محاكمة ترامب.. ومحاكمات الرؤساء العرب
أخيرا تحولت التكهنات إلى حقيقة، فها هو الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترمب بين أيدي ضابطين يقتادانه إلى ساحة المحكمة متهما جنائيا، وها هو المدعي العام في مانهاتن ألفين براغ يعلن لائحة الاتهام بحقه، التي تضم 34 تهمة أبرزها دفع رشاوى مالية، وتزوير سجلات تجارية، لمنع معلومات سلبية عن علاقات نسائية غير مشروعة، والسعي لتقويض نزاهة الانتخابات الرئاسية في 2016، وهي تهم تصل عقوبتها في حدها الأقصى إلى السجن 4 سنوات لكل منها حال ثبوتها.
لا شك أن محاكمة ترمب كغيرها من محاكمة الرؤساء ذات وجه سياسي بالأساس، حتى وإن نفى ذلك مدعي مانهاتن، لكنها إذا لم تستند إلى أسس قانونية سليمة فإنها ستتحول إلى سلاح عكسي بوجه من حركها، وتسهم في استعادة بل رفع شعبية الرئيس المتهم، وربما تصبح الرافعة التي تنقله مجددا إلى البيت الأبيض في الانتخابات المقبلة.
ترامب ربيب المحاكم
ليست هذه المحاكمة الأولى لترمب، فقد سبقها محاكمتان، أولاهما بخصوص ضغوط على الرئيس الأوكراني في 2019 لكشف أسرار عن نجل منافسه في ذلك الوقت جو بايدن، والثانية حول تحريضه أنصاره لرفض نتيجة الانتخابات التي خسرها في العام 2020 وهو ما تسبب في اقتحامهم الكونغرس، وجرت المحاكمتان عبر المسار الدستوري أي مجلسي النواب والشيوخ، وقد نجا منها بفضل تكاتف قادة ونواب الحزب الجمهوري خلفه، لكن المحاكمة هذه المرة مختلفة كونها تجري بعيدا عن الكونغرس بغرفتيه، بل أمام محكمة مستقلة تتعامل وفقا للائحة اتهامات محددة، ونصوص قانونية أكثر وضوحا، لكن ترمب الذي قدّم نموذجا مختلفا في الحكم سيقدّم أيضا نموذجا مختلفا خلال الجلسات المقبلة لمحاكمته التي ستبدأ في 4 ديسمبر/كانون الأول المقبل، وقد بدا التحدي على الفور عقب انتهاء سماعه للاتهامات بالإعلان أن حملته جمعت عشرة ملايين دولار منذ بدأ الحديث عن المحاكمة الجديدة، في إشارة إلى قوة شعبيته وقدرة حملته على المواجهة.
كما أن ترمب ليس أول رئيس أمريكي يتعرض للمحاكمة، فقد سبقه الرئيس السابع عشر أندرو جونسون، والرئيس السابع والثلاثون ريتشارد نيكسون في فضيحة ووترغيت الشهيرة، والرئيس الحادي والأربعون بيل كلينتون في فضيحة (مونيكا لوينسكي)، وقد نجا الرئيسان جونسون وكلينتون بفضل أغلبية نواب حزبيهما في مجلس الشيوخ، بينما استقال الرئيس نيكسون ليقطع الطريق على استكمال محاكمته.
محاكمة الرؤساء سواء أثناء توليهم المسؤولية أو عقب تركهم لها في الولايات المتحدة وغيرها من الدول الديمقراطية هي دليل سلامة وعافية الحياة الديمقراطية والمؤسسات الديمقراطية التي تعلو على الأشخاص، وحتى لو كانت بعض المحاكمات ذات خلفية سياسية فإنها لا يمكن أن تنطلق من فراغ، بل تستند إلى تهم حقيقية أو شبه حقيقية، حتى لا تتحول إلى سلاح مضاد بيد من وُجهت إليه.
محاكمة 6 رؤساء عرب
ماذا إذن عن محاكمة الرؤساء العرب؟
الحكام العرب محصنون ضد المحاكمات طالما كانوا في السلطة، ولا يجرؤ أي برلمان على توجيه اتهامات إليهم تستوجب محاكمتهم، ولكن في السنوات القليلة الماضية التي شهدت حراكا سياسيا كثيفا عقب الغزو الأمريكي للعراق، ثم عقب ثورات الربيع العربي وموجة الثورات المضادة، شهدنا محاكمات لـ6 رؤساء عرب سابقين، بينهم الرئيسان المصريان مبارك ومرسي، والرئيس العراقي صدام حسين، والسوداني عمر البشير، والموريتاني محمد ولد عبد العزيز، والتونسي زين العابدين بن علي.
لم تكن محاكمات هؤلاء الرؤساء وفقا لمسار ديمقراطي وقوانين ديمقراطية مستقرة، فحتى الآن تفتقد المنطقة العربية هذه الممارسة الديمقراطية المستقرة، ورغم أن بعض الدساتير العربية تتضمن نصوصا بشأن طريقة محاكمة الرؤساء فإن تلك النصوص ظلت حبيسة الأدراج، إذ كانت كل المحاكمات سياسية بالأساس، مع الفارق بينها بطبيعة الحال، فلا مجال للمساواة بين من حاكمه الأعداء بمن حاكمه شعبه، ولا مجال للمساواة بين من وصل إلى الحكم نتيجة إرادة شعبية، ومن وصل عبر انقلاب على تلك الإرادة.
من صدام إلى البشير
كانت أولى المحاكمات للرئيس العراقي صدام حسين عقب الغزو الأمريكي لبلاده، وكان معروفا منذ لحظة القبض عليه وإحالته إلى المحاكمة أن الحكم سيكون الإعدام، هكذا تلاقت إرادة المحتل الأمريكي مع إرادة ضحايا صدام خصوصا من الشيعة والأكراد، أما أحدث المحاكمات فهي محاكمة الرئيس الموريتاني السابق محمد ولد عبد العزيز بتهم فساد وغسيل أموال، التي انطلقت في الخامس والعشرين من يناير/كانون الثاني الماضي، وهي محض تصفية حسابات بينه وبين الرئيس الحالي الذي قاد انقلابا عليه، ولا علاقة لها بموجة الربيع أو الثورات المضادة، بينما كانت باقي المحاكمات مرتبطة بتلك الثورات، فمحاكمة الرئيس المصري الأسبق حسني مبارك جرت بعد ثورة الشعب المصري ضده في 25 يناير 2011، وقد مثل مبارك وابناه وعدد من أركان حكمه للمحاكمات التي انتهت بتبرئتهم أو إصدار أحكام مخففة عليهم، إذ نجحت الدولة العميقة في حجب أدلة ثبوت الجرائم بحقهم، فيما جرت محاكمة مرسي عقب انقلاب الثالث من يوليو/تموز 2013، وكان المستهدف الخلاص منه لكونه أول رئيس مدني، وقد وجهت إليه السلطات العديد من الاتهامات في العديد من القضايا، ولكنه تعرّض لأزمة صحية أثناء إحدى الجلسات، وتركته المحكمة دون إنقاذ حتى لقي ربه شهيدا. وأما الرئيس السوداني عمر البشير فهو لا يزال قيد المحاكمة حتى هذه اللحظة، ومعه عدد من أركان حكمه بعد ثورة ديسمبر 2018 ضد حكمه، فيما جرت محاكمة غيابية عقب الثورة التونسية (يونيو/حزيران 2011) بحق الرئيس زين العابدين بن علي انتهت بالحكم عليه بالسجن 35 عاما، وقد توفي في منفاه دون تنفيذ ذلك الحكم.
فارق كبير بين محاكمات رؤساء حاليين أو سابقين في الدول الديمقراطية، ومحاكمات نظرائهم في دولنا العربية التي لا تزال تعيش تحت وطأة الحكم الاستبدادي، الذي لا يعرف معنى المحاكمات الحقيقية للرؤساء أو حتى لعموم الأفراد.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق