العيب في الذات العبثية
لأنّ العبث في مصر مقدّس، فإنّ الاقتراب منه جريمة بحسب القانون، وخطيئة بحسب الشريعة الوطنية التي عثروا على نصوصها في مستنقعٍ عطن. والوضع كذلك، التهمة المعلنة التي يحاكم بها، يحيى حسين عبد الهادي، الضابط المهندس السابق، هي العيب في الذات العبثية، وهي الذات التي كلّما تضخّمت تفاقمت حالة الرعب التي تتملكها إذا ما استشعرت أنّ ثمّة من ينتقد أو يرفض طرحًا، أو حتى يقترح رأيًا مختلفًا، أو يناقش، أو يتساءل.
حسب المعلن، العبث الذي استدعي عبد الهادي للمحاكمة متّهمًا بالعيب فيه هو صنم مصنوع من أردأ أنواع الأخشاب، اختاروا له اسم "الانتخابات الرئاسية"، مفروضٌ على الكلّ تقديسه والطواف حوله من دون كلام، وتقديم القرابين له كلّ أربع سنوات، أو كلّما وجد صاحب الصنم أنّ الحالة بحاجةٍ لمزيد من التقديس.
هي التهمة التي حُبس بها الطبيب، هاني سليمان، وكلّ من تسوّل له نفسُه أن يرى الصنم على حقيقته، ويمتنع عن الدعوة إلى الطواف حوله... التهمة هي الكلام عن مسخرةٍ هائلةٍ يقال لها انتخابات، تقام خصيصًا من أجل شخصٍ واحد، مطلوب متطوّعين للعب دور المهزوم أمامه، وسط تصفيقٍ حادٍّ من الكهنة والعرّافين وخدم الصنم.
على أنّ المعلن شيء والحقيقة شيء آخر، وظنّي أنّ الاشتباك حول صنم الانتخابات الرئاسية، رفضًا لها أو تحذيرًا وسخريًة منها، ليس أكثر ما يجلب الغضب، بل يجلبه المسّ بصاحب الصنم، والجهر بما يعتبره تجديفًا وكفرًا صريحًا بالعقيدة التي يتأسّس عليها النظام كله، وهي مخالفة النص المقدّس الذي يقول إنّ المنتمين لجماعة الإخوان لا يتمتعون بحقوق البشر في المواطنة والعدالة القضائية، بل، وحتى مجرّد البقاء على قيد الحياة، وكذا النظر إلى معارضي تلمود الثلاثين من يونيو/ حزيران 2013 بوصفهم كفّارًا بالوطن، لا ينبغي أن تشملهم مظلّة العدل والحرية.
يكتب المهندس يحيى حسين عبد الهادي مقالًا محترمًا على صفحته في "فيسبوك"، يطالب فيه بالإفراج عن الجميع، بمن فيهم الإخوان المسلمين، من زنازين النظام، تلك الزنازين التي عرفها عبد الهادي، وكابد برودَتها وقيظها وقسوتها أكثر من 42 شهرًا، وهو الضابط المهندس النابه في القوات المسلحة سابقًا، من دون تهمةٍ سوى التعبير عن آرائه السياسية والفكرية بشكل هادئٍ ورزين على مواقع التواصل الاجتماعي.
على ذلك، فإنّ يحيى حسين عبد الهادي يُحاكَم هذه المرّة على مجمل الأعمال، ويُعاقب على حزمة من الآراء التي تجرّأ وأعلنها بعد خروجه من سجنٍ ظالم بموجب مكرمة عفوٍ رئاسيٍّ تقوم على مبدأ أو معادلة تناولتها سابقًا "نخرجك من الزنزانة مقابل أن تترك لسانك بالداخل أو تتركه لنا نحرّكه بما نريد من الكلام". ولأنّ عبد الهادي لم يُذعن للمعادلة وتمرّد على الخنوع فقد صبأ بنظر صاحب الصنم ومجموعة الكهنة والعرافين العاملين في خدمته.
كتب يحيى حسين عبد الهادي بعد خروجه من السجن منشورًا على صفحته الشخصية في موقع فيسبوك، موّجهًا حديثه إلى قيادة الحركة المدنية الديمقراطية، التي ساهم في تأسيسها قبل سجنه، ناصحًا بأنه "يجب أن نسمو بمواقفنا عن مستوى التعبير عن حركتنا وتيّارنا فقط إلى التعبير عن الجميع بمن فيهم المختلفين معنا، ودون انتظار تفويضٍ منهم .. فمكافحة الظلم لا تحتاج إلى تفويض .. أتحدّث عن الإخوان تحديداً .. عالِماً بأن الحديث الرحيم عنهم جَلَّابٌ للمشاكل". ثم تساءل "لماذا اقتصرت المطالبات بالإفراج عن أسماء بعينها (كُنْتُ واحداً منها) ولَم تقترب من أسماء لم يعد نُطقُها مسموحاً إلا مصحوباً باللعنات والبذاءات .. أسماء كمحمد بديع وخيرت الشاطر وسعد الكتاتنى ومحمد البلتاجى وغيرهم، صار نُطقها من نواقض الوضوء الوطنية".
هنا هاجت زنابير الحركة المدنية وماجت، وراحت تتصدّى لطرح الرجل، كما لو كان ما كتبه هرطقًة وكفرًا صريحًا بنصوص المعادلة اللعينة، وتلقّنه دروسًا فيما يجب ولا يجب، على نحو بدا تحريضيًا على الرغم مما تدعيه من ود.
حسب ما نشر بالأمس في أثناء انعقاد جلسة المحاكمة، فإنّ الاتهامات الموّجهة من النيابة للمهندس يحيى عبد الهادي هي إذاعة أخبار كاذبة ونشر مقالات من شأنها تكدير الأمن والسلم العام وإلقاء الرعب في قلوب المواطنين، ومن هذه المقالات "متى يتكلمان" و"العار والحوار" و"الإفراج عن الجميع بما في ذلك الإخوان"، وتهمة المقال الأخير سبق أن صاغها ووجّهها واحد من صقور الحركة المدنية الديمقراطية، قبل أن توّجهها النيابة، وهو ما تناولتُه في مقال بهذا المكان تحت عنوان "قضية الدجاج ودجاج القضية".
الأمر ذاته، تقريبًا، تجده في حالة الطبيب هاني سليمان، الذي بدأ رحلته مع الحبس الاحتياطي، بعد اعتقاله على خلفية كتابة تعليقات على صفحته الشخصية في "فيسبوك"، منها ما يبدي فيه رأيه في عبثية الانتخابات الرئاسية التي يتحدث بعض الناس عنها في العام 2024، ومنها، وهذا مربط الفرس، ما يتناول البذخ السفيه في الإنفاق الرئاسي، في دولة تشكو الفقر والحاجة، ليلًا ونهارًا.
أخلت المحكمة سبيل يحيى عبد الهادي على أن يعود إليها بعد شهرين ليواجه الاتهامات نفسها، وهي كتابة مقالات وآراء ونشرها، وبالتالي عليه أن يسكت خلال تلك الفترة، وإلا فالعودة إلى السجن الذي غادره بقرار رئاسي بعد الحكم بحبسه أربع سنوات بقضية مماثلة.
في عام 2018 وجد يحيى حسين عبد الهادي نفسه متّهمًا من "مواطن شريف" بتكدير السلم العام ونشر أخبار كاذبة وإهانة الرئيس، وبعد التحقيق معه أخلي سبيله، قبل أن يعود للحبس الاحتياطي لسنوات. وهذه المرّة، أصبح ذلك "المواطن الشريف" من الجالسين على موائد الحوار الوطني.
مرّة أخرى، يقول النظام بملء الفم: خروجك من الزنزانة مرهونٌ بتسليم لسانك للسجان يحرّكه كيف يشاء، وإلا فعودتك إلى الحبس واردة في كلّ لحظة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق