غرق قارب المهاجرين غير النظاميين في البحر الأبيض المتوسط
أكاديمي، وسياسي، وكاتب تركي
عيدٌ بأيَّةِ حالٍ عُدتَ يا عيدُ *** بما مضى أَمْ بأمرٍ فيكَ تجديدُ
تم انتشال جثث 82 شخصًا من قارب المهاجرين الذي غرق بالقرب من جزيرة “بيلوبونيز” اليونانية في 14 يونيو/حزيران، والذي كان على متنه 750 شخصًا. وقد تمكن 100 شخص من النجاة وتم إخراجهم أحياء على أيدي فرق الإنقاذ بفضل جهودهم المكثفة، ولا يزال مصير الآخرين مجهولًا. والحقيقة المُرّة في مثل هذه الحوادث أن أصحاب هذا المصير المجهول سيبقون مجهولين، ولن يتم انتشال جثثهم أبدًا وستتلاشى في المياه الباردة والعميقة. وربما يستمر الأمر أيامًا عدة أخرى ثم ينقطع الأمل في إيجادهم ومن ثم تتوقف أعمال البحث عنهم. ولكن سيبقى الشوق والحزن والألم العميق هو ذكراهم في قلوب أقاربهم، إلا أن العالم سرعان ما سينساهم ولن يُمثلوا له أي شيء فيما بعد.
بالوفاء كنا وكانوا *** وبالمواقف البسيطة بانوا
وفي هذه الأيام المباركة، يمكن للمرء المنصف أن يتساءل: وهل هؤلاء الـ750 هم مَن سيضحي بهم العالم الإسلامي؟ وإلى أين يتقرب بهذه الأضاحي؟ ومن المسؤول عن ذلك؟ ومن سيدفع الثمن؟ ولمن سيدفع؟
وإنه لأمر مُخزٍ أن يكون هؤلاء الأشخاص الذين خاطروا بحياتهم وتجمعوا على متن قوارب مهترئة وهم يعلمون أنهم مقبلون على موت محقق، كل هؤلاء خرجوا فارّين من دول العالم الإسلامي التي تلاشي فيها أثر الشريعة الإسلامية، فلا أثر لعدالة الإسلام أو رحمته أو نظامه. وهناك فقط قادة وملوك وأمراء وزعماء وإلى جانبهم علماء وشيوخ وأصحاب الفتاوى، لكن الجميع بعيدون عن حقيقة الإسلام.
هؤلاء الضحايا يهاجرون فرارًا من تلك الدول في رحلة موت وهم يأملون حياة أفضل، لأنهم لم يكن أمامهم سوى خيارين: إما التعذيب في سجون بلادهم والموت داخلها أو البقاء في معاناة مع حياة بائسة مليئة بالفساد، وإما الفرار والمخاطرة بحياتهم إلى حيث يرجون حياة عادلة ومعاملة أفضل.
وهذا العالم الذي يرجو المهاجرون أن يجدوا فيه حياة أفضل ومعاملة أكثر إنسانية وبيئة أكثر احترامًا للكرامة الإنسانية، تراه يسـتقبلهم في أولى محطاتهم بمعاملة أكثر إثارة للاشمئزاز واللاإنسانية والإذلال.
والحقيقة أن هذا هو الوضع الذي يواجهه عادة المسافرون في رحلة الأمل، إذ تتناثر أشلاء جثث المهاجرين غير النظاميين في مياه البحر الأبيض المتوسط. وهناك قبالة سواحل صفاقس التونسية حيث يعمل الصياد التونسي أسامة الدبيبي، نرى فظاعة الموقف حين يروي لنا عن مدى الرعب ويقول “في كل مرة أسحب شبكة الصيد من الماء أنتظر بعينين مليئتين بالأمل من ناحية والقلق من ناحية أخرى، لأننا في كل مرة نخرج لصيد السمك لا تخرج لنا الأسماك أحيانًا بل تُخرج الشباك بعض الجثث. ومع الأسف أننا اعتدنا على ذلك بعد فترة، فصار إخراج جثث الناس لا يختلف عن إخراج الأسماك”.
يكمل الدبيبي روايته، ويذكر أنه خلال 3 أيام فقط انتشل 15 جثة. وقد أصبح هذا أمرًا اعتياديًّا إلى درجة أنه صار يشعر بارتياح نفسي غريب فقط في الأيام التي يكون فيها الطقس غائمًا أو غير مستقر، لأن قوارب المهاجرين لا تبحر في مثل تلك الأيام، وهذا يجعله يشعر بالسعادة لأنه لن يجمع الجثث في ذلك اليوم.
وفي أي يوم من أيام العصر الحاضر، كل شخص معرَّض لأن يصبح لاجئًا أو طالبًا للجوء لسبب أو لآخر، فالظروف غير الصالحة للحياة في مكان ما يمكن أن تجبر الناس على الهجرة، ولذلك فإن اللجوء حق من حقوق الإنسان، وهذا الحق الإنساني قد نال اعترافًا عالميًّا وصار يوم 20 يونيو/حزيران هو اليوم العالمي للاجئين.
وبالطبع فإن الأَولى هو السعي لمعالجة الظروف التي تجبر الناس في مكان ما على الفرار والبحث عن ملجأ، ولكن إذا تعسَّرت المساعي ولم نتمكن من تصحيح تلك الظروف، فلا أقلَّ من تحمُّل المسؤولية الإنسانية واتباع أسلوب أكثر إنسانية تجاه هؤلاء الفارّين طالبي اللجوء.
ومما يدعو إلى الحسرة أن المكان الذي يقصده اللاجئون في بحثهم عن حياة أكثر إنسانية وازدهارًا لا يرقى إلى مستوى المسؤولية والأمل الذي خرج وراءه المهاجرون، فيعاملهم منذ اللحظة الأولى بأسوأ مما تركوه خلفهم.
وقد تبيَّن في حادثة الغرق الأخيرة أن القارب الذي كان يحمل المهاجرين غير النظاميين بالكاد تحرك لمدة سبع ساعات فقط قبل غرقه. وعلى الطرف الآخر، خفر السواحل اليوناني الذين اعتادوا في هذه الحالات على استخدام تكتيكات متعمَّدة تجعل القوارب التي تحمل مهاجرين غير قادرة على المناورة، مما يزيد من معدلات وقوع مثل هذه الكوارث. وبعبارة أخرى، فإن الأمر لا يتعلق بغرق القوارب من تلقاء نفسها بل إن هناك تعمُّدًا لإغراقها، فمن الواضح أنها جريمة تحدث مع سبق الإصرار ضد الإنسانية على أبواب أوربا. ومما يؤكد ذلك أيضًا أن التحقيقات التي فتحها مكتب المدعي العام اليوناني في قضايا مماثلة من قبل قد انتهت جميعها لصالح خفر السواحل اليوناني، في محاولة يائسة لتبرئة اليونان رغم تورطها ومخالفتها لكل القوانين.
والحقيقة أن بقايا قوارب المهاجرين الغارقة تكشف عن حطام الوجه الحقيقي لأوربا. ومع غرق كل قارب للمهاجرين، تغرق معه أحلام أوربا والمكالبة بإدانتها، ويظهر الوجه الآخر لهذا الغرق في التناقض الواضح بين الموقف العالمي غير المبالي بمئات الأشخاص الذين لقوا حتفهم في حادثة غرق القارب، في مقابل الاهتمام المفرط بالأشخاص الخمسة الذين فُقدوا في حادث انفجار غواصة تيتان، وهذه المفارقة هي في الواقع تحذير شديد للجميع.
ولكن بغض النظر عن محاولات تبرئة أوربا وتبرير سلوكها، من الضروري استيعاب الأسباب التي تجبر هؤلاء المهاجرين على القيام بهذه الرحلات الصعبة والمحفوفة بالأخطار، إذ يجب النظر إلى الظروف التي دفعتهم -وغالبيتهم من دول إسلامية- إلى الفرار من بلادهم. لماذا تعيش الدول الإسلامية في ظروف تضطر مواطنيها إلى البحث عن السلام والخبز والحرّية والكرامة في بلدان أخرى؟
على جدول الأعمال
ومن الضروري أن يكون لهذه القضية مكانة خاصة في جدول أعمال منظمة التعاون الإسلامي، فمشكلة المهاجرين ليست مشكلة أوربية فقط، فالحقيقة أن حكام وزعماء الدول التي ينتمي إليها المهاجرون لديهم علاقات تعاون مع دولة أوربية أو أكثر إلى جانب الولايات المتحدة الأمريكية، وفي الوقت نفسه يجعلون بلدانهم غير صالحة للعيش وطاردة لمواطنيها، ولكن المهم الآن اتخاذ مبادرة جديدة لحل هذه المشكلة.
ونرجو في عيد الأضحى أن ننتقل إلى التضحيات التي من شأنها أن تُقرّب الناس حقًّا من بعضهم بعضًا، وتُقرّبهم إلى الله وإلى الحياة الحقيقية، ونأمل ألا تكون التضحية بالناس بوسائل تدفعهم إلى سراب لا جدوى منه يودي بحياتهم، ومن واجبات منظمة التعاون الإسلامي أن تجعل هذه المسألة على رأس القضايا التي تهتم بها.