على الرغم من مضي أكثر من مائة عام على انطلاق المشروع الصهيوني في مؤتمر بازل بسويسرا عام 1897م، واقتراب ما كان يسمى بـ (الصراع العربي الإسرائيلي) من إكمال الستين عاماً، بعد حرب النكبة عام 1948م؛ فإن مواقف الكثير من زعماء العرب ونخبهم السياسية والثقافية لا تزال تتخبط في فهم أبعاد هذا الصراع وإدراك أسراره، فضلاً عن الثبات في مواجهته للتغلب على أخطاره، وقد فضحت التطورات الأخيرة ـ وآخرها قمة شرم الشيخ بمصر، والقمة العربية في الجزائر ـ جوانب من هذا التخبط؛ حيث ظهر بعد كل ما مضى من عمر المواجهة، أنها لم تكن يوماً واضحة المعالم أو معروفة الغايات عند غالبية من تصدوا لها وتحدثوا باسمها؛ فالثوابت عندهم تتحول إلى متغيرات، والمقدسات تُجَرَّد من الحِمى والحرمات، وما كان ضاراً صار ضرورياً، وما كان محرماً مجرَّماً أضحى حلالاً أو واجباً في مسلسل جراءة وتهور لا يُعرف منتهاه.
فبعد أن عشنا دهراً نسمع عن (الإجماع) العربي بلاءاته المشهورة «لا اعتراف.. لا تفاوض.. لا صلح مع الكيان الصهيوني» و ... «لا تفريط في شبر ... في بوصة ... في حبة رمل من الأرض» ، و ... «لا تنازل عن: عودة اللاجئين ... عن إعادة القدس ... عن الانسحاب إلي حدود 1967م ... عن إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة ذات السيادة....» ، بعد كل هذا أصبحنا نسمع باسم الواقعية والعقلانية والمصلحة الوطنية والإقليمية عن طروحات وشعارات في شكل لاءات من قبيل: «لا بديل عن السلام كخيار استراتيجي» ... «لا جدوى من المقاومة» ... «لا سبيل إلا مائدة التفاوض» ... «لا حل عن طريق الحرب» ... «لا أوراق إلا بيد أمريكا» ... «لا لعسكرة الانتفاضة» ... «لا فرار من حتمية التطبيع» ... «لا أمل في عمل عربي مشترك» ... «لا مجال أمام الفلسطينيين إلا الاعتماد على جهدهم الذاتي» ... «لا مشروعية إلا للشرعية الدولية» !
وفي المقابل ... نتحدى العلمانيين العرب، أن يكون (العلمانيون) أو المتدينون في دولة اليهود، قد تنازلوا عن (لا) واحدة من لاءاتهم الثابتة منذ قامت تلك الدولة؛ فالإسرائيليون يرفعون لاءاتهم ـ في السر والعلن، وبلسان الحال أو المقال ـ فيقولون: «لا عودة لحدود 1967م» ، «لا تفاوض حول القدس بقسميها عاصمة موحدة وأبدية للدولة الإسرائيلية» ، «لا تفكيك للمستوطنات» ، «لا رجوع عن يهودية يهودا والسامرة» أي الضفة الغربية. «لا مجال لإعادة اللاجئين» ، «لا جلوس ولا تفاوض مع مَنْ يحمل السلاح» ، «لا ترسيم للحدود» ، «لا تنازل عن بقاء الدولة خالصة لليهود» ، «لا وزن لما يسمى بالشرعية الدولية إذا تهددت مصالح الدولة اليهودية» ، «لا سماح بدولة فلسطينية إلا منزوعة السلاح مقطعة الأجزاء» ، «لا صلح ... لا تفاوض.... لا تطبيع ... لا اعتراف متبادل، بل لا أمان لزعيم أو نظام إلا بعد التخلي (نهائياً) عن الدخول كطرف في الصراع ضد دولة (إسرائيل) » !
ومع أن اليهود لم يتنازلوا يوماً عن شيء من تلك اللاءات، قولاً أو عملاً، بل حشدوا لأجل حمايتها قواههم الذاتية والمتعدية؛ فإن العرب ـ في ظل العلمانية المتخاذلة ـ ساهموا في حفظ لاءات اليهود من أن يمسها ضعف أو انتقاص؛ حيث عطلوا جُل عوامل القوة في الأمة، وأبطلوا كل سلاح كان يمكن لها أن تستعمله للدفاع عن حقوقها المشروعة ديناً وعرفاً وقانوناً؛ فلا الحروب في نظرهم مجدية ... ولا المقاطعة أو المقاومة مغنية ... ولا الدفاع المشترك أصبح صالحاً.. ولا النفط عاد سلاحاً ... ولا دعم المجاهدين صار مباحاً ... لا سماح بفتح الحدود، بما يهدد أمن اليهود!
لا، بل إن الأمر لم يعد تبرعاً بشل قوى الأمة وفلّ أسلحتها، بل تجاوز ذلك إلى (دعم) ... نعم! دعم العدو، في كل مجال يمكن أن يُدعم فيه ... كالتسابق في دعوتهم لحضور المؤتمرات ... وفتح السفارات والقنصليات، ومكاتب تبادل «المصالح» والاستشارات وتعاون الاستخبارات.
ووصل الاستهتار بأمر القضية إلى أن تصبح مثاراً للهزء والضحك في اجتماع قمة الدول العربية؛ حيث استمع العرب والعالم معهم إلى «فيلسوف العرب» في حديث هراء مخرَّف يدين فيه أمجاد الجهاد في فلسطين، ويصف أصحابه السابقين واللاحقين بالغباء مرة، وبالإرهارب أخرى، ويتهم من لا يزالون يخلصون للقضية بالجمود وعدم الواقعية التي أصبحت تفرض القبول بدولة (إسراطين) كجماهيرية شعبية اشتراكية ديمقراطية فلسطينية إسرائيلية يهودية عربية عبرية ... عظمى ... !
ذلك ما كان في مؤتمر قمة عربية (عادية) في ظروف غير عادية، لم يتسع الوقت فيها ليستمع العرب إلى ما اتُّخذ من قرارات وتحركات لمواجهة الاستمرار في بناء الجدار الذي وصل إلى عزل مدينة القدس عن محيطها، ليستفرد بها اليهود، ولم يكف وقت المؤتمرين لمناقشة ما سوف يفعلون إذا نفذ المتطرفون اليهود خطتهم المعلنة باقتحام المسجد الأقصى في وقت قريب. ولم تسنح الفرصة لمناقشة كيفية التوحد في المواقف قبل اجتياح سوريا أو استباحة لبنان، وكذا لم يكن هناك وقت لاستصدار قرار بالوقوف مع السودان ضد محنة التقسيم، ولا كانت هناك فرصة لمناقشة استحلال (الفرس) في إيران للعراق، بعد احتلاله من الأمريكان، إنما كان الهاجس الكبير الذي سيطر على الأجواء قبل وبعد الانعقاد هو التوجه نحو التطبيع (الجماعي) بإجماع طبيعي، يتفق عليه الكل، مع فارق (بسيط) في «الاجتهاد» بين من يرون الدخول فيه قبل حل القضية الفلسطينية، ومن يرون عدم إضاعة الوقت، وانتهاز الفرصة عاجلاً، ولو لم تحل القضية.
يراد الآن بكل ما هو شاذ و (غير طبيعي) من الوقائع والمتغيرات الحادثة بسبب العدوان اليهودي على العرب والمسلمين، أن يتحول إلى شيء (طبيعي جداً) في ظل هرولة عجلى طائشة، وراء سراب التطبيع المخادع، وليت الأمر سيقتصر على المستويات الرسمية، ولكن المقصود به في الأساس هو الإحاطة بالمحيط الشعبي ليدخل التطبيع بكل سوءاته في جملة مسلَّماته.
- فالعَلَم الإسرائيلي الذي لا يزال يحمل بخطيه الأزرقين حدود التوسع الإسرائيلي ـ من النيل إلى الفرات ـ سيكون متعيناً على الأجيال بين النهرين أن تراه مرفرفاً على البلدان والمدن الممتدة بينهما، بل ترى بأعينها رمز قبلة اليهود (النجمة الدالة على الهيكل) تتراقص بينهما فوق بنايات السفارات، ووسط الأعلام والرايات (الشقيقة والصديقة) .
- وسوف يتعين على الأجيال أن يكون شيئاً اعتيادياً لديها، أن تسمع معزوفات التحية العسكرية في الاستقبالات الرسمية، تتخللها الانحناءات والتحيات لذلك العلم وما يحمله، وللشخصيات التي تمثله.
- وستُطالب الأجيال ـ في ظل ذلك التطبيع ـ ألا تتحرج من وضع كلمة (إسرائيل) بدلاً من (فلسطين) على الخرائط في الكتب والصحف والمجلات وشاشات الفضائيات (1) وغيرها، وسيكون مطلوباً من تلك الأجيال ألا ترى غضاضة وهي تشاهد على الشاشة بعض الساسة وهم يلقون الكلمات الودية تحت قبة الكنيست الإسرائيلية، وهي لا تزال تحمل على واجهتها العبارة التوراتية (لنسلِك أعطي هذه الأرض، من نهر الفرات الكبير إلى نهر النيل) .
- وفي ظل التطبيع سيُنكَر على من ينكرون فتح أبواب الفتن الأخلاقية والتحرشات الأمنية والتشوهات المنهجية والتضييق على الأحرار وبخاصة الإسلاميين بقصد خنق الصحوة وتحويلها إلى غفوة بل كبوة، بعدما تبين أن تلك الصحوة هي الشيء الوحيد الباقي في عالم العرب والمسلمين، الذي يملك (الفعل) ولا يكتفي برد الفعل.
ليس المطروح في مشاريع التطبيع، أن يكون مجرد (مرحلة) من هدنة يقبل بها العرب والمسلمون اضطراراً بسبب ضعفهم (المؤقت) كما يفهم بعض من يُفتون بجواز التطبيع بعد الصلح مع من يجنح إلى السلم، ولكن المطروح أن يكون هذا التطبيع ذا أثر جذري في تغيير العقليات والنفسيات، حتى تقتنع بعد عجزها وكسرها؛ بتفوق العدو واستحالة قهره مع حسن الظن في «تحسن» خلقه واستمالة قلبه من أجل سلام (دائم وشامل) .
وهنا أمر هام ينبغي التنبه له عند النظر في الفتاوى والأحكام المتعلقة بمعاهدات الصلح واتفاقيات التطبيع، وهو أن هناك فرقاً جوهرياً، بين أحكام الهدنة والصلح التي تحدَّث عنها الفقهاء والتي يمكن أن يضطر إليها المسلمون مع بقاء الأعداء أعداء، والأولياء أولياء، ومع احتفاظ المسلمين بحقهم في الأخذ بأسباب القوة وحرية الاختيار، والاحتفاظ بالخصائص والثوابت والحقوق؛ وبين هذا المصطلح الغريب الجريء الشاذ البشع الذي لم يقره شرع ولم يعرفه عُرف طوال تاريخ هذه الأمة، وهو مصطلح (التطبيع) مع العدو المغتصب مع بقاء عداوته واستمرار اغتصابه.
إن تسويغ ذلك التوجه باسم الدين أو حتى المصلحة، أمر لا يقول به إلا أخرق أحمق أعمى البصيرة، متفلت العقل والعقال؛ فإذا كان التطبيع المطروح تعميمه يرمي في جملته إلى نزع العداء (من جانب واحد) ؛ فإنه يستلزم بداهة نزع السلاح قبل نزع العداء، وخسئ من ادعى أن الله يرضى لنا أن نكون أمة منزوعة السلاح.
من بدهيات الإيمان والأحكام أن تطبيع العلاقة (بمعنى الموالاة والمودة والمحبة وتبادل النصح والنصرة) لا تكون إلا بين المؤمنين؛ فالتطبيع بهذا المعنى مع المؤمنين إيمان، ومع المنافقين نفاق، ومع الظالمين ظلم، ومع الفجار فجور، ومع الكفار كفر ... والتطبيع بالمعنى الذي سترد تفاصيله، والذي يجري تفعيله هو في حقيقته ولاية، والولاية لا تجوز إلا لمسلم. قال الله ـ تعالى ـ: {يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَعَدُوَّكُمْ أَوْلِيَاءَ تُلْقُونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَقَدْ كَفَرُوا بِمَا جَاءَكُم مِّنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَإيَّاكُمْ أَن تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إن كُنتُمْ خَرَجْتُمْ جِهَادًا فِي سَبِيلِي وَابْتِغَاءَ مَرْضَاتِي تُسِرُّونَ إلَيْهِم بِالْمَوَدَّةِ وَأَنَا أَعْلَمُ بِمَا أَخْفَيْتُمْ وَمَا أَعْلَنتُمْ وَمَن يَفْعَلْهُ مِنكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَوَاءَ السَّبِيلِ * إن يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَيَبْسُطُوا إلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَأَلْسِنَتَهُم بِالسُّوءِ وَوَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ} [الممتحنة: 1 - 2] .
ü عندما يغلب الطبع التطبع ... والتطبيع:
باعتبار أن اليهود هم أشد الناس عداوة للذين آمنوا؛ فإن العلاقة معهم ـ كأعداء ـ لا يمكن أن تستوي مع بقية الأعداء، وبخاصة أنهم يجمعون بين طباع الضباع والسباع في خستها ودناءتها، وقسوتها، وهو ما يجعل استقامتهم مستحيلة في التعامل مع البشر؛ فهكذا خُلقوا، وهكذا وُصفوا، وهكذا سيظلون إلى يوم القيامة: {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ وَكُفْرِهِم بِآيَاتِ اللَّهِ وَقَتْلِهِمُ الأَنْبِيَاءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَقَوْلِهِمْ قُلُوبُنَا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْهَا بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إلاَّ قَلِيلاً} [النساء: 155] ، {فَبِمَا نَقْضِهِم مِّيثَاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَجَعَلْنَا قُلُوبَهُمْ قَاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَن مَّوَاضِعِهِ وَنَسُوا حَظًّا مِّمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَلا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِّنْهُمْ إلاَّ قَلِيلاً مِّنْهُمْ} [المائدة: 13] ، {قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُم بِشَرٍّ مِّن ذَلِكَ مَثُوبَةً عِندَ اللَّهِ مَن لَّعَنَهُ اللَّهُ وَغَضِبَ عَلَيْهِ وَجَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَالْخَنَازِيرَ وَعَبَدَ الطَّاغُوتَ أُوْلَئِكَ شَرٌّ مَّكَانًا وأَضَلُّ عَن سَوَاءِ السَّبِيلِ * وَإذَا جَاءُوكُمْ قَالُوا آمَنَّا وَقَد دَّخَلُوا بِالْكُفْرِ وَهُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَاللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا كَانُوا يَكْتُمُونَ * وَتَرَى كَثِيرًا مِّنْهُمْ يُسَارِعُونَ فِي الإثْمِ وَالْعُدْوَانِ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * لَوْلا يَنْهَاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَالأَحْبَارُ عَن قَوْلِهِمُ الإثْمَ وَأَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ مَا كَانُوا يَصْنَعُونَ * وَقَالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَلُعِنُوا بِمَا قَالُوا بَلْ يَدَاهُ مَبْسُوطَتَانِ يُنفِقُ كَيْفَ يَشَاءُ وَلَيَزِيدَنَّ كَثِيرًا مِّنْهُم مَّا أُنزِلَ إلَيْكَ مِن رَّبِّكَ طُغْيَانًا وَكُفْرًا وَأَلْقَيْنَا بَيْنَهُمُ الْعَدَاوَةَ وَالْبَغْضَاءَ إلَى يَوْمِ الْقِيَامَةِ كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَيَسْعَوْنَ فِي الأَرْضِ فَسَادًا وَاللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ} [المائدة: 60 - 64] ؛ فهذه أخلاقهم وبخاصة مع المسلمين كما قال ـ تعالى ـ: {لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَدَاوَةً لِّلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَالَّذِينَ أَشْرَكُوا} [المائدة: 82] .
لماذا يطبّعون إذن ما دامت هذه طباعهم..؟ يمكن إرجاع ذلك إلى ما يلي:
- الاستراتيجية اليهودية تقوم على التوسع والسيطرة، بالسلم أو بالحرب، ولما كانت الحرب غير قابلة للاستمرار على الدوام {كُلَّمَا أَوْقَدُوا نَارًا لِّلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ} [المائدة: 64] ، فكان لا بد من صور أخرى لحرب صامتة وساكنة إلى جانب نمط الحرب الصارخة والساخنة، بحيث يظلون في حالة استنفار دائم، يمكِّنهم من إرباك وإنهاك الخصوم، مرة بالقتال في الساحات، ومرات بالمراوغة وإضاعة الأوقات في المباحثات والمفاوضات.
- أن الأفعى اليهودية التي تقضم في غضون كل عقد زمني (منذ حرب 1948م) قضمة من أراضي المسلمين، تحتاج إلى هضمها بعد قضمها، في فترة من الهدنة أو (الاستراحة) التي تكفي لارتخاء القبضة، وترهل القوة عند (الأغيار) وما يسمح بوقت كافٍ للتجهيز لمرحلة جديدة، يفاجئون بها العرب من جديد، ويقلبون في وجوههم طاولات المفاوضات ـ كما حدث عام 2000م ـ وينكثون ما سبق أن أبرموا من عهود وعقود: {أَوَ كُلَّمَا عَاهَدُوا عَهْدًا نَّبَذَهُ فَرِيقٌ مِّنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ} [البقرة: 100] .
- نظرية (الحدود الآمنة) التي طرحها (شيمون بيريز) الزعيم الإسرائيلي المبشر بالسلام النووي، في خطته «السلمية» التي عرفت بـ (الشرق أوسطية) تتلخص فكرتها في ضرورة صهر شعوب المنطقة في هوية جديدة، هي الانتماء إلى الشرق الأوسط بدلاً من الإسلام أو العروبة، فلا يكون الانتماء فيها للديانة أو العرق، بل للمنطقة، حتى يصبح اليهود جزءاً من نسيجها الظاهر، مع احتفاظهم الباطن بكل خصوصياتهم، وحرصهم في الوقت نفسه على تمييع خصوصيات من حولهم، حيث يكون هذا التمييع هو جوهر التطبيع.
- إذا كانت الحروب الساخنة هي أقصر الطرق للسيطرة على الأرض؛ فإن الحروب الساكنة هي أضمن الطرق للهيمنة والاستحواذ على ما فوق هذه الأرض، والتطبيع ـ على النمط الإسرائيلي ـ هو الوسيلة المثلى في ذلك؛ لأنه يقرِّب من القدرة على الاختراق في الجوانب السياسية والاقتصادية والثقافية والتعليمية والإعلامية والأمنية.
- اليهود رغم شدة بطشهم عند القدرة، هم قوم جبناء، يسكنهم الرعب الدائم والذعر المزمن الذي ينتاب السرَّاق والمجرمين المطاردين، والتطبيع هو طريقهم الوحيد للتخلص من هذا الكابوس، عندما يوقِّع لهم زعماء المنطقة تباعاً أنهم لن يحاربوهم وإنما سيحاربون من يحاربهم، ولهذا فإن البنود الأمنية هي أهم بنود كل الاتفاقيات السابقة للتطبيع، وأهم موضوعات المفاوضة والمقايضة في السنوات الأخيرة حتى كادت القضية كلها أن تكون قضية أمنية، لا تتباحث بشأنها إلا أجهزة المخابرات.
- مجموعة المفاهيم الإسلامية التي تدفع إلى استمرار روح المدافعة لدى العرب والمسلمين، مثل حب الجهاد والرغبة في الاستشهاد، وافتداء الدين والأرض والعرض.. كل ذلك يؤرق أحلام اليهود، ولا بديل عندهم من محاولة خلخلة تلك المفاهيم، مع السعي لإزالة ما ترسخ في الوجدان العربي والإسلامي من اعتبار اليهود أشد الأعداء، الذين يهددون أقدس المقدسات ويتجاوزون كل المحرمات.
- والعدو دائماً يحتاج إلى آلية، لتوظيف قطار المنافقين بين صفوف المسلمين، واستثمار نشاط المفسدين والجواسيس والخونة، على أيدي عناصر الاختراق التابعة له أو المتعاونة معه، ولا آلية أنسب لذلك من التطبيع.
- وإذا كان تقسيم البلدان العربية المحيطة بإسرائيل هدفاً يطول وقت الوصول إليه، فلا أقل من التعجيل بتقسيم مواقف تلك البلدان، وتجزئة جبهاتها، بحيث ينفرد العدو بكل طرف في مسار منفرد، ودهاليز خاصة، محجوب بعضها عن بعض بأسوار من الجدار العازل للثقة، والحاجب للبصيرة، ولهذا تكررت مهازل (الصلح المنفرد) فانفردت السياسة المصرية بعد كامب ديفيد، ثم انفردت منظمة التحرير للوصول إلى أوسلو، وانفردت الأردن لإبرام (وادي عربة) ، ثم اشترط الإسرائيليون على السوريين واللبنانيين أن يدخلوا في مسارات منفردة.
- ولعل من أخطر أهداف التطبيع ـ إضافة إلى ما سبق ـ حرص اليهود على إلجاء العناصر الفاعلة في الأمة ـ وعلى رأسهم الإسلاميون ـ إلى التسليم بالعجز، والاقتناع بالانصراف إلى معارك أخرى غير المعركة الكبرى، التي شرع الجميع ـ إلا من رحم الله ـ يتسللون عنها لِواذاً.
لكل هذا وغيره كان التنويع بين الحرب والتطبيع لدى اليهود حلماً فخاطراً فاحتمالاً، ثم أضحى حقيقة لا خيالاً، وقد تنوعت أشكال هذا التطبيع، وتعددت من ثَمَّ مخاطره، وأخذت ألواناً سياسية ودبلوماسية واقتصادية وثقافية وتعليمية وإعلامية وأيضاً ... أمنية.
ü وأخطرها: التطبيع السياسي والدبلوماسي:
وهو أخطرها لأنه البوابة الرئيسة التي تلج منها بقية الأنواع؛ فعندما يمارس الكبراء والزعماء التطبيع تحت سمع الميكروفونات وبصر الكاميرات، فإنهم بذلك يقصون شريط الافتتاح أو يطلقون رصاصة البدء، وعندها تغدو العقول مشدودة مشدوهة لفهم ما يجري، ثم يتتابع انفراط العقد المنظوم؛ حيث لا تكتفي الحكومات بأن يقتصر التطبيع عليها، فينحصر العار فيها، بل هي تستخدم كل قواها لتصوير التطبيع على أنه (إرادة الأمة) و (مطلب الشعب) و (مصير الجماهير) ! وأن معارضيه مجرد «زمرة» غير مسؤولة، أو «شرذمة» ذات عقلية غير ناضجة، وتبدأ حملات التعاون الإعلامي والأمني لإثبات أن القرار التاريخي ـ للزعيم ـ هو الخيار الاستراتيجي للأمة، وأن هذا القرار هو رأس الحكمة، وعين الصواب، والفراسة التي سبقت عصرها!
إزالة الحواجز ـ بالتطبيع ـ تبدأ أولاً على مستوى السياسيين والدبلوماسيين؛ فالتطبيع السياسي يبدأ باتصالات سرية، ثم مصافحات خجولة علنية، ثم لقاءات وجلسات تعقبها مباحثات لإبرام المعاهدات الشاملة لبقية أنواع التطبيع، والبداية دائماً على يد وسطاء مشبوهين، يجمعون بين رأسين في (الحرام السياسي) .
تفيض مذكرات واعترافات من شاركوا في مثل هذه المفاوضات، أن البداية المتعمدة دائماً في اللقاءات، كانت تقصد إلى ما يسمى: (إزالة الحواجز النفسية) أو قل رفع الحياء بين المسؤولين من الطرفين، حيث يجلسون سوياً على «مائدة عمل» يتبادلون خلالها الطعام، والكلام والابتسام، وربما النكات و (القفشات) ، وسط أنخاب (الصداقة) الجديدة الجريئة التي تزيح الرواسب و (العقد) وتريح النفوس من هواجس العداوات (المصطنعة) والأحقاد (التاريخية) التي عفى عليها الزمن! ولا بأس بعد ذلك من مسامرات وسهرات وزيارات وجلسات ـ ربما تكون عائلية ـ مع شيء من المباريات الرياضية، والحفلات الفنية ... حتى يتروض المتفاوضون السياسيون (نفسياً) على وضع طبيعي، أو تطبيعي، يجعل كلاً منهما (يتفهم) الآخر، ويكون أكثر (ليناً) وأكبر (عقلاً) وأقدر على (العطاء!) (1) .
ولا غرابة بعد هذا أن تجد هذا السياسي العربي «المكافح والمناضل» ، وقد تذلل لسانه بعبارات من قبيل (حق اليهود في الوجود) ، (إسرائيل وُجدت لتبقى) ، (حتمية الخيار السلمي) ، (عقلانية القبول بالواقع) و (ضرورة الاعتراف بالآخر) ... مع أن هذا «المهذب» سرعان ما يتحول إلى مخلوق آخر، إذا كان هذا (الآخر) المطلوب الاعتراف به هو الشعب نفسه الذي يعلن معارضته، أو يكون هذا (الواقع) المراد القبول به هو الضرر الذي يتأكد حصوله.
ü التطبيع الاقتصادي ... استراتيجية التسميم:
يعتمدون على دعوى أن العرب استنزفوا مواردهم الاقتصادية في النفقات العسكرية خلال حروبهم (الخاسرة) ضد «إسرائيل» ، ولو أنهم استخدموا هذه الطاقات في بناء مجتمعاتهم، لوفروا للشعوب الرفاه والاستقرار والأمن، ودعم المنظمات الدولية السياسية الاقتصادية!
كلام يقال لاستثارة غرائز الجشع والأنانية، التي تُجبَل عليها النفس الإنسانية عند ضعف الإيمان، حيث يلهج الأفراد والمجتمعات بعد الفتنة بهذا الدجل، بشعار من وحي الشيطان يقول: (أنا ... ومن بعدي الطوفان) !
ومع خسة هذا الشعار ودناءته؛ فإن مردديه (الواقعيين) يتعامون عن عدم واقعيتهم؛ فمصر ـ مثلاً ـ التي تخلت عن نهج المواجهة وتكاليف (المجهود الحربي) منذ ربع قرن؛ لم يتحسن أداؤها الاقتصادي ولا مستواها المعيشي، بل الجميع يعرف أن الشريحة الأوسع من الشعب المصري، وهي الطبقة المتوسطة اقتصادياً، كادت تختفي ليبرز في الصورة شريحتان هما: الطبقة الفقيرة المعدمة، والطبقة الغنية المتخمة، وهو ما يعكس واقع الأزمات الاقتصادية المتتابعة التي أوصلت معدل البطالة إلى 10.5% وإجمالي الديون الخارجية إلى حوالي 30 مليار دولار، والديون الداخلية إلى نحو 300 مليار جنيه، حتى أصبح نصيب كل فرد من الشعب في الديون 6600 جنيه بما أوصل نسبة الفقر إلى 55%، بحسب التقديرات الدولية لحد الفقر، و25% بحسب التقديرات المصرية بعد أن كان مبرمو اتفاقية كامب ديفيد قد وعدوا الشعب بالرفاه والرخاء طبقاً لمشروع (مارشال) الذي وعدت به أمريكا، وظروف كل من الأردن وفلسطين ـ في ظل اتفاقات السلام، ليست أفضل من هذا؛ فالشعب الفلسطيني في ظل (أوسلو) لم يزدد إلا معاناة وعوزاً، بالرغم من أن الوعود كانت تأتيه بتحويل أراضي السلطة إلى سويسرا الشرق!
ولقناعة الأمريكيين بأن سياسات التطبيع الاقتصادي ـ في ظل الجشع الإسرائيلي ـ ستؤدي إلى نتائج محرجة؛ فقد تعهدوا مبكراً بتقديم «مساعدات» ، مالية، هي في حقيقتها مقايضات سياسية، لتجميل قبح المقايضة من ناحية، ولتطويل عمر الصفقة من جهة أخرى، حيث إن قبح المقايضة مخيف، وثمنها فادح، فعلى المصريين في مقابل تقاضي 2 مليار دولار سنوياً، أن يظلوا «متمسكين» بالتخلي عن فلسطين وما قد يلحق بها، فلا يمدون يداً للمساعدة إلا على المستوى الدبلوماسي والسياسي و ... الأمني!
إضافة إلى أن ما يأخذه المصريون باليد اليمنى، تسرقه (إسرائيل) باليد اليسرى، على شكل تسهيلات وضمانات واحتكارات اقتصادية، لعل أخطرها وأقذرها احتكار بترول سيناء؛ حيث تحتكر (إسرائيل) بمقتضى كامب ديفيد 80% من وارداته ولمدة 50 سنة منها، وبثلث السعر العالمي، وهو المادة التي لا يمكن بدونها تشغيل الطائرات ولا الدبابات ولا الغواصات، بل ولا المحطات النووية الإسرائيلية.
ومن جانب آخر فإن ما يتقاضاه المصريون مقابل الالتزام بأن تكون حرب أكتوبر 1973م هي آخر الحروب مع إسرائيل، تتقاضى (إسرائيل) أكثر منه دون أن تلتزم بأن تكون أي حرب هي آخر الحروب مع العرب؛ فهي تتقاضى أيضاً 3 مليارات دولار سنوياً، مكافأة على «التزامها» بعدم العدوان العسكري على مصر (فقط) . في حين أنها تتقاضى لتوسيع العدوان على بقية جيرانها وجيران جيرانها ما لا يقل عن عشرات المليارات، فبين عامي 1976م وحتى عام 2000م بلغت المنح الأمريكية للدولة اليهودية أكثر من 90 مليار دولار، هذا بخلاف القروض المسهلة والمؤجلة والملغاة السداد.
وبمناسبة اتفاقية كامب ديفيد (السياسية) المنعقدة عام 1979م، فهناك «كامب ديفيد» أخرى اقتصادية، أبرمت بين مصر وإسرائيل في (عام الذبح) الفلسطيني 2004م، وهي اتفاقية (الكويز) التي تعني اختصاراً: (المناطق الاقتصادية المؤهلة) ، وهذه الاتفاقية تعد اختراقاً إسرائيلياً جديداً، للاقتصاد العربي ـ بإخراج أمريكي ـ عبر البوابة المصرية، وهي تهدف إلى تحقيق الغاية التي عجزت عنها سياسات التطبيع في معاهدات السنوات الماضية، وهي: إدماج (إسرائيل) في المحيط العربي الشعبي الرافض لها.
وتعد هذه الاتفاقية هي باكورة إنتاج مشروع (الشرق الأوسط الكبير) أو (الشرق الأوسع) الذي أطلقه جورج بوش، وهي تطبيق لبعض أفكار شيمون بيريز في مشروعه (الشرق الأوسط الجديد) الذي صدر في كتاب له بنفس الاسم عندما كان رئيساً للوزارة الإسرائيلية، وهنا تلاقت أفكار الهيمنة والصهينة الأمريكية الإسرائيلية، الهادفة في النهاية إلى تفكيك المنطقة العربية ثم إعادة تركيبها وفقاً للمصالح اليهودية والصليبية، وقد وقع الاختيار على مصر في (كامب ديفيد الاقتصادية) كما وقع الاختيار عليها في كامب ديفيد السياسية لتكون البداية منها باعتبارها (الشقيقة الكبرى) التي «تقلدها» أخواتها الأخريات ولو بعد فترة من المعاكسات والمشاكسات.
الاتفاقية ظاهرها تأهيل الصناعات المصرية (وبخاصة صناعة النسيج) لتكون قادرة على المنافسة مع السوق الأمريكي، ولكن هذا التأهيل ـ ولاحظ الخبث ـ يحتاج إلى أن يكون داخل هذه الصناعة مكوِّن إسرائيلي بنسبة 11.7% ومكوّن أمريكي بنسبة 15%، وهو ما يعني أن تكون لهم شراكة مباشرة في صناعة النسيج المصري كبداية، حيث ستكون تلك الاتفاقية بداية لاتفاقيات شبيهة في صناعات أخرى؛ ووفقاً لهذه الاتفاقية ستدخل (إسرائيل) كعنصر أساس من عناصر تشغيل العديد من المصانع المصرية حيث سيستجيب الكثيرون بدوافع مختلفة؛ فأي دعوة مهما كانت شيطانية وإجرامية، ستجد من يستجيب لها، ثم يبحث عن مسوغاتها، وقد كشف رئيس اتحاد الصناعات الإسرائيلي في بداية شهر مارس 2005م، أن أكثر من 400 مصنع مصري في مجالات الأنسجة والمعادن والجلود والأغذية قدمت طلبات لإقامة خطوط إنتاج مشتركة مع مصانع إسرائيلية في منطقة التجارة المصرية الإسرائيلية المشتركة، وقال المسؤول الإسرائيلي إنه من المتوقع أن ينمو حجم التصدير الإسرائيلي إلى مصر ليبلغ 100 مليون دولار سنوياً، وأنه سوف يتضاعف ليصل إلي مبلغ 200 مليون بعد أربع سنوات، وكثير من الدول العربية مرشحة للحاق بهذا الركب، وهو أمر لم يعد غريباً بعد أن بلغت قيمة التعامل الاقتصادي السري والعلني بين (إسرائيل) وبعض الدول العربية ما قيمته 194 مليون دولار، رغم قرارات المقاطعة العربية، وهو ما يعني أن هذه الاتفاقية ستكون بداية للقضاء على ما كان يسمى بـ (استراتيجية المقاطعة العربية) مثلما قضت اتفاقية كامب ديفيد على ما كان يسمى بـ (استراتيجية الدفاع العربي المشترك) ، وهو ما يقدم خدمة مجانية لدولة اليهود، ترفع عن كاهلها كابوس المقاطعة التي كبدتها بين عامي 1948م إلى 2004م، ما يقرب من مائة مليار دولار. والخدمة الأكبر التي تقدمها هذه الاتفاقية لـ (إسرائيل) هي أنها ستدعو بقية الدول إلى الاستعلان بالتطبيع بعد أن كانت تستخفي به، وهو ما أعلنه (إيهود ألمرت) وزير التجارة الإسرائيلي بعد توقيع الاتفاقية. ومن الطبيعي أن تستهدف (إسرائيل) إضافة إلى ترويج سلعها في السوق العربية بهذه الاتفاقية؛ تحطيم البدائل الوطنية، حتى لا يجد المنادون بتلك البدائل عن المنتجات الأمريكية والإسرائيلية ما يشجعهم على الاستمرار في دعوات المقاطعة، إضافة إلى ما ينتظر من انسحاب الدول المنضمة إلى اتفاقية الكويز من اتفاقية المقاطعة العربية لـ (إسرائيل) ، مثلما فعلت الأردن التي أعلنت انسحابها بعد التوقيع على الاتفاقية نفسها قبل مصر، ويذكر هنا أن اتفاقية الكويز أو (الكامبويز) لا تقتصر على التطبيع الاقتصادي، بل تتوسع إلى ما تبقى من مساحات لم يملأها التطبيع السياسي والثقافي.
والعجيب أنها جاءت بعد أربع سنوات من الإذلال السياسي للعرب جميعاً مشخصاً في الفلسطينيين؛ حيث لم يستطع العرب أن يفعلوا شيئاً لشعب ظل هدفاً للرماية المسعورة في عملية اجتياح مجنونة، ختمت بقتل ثلاثة من الرموز التي بقيت غصة في حلوق الإسرائيليين وهم: الشيخ أحمد ياسين، والدكتور عبد العزيز الرنتيسي والرئيس ياسر عرفات، وجاءت بعد ثلاثة استباحات لساحات عربية وإسلامية، وهي فلسطين وأفغانستان والعراق، وجاءت بالتزامن مع برهنة (إسرائيل) على «احترامها» لكامب ديفيد السياسية، بإطلاق نيران دبابة إسرائيلية عمداً لقتل ثلاثة جنود مصريين في رفح داخل الحدود المصرية.
ü التطبيع الثقافي واقتحام المحرمات:
قد يقلل بعضهم من خطر التطبيع الثقافي وعدم جدواه في المنظور القريب، نظراً لمستوى الطموح الجامح الذي يتطلع إليه الإسرائيليون من خلال تطبيق أفكار ذلك التطبيع، وهذا صحيح إذا نظرنا لفردية التحرك الإسرائيلي في هذا الجانب، ولكن الهجمة الأمريكية الأخيرة التي أصبحت رديفاً للمخططات الإسرائيلية في كل مجالاتها، أعطت هذا الأمر بُعداً أخطر؛ حيث أفصحت تفاصيل تلك الهجمة عن استهداف صريح للخصوصيات الثقافية للأمة باسم الحرب علي الإرهاب، وهي الحرب التي تتضمن في جانب كبير منها ما أسموه (التصدي لثقافة الإرهاب) ! وهذه الثقافة (الإرهابية) كما يزعمون، لا تعني في الحقيقة إلا التوجهات الداعية للرجوع بالأمة إلى ثوابتها المأخوذة من منهج السلف، ولهذا فإن (التوجه المنهجي السلفي) يأتي الآن في مقدمة التوجهات التي تستهدفها الحملة الأمريكية، مرة بذريعة (التشدد الحنبلي) وتارة تحت وصف (التطرف الوهابي) ومرات أخرى باسم (الأصولية الإسلامية) . فالحملة ليست قاصرة على محاربة العنف فقط، ولهذا فإن المتوقع هو أن تركز حملات التطبيع الثقافي في الحاضر والمستقبل القريب على محاربة مرتكزات التوجه المنهجي السلفي، بوجه عام لأنه يعكس هوية الأمة، إضافة إلى أنه أصبح خط الدفاع الأول عن ثوابتها، والرافد الأساس لما يمكن أن يسمى بـ (ثقافة المقاومة) في كل المجالات والساحات المستباحة في العالم الإسلامي، حيث أصبح (أهل السنة) ، هم الفصيل الوحيد الفاعل في مواجهة الهجمة الصهيونية المشتركة بين أمريكا وإسرائيل وحلفائهما.
يدل على ذلك دلالة لا تقبل الشك، ما تضمنه مشروع (الإسلام المدني الديمقراطي) الهادف في جوهره إلى إلجاء المنهج السني السلفي إلى أضيق الطرق، لإفساح المجال للبديل (الروحي) للشعوب، ممثلاً في التصوف والتشيع و (الاستنارة) !
والعجيب هنا، أن الأمريكيين الذين لا أصل لهم ولا تاريخ، يطالبوننا ـ لصالح اليهود ـ بالتخلي عن أصولنا الأصيلة اللاصقة بهويتنا وحضارتنا، والأعجب منه: أنهم يتجاوزون في الوقت نفسه عن تنامي المد (الأصولي) اليهودي في (إسرائيل) ؛ حيث تقوم دعائم هذا الكيان على منهجية ثقافية عقائدية عنصرية تعود إلى ما قبل ألفي عام، ولا تجد من يطالبها بتغيير المناهج ولا تعديل الأفكار ولا الاقتراب من قيم التسامح والعدالة وقبول الآخر، ثم إنك تعجب ـ مرة ثالثة ـ من التطبيعيين العرب الذين لا يستحي أجلافهم من المطالبة بـ (نسيان الماضي) في تراثنا، ويلمزون هذا التراث بجملته بـ (الماضوية) و (الظلامية) في حين أنهم يتعامون عن تشبث أصدقائهم الطبيعيين من الإسرائيليين بإحياء مورثاتهم الثقافية المثبتة لدعواهم التي يطلقون عليها: (الحق التاريخي) ، وهذا (الإحياء) يتضمن إعادة الاعتبار لكل ما هو عبري يهودي، ونزعه من كل ما هو عربي إسلامي، كنزع اسم فلسطين ليوضع مكانها (إسرائيل) ونزع اسم (القدس) ليوضع (أورشليم) ووضع اسم (يهودا والسامرة) بدلاً من الضفة الغربية لنهر الأردن، وإعادة تسمية المدن والقرى والآثار بأسماء عبرية. وحتى المساجد والمعابد التاريخية يجري التغيير في اسمها ورسمها لمحو رمزيتها الثقافية والحضارية، فيتحول (المسجد الأقصى) إلى (جبل الهيكل) بكل ما يعنيه ذلك من توجهات خطيرة تهدف إلى تنفيذ أكبر عملية سطو حضاري يتطلع إليه الإسرائيليون، لتغيب هذه الرمزية الثقافية والدينية الأكبر التي تربط العرب والمسلمين بفلسطين، وذلك من خلال ذلك المشروع الشيطاني المعاند لمسيرة التاريخ، والمتعلق بمخطط هدم المسجد الأقصى لبناء (الهيكل الثالث) مكانه؛ حيث يراد أن يقام هذا البناء العبري ليزيل التاريخ العربي الإسلامي بأكمله عن فلسطين، حتى تنشأ أجيال تقول: كان هنا فلسطين ... كانت هنا القدس! كان هنا الأقصى، مثلما نقول نحن الآن ونحن ننظر إلى خريطة جنوب غرب أوروبا ونقول: كانت هنا الأندلس.. كانت هنا إشبيلية.. كانت هنا غرناطة ... كانت هناك دولة خلافة أموية ... قبل الخلافة العثمانية، التي (كانت) في جنوب شرق أوروبا!
كل يوم يمر، يثبت لأعداء الأمة أن الإسلام هو سر ما تبقى من قوتها، بما تبقى من التمسك به؛ ولهذا فإن المعركة بمرور الأيام تتمحض مع ما يمثله هذا الإسلام من منهاج وثقافة ورموز وأتباع. يقول الكاتب الإسرائيلي (ألوف هارايفين) : «هناك عقبات صعبة أمام التطبيع، وأهمها الموقف الثقافي والعقائدي للإسلام والعروبة تجاه (إسرائيل) واليهود، والحل يستدعي الاعتماد والارتكاز على ضرورة وجود برامج مركزة في المجال التعليمي والثقافي، بهدف تفتيت الملامح السلبية للموقف تجاه الآخر، وأحد الأسس الحيوية لبرنامج كهذا هو الرصد الشامل والتغيير العميق لبرامج ومناهج التعليم» .
إن هذه المهمات التي يراها أعداؤنا (عقبات صعبة) يتبرع التطبيعيون بتسهيلها وتذليلها في معاهدات رسمية، تتحول مع الوقت إلى جزء من النظام العربي و (الشرعية الدولية) .
ومثلما نصت معاهدة كامب ديفيد على رعاية الجانب الثقافي في التطبيع؛ فقد جاءت اتفاقية (وادي عربة) على الطبيعة نفسها، بل زادت في التفصيل، حيث نصت في المادة العاشرة على أوجه من التطبيع الثقافي، فقالت:
- «انطلاقاً من رغبة الطرفين في إزالة كافة حالات التمييز التي تراكمت عبر فترات الصراع؛ فإنهما يعترفان بضرورة التبادل الثقافي والعلمي في كافة الحقول، ويتفقان على إقامة علاقات ثقافية طبيعية بينهما» .
- وجاء في المادة الحادية عشرة: «يسعى الطرفان إلى تعزيز التفاهم المتبادل فيما بينهما والتسامح القائم على ما لديهما من القيم «التاريخية» المشتركة، وبموجب ذلك فإنهما يتعهدان بما يلي:
أ - الامتناع عن القيام ببث الدعايات المعادية القائمة على التعصب والتمييز، واتخاذ كافة الإجراءات القانونية والإدارية الممكنة التي من شأنها منع انتشار مثل هذه الدعايات؛ وذلك من قِبَل أي تنظيم أو فرد موجود في المناطق التابعة لأي منها.
ب - القيام بأسرع وقت ممكن بإلغاء كافة ما من شأنه الإشارة إلى الجوانب المعادية، وتلك التي تعكس التعصب والتمييز، والعبادرات العدائية في نصوص «التشريعات» الخاصة بكل منهما.
ج - أن يمتنعا عن مثل هذه الإشارات أو التعبيرات في كافة المطبوعات الحكومية.
ü التطبيع الاجتماعي ... قاع الضياع:
فالضياع في هذا المجال من التطبيع، هو هدف بحد ذاته؛ حيث لا يطمع الإسرائيليون ـ وقد لا يريدون ـ أن تذوب الحواجز الاجتماعية بينهم وبين (الجوييم) أو (العامة) أو (الكوفريم) ـ يعني الأغيار الكفار ـ ولكن لما كان من دأب اليهود على مر التاريخ أن يستخدموا سلاح (الفساد الأخلاقي) ضد (الغرباء) ؛ فقد كان متوقعاً منهم ـ إذا فتحت لهم الأبواب ـ أن يسارعوا إلى إغراق الأجواء العربية الاجتماعية بكل ألوان الإفساد، وبخاصة الإفساد الموجه لشريحة الشباب، وتشهد المناطق التي فتحت السياحة فيها للإسرائيليين كيف أن اليهود استغلوا هذا الجانب في دفع الشباب إلى أوجه متعددة من الانحراف الذي قد يصل إلى حد التجنيد للعمالة أو الجاسوسية أو القوادة، وقد سهلت تشريعات التطبيع هذه المهمة بالسماح باقتران اليهوديات المشبوهات من شباب العرب والمسلمين؛ حيث وصل عدد الزيجات المختلطة ـ على الجانب المصري في ظل كامب ديفيد ـ إلى واحد وعشرين ألف حالة..! هذا عدا عما يمكن أن يقام من علاقات ـ خارج القانون ـ بسبب الانفتاح السياحي الإباحي في المنتجعات والشواطئ والملاهي.
- ولم يخلُ الأمر من إفساد الأجواء الصحية إلى جانب إفساد الأجواء الأخلاقية؛ فهناك موجة من انتشار الأمراض الناشئة عن الانحلال الخلفي والممارسات المحرمة، إلى جانب إغراق الأسواق بأشكال وأنواع من المخدرات التي أصبحت في متناول الفقراء قبل الأغنياء، في ظاهرة لم يعرفها الشعب في مصر إلا بعد تمكين اليهود من ممارسة مهمتهم (الطبيعية) في إفساد الأجيال، كما دلت عليها بروتوكولاتهم المعاصرة التي تبرمج لتطبيق معتقداتهم وتصوراتهم القديمة في طرق إخضاع الأعداء.
ومن ضمن ما يستهدفه اليهود من وراء التطبيع الاجتماعي، أن يجدوا مدخلاً إلى وضع حد لظاهرة (الانفجار السكاني) كما تطلق عليه وسائل الإعلام العربية نفسها؛ حيث يعتقد الإسرائيليون أن هذا التوسع السكاني هو القنبلة الموقوتة التي تهدد وجودهم برمته ـ وبخاصة في فلسطين ـ التي بارك الله في نسلها كما بارك في أرضها، فيعمد الإسرائيليون إلى فعل ما يستطيعون لتقليل هذا النسل، إما بالترويج لوسائل تحديد النسل ـ من خلال عملائهم التطبيعيين ـ أو من خلال وسائل نشر أمراض التناسل، أو إيقافه بوسائل من التعقيم المباشر ـ بإشراف أوساط طبية مشبوهة، أو أدوية مانعة مغشوشة. وقد وصل الأمر في الأراضي الفلسطينية المحتلة ـ كما يقول (عبد العزيز شاهين) وزير الصحة الفلسطيني السابق، إلى حد ترويج أنواع من علكة اللبان، التي تؤدي إلى العقم، حيث اكتشفتها السلطات الفلسطينية وصادرت منها ـ كما يقول الوزير ـ نحو عشرين طناً!
ü هراوات لا تخيف الأمة ... وهرولات لا تُلزمها:
من مفارقات زمن الوهن الذي نعيشه، أن الهرولة العربية كانت تسوقها دائماً هراوة أمريكية في كل مرة تسارع فيها الأنظمة صوب عدوها، وقد اقترن التطبيع باسم أمريكا في كل مراحله السابقة بدءاً من كامب ديفيد الأولى وحتى شرم الشيخ الأخيرة، فقد درجت الولايات المتحدة على أنها كلما صُفع العرب صفعة حرب، أتبعتها بصفقة سلام حقيقته استسلام، هكذا فعلت بعد حرب أكتوبر والثغرة وفك الارتباط (كامب ديفيد) وبعد حرب لبنان (اتفاق 17 مايو) وبعد حرب الخليج الثانية (مؤتمر مدريد ثم أوسلو ثم وادي عربة) . وها هي بعد حرب الخليج الثالثة تطمع بالتنسيق مع (إسرائيل) ، في حشد بقية الدول العربية وحشرها في سلك السلام ... سلام (إسرائيل) .
وقد اتضح بعد غزو العراق أن أمن (إسرائيل) كان يشغل أكبر هواجس أمريكا؛ حيث شرعت بعده مباشرة في الحديث عن مشروع الشرق الأوسط الكبير، الذي يهدف إلى جعل إسرائيل جزءاً من المنطقة، ليتطابق ذلك مع مشروع الشرق أوسطية لبيريز، ولتتحول هذه المنطقة الشاسعة المحيطة بـ (إسرائيل) بعد تطويقها وتطبيعها، إلى فِناء فارغ لفضاء آمن، ولهذا سارعت أمريكا بشكل متسرع إلى الدعوة إلى برامج جديدة للتغيير» و «الإصلاح» الأمريكي الذي يستهدف إضعاف ما تبقى من مناعة الأمة ضد أي اختراق ثقافي أو حضاري أو سياسي أو اقتصادي.
لا نبالغ إن قلنا إن الوجه المدني من الحرب الأمريكية على ما تسميه بـ (الإرهاب) هو في حقيقتة نوع من تطبيع الهزيمة، وفرض التعايش السلمي معها، لا بحسابات السنين والأعوام، ولكن بحسابات الأحقاب والأجيال، ولهذا سارع شارون ببسط يده الحمراء ليضعها في يد بوش الغبراء، مبايعاً إياه على النصرة والشراكة في تلك الحرب المصيرية الشاملة.
أما الشعوب العربية والإسلامية في وسط كل هذا؛ فهي غير معنية ـ إذا خُيِّرت ـ بذلك التطبيع، ولو أجريت استفتاءات محايدة لتبين أن جُل الأمة تلعن كل سياسة تقرب من اليهود باعاً أو ذراعاً، في أي مجال من المجالات، وهنا ندرك عمق الهوة بين هوية الأمة وأهواء كثير من حكامها. ولكن نستطيع أن نقول: إن تلك الأهواء مهما كان وراءها من دوافع ترغيب أو ترهيب، فإنها لا تلزم الشعوب؛ حيث إنه من الممكن أن تصمد تلك الشعوب أمام الترهيب وترغب عن الترغيب، لأنها تملك مساحة أوسع للتحرك، وحرية أكبر في القبول أو الرفض؛ ولذلك فإن استراتيجية المقاطعة التي تقاطعها الأنظمة الآن تباعاً، يمكن أن تُبقي عليها الشعوب وتفعِّلها في جميع أوجهها الثقافية والاقتصادية والتعليمية والإعلامية لتهزم التطبيع وتحول دون تطبيع الهزيمة، وبخاصة إذا كان في طليعة مقاومة الهزيمة ومقاطعة التطبيع وجهاءُ الأمة وعلماؤها ورموز الدعوة والحركة فيها على أن تكون لهم منطلقاتهم وبرامجهم ووسائلهم الواضحة، ونقترح منها ما يلي:
- نفض اليد من قيام الجهات الرسمية العربية بدور فاعل في مناهضة التطبيع، والاعتماد ـ بعد الله تعالى ـ على استنهاض أخص خصائص الأمة الخيرية، وهي الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، للوقوف في وجه هذا المنكر المتعدد الوجوه: التطبيع.
- تأصيل أبعاد التصدي للتطبيع على أسس شرعية، مستخرجة من محكمات الكتاب والسنة، واستحداث الدراسات والفتاوى في ذلك، حتى لا تبقى الأمور المتعلقة بالتطبيع مجرد «حريات شخصية» أو «أذواق فردية» .
- استخدام ذلك في إيجاد جبهة ـ وليس لجنة ـ لمقاومة التطبيع، تضع أسساً لمدافعته، كما يضع أصحاب التطبيع في المقابل الاستراتيجيات لنشره وتقويته.
- إبراز الآثار الوخيمة العاجلة والآجلة للتطبيع، من خلال لجان لرصدها، والتعاون مع المنظمات والهيئات الشعبية في ذلك، لإظهار آفات التطبيع ونتائجها الملموسة والمحسوسة في البلدان التي بليت بها.
- استغلال وسائل الإعلام الأوسع انتشاراً، والأقوى أثراً ـ وعلى رأسها المساجد ـ للتذكير بهذا البُعد المهمل من المعركة مع اليهود في حربهم الصامتة ضدنا، وإبقاء جرائمهم التاريخية ـ القديمة والمعاصرة ـ حاضرة في الذاكرة وبارزة في الأذهان.
- من الأسلحة الأمضى في مقاومة مشاريع التطبيع دعم مشاريع المقاومة؛ فهناك ارتباط وثيق بين ضعف المقاومة وزيادة الإقبال على التطبيع ـ رسمياً أو شعبياً ـ والعكس صحيح.
- إذا كانت المقاطعة سلاحاً قوياً في وجه أصحاب مشاريع التطبيع، فإنها ينبغي أن تكون السلاح الأقوى في مقاطعة الداعين والداعمين له، باعتبارهم مناصرين للعدو، ومؤيدين لتطبيع الهزيمة أمامه.
وأخيراً.. فلعل السؤال الذي يتكرر كثيراً عند طرح الكلام عن الأخطار والمؤامرات، مجسداً في عبارة: (ما دورنا نحن) ؟ يجد الإجابة أو شيئاً من الإجابة في ثنايا هذه المقترحات وغيرها، لعلنا حقاً نكون معاً.. لهزيمة التطبيع.. لا لتطبيع الهزيمة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق