المغول الجُدد
د.أيمن العتوم
لم يكن لعدوّ حاقد يقتل البشر أن يستثني دُورَ العلم من ذلك.. إن شرف القتال لا يكون إلا إذا كانت هناك مرجعية من دينٍ وخُلُق تمنع المقاتل من أن يرتكب فظائع بحقهما.
أقول ذلك وأنا أرى صُورًا للجنود الصهاينة في مكتبة جامعة الأقصى في غزّة، وهم يتلذّذون بإشعال النيران فيها والتقاط صُورٍ لأنفسهم، واللهيب يستعر في جوف الكتب من خلفهم ويأتي على ما فيها. كما ظهر جندي آخر في ليل تضيئه نار مشتعلة عن يمينه، يعرض صورة لكتاب يبدو أنه القرآن الكريم، ثم يلقي به في النار وهو يبتسم ابتسامة تشفٍّ وانتصار!
والأمر لا يبدو غريبًا لمن يقرأ التاريخ، فإن القوى الغاشمة المتحلّلة من الأخلاق، المكتظّة بأحقاد الماضي المنتظرة للثأر، يحدث أن تفعل ذلك وأشنع منه.
حينَ سطا الرومان على مصر في نهاية القرن الأول قبل الميلاد، قرّر يوليوس قيصر أن يدمّر الأسطول المعادي الموجود في ميناء الإسكندرية، فأشعل فيه حريقًا كبيرًا، ولكنه بدل أن يحرق الأسطول وحده انتشر إلى أبعد مكان، وانتقلت النيران بسرعة البرق فوق السطوح والجدران، فأكلت مكتبة الإسكندرية الكبرى عام 48م فيمن أكلت.
أما مكتبة القسطنطينية التي أسّسها الإمبراطور قسطنطين الكبير عام 330م، فقد كانت ضخمة وغنية بالكتب، فيها أكثر من (120) ألف كتاب، وكانت عام 475م أكبر مكتبة في العالم آنذاك؛ ولكن حين تولّى السلطة (بازيليسكوس)، لم تدمْ سلطته لضعفه إلا بضعة أشهر، وانتهت بالفوضى واندلاع الشغب في الشوارع، فاندلعت النيران في المدينة وأتت فيمن أتت على المكتبة، وحوّلتها إلى ركام من الأنقاض.
أما الحرق الأشهر في تاريخنا الإسلامي للمكتبات فقد تم على يد المغول، ففي أواسط القرن الثالث عشر، كانت توجد (36) مكتبة كبرى في العاصمة العباسية وحدها، أشهرها بالطبع (بيت الحكمة)، وحين هجمت عليها عصابات هولاكو واستباحتها، أقدمت على حرق مكتبات بغداد كلها، ورمت خلال أسبوع في نهر دجلة عددًا مَهولًا من الكتب، لدرجة أن قوات المشاة من الجنود والفرسان اتخذتها جسرًا تمرّ عليه، وأصبحت مياه النهر سوداء قاتمة بسبب ذلك الحبر الأسود، إذ كان هو المداد الذي تُحبّر به الكتب. ولقد قال الشاعر في ذلك:
فما زالتِ القتلى تمجُّ دماءها بدجلة حتى ماءُ دجلة أشْكَلُ
أما في البوسنة، فقد دكّ الصربيون في 25 من أغسطس 1992م بقنابلهم الفوسفورية مدينة (فيجكنيكا)، التي كانت تحتوي على مكتبة ضخمة ظلت تحترق لمدة ثلاثة أيام كاملة، ورغم الخطر الكبير كان الناس يخرجون من بيوتهم للمشاركة في درء المأساة دون جدوى، حيث تحولت أعمال الشعراء والنقّاد وكل ما كانت تحتويه المكتبة إلى غبار هامد.
وأما مكتبات العراق في أيامنا هذه فقد تعرّضت بعد الاحتلال الأمريكي لها، وسقوط بغداد في أبريل 2003م، للنهب والحرق والإبادة، فقد تم تدمير المكتبة الوطنية العراقية التي تأسّست عام 1961م في بغداد، وكانت تضم في الثمانينيات ما يقرب من نصف مليون مجلّد، وعددًا كبيرًا من الدوريّات والصحف والكتب النادرة، وقُدّرت مقتنياتها عشية الغزو الأمريكي بمليوني مطبوعة رقمية، من بينها أكبر مجموعة في العالم من الصحف العربية. ولم يبق من المكتبة الوطنية العراقية بعد الغزو شيء، مجرد طبقة سميكة من الغبار تتراكم مع الحزن والأسى والشجن الذي حلّ بالبلاد والعباد، كما تعرّضت مكتبة الأوقاف الواقعة على بُعد (500) متر من المكتبة الوطنية للنهب والحرق في الوقت نفسه.
إنها مأساة تتكرر إذًا، وإنّ الجامع بين الذين أعملوا النيران الهمجية في الكتب، وعقيدة الثأر، ركام من الحقد الدفين يكون في النار شفاؤه.
ولكن السؤال الذي يُطرح أمام اليهود الصهاينة الذين أحرقوا القرآن: هل ذلك الإحراق سيلغي أنهم سيبقون أشدَّ أعدائنا إلى أن تقوم الساعة؟ فالقرآن الذي أحرقوه قال لنا عنهم: {لتجدنّ أشدّ النّاس عداوةً للّذين آمنوا اليهود والّذين أشركوا}.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق