في مواجهة البلطجة والجنون الجندريّ
في هذا الزّمن الذي يعادُ فيه تعريف الإنسان بالبلطجة التي تلبسُ ثوب العلم يغدو من الضّروريّ العودة إلى أساسيّات تعريف الإنسان والبديهيّات في تحديد مفهومه.
وهذا بالضّبط ما فعلته العالمة الألمانيّة “كرستيانه نوسلاين ــ فولهارد” في مقابلةٍ أجرتها مع صحيفة “إيما” الألمانيّة في منتصف أغسطس/آب من هذا العام 2022م فثارَت عليها لوبيات المثليّة ومجاميع السّياسة الجندريّة الشّرسة.
درسٌ في البديهيّات والجنس الثّالث “هراء”
إنّ من أعقد المشكلات توضيح الواضحات، ولكن هذا يغدو واجبًا في زمنٍ أصبح فيه الإنسان كائنًا سائلًا لا تعريف له ولا هويّة واضحة تدلّ عليه.
في ألمانيا -على سبيل المثال- أصدرت المحكمة الدستورية الاتحادية قرارًا عام 2017م جاء فيه: “ثمّة اتفاقٌ واسع النّطاق بين العلوم الطبيّة والنّفسية والاجتماعيّة، على أنّ تحديد جنس الإنسان لا يُبنى فقط على أساس الخصائص التّشريحيّة والكروموسومات، بل تشترك العوامل الاجتماعيّة والنفسية في تحديده، أي أنّه بالإضافة إلى “الإناث” و”الذّكور”، يجب إدخال جنسٍ ثالث أو “مختلف” يشمل طيفًا واسعًا من الأشخاص”.
وكذلك فإنّ السّياسي الألماني “سفين ليمان” الذي يُعدّ “ممثّل المثليّين” في الحكومة الفدراليّة الألمانيّة قد صرّح قبل بضعة أشهرٍ قائلًا: “إنّ الاعتقاد بوجود جنسين فقط هو أمرٌ غير علميّ، فهناك العديد من الأجناس، وقريبًا سوف يتمكّن الشّباب الذين تبلغ أعمارهم أربعة عشر عامًا فما فوق من اختيار جنسهم”.
أمّا “كرستيانه نوسلاين ــ فولهارد” المولودة سنة 1942م وهي عالمة أحياء ألمانية تقاسمت جائزة نوبل في الطّب لسنة 1995م مع الأمريكيّين “إريك فيشاوس” و”إدوارد لويس”؛ لأبحاثهم حول التّحكّم الجيني في التكوّن الجنيني؛ فقد وجدت نفسَها أمام هذين الادّعائين اللّذين يلبسان ثوب العلم مضطرّة للتأكيد على البديهيّات العلميّة التي يدرسها الأطفال في الصّفوف الأولى من دراستهم، فقالت في الرّد على قرار المحكمة الدّستوريّة الاتّحاديّة: “الكلام عن وجود العديد من الأجناس مجرد “هراء”؛ لأنه يفتقد إلى المصداقية العلمية.
جميع الثّدييات، والإنسان من بينها، تتألف من جنسين؛ أنثى “XX” تنتج البويضات، وذكر”XY” ينتج الحيوانات المنوية، واتّحاد البويضة مع الحيوان المنوي يأتي بكائنٍ جديد إمّا ذكر وإمّا أنثى، وحتى في الحالات النّادرة حين يحدث خللٌ في التقاء هذه الصبغيات لتأتي بكائنٍ ثنائي الجنس “خنثى” أو غيره، فسوف يحمل خصائص هذين الجنسين معًا، ولذلك فهو ليس جنسًا ثالثًا”.
وفي ردّها على “سفين ليمان” قالت: “هذا غير علمي، ربما غاب السيد ليمان عن مقرّر علم الأحياء في المرحلة الأساسية، وعليه بصفته “مفوّض الكوير” في الحكومة الفدرالية، أن يعرف المبادئ الأساسية في علم الأحياء”.
لكَ أن تتخيّل أنّ هذه المعلومات التي كانت تُعَدّ إلى وقت قريبٍ من البديهيّات المجمع عليها؛ أصبحت اليوم بحاجةٍ إلى عالمة أحياء متخصّصة بالتكوّن الجنيني وحائزة على جائزة نوبل للتصدّي لها، وصرنا نشعر بأنّنا بحاجةٍ إلى الاستشهاد بقولها لتوضيح هذه القضايا التي هي أشدّ وضوحًا من الشّمس في رابعة النّهار.
إنّ وجود هذه التصريحات التي أدلت بها “كرستيانه نوسلاين ــ فولهارد” في الردّ على الهراء الذي يحاول إلباس وجود الجنس الثّالث ثوب العلم هو أمر له معنى إيجابيّ يشيرُ إلى وجود أصوات لها مكانتها المرموقة علميًّا ما زالت قادرة على مواجهة البلطجة الجندريّة التي تجتاح العالم اليوم، ولكنّه يشيرُ في الوقت نفسه إلى عمق الأزمة التي وصل إليها عالم اليوم إذ غدا من الضّرورة أن يعاد التّأكيد على البديهيّات في كلّ محفلٍ يدور فيه الحديث عن الجندر، علمًا بأنّ كثيرًا من الأصوات العاقلة تختفي اليوم وتعرض عن إبداء أيّ رأي في الأمر وحتّى في توضيح هذه الواضحات بسبب الإرهاب الذي تمارسه لوبيات المثليّة ومجاميع الجندر في العالم.
الجنون الجندريّ
في تعليقها على قول سفين ليمان: “وقريبًا سوف يتمكّن الشّباب الذين تبلغ أعمارهم أربعة عشر عامًا فما فوق من اختيار جنسهم”؛ تقول “كرستيانه نوسلاين ــ فولهارد”: “قانون تقرير المصير المخطّط له للشّباب، في هذا العمر، هو قرارٌ “مجنون”، فمن الجنون أن يُسمح للشّباب بتحديد جنسهم بعد بلوغهم عمر أربعة عشر عامًا. أعرف عن نفسي أنّني في ذلك العمر لم أكن سعيدةً؛ أردتُ أن أكون ذكرًا فقط ليُسمح لي بقصّ شعري وارتداء السّروال بدل التّنورة. بدلًا من محاولة تغيير الجنس يجب أن تُنصح الفتيات ويُدعمن حتى يعثرن على الطريقة التي يُثبِتْنَ من خلالها أنفسهن، ولا يمكن للمشرّع أن يسمح بإعادة تعيين الجنس على الإطلاق”.
نعم، إنّه عصر الجنون الجندريّ الذي يشرّع للفتيان والفتيات في سنّ الرّابعة عشرة من العمر الحقّ في التحوّل الجنسيّ دون تدخّل الأهل أو موافقتهم أو السّماح لهم بأدنى حقّ في الاعتراض.
فهم عند رغبتهم في تغيير الجنس والتحول الجنسي الذي يحدث تغييرًا جذريًّا في حياتهم لا يمكن إصلاحه أو تغييره جسديًّا ونفسيًّا؛ قادرون على تقرير مصيرهم بمفردهم، لكنّهم في قضايا أبسط وأسهل وأيسر -كرخصة قيادة السيّارة مثلًا- يعدّهم القانون أطفالًا قاصرين لا يملكون القدرة على التصرّف!!
في هذا العصر الذي اجتمعت فيه البلطجة الجندريّة مع الجنون الجندريّ لا يكفي أن تكون المواجهة عبر المحاضرات التوعويّة -على أهميّتها وضرورتها المركزيّة- بل لا بدّ من إيجاد لوبيات ضاغطة لمواجهة محاولات الهيمنة الجندريّة وفرض قوانين الشّذوذ في البلاد الإسلاميّة، وهذا يوجب على المسلمين بعد استشعار الخطر الدّاهم أن تتكاتف صفوفهم في تشكيل مجموعات ضغط فاعلة؛ فالرّذيلة المنظّمة المدعومة بقوّة السّلطة والمال لا تواجهها إلّا الفضيلة المنظّمة التي تدعمها سلطة راشدة ومالٌ نظيف مع جهود المصلحين النّوعيّة التي تقوم بالتّحديث المستمر في معلوماتها وأدواتها وأساليبها.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق