طرد الجيش الأمريكي من النيجر
إعلان البنتاغون سحب القوات الأمريكية من النيجر يؤكد أن الولايات المتحدة لم تعد تخيف وفي طريقها إلى الأفول؛ فبعد رفض وتهديد أمريكي أجبر المجلس العسكري الحاكم في نيامي إدارة بايدن على الإذعان لقرار فك الارتباط العسكري بين البلدين، والبدء في تفكيك قاعدة الطائرات المسيّرة الكبرى في إفريقيا، والاتفاق على خروج آخر جندي أمريكي في موعد أقصاه منتصف سبتمبر القادم.
يأتي قرار إنهاء الوجود الأمريكي في النيجر بعد معركة صعبة أدارها الحكم الجديد؛ استخدم فيها أساليب مشابهة لعملية طرد الجيش الفرنسي نهاية العام الماضي، وإنهاء الهيمنة الاستعمارية المفروضة على البلد منذ أكثر من قرن، وكما تم الانتصار على الفرنسيين والضغط عليهم حتى تفكيك قواعدهم العسكرية؛ تم إجبار الأمريكيين على الرضوخ والقبول بالخروج على غير رغبتهم.
عندما حدث الانقلاب العسكري في النيجر منتصف العام الماضي ضد الرئيس الموالي لفرنسا محمد بازوم ابتعد الأمريكيون خطوات عن الموقف الفرنسي، الذي حشد لشن هجوم عسكري من دول الجوار لإعادة الرئيس المعزول، وطمعت إدارة بايدن في أن يحل الجيش الأمريكي بدلا من الجيش الفرنسي، لكنهم لم يفهموا روح التحرر التي دبت في غرب إفريقيا ضد الوجود الغربي بكل مكوناته.
التحالف الثلاثي نموذج للقوة
النيجر هي الدولة الثالثة بعد مالي وبوركينا فاسو التي غيرت الانطباع عن الانقلابات العسكرية، فلأول مرة خلال العامين الماضيين نشهد انقلابات عسكرية تطيح بحكومات تابعة للقوى الغربية المهيمنة، فالمعتاد عن الانقلابات أنها من تدبير الدول الاستعمارية، لتنصيب عملاء وأعوان يحافظون على استمرار التبعية، ويكونون مجرد أدوات مهمتهم حماية مصالح الدولة المهيمنة، والموافقة على التفريط في ثروات بلادهم.
قدمت الدول الثلاث تجربة مميزة للتحرر، فلم يكن سهلا أن تتصدى دولة بمفردها لفرنسا التي تساندها دول أوروبا والولايات المتحدة لتحقيق انتشارها في القارة؛ لذا أعلنت الدول الثلاث تأسيس تحالف ثلاثي دفاعي، ونجح هذا التحالف في منع الهجوم الفرنسي الانتقامي على النيجر، وأفشلت الدول الثلاث خطة ماكرون لشن عملية عسكرية بغطاء من المجموعة الاقتصادية لدول غرب إفريقيا (إيكواس)، فكانت هزيمة الفرنسيين وتفكيك جيشهم ماثلة أمام الأمريكيين الذين آثروا السلامة وقرروا المغادرة وابتلاع الإهانة.
تعد الدول الثلاث من أفقر البلدان الإفريقية رغم ما تمتلكه من ثروات مثل اليورانيوم والذهب والنفط، ولكن كانت فرنسا هي المستفيد من كل هذه الخيرات، حيث تحتكر الشركات الفرنسية سرقة كل شيء، ولا يجرؤ أحد على الاعتراض، وإلا فإن مصيره السجن أو القتل، ومع انتشار الوعي بسبب وسائل التواصل والإعلام الجديد حدثت التحولات الكبرى التي أوصلتهم إلى التغيير الكبير.
طريقة التغيير كانت حسب طبيعة النظام السياسي، ففي مالي وبوركينا فاسو والنيجر كان التحول عبر الانقلاب العسكري هو الأنسب، حيث تسيطر فرنسا على العملية السياسية وتتلاعب بالأحزاب المدنية وتختار لها من يحكمها، بينما جاء التغيير بالصندوق الانتخابي في السنغال عندما نجح الشعب في التحايل على عصابة فرنسا التي سجنت زعيم المعارضة عثمان سونكو وتمرير المرشح البديل بشير جوماي فاي والوصول به إلى منصب الرئاسة.
شماعة الإرهاب
منذ أن خرجت فرنسا من مالي وبوركينا فاسو والنيجر عاد الهدوء إلى هذه البلاد، التي كان الفرنسيون يشعلون الصراعات فيها، ويروجون أكذوبة مفادها أن القارة سقطت تحت حكم تنظيم الدولة والقاعدة، ولكي تحافظ فرنسا على مستعمراتها في غرب إفريقيا واستمرار نشر جيشها لحكم 14 دولة، استدعت جيوش بعض الدول الأوروبية للمشاركة في احتلال دول الساحل، وفتحت الباب لأمريكا مقابل مصالح في ملفات أخرى.
كانت لعبة فرنسا هي دعم الحكم والمعارضة معا، وحتى القبائل والأعراق التي تزعم أنها تؤيد “الإرهاب”، وساندت الحركات الانفصالية، وأوهمت الجميع بالتأييد والدعم، ولم تسمح لأي طرف بالانتصار على الآخر وحسم الصراع، وتم التلاعب بهذه الدول واستنزافها في معارك لا نهاية لها، محصلتها عدم الاستقرار ليبقى الحال كما هو عليه وهو حماية الهيمنة واستمرار الاستيلاء على الثروات.
تشويه التحرر الإفريقي
يحاول الإعلام الغربي التعمية على موجة التحرر الإفريقية وتشويهها، لمنع الدول الأخرى من أن تحذو حذوها، فيزعمون أن الحكام الجدد في غرب إفريقيا يستقدمون الروس بدلا من الفرنسيين ويستبدلون الاحتلال باحتلال، وهذا غير صحيح، فالتعاون مع الروس كما يقول قادة الدول الثلاث لسببين: الأول لشراء السلاح للدفاع عن النفس والتدريب على استخدامه، والثاني طلبًا للفيتو الروسي في مجلس الأمن ضد العقوبات، وهذا حدث بالفعل وتم إفشال كل المحاولات الفرنسية، لكن لا مانع أيضا من تخويف الفرنسيين والأمريكيين.
المعلن وليس سرًّا، أن الدول الثلاث استفادت من السلاح التركي المتطور خاصة الطائرات المسيّرة، حيث تم تحديث الجيوش التي كانت فرنسا تحرص على أن تبقى بلا سلاح، لاستخدامها فقط في مكافحة الإرهاب ضمن الخطط الفرنسية، وتعد تركيا هي الدولة المفضلة للشعوب المسلمة في هذه الدول، ونجح التسليح التركي والروسي في تحسين الوضع العسكري وتحدي فرنسا وأمريكا والسير في طريق استكمال التحرر الملغوم بالتهديدات العسكرية.
تجربة التحرر في غرب إفريقيا ملهمة لمن يهمه الأمر، فهذه الدول امتلكت قوة الإرادة، واستطاعت بكل عزيمة وإصرار أن تزيح فرنسا وأمريكا، وتخطو خطوات مهمة في طريق الخلاص من الاحتلال.
التجربة في غرب إفريقيا أثبتت أن الشعوب الراغبة في الاستقلال أقوى من المحتل، وهي قادرة على تحدي قوى الهيمنة إذا قررت ذلك، وقدمت درسا عمليا للأمم المقهورة وهو أن سراق الأرض بالقوة المسلحة لا يستطيعون العيش إذا كانت الشعوب حرة ترفض العبودية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق