محطّات من حياة الإمام المجدد وعالم العصر محمد بن إدريس الشافعيّ
داعية ومؤرخ إسلامي متخصص في قضايا الفكر السياسي والتاريخ الإسلامي
صدر حديثاً مسلسل الإمام الشافعي، ويتناول سيرة الإمام (محمد بن إدريس الشافعي)، يعرض فيه أيّامه الأخيرة التي قضاها في مصر. وما إن عُرضت أولى حلقات المسلسل حتى ظهرت الأخطاء الكارثية، من عرض فيه تشويه لسيرته، وتزوير- بقصد أو بغير قصد- للحقائق التاريخية في حقّ هذا الإمام المبجّل.
إنّ هذه الأخطاء الكثيرة التي تظهر تباعاً، تبيّن جهلاً فظيعاً من صنّاع مسلسل الإمام الشافعي بسيرة هذا الإمام، حيث يظهر أنهم لم يكلّفوا أنفسهم عناء البحث في المصادر الأصليّة التي تعرض الحقائق؛ ولذلك تنوعت أخطاؤه، وحملت حلقاته الأولى تشويهاً واضحاً يتعلق بعلم الإمام الشافعي- رحمه الله- وفقهه وعقيدته، ولغته ونثره وشعره.
إنّ وسائل الدفاع عن أئمتنا العظام- رحمهم الله تعالى- كثيرة، ومنها عرضُ سيرتهم الصحيحة كما نقلتها المصادر التاريخية المعتمدة، من غير التشويه أو التزوير الذي ربّما تمارسه بعض الجهات لتتوافق مع قوالبها وأجنداتها. وفي هذا المقال نعرض محطّات من سيرة هذا الفقيه الجهبذ والإمام الكبير.
إن من مِنة الله على هذه الأمة وعلى الناس أجمعين أن بعث محمداً، قال تعالى: {لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولَاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُو عَلَيْهِمْ آيَاتِهِ وَيُزَكِّيهِمْ وَيُعَلِّمُهُمُ الْكِتَابَ وَالْحِكْمَةَ وَإِنْ كَانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ} [آل عمران: 164]، فقام بأمر ربه خير قيام، وبلغ الرسالة، ودخل الناس في دين الله أفواجاً، حتى أكمل الله تعالى به الدين، قال تعالى: {الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينَاً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجَانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ }[المائدة: 3].
ثم تتابَع السلف بعد النبي على نبيهم داعين إلى هذا الدين، في سبيل الله مجاهدين، ميسرين للناس سبلَ سماع الحق، وكلما لقيت طائفة منهم ربها، أخلفهم الله بطائفة أقام بها الدين، ففي ذلك يقول رسول الله صلى الله عليه وسلم: "إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها". (أخرجه أبو داود، كتاب الملاحم، رقم: 4291).
محمد بن إدريس الشافعي
كان من هؤلاء العلماء الربانيين الإمامُ محمد بن إدريس الشافعي- رحمه الله- وهو عَلَم من أعلام الإسلام، جدّد الله به دينَه، وحفِظَ به شريعته، ورزقه قوةً في الفقه، والفهم، فأصَّل الأصول، وقعَّد القواعد، ففرح به العوام، واحتفى به العلماء، وما زال الناس حتى يومنا هذا يأخذون من علمه ويُتابعونه في أصوله، وفروعه. حيث ذكر ذلك في كتاب "منهج الإمام الشافعي في إثبات العقيدة، د. محمد عبد الوهاب العقيل، ص 5".
يُعد الإمام الشافعي- رحمه الله تعالى- من أقرب الأئمة الأربعة لبيت الرسول، فهو قرشي، كما أن المالكية يفتخرون به لكونه من تلاميذ الإمام مالك، والإمام أحمد بن حنبل يجله ويحترمه ويعتبره من شيوخه، كما أن الشافعي تتلمذ على يدي محمد بن الحسن الشيباني تلميذ أبي حنيفة، فهو واسطة العقد بين المذاهب السنية الأربعة الشهيرة.
كما أن نزعته النقلية وانتصاره للدليل، وحدَّة ذكائه، واستخدامه للعقل في إقامة الحجة على الخصوم، وما تميزت به كتابته في أصول الفقه، وبيان الخاص والعام، والمطلق والمقيد، والمجمل والمفصل.. كل ذلك كان له الأثر البالغ في عظم منزلة الإمام الكبير محمد بن إدريس الشافعي عند المسلمين.
اسمه ونسب الإمام الشافعي
هو محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف بن قصي بن كلاب بن مرة بن كعب بن لؤي بن غالب، أبو عبد الله القرشي الشافعي المكي، نسيب رسول الله وابن عمه.
مولده ونشأته: اتفق المؤرخون على أنه ولد عام (150هـ)، وهو العام الذي توفي فيه الإمام أبو حنيفة رحمه الله.
نشأته وطلبه للعلم: قد واظب الإمام الشافعي على طلب العلم، فحفظ القرآن وهو ابن سبع سنين، وحفظ الموطأ وهو ابن عشر، وأفتى وهو ابن خمس عشرة سنة، وقيل: ابن ثماني عشرة، أذن له شيخه مسلم بن خالد الزنجي، وعني بالشعر واللغة، وحفظ شعر الهذليين، وأقام عندهم نحو عشر سنين، وقيل: عشرين سنة، فتعلم منهم لغات العرب وفصاحتها، وسمع الحديث الكثير على جماعة المشايخ والأئمة، وقرأ بنفسه الموطأ على مالك من حفظه فأعجبته قراءته وهمته.
محنة الشافعي
جاء في بعض الروايات عند ابن عبد البر قال: دخل الشافعي ومن معه من العلويين على الرشيد، وكان دخولهم واحداً واحداً، يكلم أحدهم وهم يسمعون من خلف الستر.
قال الشافعي: إلى أن بقي حدثٌ علويٌّ من أهل المدينة وأنا، فقال للعلوي: أأنت الخارج علينا والزاعم أني لا أصلح للخلافة؟ فقال العلوي: أعوذ بالله أن أدعي ذلك أو أقوله، قال: فأمر بضرب عنقه، فقال له العلوي: إن كان لا بد من قبلي فأنظرني أكتب إلى أمي بالمدينة فهي عجوز لم تعلم بخبري، فأمر بقتله، فقتل، ثم قدمت ومحمد بن الحسن جالس معه، فقال لي مثل ما قال للفتى.
فقلت: يا أمير المؤمنين لست بطالبي ولا علوي، وإنما دخلت في القوم بغياً عليهم، وإنما أنا رجل من بني المطلب بن عبد مناف من قصي، ولي مع ذلك حظ من العلم والفقه، والقاضي يعرف ذلك، أنا محمد بن إدريس بن العباس بن عثمان بن شافع بن السائب بن عبيد بن عبد يزيد بن هاشم بن المطلب بن عبد مناف.
فقال لي: أنت محمد بن إدريس؟ قلت: نعم يا أمير المؤمنين! قال: ما ذكرك لي محمد بن الحسن. ثم عطف على محمد بن الحسن، فقال: يا محمد! ما يقول هذا، هل هو كما يقوله؟ قال: بلى وله من العلم محل كبير، وليس الذي رفع عليه من شأنه. قال: فخذه إليك حتى أنظر في أمره.
قال ابن كثير: فحُمل الشافعي على بغل في قيد إلى بغداد، فدخلها في سنة أربع وثمانين ومئة وعمره أربع وثلاثون سنة، فاجتمع بالرشيد فتناظر هو ومحمد بن الحسن بين يدي الرشيد، وأحسن القول فيه محمد بن الحسن، وتبين للرشيد براءته مما نسب إليه، وأنزله محمد بن الحسن عنده، وكان أبو يوسف قد مات قبل ذلك بسنة أو سنتين، وأكرمه محمد بن الحسن، وكتب الشافعي عنه وِقْرَ بعير. ذكر ذلك في كتاب البداية والنهاية، ص 33.
كان الإمام الشافعي معظماً لمحمد بن الحسن تمام التعظيم مع ما يجري بينهما من مناظرات وخلافات مشهورة بين المذهبين، فالشافعي- رحمه الله- على مذهب أهل الحديث، ومحمد بن الحسن- رحمه الله- على مذهب أهل الرأي، ومعلوم ما بين المذهبين من اختلاف، ومع هذا يقول الشافعي عن محمد بن الحسن: ما رأيت أحداً يسأل عن مسألة فيها نظر إلا رأيت الكراهة في وجهه إلا محمد بن الحسن، وذكر ذلك في كتاب مناقب الشافعي، البيهقي، 1/159).
رحلة الإمام الشافعي إلى مصر
كانت نفسه تتوق إلى مصر رغماً عنها، وكان لا يدري حقيقة هذه الرغبة، ولكنه استسلم أخيراً لقضاء الله، وخرج من العراق إلى مصر، وفي ذلك يقول:
لقد أصبحت نفسي تتوق إلى مصر ومِنْ دونــــها أرض المهامـه والقفــــرِ
فـــــــــو الله مـــا أدري أللفـــــــــــوز والغـــــــــــنى أُساقُ إليها أَمْ أُساقُ إلى القبرِ
حين قدم الشافعي- رحمه الله- لمصر ذهب إلى جامع عمرو بن العاص، وتحدث به لأول مرة، فأحبه الناس، وتعلقوا به.
قال هارون بن سعيد الأيلي: ما رأيت مثل الشافعي قدم علينا مصر، فقيل: قدم رجل من قريش، فجئناه وهو يصلي، فما رأينا أحسن صلاة منه، ولا أحسن وجهاً منه، فلما تكلم ما رأينا أحسن كلاماً منه، فافتتنا به، وهناك برز للناس علم الشافعي وسعة اطلاعه واستفاد هو من رحلاته، وعمد إلى كتبه التي كتبها من قبل يراجعها ويصحح ما أخطأ فيه، ورجع عن كثير من أقواله، وأظهر مذهبه الجديد.
ثم أعاد تأليف كتبه، ولازمه كثير من العلماء الذين أثر فيهم علم الشافعي ومنهجه، وحرصه على متابعة السنة.
الدروس المستفادة من سيرة الإمام الشافعي
ـ في نصيحة الرجل الزهري خير عظيم ترتب للشافعي والأمة، فتظهر أهمية النصح الصادق لخير الأمة، وأهمية الاستجابة لهذا النصح الكريم.
ـ في والدة الشافعي نموذج للأم الصالحة التي تستحق الاقتداء بها وتقديرها، فرغم فقرها وحاجتها، فإننا نراها كيف تبذل وتضحي في سبيل تعليم ابنها، وقد أقرّ الله عينها، فرأت ثمار تعبها في هذا الإمام العظيم.
ـ التلطف وحسن الخلق في النصح، وحسن المدخل عندما قال الرجل الزهري: يا أبا عبد الله يعز علي ألا تكون في العلم والفقه هذه الفصاحة.
هل الإمام الشافعي من المجددين؟
توفرت في الإمام الشافعي مآثر وصفات رفعته إلى مصافِّ المجددين، ولعل من أبرزها:
– دفاعه عن عقيدة النبي صلى الله عليه وسلم وأصحابه، وحربه للمنحرفين عنها.
– تدوينه على أصول الفقه: ويعد الشافعي أول من صنَّف في أصول الفقه، وأرسى قواعده بلا اختلاف ولا ارتياب، وذلك في كتابه "الرسالة".
– نصرته للسنة: وقد برزت نصرته للسنة في عدة ميادين:
1- وضعه لقواعد أصول الحديث: يقول أحمد شاكر: وليس كتاب (الرسالة) أول كتاب أُلف في علم أصول الفقه، بل هو أول كتاب في علم أصول الحديث؛ لأن ما عرض له الشافعي في كتاب (الرسالة) من بيان لحجية خبر الواحد، وشروط صحة الحديث، وعدالة الرواة، وردِّ الخبر المرسل، والمنقطع إلى غير ذلك، هو أدق وأعلى ما كتب العلماء في أصول الحديث، بل إن المتفقه في علوم الحديث يعرف أن ما كتب بعده، إنما هو فروع منه وعالة عليه، وأنه جمع ذلك وصنفه على غير مثال سبق.
2- تعظيم السنة ورد شبهات المنكرين لحجيتها أو حجية بعضها.
3- جمعه بين رواية السنة ودرايتها، فقد كان أصحاب الحديث يُـعْنَون بالرواية والنقل، أكثر من عنايتهم بالفقه والاستنباط، ما جعلهم عاجزين عن المناظرة والمجادلة، وغير قادرين على تزييف طريق أصحاب الرأي، فجاء الإمام الشافعي فأقام توازناً بين الفقه والحديث، وبين الرواية والدراية، من غير غلو ولا شطط، وأعاد الناس إلى منهج الاعتدال والوسطية.
لذلك فرح أصحاب الحديث بالشافعي فرحاً شديداً، وأثنوا عليه ثناء حارّاً، وسموه ناصر السنة، وقال إبراهيم الحربي: سألت أبا عبد الله عن الشافعي، فقال: حديث صحيح، ورأي صحيح. وقال محمد بن الحسن: إن تكلم أصحاب الحديث يوماً فبلسان الشافعي، يعني لما وضع من كتبه، وقال أحمد: ما كان أصحاب الحديث يعرفون معاني أحاديث رسول الله صلى الله عليه وسلم فبيَّنها لهم.
4- إنصافه ورجوعه إلى الدليل وعدم تعصبه: فقد قال: إذا صح عندكم الحديث عن رسول الله صلى الله عليه وسلم فقولوا به، ودعوا قولي، فإني أقول به وإن لم تسمعوا مني، وفي رواية: فلا تقلدوني. وفي رواية: فلا تلتفتوا إلى قولي. وفي رواية: فاضربوا بقولي عُرض الحائط، فلا قول لي مع رسول الله صلى الله عليه وسلم، وجاء ذلك في كتاب "التجديد في الفكر الإسلامي، د. محمد أسامة، ص 94".
قال الحميدي: روى الشافعي يوماً حديثاً فقلت: أتأخذ به؟ فقال: رأيتني خرجت من كنيسة، أو عليَّ زنار، حتى إذا سمعت عن رسول الله حديثاً لا آخذ به. وكان يقول لأحمد: يا أبا عبد الله إذا صح عندكم الحديث، فأعلمني به أذهب إليه، حجازياً كان، أو شامياً، أو عراقياً، أو يمنياً. وجاء ذلك في كتاب "تهذيب الأسماء واللغات، النووي، 1/83".
وفاة الإمام الشافعي
وافت الإمام الشافعي المنية في آخر شهر رجب سنة 204هـ 820م، رحمه الله رحمةً واسعة.
فقد قال المزني: دخلت على الشافعي- رحمه الله- في مرضه الذي مات فيه فقلت له: كيف أصبحت يا أستاذ؟ فقال: أصبحت من الدنيا راحلاً، ولإخواني مفارقاً، ولكأس المنية شارباً، وعلى الله وارداً، ولسوء عملي ملاقياً، ما أدري أروحي إلى الجنة فأهنيها؟ أم إلى النار فأعزيها؟ ثم رمى بطرفه إلى السماء واستعبر وأنشد:
إليك إله الخلقِ أرفعُ رغبتي وإن كنتُ يا ذا المنِ والجودِ مجرما
ولما قسى قلبي وضاقتْ مذاهبي جعلتُ الرجا مني لعفوِكَ سُلمَا
تعاظمني ذنبي فلما قَرنتُهُ بعفوِكَ ربي كانَ عفوُكَ أَعظَما
وما زلت ذا عفوٍ عن الذنبِ لم تَزلْ تجـودُ وتعفــــــــو منَّةً وتَكَرُّما
فلولاك لم يصمُدْ لإبليسَ عابدٌ فَكيفَ وقَدْ أغوى صَفِيَّكَ آدما
فإن تعف عني تعف عن متمردٍ ظلومٍ غشومٍ ما يزايلُ مأثما
وإن تنتقم مني فلستُ بآيسِ ولو أدخلتُ نفسي بجرمي جهنما
فجرمي عظيمٌ من قديمٍ وحادث وعفوكَ يا ذا الجلال أعلى وأجسما
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق