خلق الله ـ تعالى ـ الثقلين لعبادته وحده لا شريك له، وأوجب عليهم تقواه والاشتغال بطاعته، كما قال ـ تعالى ـ: (وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالإنسَ إلاَّ لِيَعْبُدُونِ) [الذاريات: 56] ، وقال ـ سبحانه ـ: (يَا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَالَّذِينَ مِن قَبْلِكُم لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ) [البقرة: 21] ، وامتحاناً منه ـ عز وجل ـ لهم سلط عليهم من نفوسهم الأمارة بالسوء ومن شياطين الجن والإنس ما يزين لهم المخالفة ويدعوهم إليها، وحف ـ سبحانه ـ طاعته بالمكاره، ومخالفة أمره بالشهوات، ليرى ـ تعالى وتقدس ـ من يُقبل عليه بإرادة واختيار، ومن يلهو في بحار الشهوات ويسرح في أودية الملذات فينسى نفسه والغايه من خلقه.
أبرز ما يعين المرء على التعبد
وأمام ذلك فلا بد لمريد النجاة من وسائل معينة له تثبته على الطاعة وعمل ما فيه نجاته إذا وقف للحساب بين يدي ربه، وتقوِّيه في مواجهة أعدائه، وتجاوز العقبات التي تدفعه إلى الزلل وتحول بينه وبين عمل الآخرة، وسأكتفي بإيراد شيء من أبرز ما يعين المرء على التعبد من خلال النقاط التالية:
أولاً: الاستعانة بالله
صلاح العبد في ركونه إلى الله ـ تعالى ـ واعتماده عليه وطلبه العون منه، ومضرته وهلاكه وفساد حاله في الاستعانة بما سواه ـ عز وجل ـ إذ المُلْك ملكه، والتدبير تدبيره، ولا حول للعبد ولا قوة في شيء من أمره إلا بعونه ـ سبحانه ـ وتوفيقه؛ فاستعانة العبد بمولاه سبيله لتحقيق مراده وتحصيل مقصوده، ومن أعانه الله ـ تعالى ـ فهو السعيد الموفق، ومن خذله ـ سبحانه ـ فهو الشقي المخذول.
يقول ابن تيمية: (العبد محتاج في كل وقت إلى الاستعانة بالله على طاعته، وتثبيت قلبه، ولا حول ولا قوة إلا بالله)1، ويقول ابن رجب: (فالعبد محتاج إلى الاستعانة بالله في فعل المأمورات وترك المحظورات والصبر على المقدورات كلها، في الدنيا وعند الموت وبعده من أهوال البرزخ ويوم القيامة، ولا يقدر على الإعانة على ذلك إلا الله ـ عز وجل ـ فمن حقق الاستعانة عليه في ذلك كله أعانه … ومن ترك الاستعانة بالله واستعان بغيره وكله الله إلى من استعان به، فصار مخذولاً)2.
ولمسيس حاجة العبد لعون الله ـ تعالى ـ جمع ـ سبحانه ـ بين العبادة والاستعانة في فاتحة الكتاب في قوله ـ تعالى ـ: (إيَّاكَ نَعْبُدُ وَإيَّاكَ نَسْتَعِينُ) [الفاتحة: 5] ، وكأن العبد ينكسر بين يدي مولاه في كل ركعة صلاة قائلاً: لك يا مولاي نسكي وخضوعي وحدك لا شريك لك، وأنا عبد ضعيف محتاج إلى العون، وأنت إلهي عضدي ونصيري وحدك دون سواك، فجُدْ عليَّ بعونك وتسديدك!
فيا من تريد التوفيق لعمل الآخرة، وتطلب تذليل الصعاب التي تحول بينك وبين الاستكثار من الخضوع لله ـ تعالى ـ والانقياد له، وترغب في نزع الشعور بالعجز من داخلك، انطرح بين يدي ربك الرحيم، واسأله معونته وتسديده، وأن لا يكلك إلى نفسك؛ فإن الدين نصفه استعانة3 ، وإذا لم يكن عون من الله ـ تعالى ـ للفتى أتته الرزايا من وجوه الفوائد، وكان أول ما يجني عليه اجتهاده.
ثانياً: مجاهدة النفس
جُبِلت النفس البشرية على الميل إلى اللذَّات الحسية، والانجذاب إلى الجهة السفلية؛ فتنةً من الله ـ تعالى ـ واختباراً لها.
يقول ابن الجوزي: (النفس مجبولة على حب الهوى … فافتقرت لذلك إلى المجاهدة والمخالفة، ومتى لم تزجر عن الهوى، هجم عليها الفكر في طلب ما شُغفت به، فاستأنست بالآراء الفاسدة والأطماع الكاذبة والأماني العجيبة، خصوصاً إن ساعد الشباب الذي هو شعبة من الجنون، وامتد ساعد القدرة إلى نيل المطلوب)4.
ولخطورة هذا الأمر خاف علينا النبي الرحيم -صلى الله عليه وسلم – من اتباعنا الهوى؛ فعن أبي برزة الأسلمي ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إن مما أخشى عليكم شهوات الغي في بطونكم وفروجكم ومضلات الهوى»5.
فلا بد لمريد النجاة من صرف نفسه إلى ما يريده الله ـ تعالى ـ ورسوله -صلى الله عليه وسلم -، وبذله الوسع في قهر الشهوة والهوى ومخالفة داعيهما الذي يحول بين النفس وبين أداء الطاعة على وجهها6 ؛ إذ (اتفق العلماء والحكماء على أن لا طريق إلى سعادة الآخرة إلا بنهي النفس عن الهوى ومخالفة الشهوات)7.
وأصل مجاهدة النفس فطمها عن المألوفات وحملها على غير ما تهوى. وللنفس صفتان: انهماك في الشهوات وامتناع عن الطاعات، ومجاهدتها تقع بحسب ذلك8 . وأقوى مُعين (على جهاد النفس جهاد الشيطان بدفع ما يلقي إليه من الشبهة والشك، ثم تحسين ما نُهِي عنه من المحرمات، ثم ما يفضي الإكثار منه إلى الوقوع في الشبهات، وتمام المجاهدة أن يكون متيقظاً لنفسه في جميع أحواله؛ فإنه متى غفل عن ذلك استهواه شيطانه ونفسه إلى الوقوع في المنهيات، وبالله التوفيق)9.
والمجاهدة أمر رفيع القدر، عالي المنزلة يحتاج إلى صبر ورباطة جأش، ولذا قال صلى الله عليه وسلم: «المجاهد من جاهد نفسه لله عز وجل»10.
يقول ابن عبد البر: (مجاهدة النفس في صرفها عن هواها أشد محاولة وأصعب مراماً وأفضل من مجاهدة العدو)11، ويقول ابن بطال: (جهاد المرء نفسه هو الجهاد الأكمل، قال الله ـ تعالى ـ: (وَأَمَّا مَنْ خَافَ مَقَامَ رَبِّهِ وَنَهَى النَّفْسَ عَنِ الْهَوَى….) [النازعات: 40] الآيات)12.
وأخبار القوم في مداواة نفوسهم ومعالجة أدوائها أكثر من أن تروى.
يقول الثوري: (ما عالجت شيئاًً أشد عليَّ من نفسي، مرة لي ومرة عليَّ)13 ، وقال: (ما عالجت شيئاً أشد عليَّ من نيتي؛ لأنها تتغلب عليَّ)14.
ويقول يونس بن عبيد: (ما عالجت شيئاً أشد عليَّ من الورع)15 ، ويقول ابن أبي زكريا: (عالجت الصمت عما لا يعنيني عشرين سنة قلَّ أن أقدر منه على ما أريد)16 ، ويقول أبو يزيد: (عالجت كل شيء فما عالجت أصعب من معالجة نفسي، وما شيء أهون عليَّ منها)17 ، ومرة قال: (عملت في المجاهدة ثلاثين سنة فما وجدت شيئاً أشد عليَّ من العلم ومتابعته)18.
فالنفس عدو منازع يجب على المرء مجاهدتها، وحين يفلح المرء في ذلك فإن إتيان الطاعات يتحول إلى نعيم ولذة، وعندها لا يجد المرء في القيام بها كلفة ومشقة، كما قال ثابت البناني: (كابدت القرآن عشرين سنة، ثم تنعمت به عشرين سنة)19 ، وكما قال بعض العُبَّاد: (عالجت قيام الليل سنة وتنعمت به عشرين سنة)20 ، فالأُنس واللذة يحصلان من المداومة على المكابدة مدة طويلة.
وليس المراد بمجاهدة النفس منعها مما يُقيمها، ومخالفتها على الإطلاق؛ فإن ذلك يُفسِد حالها فيعميها ويشتت عزمها ويؤذيها أكثر مما ينفعها، بل المراد تقوية العقل على الطبع حتى يسلم المرء ولا يهلك.
يقول ابن الجوزي في بيان جميل: (أعجب الأشياء مجاهدة النفس؛ لأنها تحتاج إلى صناعة عجيبة؛ فإن أقواماً أطلقوها فيما تحب فأوقعتهم فيما كرهوا، وإن أقواماً بالغوا في خلافها حتى منعوها حقها وظلموها، وأثَّر ظلمهم لها في تعبداتهم؛ فمنهم من أساء غذاءها، فأثر ذلك في ضعف بدنها عن إقامة واجبها، ومنهم من أفردها في خلوة أثمرت الوحشة من الناس، وآلت إلى ترك فرض أو فضل من عيادة مريض أو بر والدة.
وإنما الحازم من تعلم منه نفسه الجد وحفظ الأصول؛ فإذا فسح لها في مباح لم تتجاسر أن تتعداه، فيكون معها كالملك إذا مازح بعض جنده؛ فإنه لا ينبسط إليه الغلام؛ فإن انبسط ذكر هيبة المملكة، فكذلك المحقق: يعطيها حظها، ويستوفي منها ما عليها)21.
ومما يعين على مجاهدة النفس إفهامها عاقبة الانغماس في الشهوات.
قال قتادة: (إن الرجل إذا كان كلما هوى شيئاً ركبه، وكلما اشتهى شيئاً أتاه، لا يحجزه عن ذلك ورع ولا تقوى؛ فقد اتخذ إلهه هواه)22 ، وقال بعض الحكماء: (من استولت عليه النفس صار أسيراً في حب شهواتها محصوراً، في سجن هواها مقهوراً مغلولاً، زمامه في يدها، تجره حيث شاءت، فتمنع قلبه من الفوائد)23 ، وقال يحيى بن معاذ: (من أرضى الجوارح في اللَّذَّات فقد غرس لنفسه شجر الندامات)24 ، وقال بشر الحافي: (من أحب الدنيا فليتهيأ للذل)25 .
فيا مجتهداً في تحصيل نعيم المولى! اجعل أعمال الآخرة في حياتك هي الأوْلى وجاهد نفسك وفق الشرع، وإياك أن تهمل قيادتها وتفلت لجامها فتسوقك – إن لم يَجُد المولى – إلى نار تلظى.
ثالثاً: استحضار ثواب القربات
جبل الله نفوس عباده على حب الثواب والسعي لنيله، ومهابة العقاب والحذر منه؛ ولذا فإن استحضار الثواب والعقاب من آكد دواعي لزوم الطاعة والاجتهاد في عمل الآخرة، ومن أعظم الزواجر عن اقتراف المعصية، والانغماس في بحور اللذة.
والمتأمل في النصوص يرى أن الترغيب والترهيب، وذكر ما أعدَّ الله ـ تعالى ـ لأوليائه من نعيم، وما أعد لأعدائه من عذاب أليم أحد الموضوعات الرئيسة التي اشتملت عليها الآيات والأحاديث، وقد جاء عرضه فيها من خلال مسارين:
أ – مطلق غير مقيد بأعمال مخصوصة، بل هو ثواب للطاعة بإطلاق، وجزاء للمعصية بإطلاق، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ: (تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَمَن يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ * وَمَن يَعْصِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ وَيَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ نَارًا خَالِدًا فِيهَا وَلَهُ عَذَابٌ مُّهِينٌ) [النساء: 13 – 14] ، وقوله ـ سبحانه ـ: (وَبَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِن تَحْتِهَا الأَنْهَارُ كُلَّمَا رُزِقُوا مِنْهَا مِن ثَمَرَةٍ رِّزْقًا قَالُوا هَذَا الَّذِي رُزِقْنَا مِن قَبْلُ وَأُتُوا بِهِ مُتَشَابِهًا وَلَهُمْ فِيهَا أَزْوَاجٌ مُّطَهَّرَةٌ وَهُمْ فِيهَا خَالِدُونَ) [البقرة: 25] ، وقوله ـ عز وجل ـ: (يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنفُسَكُمْ وَأَهْلِيكُمْ نَارًا وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ عَلَيْهَا مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لاَّ يَعْصُونَ اللَّهَ مَا أَمَرَهُمْ وَيَفْعَلُونَ مَا يُؤْمَرُونَ) [التحريم: 6] .
ب – مقيد بأعمال مخصوصة، ومترتب على طاعات بعينها، ومعاصٍ بعينها، ومن ذلك قوله -صلى الله عليه وسلم -: «من دعا إلى هدى كان له من الأجر مثل أجور من تبعه لا ينقص ذلك من أجورهم شيئاً، ومن دعا إلى ضلالة كان عليه من الإثم مثل آثام من تبعه لا ينقص ذلك من آثامهم شيئاً»26 ، وقوله -صلى الله عليه وسلم -: «من قال حين يسمع النداء: اللهم رب هذه الدعوة التامة، والصلاة القائمة، آتِ محمداً الوسيلة والفضيلة، وابعثه مقاماً محموداً الذي وعدته، حلت له شفاعتي يوم القيامة»27 ، وقوله -صلى الله عليه وسلم -: «من آتاه الله مالاً فلم يؤدِّ زكاته مُثِّل له ماله شجاعاً أقرع له زبيبتان يطوِّقه يوم القيامة، يأخذ بلهزمتيه – يعني بشدقيه – يقول: أنا مالك، أنا كنزك»28.
وكلاهما له أثره في تزهيد النفس بمُتَع الدنيا وملذاتها، وتحفيزها على الاستكثار من الخير، وبذل الجهد في عمل الآخرة؛ فإنها متى علمت بأن الله ـ تعالى ـ مثيبُها على الطاعات بجنة فيها «ما لا عين رأت، ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر»29 ، ومعاقبُها على معصيته والإعراض عن ذكره بنار وقودها الناس والحجارة، ولَّد ذلك داخلها رغبة صادقة في أن تظفر بذلك النعيم، وتنجو من ذلك الجحيم، وسعت لذلك سعياً حثيثاً؛ فالرجاء يحدو القلوب إلى الله ـ تعالى ـ ويطيب لها السير، والخوف يبعدها عن الدنيا، ويحرق مواضع الشهوات منها30.
وقد أمر الله ـ تعالى ـ عباده بأن يكونوا كذلك في قوله ـ تعالى ـ: (وَلا تُفْسِدُوا فِي الأَرْضِ بَعْدَ إصْلاحِهَا وَادْعُوهُ خَوْفًا وَطَمَعًا إنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِّنَ الْمُحْسِنِينَ) [الأعراف: 56] ، والمعنى: لا تشركوا بالله في الأرض، ولا تعصوه فيها، واعبدوه وحده خوفاً من وبيل عقابه، وطمعاً في جزيل ثوابه31.
يقول ابن القيم: (المصالح والخيرات واللذَّات والكمالات كلها لا تُنال إلا بحظ من المشقة، ولا يُعبَر إليها إلا على جسر من التعب، وقد أجمع عقلاء كل أمة على أن النعيم لا يُدرَك بالنعيم، وأن من آثر الراحة فاتته الراحة، وأنه بحسب ركوب الأهوال واحتمال المشاق تكون الفرحة واللذة، فلا فرحة لمن لا همَّ له، ولا لذة لمن لا صبر له، ولا نعيم لمن لا شقاء له، ولا راحة لمن لا تعب له، بل إذا تعب العبد قليلاً استراح طويلاً، وإذا تحمَّل مشقة الصبر ساعة قاده لحياة الأبد، وكل ما فيه أهل النعيم المقيم فهو صبر ساعة، والله المستعان، ولا قوة إلا بالله، وكلما كانت النفوس أشرف والهمة أعلى كان تعب البدن أوفر، وحظه من الراحة أقل)32، ومن شواهد كلامه النفيس هذا، قوله -صلى الله عليه وسلم -: «يؤتى بأنعم أهل الدنيا من أهل النار يوم القيامة فيُصبغ في النار صبغة، ثم يُقال: يا ابن آدم! هل رأيت خيراً قَطُّ؟ هل مر بك نعيم قط؟ فيقول: لا، والله يا رب! ويؤتى بأشد الناس بؤساً في الدنيا من أهل الجنة فيُصبغ صبغة في الجنة، فيقال له: يا ابن آدم! هل رأيت بؤساً قط؟ هل مر بك شدة قط؟ فيقول: لا، والله يا رب! ما مر بي بؤس قط، ولا رأيت شدة قط»33.
فمتى رغَّب العبد نفسه بثمار التعبد، ورهَّبها من عاقبة الانغماس في الشهوات طاوعته في الإعراض عن الدنيا، بل وتلذذت بمشاق العمل الصالح والإقبال على الله تعالى، فـ: (الرجاء والخوف جناحان بهما يطير المقربون إلى كل مقام محمود، ومطيتان بهما يقطع من طرق الآخرة كل عقبة كؤود، فلا يقود إلى قرب الرحمن وروح الجنان ـ مع كونه بعيد الأرجاء، ثقيل الأعباء، محفوفاً بمكاره القلوب ومشاق الجوارح والأعضاء – إلا أَزِمَّة الرجاء، ولا يصد عن نار الجحيم والعذاب الأليم – مع كونه محفوفاً بلطائف الشهوات، وعجائب اللذات – إلا سياط التخويف وسطوات التعنيف)34.
فعلى العبد متى أراد إتيان طاعة أن يستحضر الثواب المترتب عليها والعقاب الذي يناله تاركها؛ ليكون ذلك معواناً له في مغالبته لنفسه وقهره لها.
رابعاً: قصر الأمل
ترقُّب الموت وتصوُّر أهواله والعلم بقرب الرحيل وسرعة انقضاء حياة المرء من أنفع الأمور للقلب وأعظم معينات التعبُّد؛ فهو يعلي الهمة، ويزهِّد في الدنيا، ويبعث على الجد في العمل، ويحث على اغتنام الوقت، وانتهاز الفرص.
ولذا جاءت النصوص حافلة به ومنبهة عليه، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ: (كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ وَنَبْلُوكُم بِالشَّرِّ وَالْخَيْرِ فِتْنَةً وَإلَيْنَا تُرْجَعُونَ) [الأنبياء: 35] ، وقوله ـ سبحانه ـ: (قُلْ إنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إلَى عَالِمِ الْغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ فَيُنَبِّئُكُم بِمَا كُنتُمْ تَعْمَلُونَ) [الجمعة: 8] ، وعن أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ عن النبي -صلى الله عليه وسلم – قال: «أكثِروا ذكر هاذم اللذات؛ فما ذكره عبد قط وهو في ضيق إلا وسعه عليه، ولا ذكره وهو في سعة إلا ضيقه عليه»35.
وعن بريدة ـ رضي الله عنه ـ قال: قال رسول الله -صلى الله عليه وسلم -: «إني كنت نهيتكم عن زيارة القبور فزوروها؛ فإنها تذكِّر الآخرة»36.
أما الآثار فقد امتلأت بالتذكير به والحث عليه
فعن مطرِّف ابن عبد الله قال: (القبر منزل بين الدنيا والآخرة؛ فمن نزله بزاد ارتحل به إلى الآخرة، إنْ خيراً فخير، وإن شراً فشر)37 ، وقال الأوزاعي: (من أكثر ذكر الموت كفاه اليسير)38 ، وقال مالك بن مِغْوَل: (من قصر أمله هان عليه عيشه)39 ، وقال الداراني: (ينبغي للعبد المعني بنفسه أن يميت العاجلة الزائلة المتعقبة بالآفات من قلبه بذكر الموت وما وراء الموت من الأهوال والحساب ووقوفه بين يدي الجبار)40 ، وقال النضر بن المنذر: (زوروا الآخرة بقلوبكم، وشاهدوا الموقف بتوهمكم، وتوسدوا القبور بقلوبكم، واعلموا أن ذلك كائن لا محالة، فاختار لنفسه ما أحب من المنافع والضرر)41.
ولما كان الغالب على عامة الخلق طول الأمل ورجاء البقاء في هذه الدنيا، ونسيان أنها دار سفر وموطن امتحان، والغفلة عن الغاية العظمى من الخلق، وإهمال التوبة وعمل الآخرة، جاءت النصوص محذرة من هذا الوضع، ومنبهة إلى خطورة استمرار المرء في السير في طريق الهلكة، ومن ذلك قوله ـ تعالى ـ: (ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَيَتَمَتَّعُوا وَيُلْهِهِمُ الأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ) [الحجر: 3] ، وحديث أبي هريرة ـ رضي الله عنه ـ قال: «سمعت رسول الله -صلى الله عليه وسلم – يقول: لا يزال قلب الكبير شاباً في اثنتين: في حب الدنيا وطول الأمل»42.
ومن أقوال أهل العلم الواردة في هذا الباب قول أبي الحسن علي ـ رضي الله عنه ـ: (إن أخوف ما أتخوف عليكم اثنتين: طول الأمل واتباع الهوى؛ فأما طول الأمل فينسي الآخرة، وأما اتباع الهوى فيصد عن الحق)43 ، وعن الحسن قال: (ما أطال عبدٌ الأمل، إلا أساء العمل)44 ، وقال الفضيل: (إن من الشقاء طول الأمل، وإن من النعيم قصر الأمل)45 ، وقال بعض الحكماء: (الجاهل يعتمد على الأمل، والعاقل يعتمد على العمل)46 ، وقال ابن القيم: (مفتاح الاستعداد للآخرة قصر الأمل، ومفتاح كل خير الرغبة في الله والدار الآخرة، ومفتاح كل شر حب الدنيا وطول الأمل)47.
فطول الأمل من تزيين الشيطان وسلطانه على قلوب الغافلين ؛ فلا آفة أعظم منه، بل لولاه ما وقع إهمال أصلاً.
فيا ناصحاً لنفسه أَقْصِرِ الأملَ! واستعد للحساب قبل حلول الأجل؛ فإن ما مضى من الدنيا أحلام، وما بقي منها أمانٍ، والوقت ضائع بينهما؛ فإن لم تستطع ذلك فاعمل عمل قصير الأمل؛ فإن سعادتك في ذلك، ودع عنك التسويف؛ فإنه من أعوان إبليس .
يقول الحسن: (إياك والتسويف؛ فإنك بيومك ولست بغدك، فإن يكن غد لك فكن في غد كما كنت في اليوم، وإن لم يكن لك غد لم تندم على ما فرطت في اليوم)48.
الهوامش
(1) مجموع الفتاوى، لابن تيمية: 1/171.
(2) جامع العلوم والحكم، لابن رجب: 192-193.
(3) يقول ابن القيم في مدارج السالكين: 2/113 (التوكل نصف الدين، والنصف الثاني: الإنابة؛ فإن الدين استعانة وعبادة، فالتوكل هو الاستعانة، والإنابة هي العبادة) .
(4) ذم الهوى، لابن الجوزي: 36.
(5) أحمد (19787) ، وصححه الألباني في صحيح الترغيب والترهيب: (52) .
(6) انظر: مفتاح دار السعادة، لابن القيم: 1/40.
(7) إحياء علوم الدين، للغزالي: 3/67.
(8) انظر نحواً من ذلك من كلام القشيري في فتح الباري، لابن حجر: 11/338.
(9) فتح الباري، لابن حجر: 11/338.
(10) أحمد (23997) ، ابن حبان (4624) ، واللفظ له، وقال الأرناؤوط: إسناده صحيح.
(11) الاستذكار، لابن عبد البر: 8/287.
(12) فتح الباري، لابن حجر: 11/338.
(13) حلية الأولياء، لأبي نعيم: 7/5.
(14) الجامع لآداب الراوي وأخلاق السامع، للخطيب البغدادي: 1/317، الإخلاص والنية، لابن أبي الدنيا: 73.
(15) حلية الأولياء، لأبي نعيم: 3/116.
(16) الصمت، لابن أبي الدنيا: 260.
(17) حلية الأولياء، لأبي نعيم: 10/36.
(18) حلية الأولياء، لأبي نعيم: 10/36.
(19) إحياء علوم الدين، للغزالي: 1/288.
(20) عدة الصابرين، لابن القيم: 39.
(21) صيد الخاطر، لابن الجوزي: 145.
(22) أضواء البيان، للشنقيطي: 6/330.
(23) إحياء علوم الدين، للغزالي: 3/66.
(24) ذم الهوى، لابن الجوزي: 27.
(25) البداية والنهاية، لابن كثير: 10/298.
(26) مسلم (2060) .
(27) البخاري (589) .
(28) البخاري (4289) . الشجاع: الحية الذكر.
(29) البخاري (3072) .
(30) انظر: مدارج السالكين، لابن القيم: 2/36، بصائر ذوي التمييز، للفيروز آبادي: 2/577.
(31) جامع البيان، للطبري: 5/515، تفسير القرآن العظيم، لابن كثير: 2/296.
(32) مفتاح دار السعادة، لابن القيم: 2/15.
(33) مسلم (2807) .
(34) إحياء علوم الدين، للغزالي: 4/142.
(35) صحيح ابن حبان (2993) ، وقال الأرناؤوط: إسناده حسن.
(36) مسلم (977) ، أحمد (23055) ، واللفظ له.
(37) أهوال القبور، لابن رجب: 244.
(38) حلية الأولياء، لأبي نعيم: 6/143.
(39) قصر الأمل، لابن أبي الدنيا (37) .
(40) الحلية، لأبي نعيم: 9/266.
(41) أهوال القبور، لابن رجب: 238.
(42) البخاري (6420) .
(43) فضائل الصحابة، لأحمد (881) .
(44) قصر الأمل، لابن أبي الدنيا (105).
(45) قصر الأمل، لابن أبي الدنيا (90) .
(46) فيض القدير، للمناوي: 4/229.
(47) حادي الأرواح إلى بلاد الأفراح، لابن القيم: 48.
(48) انظر: قصر الأمل، لابن أبي الدنيا (103) .
(49) سنن أبي داود (4810) ، وصححه الألباني.
المصدر
مجلة البيان العدد:217، فيصل بن علي البعداني.
اقرأ أيضا
علاقة المحبة بالإيمان والعبادة
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق