من أطفأ أنوار القاهرة؟
صحفي، وطالب بقسم التلفزيون والسينما في كلية الإعلام بجامعة مرمرة
ساهرة منذ نشأتها، لا تكفّ عن السمر والتسليّة، تُؤنسُ سكانها ويؤنسونها، ولعلّها كانت قبل اختراعِ الكهرباء، تضوّي قمرها الخاص لحاملي الشموع وسارجي القناديل كلّ مساء، تنامُ على نورٍ خافت، يهدأ وميضه لكنّه لا يختفي أبدًا.
ثمّة شعاعٌ يربط بين النهار والليل، يتسلّل بين قطعتي اليوم كخيط دقيق، ليغزلَ الشمسَ بالقمر، ويصل أهل الصباح بأهل الليل، ويسلّم كلّ منهما القاهرة أمانةً إلى الآخر، بينما لا تكفّ المدينة المتعَبة طوال اليوم عن الضحك، ولا تتراجع عن إلقاء النكات السوداء مهما أثارت المرارة في حلوقِ وآذان السامعين، هكذا تعيش القاهرة الساخرة الساهرة بطريقتها المفضّلة للحياة!
لكنها، منذ ليلٍ دمويٍّ غائرٍ في فصوصِ مخّها وثنايا ذاكرتها، استحال فيه الكحل إلى أحمر قانٍ، وهي تحاول ألّا تملأ نيلها كلّ ليلةٍ بالبكاء، حتى لا يفيضُ فيغرق أهله على ضفتيه بماءٍ مالح رغم أصله العذب، فتكتمُ وتصبرُ وتسكتُ طويلًا، بينما تفرج من حين إلى آخر عن نكتةٍ سوداء من نكاتِ الماضي، ليضحكَ الجميع رغم الدمعات المتحجّرة في عينيه، على ضوئها اللامع ذاته، كأنّ تلك الدموع هي نفسها الأضواء التي تبدو لراكبِ الطائرة في السماء.
لكن ذلك الوجع المتعمّق في قلبها، المشتعل في فؤادها، المتوغّل في صدورِ أهلها، المُمثّل بجثامين الأمواتِ على قيد الحياة في شوارعها، أطفأ أيّ دمعةٍ في عيونها وعيونهم، البكاء رفاهية، والصراخ رفاهية، والتعبير رفاهية، والتنفيس رفاهية، ثمّة انفجار داخلي عارم مكبّل ينهش في أحشاء المكلومين المكتومين، ثمّة فيضانات كنهر النيل ألف مرّة في دواخل أهل النيل، ثمّة جمر متقد لا يكف عن التوهّج في رئاتهم كلّ ساعة.
البكاء رفاهية، والصراخ رفاهية، والتعبير رفاهية، والتنفيس رفاهية
وهناك، في العاصمة التي لا تنطفئ أنوارها أبدًا، حيث يظنّ مسعّر النار أنّه أحكم قبضته على الجميع، وأطفأ وجوه المتوضّين، وجفّف منابع النور في قلب القاهرة وأخواتها، ونثر التراب على الرماد، وأخمد الجمر في المواقد كلّها، سيُفاجأ ببركانٍ تنيرُ حممه كأنّ كلًّا منها شمس منفصلة، تصهر بما حوت من شعَلٍ تلك المدينة السرطانية بالكامل، بينما تُوقظ موتاها في طريقها ليقوموا، ليحملوا عظامهم عصيًّا في أياديهم، ويحملوا رفاتهم فوق أكتافهم، ويطيروا نحو المدينة الوحيدة المنيرة في الوطن المعذّب، حينها ستغمر تلك الجبال من جمرٍ المدن المهندمة، وتدهسها، وتدوسُ أنوارها المصطنعة تحت أقدامها، وهناك فقط، عند انطفاء عيونِ ذلك الدجال إلى الأبد، ستنير القاهرة من جديد، ويسير المسافر في أسوان على أضواء الإسكندرية، وتحبل القاهرة بقمرٍ جديد.
ذلك القمر الذي لن يقبل أبدًا، مجددًا، أن يشهد كما شهد سابقُه ليالي أخرى، يتلوّن فيها المساء بالدماء، وتنازع ضحكاته صرخات الأيامى والثكالى والأيتام والقتلى، ويموتُ الكبار والعجائز بين السماء والأرض في مصاعد معطلة، ويموت الصغار والرضّع كالدمى في حضّانات مقفلة، وإنّما سيشترط القمر ألا يسمح الطيّبون المتعبون المنهكون تحته بأن تركبهم غمامةٌ سوداء من جديد، وألا يسرق النور من عيونهم أيّ لص عابر، وألا تعبث بالأسرجة أصابع أولاد الحرام!
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق