أهلاً بكم في دول “العبيد المخصيين” العربية الديمقراطية الاشتراكية!
شريف عبدالغني
قبل قرون، كانت الدول والممالك التي حكمت مصر تُجري عمليات إخصاء للعبيد والمماليك في قصور الخلفاء والسلاطين.
الهدف من العملية القاسية كان زيادة قوة العبيد الجسدية من أجل العمل، فضلاً عن منعهم من معاشرة الجواري، إذ كان الخلفاء يغارون من هذا الأمر، وأرادوا أن تكون الجواري – مثلما كل شيء في البلاد وبين العباد- حصرياً لهم.
ولأن مصر بلد “المُضحكات المُبكيات”، فقد صعد أحد هؤلاء العبيد المخصيين – وهو كافور الإخشيدي- على رأس الحكم، وهو الذي مدحه شاعر العرب الأكبر أبو الطيب المتنبي، ثم انقلب عليه وهجاه:
نامت نواطير مصر عـن ثعالـبهـا فـقـد بَشِـمْـن وما تـفـنى العناقيد
صـار الـخَصِيّ إمام الآبـقـين بها فـالحـرّ مُسـتعْـبَـد والعـبد معبود
لا تشـترِ الـعبـد إلا والـعصا معـه إنّ الـعـبـيــد لأنـجـاس مـنـاكـيـد
من علّم الأسود المَخصيّ مكرُمة أقَـوْمـه الـبـيض أم آباؤه الـصِّـيد
أم أُذْنُـه في يـد الـنـخّـاس دامـيـة أم قــدره وهو بالـفـلْـسَـين مردود
أولـى اللـئـام كُـوَيْـفِـيـر بمـعـذِرة في كل لؤم، وبعض العُذر تفـنيد
وذاك أنّ الفحول البيض عاجزة عن الجميل فكيف الخصية السود؟
مصر تاريخياً هي قلب الأمة، لذا فإنها تؤثر في محيطها سلباً وإيجاباً، فما يحدث في قاهرة المعز ينعكس صداه في باقي عواصم الأمة، ولهذا فإننا رأينا نسخاً عربية من نظام “يوليو 52″، تقوم على حكم الفرد المتسلط باستفتاءات الـ “خمس تسعات” الشهيرة. ولما قصّ السادات شريط التطبيع مع إسرائيل، ووقّع “كامب ديفيد”، لم يمر أكثر من عقدين حتى شاهدنا توقيع “وادي عربة” و”أوسلو”.
ورغم أن أسيادنا المتربعين على عروش الحكم العربية، معروف عن غالبيتهم كرههم للثقافة، ولم تثبت على كثيرين منهم “تهمة” القراءة، فإن واقع الحال يؤكد أن معظمهم درسوا جيداً حكاية “إخصاء العبيد” واتخذوها نهجاً لحكمهم؛ لكنهم لم يكتفوا بأن يخضع لهذه العملية “عبيد” قصورهم من راغبي السلطة ومنافقيهم، بل عمدوا إلى أن يُخضعوا لها الشعوب في عمومها، حتى لا تطمع في تغيير السلطة، أو تملك قدرة على محاسبة المسؤول، أو حتى تطلب طلباً لا يطيب للقصر.. كل المراد أن تكون الشعوب عند هذا الصنف من الحكام “شغّيلة” تحصل على لقمة العيش، بينما أهل السلطة يملؤون “كروشهم” بما لذ وطاب من المال العام، والهدف أن تكون الشعوب سجيناً يطلب الأمن من سجانه.
هؤلاء الحكام نجحوا في هذا الأمر نجاحاً ساحقاً شهد به العالمون، وربما هو الشيء الوحيد الذي أفلحوا فيه طوال عقود بجعل ثقافة “الإخصاء” هي استراتيجيتهم.. وراغبو “الإخصاء” من جانبهم لم يقصّروا؛ يقفون طوابير أمام باب القصر، يقدمون الخطوة أمام أصحاب السطوة ليحظوا بالعملية بها على أياديهم الكريمة، الطوابير تضم خليطاً من عديمي الكرامة.. سياسيين باحثين عن منصب، مثقفين يريدون مساحة من العطف، إعلاميين يهيمون شوقاً لعطايا الكبار.. ثم معارضين مشتاقين للرضا السامي!
من لم يخضع للعملية برغبته خضع لها مُجبراً، وبلا رحمة من السلطة.. هذه الفئة بينها تيارات فكرية تنتمي لمرجعيات مختلفة، ورغم أن هذه التيارات بما تضمه من نُخب هي المؤهلة للتحرك ضد الديكتاتورية، وتجييش الشارع ضد الاستبعاد، وفتح طريق نور أمام العامة للتحرر العقلي، فإنها آثرت السلامة، وارتضت بالفتات الذي يلقيه عليها الحكام.. كرسي برلماني هنا، أو مشروع تجاري هناك، وكلما ضربتها السلطة “ألماً” على خدها الأيمن، تدير لها خدها الأيسر.
لكن هناك تياراً ينسب نفسه زوراً وبهتاناً إلى السلف الصالح، يبدو أن أفراده استمتعوا كثيرا بالعملية؛ لقد وصلوا في درجة “العبودية” إلى آفاق غير مسبوقة بعدما حرّموا حتى التظاهر ضد استبداد وظلم الحكومات.. هم منتشرون في مختلف أرجاء الوطن الكبير من شرق الأمة إلى غربها.
ولأن عملية “إخصاء” هذا التيار كانت مُحكّمة، فربما يفسر هذا حالة الازدواجية عندهم، إذ نقرأ ونسمع ونرى أن كثيرين منهم – وفي المقدمة رموزهم- يتزوجون وقد بلغوا من الكِبر عِتيّا شابات في مقتبل العمر، لأنهن حسب المصطلح الدارج عند مُنظّري هؤلاء الرموز “فراخ شمورت سهلة الهضم”!. والسؤال: هل هذا الصنف من المزواجين يحاولون بشكل لا إرادي أن ينفوا عن أنفسهم خضوعهم لعملية “الإخصاء”؟!
المشهد العربي يتصدره حالياً “العبيد المخصيون”؛ من هم مع السلطة، وبعض من يلعب دور المعارض، الجالسون في استوديوهات الفضائيات مقدمي برامج وضيوفاً، والقابعون في البيوت للمشاهدة والفـُرجة.
هل كل الشعوب تم “إخصاؤها”؟
بالطبع لا.. لقد نجا من العملية شباب أشعلوا شرارة الربيع العربي قبل عقد وأكثر؛ صحيح أنه انضم إليهم الملايين، لكن بعدما رأوا أن الأنظمة وقتها تحتضر.. نزلوا لمّا اختفى “البعبع”.
لكن..
ولأن الطبع غلاب، فقد عادت هذه الجموع إلى مواقعها سريعا للفُرجة، أما الذين لم ينزلوا إلى الشوارع أصلاً فاستنكروا المطالبة بـ “الحرية” و”الكرامة” و”العدالة”، ولسان حالهم يقول: لماذا هذه المطالب الغريبة ونحن مرتاحون بحياة “الإخصاء”؟
لذلك..
فقد تحالف هؤلاء مع الذين ركبوا موجة الثورات لمكاسب وقتية، ومن ثم حوّلوا الربيع المزدهر إلى خريف موحش، وأحالوا الأرض الخضراء إلى صحراء جدباء لا يقدر على العيش فيها إلا “العبيد الأنجاس المناكيد”!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق