عن الانتقال الديمقراطي "المحتَجَز" في بلادنا
تخبرنا تجارب الانتقال الديمقراطي في أميركا اللاتينية وأوروبا الشرقية أن الديمقراطية ليست سحرًا أو اختراعا عجيبا يصعب الاهتداء إليه. بل على العكس، فهي عملية ممكنة، إذا توفرت لها الظروف الملائمة، وإذا أحسنت النخب السياسية التعاطي مع هذه الظروف بمسؤولية ونزاهة، فإنها قد تدفع ببدء العملية الديمقراطية.
لم تكن البلدان التي مرّت بتجارب ديمقراطية في أميركا اللاتينية وجنوب أوروبا وشرقها أفضل حالاً، حين انتقلت من السلطوية والاستبداد والصراعات الأهلية، من واقع البلدان العربية حاليا. خذ مثلاً البرتغال التي حكمها أكثر من أربعة عقود نظام دكتاتوري قومي بقيادة أنطونيو سالازار (1932-1968)، وخاضت حروبا منهكة للحفاظ على مستعمراتها في أفريقيا (أنغولا وموزامبيق وغينيا البرتغالية، إلخ) إلى أن تم إسقاط الحكم الدكتاتوري عبر انقلاب عسكري لم ترق فيه نقطة دم واحدة، ومهّد الطريق إلى دمقرطة البرتغال، فيما عُرفت بعدها بـ"ثورة القرنفل".
يكتب عالم السياسة الأميركي لاري دايموند، في كتابه "روح الديمقراطية"، أنه "حين تهاوى النظام الدكتاتوري أمام ثورة القرنفل، لم يكن واضحا تماماً أن البرتغال سوف تصبح دولة ديمقراطية. لم تكن كذلك من قبل، بل كانت خلال نصف قرن ترزح تحت حكم شبه فاشي".
كذلك كانت هي الحال في الجهة المقابلة للبرتغال، حين كانت جارتها إسبانيا تئن تحت حكم دكتاتوري فاشي آخر، هو حكم الجنرال فرانسيسكو فرانكو الذي وصل إلى السلطة عام 1939، واستمر فيها حتى أصبح مريضا وغير قادر على الحركة، منتصف السبعينيات من القرن الماضي. وذلك قبل أن تبدأ إسبانيا في الانتقال باتجاه الديمقراطية عام 1977، مدشّنة ما بات يُعرف في أدبيات الانتقال الديمقراطي بالموجة الثالثة للديمقراطية، حسب وصف عالم السياسة الأميركي المعروف صمويل هنتنغتون.
هكذا جرت الحال قبلها في اليونان، قبل أن تنتقل حمّى الديمقراطية إلى بلدان أميركا اللاتينية، كالبرازيل والأرجنتين وتشيلي والسلفادور، إلى أن وصلت أطراف أوروبا الشرقية بعد انهيار الاتحاد السوفياتي الذي خلّف دولاً سعت إلى الالتحاق بقطار الديمقراطية. كما وصلت العدوى الديمقراطية إلى أطراف آسيا، فأطاحت بحكم الدكتاتور فيرناندو ماركوس في الفلبين منتصف الثمانينيات، من خلال مقاومة وكفاح سلمي استمر عقودا، وما هي إلا أشهر قليلة حتى لحقت كوريا الجنوبية بالفلبين في أبريل/نيسان 1987.
هكذا وجدت الديمقراطية طريقها، أو بالأحرى وجدت الشعوب الأوروبية والأميركية والآسيوية طريقها باتجاه إنهاء التجارب الاستبدادية، وشق الطريق نحو الحرية والحكم الديمقراطي. وقد كانت لديها الظروف نفسها في العالم العربي الآن، سواء من حيث صراعات أهلية طاحنة (البرتغال وإسبانيا) أو جنرالات عسكريين قابضين على السلطة (الأرجنتين والبرازيل وتشيلي) أو أحزاب مهيمنة على السلطة (الفلبين، كوريا الجنوبية، بولندا، ألمانيا الشرقية). وهو ما يُثير التساؤل حول فشل الانتقال الديمقراطي في العالم العربي، وما إذا كان الأمر يتعلّق بالثقافة العربية التي تخاصم الديمقراطية، كما يقول المستشرقون، أو كما يدّعي بعض مثقفينا المتنطعين.
تكشف مقارنة سريعة بين هذه التجارب المذكورة وتجربة العالم العربي في ما يخص الديمقراطية، أن ثمّة ثلاثة فروق أساسية، أو على الأقل ملاحظات فارقة بين التجربتين:
- أولها يتعلق بالدور المحوري الذي تلعبه النخب السياسية أثناء المراحل الانتقالية، فعلى عكس التجارب الأخرى التي نجحت فيها النخب المعارضة في استثمار فرصة سقوط الأنظمة السلطوية من أجل تحقيق انتقال ديمقراطي ناجع من خلال الحوار والتوافق، فقد أخفقت النخب السياسية العربية في القيام بالدور نفسه، حين لاحت الفرصة مع الموجة الأولى للربيع العربي. حيث غرقت هذه النخب في خلافات واستقطابات سياسية وأيديولوجية هوياتية، دفعت الأنظمة القديمة وحلفاءها للعودة إلى الحياة السياسية، ووأد التجربة الانتقالية في مهدها. حدث ذلك في مصر واليمن وليبيا وتونس والسودان.
- الأمر الثاني هو دور الحركات والمؤسسات الدينية في توعية الجماهير بأهمية التحرر من الاستبداد وإنهاء الظلم وتحقيق العدالة الاجتماعية من خلال إنجاز الانتقال الديمقراطي، والحفاظ على مساره مهما كانت التكلفة، وذلك بديلاً عن الانزلاق باتجاه الحكم الفردي الذي قد يدّمر السلم والتعايش الأهلي. فقد قام قادة الكنيسة الكاثوليكية في أميركا اللاتينية وجنوب أوروبا بدور مهم في نزع الشرعية عن الأنظمة السلطوية، باعتبارها ضد روح الدين والسلام. وهناك حكايات عديدة حول دور القساوسة في السلفادور والبرازيل والأرجنتين في تعبئة الشارع ضد الحكم السلطوي في بلدانها. وقد دفع بعضهم حياته ثمنا لذلك، منهم القس أوسكار روميرو، رئيس أساقفة السلفادور الذي قتلته "فرق الموت" التابعة للنظام السلفادوري، التي كانت مهمتها استهداف المعارضين للأنظمة السلطوية في دول أميركا اللاتينية. أما في الحالات العربية فقد قامت المؤسسات الدينية ومشايخ الدين بدور مهم في الحفاظ على الحكم السلطوي وتثبيته، وذلك عبر مبرّرات دينية وثيولوجية مختلفة.
- أما الاختلاف الثالث فيتمثل في دور دول الجوار القريب والبعيد في تشجيع أو تعطيل الانتقال الديمقراطي في البلاد المعنية. ففي معظم، إن لم يكن جميع، تجارب الانتقال الديمقراطي في أميركا اللاتينية وجنوب وشرق أوروبا وحتى آسيا (خصوصا الفلبين وكوريا الجنوبية) لعبت الضغوط الإقليمية والدولية دورا حيويا في الانتقال الديمقراطي والقطيعة مع الماضي السلطوي، فقد شجعت أوروبا على نجاح التجربة الديمقراطية في البرتغال واليونان والبرازيل، وكذلك في دول شرق أوروبا. كما ساعدت الولايات المتحدة، من خلال ضغوطها على حلفائها في الفلبين وكوريا الجنوبية، على الانتقال الديمقراطي. وعلى العكس من ذلك، فإن دول الجوار العربي والأوروبي، وكذلك أميركا، قامت بدور في إحباط تجربة الانتقال الديمقراطي في العالم العربي وإفشالها منذ عام 2011.
ولذلك، فمن دون إدراك أهمية ووزن هذه الاختلافات والاستفادة منها، سيظل من الصعب تحقيق انتقال ديمقراطي ناجع في العالم العربي، وستتم إعادة إنتاج الحكم السلطوي بطرق وأشكال مختلفة حتى وإن وقعت انتفاضات وثورات جديدة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق