الأحد، 6 نوفمبر 2022

النخبة المبيوعة

النخبة المبيوعة



موكول إليها قيادة ثورة لكنها تغرق في لعاب الحلزون. هذه هي نخبة المعارضة التونسية. وتبدع في إلقاء اللوم على السلطة فرؤية عجز الآخرين يعفي من الحركة. هكذا اشتغلت تحت الدكتاتورية وهكذا استعادت دور المتسول قدام السلطة الجديدة ولو أنها تتمتع الآن بجرعة من الحربة المؤقتة التي ستفقدها قريبا وتتحسر وتلقي اللَّوم كالعادة على  السلطة.

1.  العين دوما على القصر

ذات يوم من أيام حكم بايات تونس وكان الاستعمار ينيخ بكلكله على البلد ويمتص ثرواته كما تفعل العنكبوت بضحيتها كتبت جريدة الصباح الغراء أن سيدنا وهي تسمية باي تونس لدى نخب العاصمة قد تعافي من أزمة العكس وأطلق الريح وترجمة ذلك أن الصحيفة وهيئتها ومحيطها وجمهورها كانوا على علم ومتابعة لحالة الإمساك التي يعيشها الحاكم وأن الصحافة الغراء كانت تتابع حالته الصحية حتى فسا فسوة  خففت ألمه فحمدت الصحيفة الله على صحة مولانا الفسَّاء. وكان الخبر في صدر الصفحة الأولى بالبنط العريض.

الأمر لم يختلف إلا قليلا في عهد الزعيم فقد كانت الأخبار غير الرسمية كلها تتداول مواعيد بوله في سراويله وتعرف حتى مواعيد اختلائه بالتفاح وطبعا الجميع كان يعرف أن زوجته لا تقاسمه الفراش لأنه كان بخصية واحدة. لكن الجميع وخاصة المعارضة العبقرية ذات الإيديولوجيات السميكة لم تكن تعرف حجم ديون البلد ولا الاختراقات الجاسوسية التي كانت تعد الخلافة وما بعدها.

أيام الدكتاتور كانت المعارضة تعرف مواعيد العلاج من السرطان الذي يعانيه (تبين لاحقا أنه كان بصحة جيدة) وأن أمراضه كانت لتنويم المعارضة لتنتظر القدر يفرغ لها كرسي الرئيس. 

النخبة السياسية المعارضة التي تنتظر القدر أن يقدم لها السلطة على طبق من ذهب لم تفعل شيئا بقيت شاخصة في ما يحدث في القصر من خزعبلات. ولم تنفذ إلى الشارع ولم تقرأه ولم تعمل معه ولم تقبل به فاعلا حتى فاجأها في عقر مكاتبها المكيفة فأسقط رأس السلطة ومنحها السلطة فعلا على طبق من ذهب لكنها ضيعتها كما يضيع تلميذ رخو اليدين لعبة قدمت له. وعادت تشخص للقصر وما يحدث فيه فالقصر عاد إلى أصحابه. والمعارضة عادت إلى مواقعها تنتظر القدر أن يخطف روح الرئيس ليمنحها المكان بلا جهد. 

2.  الانفعال لا الفعل 

ما ميَّز النخب السياسية التونسية منذ نشأة ما يمكن أن نصنفه في الفعل السياسي العام هو حالة التواكل على القدر وانتظار تغيّر الأحداث لصالحها من تلقاء نفسها. وهذا النمط من الفعل السياسي عزل النخبة عن نبض الشارع وحصر فعلها في السياسي السياسيوي فلم تنتج فكرا يفهم الناس وتطلعاتهم ولم تنتج  فعلا يوجه الناس ويحفزهم للفعل الجماهيري بل إن ذلك الفعل الجماهيري يرعب النخبة ويشتت تركيزها على الفرصة الفريدة المنتظرة بالقدر. فرصة موت الرئيس وخلوّ القصر وربما حلمت قطاعات كثيرة من هذه النخبة بأن يؤتى لها بعربة مولانا لتركبها في حفل التتويج.

وليس هذا حكرا على النخبة الحضرية الليبرالية الأهواء التي تربت بجوار قصر الباي منذ قرون وورثت صورة العالم من خدم القصور. بل انتقل المرض النخبوي إلى اليسار الذي يزعم إيديولوجيا الانغراس في الجماهير فلم نجد في الموقف والفعل إلا طلاب سلطة بأقصر السبل لا علاقة لها بالعمل الجماهيري ولا برفع وعيها ولا توجيهها نحو حركة الشارع وليس أدل على ذلك من فقدان هذا اليسار لقاعدة عمالية حقيقية  تنصر خطابه وتتبناه وتنقاد له بل وجدنا يسارا يشتغل بالنخبة ومعها ولها ويقتسم معها موقع التعفف عن العمل الجماهيري ويشخص إلى القصر وإلى من يمكن تسريبه بسبل التحايل السياسي ليكون عينا ويدا داخل القصر يمد يد المساعدة لمن خارجه بمنصب وتعيين في سفارة أو قنصلية.

3.  الزعامات الصغيرة  الحقيرة 

السياسة السياسوية أنتجت زعامات صغيرة وحقيرة  فاقدة للقدرة على  الحديث مع الشارع وإقناعه بالفعل السياسي العميق البناء. لقد بينت لنا انتخابات 2014 أن الشارع أحسن تقدير هذه الزعامات عندما أقصاها وأخرجها من المشهد. وأنهى الحياة السياسية للكثير منها. فلم تبق إلا ذكرى لمن يعتبر.

لكن رغم الدرس البليغ فإن هناك جيلا آخر من الزعامات الصغيرة يريد تسلق المشهد بنفس السلم القصير. وها نحن نتابعه يشخص من جديد للقصر وما يجري فيه ويردد إشاعاته ويبني عليها فرضيات الفعل السياسي ولا يبادر بفعل يعتمد العمل مع الناس وقراءة  مطالبهم وتوجيه فعلهم رغم أنه يتكلم باستمرار باسم الشعب والديمقراطية. التكالب على المناصب والغنائم السياسية هي هدف الزعامات.

كيف تكون نجما في المشهد. كيف تخلف الباز(buzz) الصحفي كيف تنتصر في محاورة تلفزية هذه أقصى أهداف الزعماء الجدد. إنهم ليسوا أكثر من أطفال كبار مدللين يشاكسون معلمتهم غير المهتمة بجهلهم لأنها بصدد نسج قميصها الصّوفي في الفصل الدراسي. لم يتغير المشهد السياسي النخبوي في تونس بعد الثورة رغم التحرر من ربقة الحزب الواحد وانفجار الحرية وانفلات الإعلام. لم تنتج النخب مشروعها الديمقراطي الحقيقي بل فكرت كما فكر أسلافها في تغيير رأس السلطة وأخذ مكان الحاكم لمواصلة نفس المشروع. مشروع  توزيع فوائد السلطة على الأصحاب وإحكام القبضة على رقاب الشعب بالبوليس.

4.  فقدان القدرة  على العمل المشترك 

لماذا تعجز النخب السياسية التونسية على العمل السياسي المشترك ضد السلطة القائمة؟ رغم أن المطلع على برامجها الورقية يجد تناسخا مثيرا للشفقة فكأنها تنقل من بعضها البعض نفس الجمل ونفس المشاريع. متفقون على الورق مختلفون بل متناحرون في الشارع. 

التفسير عندي أن هؤلاء الأطفال الكبار أو الرجال الصغار يريدون الفوز بمكاسب سريعة يرونها قليلة وغير كافية للجميع. ولذلك يخيل إليهم أن الاشتراك مع الآخرين يعني قسمة القليل على الكثير بما يجعل  قسط الواحد أقل مما يطمع. هناك كرسي وحيد للرئيس فمن سيجلس عليه؟ هناك عدد محدود من الوزراء فمن سنوزر لو اشتركنا؟ هناك مناصب قليلة لها رواتب كبيرة فكم سنوزع على الأصدقاء والأنصار والمقربين؟

 من تواضع دون كرسي الرئاسة من الزعماء فلن يقبل بأقل من الوزارة ومن تواضع دون الوزارة فلن يقبل بأقل من سفارة . جميع الزعماء يرون أنفسهم رؤساء كبارا على شعب صغير للأسف. كل عمل سياسي مشترك يعني أن ندخل في احتمال التفريط في الموقع وخسارة النجومية الإعلامية والسيارات الإدارية والمسكن الوظيفي في قرطاج وكوبونات الوقود المجاني وربما السكرتيرة الجميلة اللعوب. 

هذه طموحات النخب التي تعرت بعد الثورة. وكانت تتخفى قبلها باسم معارضة الدكتاتورية وبناء المجتمع الديمقراطي فلما أتيحت لهم (بفضل الشارع الجبار المستغني عن النخب) انكشف المطامع الصغيرة للزعامات الصغيرة . والتحدي الآن أمامها لتسقط قولي هذا في العدم أن تتآلف في جبهة على أسس مقاومة الدكتاتورية العائدة وتجسيد استقلال البلد الاقتصادي والسياسي بالاتفاق على منوال تنمية جديد يشتغل الجميع على تجسيده واقعا. دون تكالب على مغنم صغير ودون ما نراه من تواطأ حقير مع السلطة العائدة للفوز بفتات مما تمنح تحت الطاولة للترضية وتفتيت الصف الذي يحتمل أن يتماسك ضدها.

 فيا أيتها الزعامات الصغيرة لا تغرقي في لعاب السلطة وأسقطي هذا القول المغرض والجاهل بنواياك العظيمة وزايدي على كاتبه بالوحدة السياسية حول مشروع الثورة التي قدمها لك الشعب العظيم المتواضع. 

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق