رجال اختلف فيهم الرأي، لأنور الجندي، ص 5-6].
11. دعوته ومؤازرته لحركة تحرير المرأة التي قادها صاحبه قاسم أمين –عليه من الله ما يستحقه- قول الدكتور حسين النجار: “حظيت دعوة قاسم أمين لتحرير المرأة من تأييد لطفي السيد بما لم تحظ به من كاتب أو صحفي آخر” [أحمد لطفي السيد، ص 243].
وقال –أيضاً- :” ويقيم لطفي السيد من دار “الجريدة” منتدى للمرأة تقصده محاضرة ومستمعة” [المرجع السابق، ص248].
قلت: ولذا فقد كتب في جريدته مقالات بعنوان: “قاسم أمين القدوة الحسنة” !! يقول فيها مخاطباً الشباب المصري: “ليعتنق كل عامل منهم أنماط قاسم في حُسن تفكيره” [المنتخبات (1/11)]
وأثنى كثيراً على دعوته الفاجرة، [انظر:المنتخبات، (1/268 وما بعدها)]
***
هذا هو الأستاذ.. فهل علمتم كيف يكون التلميذ والمعجب..
ولكن بقي أن تعلم ما قاله الأستاذ أنور الجندي في هذه الترجمات التي قام بها لطفي السيد .
قال الأستاذ أنور: “تبين أن مترجمات لطفي السيد عن أرسطو (التي ترجمت من الفرنسية) (السياسة. الكون والفساد. الأخلاق) وهي منسوبة إليه، تبين أنه ليس مترجمها وأن مترجمها الحقيقي هو قسم الترجمة في دار الكتب المصرية!! وذلك بشهادة عديد من معاصري هذه الفترة” [رجال اختلف فيهم الرأي، ص6]
***
هذا هو الرجل.. أستاذ الجيل.. وقد تعرفتم على الفور على ابن أخته الذي كان عظيم التأثير به.. وكان رائدا لجمعية تدعو إلى الإلحاد.
والآن.. هيا لنتعرف على ابن أخيه.. وهو مجنون آخر لا يقل عن إسماعيل مظهر ولا عن أحمد لطفي السيد نفسه.
فلقد تقدم المحامي “محسن لطفي السيد”- ابن شقيق المفكر الراحل “أحمد لطفي السيد”- بأوراق حزب جديد للجنة شئون الأحزاب يحمل اسم “مصر الأم”، وقد حمَّل الحزب الجديد حركة الضباط الأحرار المسئولية عن تهميش الثقافة والهوية المصرية، لصالح الثقافة والهوية العربية، مطالبًا بإلغاء المادة الثانية من الدستور المصري، والتي تنص على أن “الدين الرسمي لمصر هو الإسلام”، وكذا إلغاء خانة الدين من كافة الوثائق الرسمية في البلاد، درءًا لشبهة التمييز على أساس العقيدة التي يلتزم بها الدستور في مواضع أخرى. وأكد “محسن لطفي السيد” رئيس الحزب الجديد، أنه لا ينبغي أن يكون هناك دين رسمي للدولة العصرية، وأنه ليست هناك سوابق مماثلة في مختلف التطبيقات الديمقراطية حول العالم، وحتى بافتراض إقرار ذلك- جدلاً- فلماذا لا تؤخذ بعين الاعتبار مصالح وثقافة شركائنا في الوطن والتاريخ والمستقبل من الأقباط المسيحيين، فينص الدستور على الكتاب المقدس أيضًا إلى جانب القرآن الكريم، والمسيحية جنبًا إلى جنب مع الإسلام، خاصةً وأن النص الدستوري بالغ الأهمية ويقرر مصير أجيال. ويهدف ابن شقيق أحمد لطفي السيد إلى فك الارتباط بالعروبة، وإعادة ربط المصريين بقوميتهم المصرية وحدها .. ويستند البرنامج السياسي للحزب في العديد من أفكاره إلى أدبيات “أحمد لطفي السيد” عم رئيس الحزب، ومنها عبارته الشهيرة التي نشرت في الخامس من فبراير عام 1908م، والتي قال فيها: “إن من بيننا من لا ينفك يفخر بانتسابه للعرب الأولين، كأنما انتسابه إلى الجنس المصري نقص وعيب، كما أن منا من يفضل الرابطة الدينية على رابطة الجنسية الوطنية، فإن لم نذهب عنا هذا التحلل نمت أسبابه، وفشت نتائجه وتعذَّر علينا أن نوسع دائرة المشابهات وتضيق دائرة الفروق”..
وفي رد محسن لطفي السيد على سؤال حول طلب حذف المادة التي تنص على أن الإسلام هو الدين الرسمي لمصر، قال مسؤول الحزب العلماني: إذا كان لك كتيار إسلامي سند من الدستور فلا شيء يعوقك عن أن تتمادى، فأنا ضد تطبيق الشريعة الإسلامية في الحدود، وأنادي بألا تقطع يد السارق أو يرجم الزاني أو تقطع الأيدي والأرجل!!
كما يطالب الحزب أيضاً بإلغاء لفظ (العربية) من الاسم الرسمي للبلاد، ليصبح الاسم “جمهورية مصر” فقط.
وأضاف : ما الذي يمنع التيار الإسلامي إذا وصل إلى الحكم، استنادًا لهذه المادة أن يفعل هذا، ربما يأتي التيار الإسلامي على رأس الحكم، وقتها ما الذي يمنعه إذا كان لديه سند من الدستور أن يطبق الشريعة في العقوبات، كلنا مسلمون نؤمن بالله، على حد قوله، لكن نريد أن يكون الإسلام علاقة بينك وبين الله، والسياسة شيء آخر..
ويوضح البرنامج السياسي للحزب الجديد أن كون اللغة العربية هي اللغة السائدة الآن، فإن ذلك لا ينبغي أن ينسينا لغتنا القومية وهي “العامية المصرية” التي يدعو الحزب إلى تدريسها بتطوراتها المختلفة، من الهيروغليفية إلى الديموطيقية إلى القبطية، وصولاً إلى المرحلة الحديثة المسماة بالعامية، في المدارس والجامعات المصرية، ويدعو إلى إعادة كتابة التاريخ المصري .
ويصف البرنامج السياسي لحزب “مصر الأم” دخول العرب إلى مصر بالغزو، الذي أدى إلى خسارة قيم مصرية كثيرة ” ثم يقارن بين القومية المصرية وبين القومية العربية الغازية”، على حد تعبيره، مشيرًا إلى أن هؤلاء الغزاة ينتمون إلى بدو أقل حضارة ويعتمدون على القمر في توقيتهم كما أنهم تربوا على احترام التكوين القبلي وليس المجتمع المدني، كما أنهم أحاديو الفكر، عصبيو المزاج يستبيحون دماء مخالفيهم، وليست في ثقافتهم مسألة قبول الآخر، فضلاً عن مواقفهم السلبية حيال كثير من الفنون والآداب”.
***
هذا هو أحمد لطفي السيد.. حبيب محمد حسنين هيكل.. وهذه هي عائلته غير الكريمة .. وهي عائلة تثير قدرا من الشبهات لا تمر ببساطة على عقل فذ مثل عقل محمد حسنين هيكل..
لقد كان اختيار محمد حسنين هيكل لأحمد لطفي السيد اختيارا مقصودا وهو يحمل رسائل مجهولة إلى جهات مختصة..
رسائل تقول : أفكارهم أفكاري ومبادئهم مبادئي و أنا ما زلت على العهد..
نعم.. اختيار أحمد لطفي السيد هو اختيار غريب وشاذ وناب ومقصود..
و إن كان يمثل اتجاها أصليا في الثورة كلها.. فقد كان أحمد لطفي السيد هو الذي وقع اختيار الضباط الأحرار عليه ليشغل مكان اللواء محمد نجيب كرئيس للجمهورية.. عبر واحد آخر من العائلة غير الكريمة وهو ابن أخته الشيوعي لطفي واكد ( من الضباط الأحرار). لكن لطفي السيد كان قد تجاوز الثمانين.. فنصحهم بأن يكون عبد الناصر هو رئيس الجمهورية..
الاختيار مقصود وشاذ في البداية والنهاية..
والثورة كلها امتداد لفكر الرجل الشاذ غير المؤمن.
***
نعم..
تطاول الأسى والسأم والملل طيلة الحلقات حتى كانت الحلقة الأخيرة – التاسعة- حين تحولت من الشعور بالسأم إلى الشعور بالغضب.. أقصى درجات الغضب..
وفي أجزاء كثيرة.. كنت أسأل نفسي والقلب يعتصر:
– لماذا دافعت عنه ذات يوم..
في مذكرات كرومر ارفع اسم كرومر وضع اسم روزفيلت أو مايلز كوبلاند.. وارفع اسم أحمد لطفي السيد وضع اسم جمال عبد الناصر أو محمد حسنين هيكل..
افعل ذلك.. يستقيم المعنى..
***
في البداية كنت أقول لنفسي: أنت كمن جاء ليسمع محاضرة عميقة في الطب آملا أن تحل بها مشكلة في ذاتك أو في أعز بنيك، محاضرة سيلقيها أشهر طبيب ونطاسي في مجاله على الإطلاق، ولكنك فور أن تكلم الرجل، أدركت على الفور، أنه ليس طبيبا على الإطلاق، وليت الضرر يقتصر على ذلك، على كونه ليس طبيبا و أنه يتكلم عن مرض آخر..
لا ..
فالأمر أفدح من ذلك..
إنه مصر على أن داءك ليس ما تعرفه و إنما ما يدعيه..
ثم أنك تذكر فجأة أن هذا الرجل نفسه، ليس طبيبا، و إنما دعى طب، وهو بذاته من قتل ابنك وفلذة كبدك منذ ما يقرب من أربعين عاما، وبالتحديد في ينيو 1967. و أنه حين قتله، قتله بعلاج خاطئ كان هو الذي صنعه بيديه.. ولم يكن هناك أيامها من يصنع الدواء سواه، لم يكن مسموحا بذلك، بل إن من كان يحاول، كان يُعاقب بالموت.
يا هيكل يا مسئول..
لم يعد فينا سوى ذبالة حياة فهل تنقذها أم يقضي عليها؟..
***
كنت أظن أن هيكل سيفعل مثلما فعل جان فالجان ليرفع الثقل الهائل وحده..
ولكنه ليس “جان فالجان” في بؤساء فكتور هوجو..
كان جان فالجان يسرق الأغنياء والكنائس ليعطي الفقراء منها فيسعدهم ..
” جان فالجان” المجرم القديم ذي القوة الخارقة يضحي بكل ما يملك .. بالحاضر والماضي والمستقبل كي ينقذ إنسانا.. مجرد إنسان..
أما هيكل.. فقد فعل العكس..
لقد دمر الأغنياء والمساجد والفقراء جميعا..
وما زال يفعل بعد أن انتهت الحكاية.. ليسقط في أسوأ ما يمكن أن يقع فيه مواطن من أمة في محنة.. أن يسعى إلى خلاصه الشخصي وبراءته الذاتية من الاتهام.. حتى و إن كان بريئا.. فما بالك إن كان متهما.. وما بالك أكثر إذا كان المتهم الأول.
إن هيكل على عكس “جان فالجان” يضحي بالماضي والحاضر والمستقبل.. ويضحي بالصدق، لمجرد أن يثبت – بالباطل- أن جمال عبد الناصر – وبالتالي هو- لم يخطئ..
لقد سنحت الفرصة لهيكل لكي يكفر عن ذنوبه لكنه أبى.. ولنلاحظ أن جرم هيكل أكبر حتى من جرم الفاعل.. لأنه يحمل جرم الفاعل وجرم منع الإنقاذ.. فهو شريك رئيسي في الفعل.. وهو في نفس الوقت شريك رئيسي في الشروع في قتل المعنى الذي كان يمكن أن يخرجنا الآن من الورطة المميتة التي نغرق فيها.. والتي كان هيكل دون سواه، من قادنا إليها، بعد أن اجتهد في قتل الدليل الذي كان يمكن – بل كان بالتأكيد- سيقودنا إلى طريق آخر.
هذا الشخص.. أو على الأحرى المعنى ..
اسمه الإسلام..
لكن هيكل كعبد الناصر كانا يحملان شعارا يقول:
” إسلام لا.. مسلمون فقراء نعم..”
وهو يقصد أنه مستعد لتقوية الثاني أما الأول فلا..
وليس عندي شك في الأصول الصهيونية والبروتستانتية لهذا الشعار
***
لا يحدثنني أحد عن التكفير فالرجل لم يتوان أبدا عن إبداء رأيه ولا عن ازدراءه للإسلام بل ومحوه.. وهذا باب في الفقه لابد أن يواكب المخاطر التي تواجهنا.. ليس بالتطوير أو التجديد.. بل بتفعيل نصوص فقهية موجودة فعلا.
ثم أن الاتهام بالكفر أيام كان لنا أمة ودولة ومجتمع وجيش كان بمثابة إعدام مدني وربما جسدي.. أما الآن فالاتهام بالكفر جالب للمنافع وواق من المخاطر..
ثم أننا لا نهزل..
ولا يسألنني أحد عن جمال عبد الناصر..
ذلك أنني أدرك بعد نصف قرن أن جمال عبد الناصر كان بطلا في رواية ألفها هيكل.. أو أُلّفت لهما معا..
و أقول صادقا أنني لا أقلل ولا أمتهن بهذا الأول ولا أضخم من الثاني.. لكنني أقوله لأسباب عديدة منها أنني أعتبر هيكل مسئولا عن كل ما فعله عبد الناصر.. لأنه كان يستطيع أن يستقيل على الأقل..
نعم..
العلاقة بين هيكل وعبد الناصر ليست إلا كالعلاقة بين نجيب محفوظ وعمر الحمزاوي..
كما أن هيكل نفسه ليس سوى ثلاثية، كان جزؤها الأول: صحيفة الأهرام، وجزؤها الثاني صحف الدنيا ودور نشرها، أما الجزء الثالث فهو الذي يجري الآن أمامنا.. جزء الجزيرة.. و أخشى أن يكون أكثر الأجزاء خطورة.. لأنني أخشى أن يكون تكريسا للفكر الذي أدى بنا إلى هزائم الماضي، كي نكرره فنكرر الهزائم.
يا إلهي..
هل يملك الجرأة على محاولة إقناعنا أن الفكر الذي قادنا إلى هزيمة 67 كان فكرا صحيحا..
***
نعم..
جاشت مشاعري حين رأيت أشهر فضائية عربية تأتي لنا بأشهر صحافي عربي ليتحدث عن مشكلتنا.. ومشكلتنا في جوهرها مشكلة إسلامية.. لكن الذي جاء ليس غير متخصص فقط في المرض الذي تعاني الأمة من نقصه.. بل هو أصلا يستنكر وجود بقاياه.
نعم يستنكر الإسلام كمنهج..
وطريق..
وخلاص..
بينما نحن لا نعترف بسواه..
نعم..
هيكل يتحدث – كما كتبت منذ أعوام- مثل لورد إنجليزي أو خواجة ” أمريكاني”..
ومشكلتنا كلها إسلامية..
تخيل أن تأتي بحاخام ليعلمك الصلاة أو بلحاد ليمرضك..
و أنا لا أقصد الإساءة لهيكل..
والله الذي لا إله إلا هو لا أقصد الإساءة إليه..
ولكم وددت أن يخرج علينا في حلقة واحدة ليصارحنا في نبل وحزن أنه آن الأوان ليعترف لنا أنه كان معولا من أهم المعاول التي أدت إلى الكارثة.. و أن القومية التي جاء بها بديلا عن الإسلام كانت – بلهجة شمس بدران بعد هزيمة 67: ” أما إحنا أكلنا حتة مقلب”!!.. و أن يصارحنا أنه لم يدرس الأمر ليكتشف أيامها أن القومية كانت إفرازا غربيا وكانت مفيدة للغرب حين جمعت المقاطعات والأعراق وجعلت منها دولا، أما عندنا فقد فرقت وهدمت دولة قائمة بالفعل.. وأن القومية، وصفته السحرية، قد جاءت بنتائج عكسية، فوحدت أشتات قبائل تفرقت في أصقاع العالم منذ أربعة آلاف عام.. بينما – في نفس الوقت – شرذمت أمة كانت من القوى العظمى حتى عام 1924.
لكم وددت أن يخرج علينا نبيلا حزينا ليملأ آلاف الأماكن الخالية التي لا يستطيع أن يملأها لنا سواه..
يملأ مكانا – على سبيل المثال – يملأه ضباط المخابرات الأمريكية مثل كوبلاند وليكلاند بالحديث عنه وعن ثورة يوليو..
و لكم وددت أن يخرج علينا نبيلا حزينا ليعترف: نحن لسنا خونة.. ولا عملاء للـ:CIA ولكنني أعترف بعلاقتنا مع المخابرات الأمريكية، علاقة لا عمالة، بدأنا ذلك قبل الثورة لحماية الثورة، لم يكن ذلك للبحث عن مغنم، وكنا بلا خبرة، وظننا أن الفهلوة المصرية كفيلة بتجنيبنا دأب الجهد وجهد الجهاد في كواليس السياسة.. ثم أغوتنا السلطة.. وتمت المقايضة بيننا وبين المخابرات الأمريكية.. بين كيرميت روزفيلت ومايلز كوبلاند وبين الضباط الأحرار بزعامة عبد الناصر وكنت أنا الواسطة.. و أعلم كل شئ.. لذلك دعوني أعترف به.. كان لأمريكا مطالب ثلاثة:
1. لا للإسلام..
2. لا للشيوعية.
3. لا لتهديد أمن إسرائيل
وكانت هناك نصائح مثل التخلي عن السودان.
وقد كانت مطالبنا:
1. منع بريطانيا من مواجهة الانقلاب عسكريا.
2. التمكين لمجموعة عبد الناصر دون الآخرين من الحكم ( باقي كتل الجيش- الإخوان- الوفد).
3. السماح لنا بتصنيع بلادنا..
كانت القسمة عادلة..
ووافقنا..
موافقة ند لند لا عميل لمخابرات..
وكانوا أكثر من مخلصين.. ولولا نصائحهم الرائعة ما سارت الأمور أبدا على ما سارت عليه.. هم الذين وضعوا سيناريو تحطيم فؤاد سراج الدين ومحمد نجيب، كانوا في غاية الكرم والتفهم فلم يعترضوا على المجازر التي سميناها زورا محاكم كمحاكم الشعب أو الثورة أو الغدر.. ولم يعلقوا ولا هم سلطوا علينا أجهزة إعلامهم لتفضحنا.
***
ووددت أن يواصل هيكل:
كنا كفرسي رهان و أعطينا لهم قدر ما أخذنا منهم.. حتى كانت لحظة التحول بعد حادث المنشية.. كانوا هم الذين وضعوا السيناريو.. ولقد تم التنفيذ منا بأخطاء قاتلة كادت تفضح الأمر كله.. لكنهم تستروا علينا وتم القضاء على العمود الفقري للإسلام..
لقد جال بخاطري حينها أننا دمرنا السلاح الوحيد الذي يمكن أن نستعمله في مواجهتهم ذات يوم إذا ما قلبوا لنا ظهر المجن..
لكنني كنت أدرك أننا قد قطعنا كل صلة بيننا وبين الإخوان المسلمين..
أعترف .. أننا نفضل الأمريكيين بل والصليبيين على الإخوان المسلمين..
إنهم أشد عداوة و أعظم خطرا….
***
كنا أندادا..
أو كنا نظن ذلك..
إلى أن فوجئنا بأن الأمريكان يعاملوننا كعملاء لا كأنداد..
كانوا كشخص سوقي ظل ردحا طويلا من الزمن يغوي فتاة حتى أفقدها أعز ما تملك.. وظنت التعيسة هي أنها سترتفع من مستوى الصديقة إلى مستوى الحليفة.. لكننا فوجئنا بالعكس.. كان السوقي يريد أن يعاملنا كبغي..
رفضنا..
غضبنا.. وقاومنا.. فسحقونا..
أعترف..
قتلنا عبد القادر عودة و إخوته ظلما وغيلة..
قتلنا سيد قطب .. أعظم مفكر في القرن العشرين ظلما و إجراما وغيلة..
حتى بريطانيا في سبعين عاما من الاحتلال لم ترتكب ما ارتكبناه من جرائم..
ولقد فوجئنا بعد بداياتنا مع المخابرات الأمريكية أننا وقعنا في فخ.. ذلك أننا نسير في طريق ذي اتجاه واحد غير مسموح فيه بالرجوع..
وظللنا نسير حتى سقطنا في الهاوية..
***
كنت أتصور أن يقول محمد حسنين هيكل ذلك وأن يفسر لنا ما غمض و أن يكشف لنا ما استتر كي لا نقع في هذه الكارثة مرة أخرى..
***
كنت أتمنى أن يملأ هيكل مكانا خاليا لم يسده بالرد على ما أثاره جلال كشك بالحديث عن ثورة يوليو الأمريكية..
وأن يملأ مكانا خاليا واجهه فيه الرئيس السوفيتي السابق خروشوف..
و أن يحكي لنا حقيقة العلاقات المتشابكة التي أحاطت بالثورة..(فهل يتناسب مع فخامة ألفاظه في الحديث عن العصر الإمبراطوري أن أمريكا لم تعرف بثورة يوليو إلا بعد أن حدثت)..
إن جلال كشك وكوبلاند وليكلاند و آخرين عديدين يقولون عن ثورة يوليو كلها أنها عملية أمريكية.. وكنا نود أن نسمع رأي هيكل.. رأي الحق لا رأي الكذب.. رد التوبة لا رد التستر..
كنت أتمنى أن يعترف على سبيل المثال : حتى في هذه المرة فقد أتيت لكم بطلب أمريكي، كان المطلوب أن أتحدث عن السودان ودارفور بهذه الطريقة التي تحدثت بها تمهيدا للناس.. نعم.. تمهيدا لهم لما سيفاجئون به عما قليل من هبوط القوات الأمريكية هناك.. فإذا كنت أنا أعرف أنه لا مناص من التفكك منذ خمسين عاما فلم تغضبون إذن ولم تفاجئون؟!..
وكنت أتمنى أن يعترف: عندما تكلمت عن العراق كنت أقصد استلال الغضب من قلوب الناس.. فالقتل قتل عارض لا قتل عمدي..
وكنت أتمني أن يعترف: لقد حكيت لكم طويلا عن فوزي بجائزة فاروق الأول ثلاثة أعوام متوالية قبل الثورة..
وكنت أعد هذا دليلا على نبوغي وتفوقي دون الحاجة إلى جمال عبد الناصر..
والآن دعوني أعترف.. لم يكن الأمر كذلك .. بل كانت الـ CIA تعرف أي مستقبل باهر ينتظرني فدفعتني إلى الصدارة.. ليس دفعا لعميل.. أنتم لا تفهمون.. هذه أمور بالغة التعقيد.. فلا أنا عميل ولا حتى مصطفى أمين كان جاسوسا.. وكيف يكون .. وكيف أكون ووضعنا الاجتماعي والسياسي هو الوضع الثاني بعد الحاكم.. وضع يفوق وضع رئيس الوزراء.. فلماذا نكون جواسيس إذن.. ولا السادات أيضا ولا التهامي ولا على صبري .. ولا..ولا..ولا..
وكنت أتمني أن يقول:
لا.. لسنا عملاء ولا جواسيس.. باختصار شديد نحن نؤمن بهم ونكفر بكم.. نحترمهم ونزدريكم.. ونحن نرى مثلما يرون الإسلام أكبر خطر على البشرية ولابد من مواجهته مهما كانت النتائج.. فالأمر أخطر مما تظنون.. الإسلام مطلق.. وما حوله كله نسبي.. فلو تركنا الأمر على ما هو عليه لالتهم المطلق النسبي.. من هنا تأتي خطورة الإسلام.. المطلق.. هو العدو الأول.. وغير مسموح بوجوده..
لقد كنا نحمل كل الخير للوطن.. كنا نأمل القضاء على الإخوان المسلمين بسرعة (كممثل للإسلام و إن اختلفت طوائفه) كي نتفرغ لبناء الوطن.. لكن كل شئ ضاع وانهار وتبدد..
نعم.. كنا نريد أن نقصر قضية الإسلام على قضية فقراء يحتاجون الصدقة..
وكنا نريد أن نختزل قضية فلسطين إلى قضية لاجئين يحتاجون المأوى..
كنا نريد ذلك كي نتفرغ لبناء الوطن.. لكننا –لا أدري كيف- حطمنا الوطن ودمرناه.. وها أنذا هنا اليوم كي أشرح لكم كيف حدث ذلك..كي تتجنبوه.. ولا تقعوا فيه مرة أخرى..
إلا أنني غير واثق من استطاعتي قول الحق..فالحق نفسه نسبي والحقيقة كذلك..
وهذا بالذات ما جعلني أحتفظ بعلاقتي بهم في الخارج حتى الآن….
نعم .. أعترف..
نحن ننتمي إليهم لا إليكم..
نحن منهم لا منكم..
ملحوظة – أرجو أن يلحظ القارئ أنني في هذا الجزء أتقمص شخصية هيكل و أتحدث على لسانه – إنني أدرك أن الغالبية الكبرى من القراء سيدرك ذلك دون تنبيه، لكننى أنبه من قد يلتبس عليه الأمر، أنني أتصور أن هذا رأي هيكل، وهو مرفوض بالطبع.
***
كنت أود ذلك كله..
لكن أيا منه لم يحدث ..
بل كان هيكل يبدو مزهوا بذكائه وموسوعيته حتى أنني قلت لنفسي: لشد ما خسرت أوروبا و أمريكا.. وربما اليابان أو حتى الهند ..خسروا لأن هيكل ليس أوروبيا أو أمريكيا أو يابانيا أو حتى هنديا.. فلو أنه كان كذلك لأفادهم.. أما بالنسبة لنا فليس للرجل قيمة.. بل إنه ضار.. لأنه ينصحنا بإعادة تناول نفس الدواء القاتل.. والذي كان هو بنفسه من أعطاه لنا في المرة الأولي.
بل إننا نحن أيضا خسرنا لأنه لم يكن من أي بلد من تلك البلاد..
***
في الحلقة الأخيرة كنت أرقب الرجل في غضب هائل وحزن كظيم..
وكنت أتذكر كتاب سعد زهران المسمى:” الأوردي: مذكرات سجين” الصادر حديثا عن المركز الثقافي العربي (بيروت- الدار البيضاء2004) ويستعرض في بعض صفحاته نماذج التعذيب المروعة في سجون عبد الناصر التي لم يعتذر هيكل عما جرى فيها على الرغم من كونه مسئولا ..
ولقد روى الكاتب واقعة حدثت في نهاية الخمسينيات أو بداية الستينيات.. واقعة حقيقية بطلها الشاويش أمين تومرجي الأوردى، كان الشاويش يعمل في أحد السجون العمومية، وذات ليلة اشتد المرض بأحد المسجونين فحضر الطبيب فوجده قد فارق الحياة فكتب محضرا بذلك، وترك للشاويش أن يقوم بتشريح الجثة..
و في اليوم التالي .. وصل الشاويش أمين إلى السجن في الصباح ليجد جثة السجين المتوفى تنتظر التشريح. ولكن، يا للعجب، حين ضرب الشاويش أمين المشرط في بطن المتوفى، بدأت الجثة تتحرك “.. أدرك الشاويش بسرعة أن طبيب السجن أخطأ في تشخيص الحالة. لم يكن السجين قد توفى وإنما كان في حالة غيبوبة شديدة بسبب المرض، فلما ضرب المشرط أحشائه حركة الألم.
و لم يتردد الشاويش أمين لحظة، اتجهت يداه المهولتان بسرعة نحو عنق السجين وكتـم أنفاسه حتى أجهز عليه هو يصيح بانفعال شديد:
– ارقد يا ابن الكب! ارقد: الدكتور كتب في الأوراق الرسمية أنك مت.. موت يا ابن الكلب حا تعمل مشكلة للدكتور. موت. ! موت “..
حدث هذا على مرأى ومسمع من اثنين من المسجونين العاديين ممن يعملون نوبتجية في مرافق السجن ” (صفحة 161)..
انتهت القصة الفاجعة في كتاب سعد زهران..
وتجسدت الصور أمامي حتى كدت أراها..
كان محمد حسنين هيكل هو الطبيب وهو الشاويش أمين في نفس الوقت..
وكان المريض هو الأمة..
وكان الطبيب هو الذي أخطأ التشخيص طيلة خمسين عاما.. لكنه لم يجرؤ على مواجهة الخطأ.. فبادر عبر قناة الجزيرة بالإجهاز عليه..
موت..
موت..
لقد أوفت أمريكا بتعهداتها.. فما زال مبارك في السلطة.. وليس مبارك سوى امتداد لعبد الناصر.. ونحن يجب أن نوفي بتعهداتنا التي لم يبق متاحا لنا منها سوى:
– لا للإسلام..
فقد انتهت الشيوعية ولم يعد لنا أي سبيل إلى إسرائيل بعد أن انقلب الوضع..
لم يعد من مهامنا إلا:
– لا للإسلام..
و لقد سلطنا كل وسائل القهر والتزوير والتشهير والسحق والقتل ضد الإسلام والمسلمين طيلة خمسين عاما.. أتريدهم أن يكتشفوا الآن أن الإسلام ما يزال حيا..
موت..
موت..
موت..
***
فهل أدركتم الآن يا قراء لماذا لم يتناول هيكل الإسلام أبدا طيلة الحلقات على قناة الجزيرة؟!.
***
***
***
مراجع الدراسة:
سيار الجميل- تفكيك هيكل- مكاشفات نقدية في إشكاليات محمد حسنين هيكل- الأهلية للنشر والتوزيع- عمان – بالاشتراك مع: الزمان- لندن- ط1 .
– دار الصحوة- حلوان. – في نظرية التطور: هل تعرضت لغسيل الدماغ- بروفيسور دوان ت. كيتش
– قصة الحلقة المفقودة- إليانور كلايمر- ترجمة د محمد رشاد الطوبي- مكتبة الأنجلو المصرية
هيكل.. الحرب والحب- عادل حمودة- صحيفة البيان- 10-10-2000
يؤخذ على عادل حمودة الكذب في روايته، و إنما نستعرضها استعراضا للأدلة، فأول من قال بأمريكية الثورة هم الوفديون والشيوعيون والإخوان، فإذا كان يقصد كتاب مايلز كوبلاند لعبة الأمم، فالكتاب نشر وعبد الناصر موجود كما يذكر عادل حمودة في نفس المقال بعد قليل
د. فؤاد زكريا، فؤاد، كم عمر الغضب؟، هيكل وأزمة العقل العربي، دار القاهرة
م س
لجلال كشك عدة كتب عن ثورة 23يوليو منها الكتاب المشار إليه، وكلمتي للمغفلين، كما أن في كتبه الأخرى إشارات مستفسضة إلى الموضوع نفسه : على سبيل المثال: الناصريون قادمون، والحوار أو خراب الديار
ثورة يوليو الأمريكية- م س.
– برنامج شاهد على العصر- قناة الجزيرة- أحمد منصور: الإثنين 8/9/1421هـ الموافق 4/12/2000م.
أربعون عاما من الهزيمة- ثورة يوليو الأمريكية- علاقة عبد الناصر بالمخابرات الأمريكية- المكتبة الثقافية- القاهرة- ط3
محمد جلال كشك- الغزو الفكري- المختار الإسلامي للطباعة والنشر والتوزيع
ناصر الدين النشاشيبي- حضرات الزملاء المحترمين- استحلوا الكرامة والأعراض والأموال والأسرار- دار أخبار البلد- القدس.
مذكرات محمد نجيب – كنت رئيسا لمصر- المكتب المصري الحديث.
عصر ورجال- فتحي رضوان- الهيئة العامة لقصور الثقافة
– العلمانية نشأتها وتطورها وآثارها في الحياة الإسلامية المعاصرة- الشيخ الدكتور سفر بن عبدالرحمن الحوالي.
– مفكرة الإسلام- موقع محيط- الشبكة العنكبوتية.
ألم تعرف هيكل على حقيقته إلاّ متأخراً، من خلال ما كتب عنه الدكتور الغتيت، وقد بلغ من العمر عتيا؟!.
ردحذفكم من مواقفك التي اتخذتها بناءا على نظرة قاصرة واندفعت، للأسف.
وأنت المحرّض للعسكر، في لقاء مع المذيع خالد عبد الله على قناة الناس، حرفياً: "أناشد المجلس الأعلى للقوات المسلحة أن يتصرف بقوة وبحزم، يجب أن يكون فيه اعتقالات ويجب أن يكون فيه اشتباه...الخ. على هذا الرابط: https://youtu.be/OH66t9bgMsQ
للتصحيح.. برنامج المذيع المشهور أحمد منصور، (بلا حدود) وليس ”أكثر من رأي”.