لم يَسْتَطعْ المستشرق “أرنست رينان” – برغم عداوته للإسلام- أن يُخفِي ضَجَره من المستوى الذي انحدر إليه الخطاب الحداثيّ المعادي للتراث، فَشَنّ هجوما عاصفًا على “تشارلز فورستر” الذي وضع كتابا بعنوان “إماطة اللثام عن الدين المحمديّ”؛ فكان مما قال “رينان”: “إنّ غيابَ السلطة العلمية والأدبية ذاتِ الرأي المستنير يجعلُ الزيغَ أمرًا لا مَفَرَّ منه”، وإذا كان “فورستر” قد غَلا في استخدام أدوات الحفر الحداثي لتفسير النصوص حتى سبق “ليفي ستراوس” على ضرواته؛ فإنّ الحداثيين العرب قد سبقوا الجميع في الافتتان بكل أدوات “المدرسة البنْيَوِيّة” كالفيلولوجيا وغيرها من “خَضْراوات الدِّمَنْ”.
كتاب الرسالة ومشاريع التجديد
لكنْ: ما علاقة ذلك بالإمام الشافعيّ؟ هذا هو السؤال الذي تكون الإجابةُ عنه حلًّا لأحد الألغاز المحيرة، فخطة الحداثيين العرب لتجديد الدين على طريقتهم لا يمكن أن تَعْبُرَ إلى حيز التنفيذ إلا فوق جسر “أبيستمولوجيّ” جديد، لا علاقة له بمناهج المعرفة الإسلامية، وأزمتهم أنّهم نَقَلَةٌ مقلِّدون، تدفعهم عَجَلَةٌ ليست بريئة باتجاه التعميم الذي لا يفرق بين التراث الغربي وما يلزم لنقده من آليات، وبين التراث الإسلاميّ وما يلزم لتجديده من آليات مختلفة، فالتراث الإسلاميّ مدعوم بالأسانيد محفوف بموانع التحريف الفجّ، أمّا التراث الغربيّ فَلِكَثرة ما تعرض له من انكسارات حادّة مع كونه عار عن الأسانيد؛ يحتاج إلى نقد فيلولوجيّ وتفكيك بنْيَوِيّ عوضًا عن النقص في مستوى الأمان النقليّ عبر التاريخ.
وهنا يقف الشافعيّ حجر عثرة في طريق هذا المشروع التجديدي الحداثي؛ لأنّه – في نظر الحداثيين العرب- صانعُ العقل العربيّ، ومُؤَطِّرُ الذهنية الإسلامية، فهو عندهم كأرسطو للأوائل وفرنسيس بيكون للأواخر، غير أنّ رسالته في أصول الفقه قد نَدَّتْ -بزعمهم- عن المسار العقليّ المنطقيّ؛ فلا هي التي أسندت ظهرها إلى المنطق القياسيّ “الأورجانون القديم” ولا هي التي استشرفت قواعد المنهج التجريبي في “الأورجانون الجديد”؛ فآل الأمر بالعقل العربيّ أن يجمد على البيان ولا يبلغ البرهان.
ولماذا الشافعيّ بالذات؟
لا يرغب هؤلاء في الاعتراف لهذا الدين بأنّه جاء للناس بنظرية في المعرفة غايةً في الرشد، وفي الوقت ذاته لا يَوَدّون المجازفة بمواجهة الإسلام نفسه بما لديهم من نظرية أبيستمولوجية مناهضة لمنهاجه؛ فلتكن المعركة -إذن- مع رمز كبير يحمل التُّهمة عن الإسلام؛ أليس هو من وضع علم أصول الفقه في كتابه “الرسالة”؟ ألم يكن هو المؤطر للنظرية المعرفية في ميدان الفقه؟ فليحمل هو عن الإسلام اللوم والتسفيه، لاسيما وقد اشتُهر من بين الأربعة الكبار برفضه للاستحسان والاستصلاح، ذَيْنِكَ الأصلين الَّلذَيْن لا يَعْتَدُّ دعاةُ التنوير إلا بهما، إضافة إلى كونه أسس وكرَّس للإجماع الذي يأتي عنده بعد الكتاب والسنة وقبل القياس، والإجماع يثير لدى العلمانيين والحداثيين غُدَّةً تحت أنوفهم، أمّا كراهيته لعلم الكلام – الذي تأثر كثيرا بالمنطق الأرسطيّ- ونهيه عنه فتلك عندهم السوأة الكبرى.
ولكي ينجحوا في ذلك اتكأوا جميعا على مبدأ فيلولوجي بنْيَوِيّ يُشْبه المرضَ المزمن، وهو ربط كل نص في التراث بالأيديولوجية السياسية المزامنة له، فاهتمام الشافعي بالعربية ودفاعه عنها في نظر “نصر حامد أبو زيد” ليس إلا انعكاسا للأيديولوجية السياسية القرشية، ولقد اندفع أبوزيد في هذا الاتجاه بحماس أوقعه في خطأ جسيم، حيث قرر في الطبعة الأولى من كتابه “الإمام الشافعي وتأسيس الأيديولوجية الوسطية” أنّ الشافعي أراد بذلك أن يجامل الدولة الأموية التي كانت -على عكس وريثتها- تتعصب للعروبية، لكنّه نسي في اندفاعته أنّ الدولة الأموية سقطت عام 132ه بينما ولد الشافعي عام 150هـ، وعبثًا حاول ترميم ذلك الصدع في الطبعات التالية، لكن هيهات.
بين البيان والبرهان
وإذا كان الشافعيّ قد توسع في صدر رسالته في الحديث عن “البيان” كمنطلق لربط أصول الفقه بالكتاب العزيز؛ فإنّ “محمد عابد الجابري” سيتخذ من هذا مدخلا إلى “نقد العقل العربيّ” في سلسلة مطولة قلب فيها التراث العربيّ والإغريقي والفارسي رأسا على عقب؛ ليخرج بنتيجة مفادها: أنّ البيان مرتبة في مناهج المعرفة دون البرهان، وأنّ هذه الأمة ظلت مترددة بين البيان (الشافعي) والعرفان (الهرمسي!) طوال عهود نهضتها الفقهية؛ فلم تنعم بالبرهان، وعلى الرغم من سقوط المنطق الآرسطيّ تحت مطارق (الأورجانون الجديد) إلا أنّه يرى أنّ الأمة الإسلامية نُكِبَتْ بسبب عزوفها عن هذا المنطق، والعجيب أنّه في سياق التكريس لأسطورة انفراد أوربا بالرشد يَدَّعي أنّ سبب نهضة أوربا هو ارتباط العلم بالفلسفة من لَدُنْ الحضارة الإغريقية ارتباط المعلول بعلَّتِهِ، بينما يقرر فحول الفلسفة الغربية المعاصرون من أمثال “برتراند رسل” في كتابه “حكمة الغرب” أنّ “الارتباط بين العلم والفلسفة لم يدم طويلا”!
الشافعيّ والعربية ورغبات التجديد
وإذا كان الشافعيّ قد اتكأ على العربية في الإبداع الأصوليّ، ولاسيما فيما يتعلق بدلالة الألفاظ على المعاني، وبيان العام الذي أريد به العموم والعام الذي أريد به الخصوص والعام المخَصَّص وغير ذلك مما تَفنن فيه؛ فإنّ هذه اللغة التي برع فيها الشافعيّ وأتقنها ستكون في نظر “حسن حنفي” عقبةً كَأْداءَ في طريق التجديد، وسيقول في كتابه “التراث والتجديد”: “يسيطر على هذه اللغة القديمة الألفاظ والمصطلحات الدينية مثل: الله، الرسول، الجنة، النار، الدين، الثواب، العقاب؛ كما هو الحال في علم أصول الدين، أو القانونية مثل: الحلال، الحرام، الواجب، المكروه؛ كما هو الحال في علم أصول الفقه، هذه اللغة لم تعد قادرة على التعبير عن مضامينها المتجددة طبقًا لمتطلبات العصر نظرا لطول مصاحبتها للمعاني التقليدية الشائعة التي نريد التخلص منها، ومن ثم أصبحت لغة عاجزة عن الأداء”.
فهل نستطيع أنّ نقول -بعد هذا العرض الموجز لأصل الصراع- إنّ مسلسل “رسالة الإمام” أتى في سياق الهجوم على التراث وتسفيه رموزه؟ أغلب الظنّ أنّه هكذا، والله غالب على أمره
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق