الأربعاء، 19 يونيو 2024

المغفلون مأساة كاملة!!

  المغفلون مأساة كاملة!!

محمد إلهامي
باحث في التاريخ والحضارة الإسلامية


ومما يؤلم حقا أن ترى المغفل يسير إلى حتفه بنفسه، ويضع جلاده فوق رأسه، ويعطيه الحبل الذي سيشنقه به بيده!!

وكأن بعض الناس قد طُبِع على تشرب الخديعة، فلا يزال يُلدغ من الجحر نفسه مائة مرة، فلا يتوب ولا يتعلم!

إن الشيطان نفسه لا يأتي للناس في صورته الشيطانية القبيحة ليأمر الناس بفعل المعاصي، وهو لا يخاطبهم صراحة فيقول: قد عصيتُ الله واخترت دخول النار وأريد أن أضلكم لتدخلوها معي!

إذا كان الشيطان كذلك، فقد علمنا بالبديهة أن كل باطل قائم على نوع من الخداع، والتزيين، والزخرفة، والتجميل..

هل رأيت حاكما جبارا طاغية يقول للناس: أنا الجبار الطاغية أريد إذلالكم وتعبيدكم وتطويعكم لأمري وحكمي؟!

ما من جبار طاغية إلا ألبس إجرامه ثوبا براقا من مصلحة الشعب والأمة، حتى فرعون خاطب الناس فقال: {ما أريكم إلا ما أرى وما أهديكم إلا سبيل الرشاد}

وهذا الطاغية الذي هو نموذج التجبر في تاريخ البشر، إنما كان “يستأذن” شعبه في أن يواجه الخطر والفساد الذي جاء به موسى، فخطب يقول: {ذروني أقتل موسى وليدع ربه، إني أخاف أن يبدل دينكم أو أن يظهر في الأرض الفساد}.

هل هذا كلام نحتاج أن نحكيه وأن نمهد به وأن نذكره؟!! إنه من بدائه العقول، ومما يكاد أن يُعرف بالغريزة والطبع!!

وإن الناس إذا رأوا المجرم قد ارتدى ثوب الدين قدَّموا الشكَّ فيه، وظنوا أنه ما لبس هذا الثوب إلا لأنه يخطط لجريمة جديدة، وهذا الثوب من وسائله لإتقان الخديعة وإحكام الصنعة!

فما بال كثير من الناس يحسنون الظن بالطاغية الجبار الذي عُرف شره وفساده وحرصه على مطاردة الدين، وعرف أيضا حرصه على ترويج الفسق والفجور والانحلال والعري والخمور.. ما بال كثير منهم يحسنون الظن به حين يصدر قرارا يُلزم حجاج بيت الله الحرام باستخراج تصريح للحج.. ثم يسلط جنده لتفزيع من أمنهم الله وتعقبهم؟!!

وهنا أكرر أن الكلام عن المغفلين الذين يحسنون الظن، وليس عن المنافقين ولا عن الذباب الإلكتروني، فهؤلاء أتفه من أن أعبأ بهم.. ولعل الله أن يشفي صدورنا منهم في الدنيا وفي الآخرة!!

هل هذا مجرد غباء وغفلة، أم هو حيلة نفسية يلجأ إليها العاجز الضعيف لتبرير موقفه، كما هو مشهور في علم النفس؟!

آلآن صار ابن سلمان حريصا على أرواح الحجاج المسلمين وأمنهم ورفاهيتهم؟! وقد صار هذا يشغله حتى تفتق ذهنه عن مسألة التصريح؟!

أهذا كلام يدخل في عقل عاقل؟! كيف ودماء المسلمين لا زالت تسيل بأسلحته وأمواله ودعمه السياسي سواء في اليمن أو السودان أو غزة أو مصر؟!

ومن المؤسف أن يخرج بعض المنتسبين إلى العلم والمتعممين ليشرعنوا له مسألة تصريح الحج هذا، دون أن يتكلموا عن حكم ترويع الحجاج الذين لم يحصلوا على هذا التصريح؟! ولا عن حكم الشرع في حجهم؟!!

فلئن تنازلنا وفرضنا جدلا أن مسألة التصريح داخلة في باب تقييد المباح لأجل المصلحة المرسلة.. فلماذا نهض الشيخُ ليبين هذه المسألة غافلة عن نصف المسألة الآخر أو ثلثيها، وهي: ما حكم الحج بغير تصريح، فإن ابن سلمان وشيوخه جعلوه حراما لا يجوز ويأثم فاعله!!! ثم ما حكم ما ارتكبه ابن سلمان وحكومته من ترويع الحجاج -بغير تصريح- وتغريمهم وترحيلهم بعد أن صاروا محرمين؟!

إذا الشيخ لم تواتِهِ الجرأة ليتكلم في كل المسألة فليسكت! أما أن يتكلم في القدر الموافق للطاغية فيشرعنه ثم يسكت عن الباقي فما هذه أمانة العلم التي حملها الله إياه!

وحتى هذا القدر الموافق لرغبة الطاغية، إذا تنزلنا مرة أخرى وظننا بالشيخ الظن الحسن إذ يفتي بذلك.. فالسؤال هنا: هل للحاكم الانفراد بتقدير المصلحة وتقييد المباح بغير مشورة من أهل العلم الثقات؟! فإذا فعل دون مشورتهم -كما نعلم جميعا من سيرته- فهل يلزم المسلمون طاعته؟!

نعم، جاء في الإسلام طاعة أولي الأمر، بضوابط معروفة، وفي ذات الآية جاء الإرشاد بأنه إذا وقع التنازع بين الناس وأولي الأمر فإن النزاع يُرفع إلى أهل العلم {يا أيها الذين آمنوا أطيعوا الله وأطيعوا الرسول وأولي الأمر منكم، فإن تنازعتم في شيء فردُّوه إلى الله والرسول}

إن الحديث الذي يبدو بريئا عن مصلحة الحجاج وأمنهم إنما يدل على سذاجة قائله أو على نفاقه! فإنه ما من فساد ولا باطل إلا تغطى بالنصح والمصلحة.. حتى إبليس قد أقسم بالله أنه ينصح لآدم {وقاسمهما إني لكما لمن الناصحين}.. وحتى حاشيه فرعون حرضوه بدعوى المصلحة {أتذر موسى وقومه ليفسدوا في الأرض ويذرك وآلهتك؟!}

ولهذا كان من عبقريات علمائنا الأجلاء انتباههم إلى هذا التفريق الدقيق بين التعامل مع الحاكم العدل والحاكم الجائر

لقد اتفق الجميع أنه لا يجوز طاعة الحاكم في معصية الله، كما هو ثابت بنصوص القرآن والسنة، ولكنهم انتبهوا إلى أن هذا الحاكم الجائر سيغطي باطله بحديث المصلحة، فنبَّهوا إلى هذه الخديعة..

فمن ذلك قول شيخ الإسلام ابن تيمية: «الإمام العدل تجب طاعته فيما لم يُعْلَم أنه معصية، وغير العدل تجب طاعته فيما عُلِم أنه طاعة كالجهاد» (مجموع الفتاوى، 29/ 196).

أي أن الحاكم إذا كان عادلا، فالأصل أن يطيعه الناس إلا إن أمر بمعصية واضحة، فهنا يُعصى.. أما الجائر، فالأصل أن يرتاب الناس فيه وألا يطيعوه، إلا في الطاعة المعروفة المعلومة مثل الجهاد.

ومثل قول ابن تيمية أيضا قول سلطان العلماء العز بن عبد السلام حين تكلم عما ينفذ من تصرفات الأئمة، فنظر إلى مصلحة الناس.. فجعل تصرف الأئمة العدول جاريا في كل أمورهم، وأما غيرهم من الجائرين والمتغلبين فلا ينفذ منها إلا ما يوافق الحق..

قال العز بن عبد السلام: «لا ننفذ من تصرفاتهم إلا ما ينفذ من تصرف الأئمة المقسطين والحكام العادلين، فلا نبطل تصرفه في المصالح لأجل تصرفه في المفاسد؛ إذ لا يُترك الحق المقدور عليه لأجل الباطل، والذي أراه في ذلك أنا نصحح تصرفهم الموافق للحق -مع عدم ولايتهم- لضرورة الرعية كما نصحح تصرفات إمام البغاة مع عدم أمانته؛ لأن ما ثبت للضرورة يُقدر بقدرها والضرورةُ في خصوص تصرفاته، فلا نحكم بصحة الولاية فيما عدا ذلك، بخلاف الإمام العادل فإن ولايته قائمة في كل ما هو مفوض إلى الأئمة»

(العز بن عبد السلام، قواعد الأحكام في مصالح الأنام، 1/ 107)

ونبه الإمام المفسر الأشهر البيضاوي إلى أن الآية التي جاء فيها الأمر بطاعة أولي الأمر إنما كانت بعد الآية التي تأمرهم بأن يحكموا بالعدل.. فقال رحمه الله: «أمر الناس بطاعتهم بعد ما أمرهم بالعدل تنبيهًا على أن وجوب طاعتهم ما داموا على الحق»

(تفسير البيضاوي، 2/ 80)

وخلاصة القول:

إذا ثبت أن الحاكم الفلاني ليس من أهل العدل ولا هو من أهل الدين، فالأصل التشكك في تصرفاته، وسوء الظن فيه، وعصيانه فيها.. فكيف إن كان ذلك في أمر من صميم الدين؟!

سيقول بعضهم: لو ترك الأمر للمسلمين لجاء ثلاثون مليونا إلى الحج. وهذا كذب يعرف قائله إنه كذب، فلطالما كان الحج متروكا بغير تأشيرات ولا تصاريح طوال 1200 سنة ولم يحصل أن كثر الزحام إلى حد الموت..

ولو فرضنا أن هذا يمكن أن يحدث فإن القيود المفروضة على الموانئ والمطارات والقطارات تحول دونه.. إنما الحديث عن ثلة استطاعت أن تذهب إلى الحج بغير هذا الطريق الذي تستهلك فيه الأموال بغير حق لصالح الدول والحكومات التي تسمح بالخروج والتي تسمح بالمرور والتي تسمح بالدخول.

(بالمناسبة: كم ممن أفتى وشرعن تصريح الحج، عرفت له فتاوى ينهى فيها عن أكل أموال الناس بغير حق في مواسم الحج والعمرة بتصريحات ما أنزل الله بها من سلطان ولا تعود على الحجاج بنفع؟!)

وهذه الثلة التي حجت بغير تصريح ستظل قليلة لا تؤثر في مجمل العدد!

ولكن الطريف المثير للدهشة وللاشمئزاز معا، أن بعض هؤلاء المتسللين إنما استفادوا في ذهابهم للحج بغير تصريح من «الانفتاح» السعودي وتأشيرات اللهو والطرب والرقص والخلاعة.. أي أن «ولي الأمر» سمح لهم بالفجور ولكنهم تحايلوا عليه ليجعلوها في الطاعة.. فغضب ولي الأمر!!

فما قول السادة المنتسبين إلى العلم هنا، ثم ما قول السادة المغفلين معهم؟ هل أولى بهم أن يطيعوا ولي الأمر إذ يأمرهم بالمنكر وينهاهم عن المعروف؟ أم يعصونه؟!!

اللهم إن أردت بقومنا فتنة فاقبضنا إليك غير مفتونين

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق