احتمالات تغيير عميق في الشرق الأوسط
نور الدين العلوي
نضع هذا الكلام تحت باب التخمينات ونسنده على مشاهد كثيرة من مصادر مختلفة، حتى لا نزعم خبرة استراتيجية مما نسمع في التلفازات. كلام كثير عن توسع رقعة النزاع من غزة إلى الشرق الأوسط، حتى أننا نلتقط لأول مرة في التاريخ تخوفات أمريكية. الجميع خائفون، ولكن لا أحد يبدو في وارد معالجة المشكل الأساسي وهو الحرب على غزة، مما يقلل من صدق المخاوف، ويفتح الباب على ظن أن إرادة ما خارج غزة تريد توسيع الحرب، لكنها تتخير توقيتها وتستعد. هل ورط الكيان العالم في حرب كونية؟ هل نحن على أبواب إعادة ترتيب العالم وإنهاء نظام ما بعد الحرب العالمية الثانية بقواه المهيمنة، ومؤسساته الدولية العاجزة والمقصرة في كل ما وضعت له؟
غزة هشمت الكيان فمن سيدخل الحرب؟
لا نحتاج تمجيد المقاومة وأثرها على العدو في تسعة شهور من المواجهة، فانهياره مُشاهد من قبل أصدقائه قبل أعدائه. بحسب ميزان القوة العسكرية، فإن المقدمات المبنية على فارق التسليح انهارت وثبت المقاتل المؤمن بقضيته، ولم نتوقع انهيار الجبهة الداخلية للعدو بهذه السرعة، لم نره يتسول المدد فيمنّ عليه ولا تستجيب مصانعه لتزويد جيشه. المركز العسكري المتقدم في المنطقة لم يصمد لغزة، فكيف سيكون مرتكزا لحرب أشمل؟ نجمع معلومات كثيرة عن جهود إنقاذ ما تبقى منه، على أمل استعادة دوره ما قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر. هل يمكن ترميم الكيان بعد غزة الطوفان؟
سيكون من المبكر وضع جواب صحيح على السؤال، ولكن نضع هذه الخلاصة: هُدمت مباني غزة، واستقام حال الإنسان فيها، بينما نجت مباني الكيان ولكن انهار الإنسان فيه، وهذه علامة عجز عن القيام بدور عُهد إلى الكيان القيام به في المنطقة منذ تأسيسه. بمن ستتسع رقعة الحرب؟ هل تكفي حاملات الطائرات والقصف السجادي؟ تجربة أفغانستان تقول لنا العكس، يمكنك أن تحرق الأرض، لكن الإنسان صاحب الأرض بقي وانتصر. ونضيف تفصيلا صغيرا، من جبال اليمن الجرداء أمكن خنق التجارة العالمية، وإن صمتت الشركات عن خسائرها. بمن ستتسع الحرب؟
لم يبق إلا رغبة نتنياهو التي قد تصل إلى درجة "عليّ وعلى أعدائي"، أو "أنا ومن بعدي الطوفان"، وهذا معنى كامن في حرب الطوفان كما سماها رجالها.
المنطقة على أبواب تغيير عميق
هذه خلاصة متداولة لم نكتشفها، لكنها تعطينا الحق في السؤال عن مصير من راهن حتى الشهر التاسع من حرب الطوفان على انتصار الكيان على غزة ومقاومتها؛ على أمل عودة الأمر إلى ما كان عليه قبل السابع من تشرين الأول/ أكتوبر.
نتأمل حال المطبعين العرب خاصة، وقد نزلوا بثقلهم مع الكيان فلم يصمد؛ هل لديهم "خطة ب" لما بعد غزة؟ وقد يكون ما بعد غزة حربا أشمل تدمر اقتصادياتهم وتفجر صراعات داخلية كامنة منذ تأسيس دولهم، فصديقهم وفرس رهانهم ينوي ذلك.
الوضع العربي المثابر في مسار التطبيع، لم يعد يملك هذه الورقة ليبيعها مقابل سلامته، وهو الأعرف بأن شعوب المنطقة تجلس على بركان غضب مكتوم منذ عهود طويلة. لكن لا يجب الاستسلام للخيال هنا، فالشوارع تحتاج نخبا واعية باللحظة، وهذا الوعي غاب في أثناء معركة الطوفان، فكيف يمكن تفجيره الآن؟ غياب هذه النخب في الشوارع العربية يعيدنا إلى حقيقة فاجعة، فحتى في صورة انهيار الكيان وغسل الغرب أيديه منه والشروع في استبداله؛ فإن النخب السياسية العربية لم تنضج سياسيا لتلتقط اللحظة الحاسمة، ولو كانت قادرة لفعلت وغزة تصلى جحيمها وحدها.
نسلم بمؤشرات التغيير العميق وعلامته، ولكننا لا نعول فيه على النخب السياسية العربية، ولذلك نقول بيقين؛ إن النخب ستصير من بقية العصر الصهيوني المنهار، هي بقية من ماض ستحملها ريح انهياره.
بعد حرب الطوفان، سيُكتب شيء قريب من هذا القول: الأنظمة العربية ونخبها التي صنعتها ودللتها إلى زوال، وعصر جديد بنخب جديدة يتشكل، والمعارك السياسية ستكون على مسح الطاولة وإعادة البناء. ما هي ملامح النخب القادمة؟ يعسر علينا وضع توصيف دقيق، لكنها نخب لا تخاف من الكيان، ولا تستعذب أعطيات أنظمة حكم قامت على غير هوى شعوبها. هنا يحدث تغيير عميق لم تنكشف مؤشرات، لكن ستدلنا عليه مناورات الغرب صانع الأنظمة، عندما يبدأ في متابعة انهيارها كما يتابع الآن انهيار رأس حربته المسمومة بالمنطقة.
صورة نتمناها وننتظرها
منطقة عربية دون الكيان الصهيوني ودون أنظمة التطبيع، تحكمها روح مقاومة تؤمن بقدراتها ولا ترهب الغرب، تحرر شعوبها من الذل وتقود عملية بناء وتنمية وتأخذ مكانها في العالم طبقا لقدراتها وتطلعاتها. هل هذا الاحتمال بعيد؟ طريقة حرب الطوفان وصبر أهل غزة يقربه كثيرا، فهذا هو صبر الساعة مرادف النصر كما في السير الكبرى للشعوب التي انتصرت. هل ظهرت أسباب الحلم حتى نحلم؟
نعيد النظر في حال العدو المدجج أمام فتية مؤمنين، انقلاب كامل لم تصل إلى سبره أعلى القدرات الاستشرافية، ونحن المتعاطفون مع غزة لم نحلم به، فقد كان أقصى أملنا أن يتوقف القصف، وأن يرفع الموت يده عن غزة.
كتبت في أول الحرب أظنها غزوة موجعة للعدو قصيرة في الزمن.. يبدو أنها ضربة الفأس في القبيلة العربية، هذه ضربة فأس في رأس نظام العالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، ينقصنا فقط شيء من الصبر الغزاوي لانتظار النتائج، أما المؤشرات، فقد صارت محل إجماع.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق