السبت، 22 يونيو 2024

مجاعة جديدة: هذا ما فعله “الإذلال الجوي” بغزة!

 

مجاعة جديدة: هذا ما فعله “الإذلال الجوي” بغزة!



صحفي، وطالب بقسم التلفزيون والسينما في كلية الإعلام بجامعة مرمرة

وسط مقتلة بشعة، ومجزرة لا يجد الناس فيها من أحبابهم أو أنفسهم إلا الأشلاء، ولا يجد الجوعى تحت القصف والبتر والنار ما يأكلون، ولا يجد الأطفال الظمأى شربة ماء، يساوَم الأهالي على أكياس الطحين النادرة بما هو أغلى بكثير من “شقا العمر” وتحويشته وكل ما يملك الإنسان من زاد ومال ومتاع، فيساوَم الغزيّ بحياته، أو على الأقل بأن يسير كاملًا بقية عمره، فيُعطى عشرة أرغفة من الخبز مقابل بتر إحدى قدميه، أو فقدان عينيه، أو طيران ساعديه، في قصف يستهدف المتجمعين حول الشاحنة اليتيمة، والقاصف يعلم أنه سيرتكب مجزرة في حق جوعى، والمقصوف يعلم أنه قد يحصل على الطحين ولا يحيا حتى عجنه وخبزه، لكنه العيش -أو الموت- في أبشع إبادة جماعية في العصر الحديث، أمام عيون الجميع.

 

هاج الناس، وصاحت الشعوب “افتراضيا”، وتداول الناس ما تيسر من صور المجاعة وهي تفتك بالأبرياء في الشمال المحاصر، فمثّل ذلك ضغطًا ولو يسيرًا على الاحتلال، الذي يشعر بالراحة التامة وهو يرتكب كل يوم مئة مذبحة جديدة، بينما المجاعة هي العار الغربيّ الذي يطارد القارة العجوز في تجويع الشعوب المحتلة، الشيء الذي جعل مصاص الدماء يفكر في حل، في مشهد يبقي التجويع سلوكًا مستدامًا، مع القليل من مساحيق التجميل الرخيصة، التي تخفف من بروز عظام وجه الجوعى، وتبقي القليل من ماء وجهه أمام الغضب المتنامي، خاصةً وأن الموضوع حضر ذات يومٍ أمام محكمة العدل الدولية، والدلائل لا تقبل المراوغة، ولن تستطيع أن تقول بأريحية إن بيانات وزارة الصحة في غزة كاذبة، أو إن صاروخًا من المقاومة ضل طريقه فأحرقهم، الصور تقول بوضوح شديد إن المجاعة تفتك بمليون إنسان في غزة، ولا يجد الناس -وهم يُقتلون- لقمة أخيرة!

 

كل ذلك كان أملًا من المحتل الأحمق في استقطاب الحاضنة الشعبية للمقاومة لصالحه وقلبها على مقاتليها، لكن ذلك فشل وظهر الناس وهم جوعى وعطشى يصفّرون بما تبقى من أصوات مبحوحة في حناجرهم لصواريخ المقاومة وهي تشق عنان السماء وصولًا إلى المستوطنات وإلى قلب تل أبيب، فكان الحل العبقريّ الذي تفتّق لذهن المحتل، مع جوقة من المطبّلين في بني جلدتنا هو “الإنزال الجوي” للمساعدات، خاصةً وأن دعوات من معسكرنا كانت تنادي به كمسعى إضافي، بجانب ضرورة إدخال الشاحنات من معبر رفح، فتلقّف الخبيث ذلك، واستغل وجود دعوات شعبية في الأساس لمثل هذا النوع من المساعدات، وفق شروط محددة، فأخد منها ما أراده وترك البقية، وأتمّ إغلاق المعبر، وجعل المساعدات مقتصرةً على النزول من السماء! 

 

تلك المساعدات الاستعراضية لم يكن فيها ما يطعم القطاع ولا مربعًا سكنيًا واحدا من آلاف مربعاته، ولا حتى ما يكفي ألف إنسانٍ من وسط مليوني إنسان، كان فقط للحفاظ على صورة الاحتلال، حتى شاركت به القوات الجوية الأمريكية نفسها، ولا أتخيل الحقيقة أن عاقلًا يتصور الخير يأتي من واشنطن، التي تتظاهر بإغاثة غزة وسط عدوان إسرائيلي لا يضرب طلقة ولا صاروخا ولا قذيفة إلا ومكتوب على مؤخرتها “صنع في الولايات المتحدة الأمريكية”!

 

وبدأت حلقات الإنزال الجوي، أو “الإذلال الجوي” كما أحببت تسميته من اللحظة الأولى، وقد كان فعلًا، لأن ذلك منح العالم مشهدًا يخدره، وصورًا تسكّنه، والناس يهرعون تحت الطائرات، ينزلون البحر، ويغرقون، وهم يحصلون على بضعة معلبات، بينما يُستشهد الغزيون بطرق جديدة، في البحر جريًا خلف الصناديق، أو فعصًا تحت الصناديق الثقيلة نفسها، أو خنقًا بأحبال المظلات، أو دهسًا تحت أقدام المتدافعين، واستخدم الاحتلال أبناء جلدتنا في تلميع جلده!

 

ومن هنا كان اختفاء أخبار المجاعة لحساب لقطات بهلوانية للإذلال الجوي، وسط تشرذم الجماهير التي تنادي بإغاثة غزة، بين الراضين عن تلك المسرحية، والناقمين عليها، فتشتت الجهد الشعبي “الافتراضي” كذلك، وضرب الاحتلال بقذيفة واحدة مليون عصفور، وبقيت غزة في مجاعتها، لا تجد لقمةً واحدة، بينما وجد الاحتلال ضالته في غطاء ظاهره التحايل على الاحتلال وإغاثة الجائعين من أهل غزة، وفي باطنه التنسيق الأمني لإخراج أفضل فيلم هوليودي يخفف من جريمة التجويع القذرة للقطاع المحاصر.

 

ما فعله الاحتلال من تجويع لأهل غزة كله في كفة، بما حوى من شهداء ومرضى بكل أنواع أمراض سوء التغذية وضعف المناعة والكبد الوبائي والأكل الملوث، وما فعله الإذلال الجويّ في أهل غزة بكفة أخرى تمامًا، لأنه أتى من حيث لم يدرِ الغزي، كطعنة في خاصرته، ونزيف في أمعائه، وغصة في حلقه، بإلقاء الفتات على مئات الآلاف بالأسفل، كأنهم أدنى من الحيوانات، وطعام مئةٍ يسقط على مئة ألف، فيشبع المحتل القاتل السفاح وحده، ويطعم المجوِّع لا الجائع، باللقطة التي لم يكن ليتخيل في أحلى أحلامه أن يحصل عليها بهذه الدقة، ويطير الممثلون فوق غزة، والمؤثرون التافهون، كأنها نزهة فوق قفط قرود في حديقة حيوان، يلقى إليهم الموز والفستق، فيهرولون جميعًا بعضهم فوق بعض، بينما المشهد المسلي في الحقيقة مأساوي وعبارة عن كارثة، لا يضحك فيها إلا اثنان، المجرم الذي يظن نفسه حارس حديقة حيوانات -بينما من يسجنهم ويقتلهم هم أعز الناس وأسخاهم يدًا وأكرمهم نفسًا- والطيار الذي في الأعلى يلمّع له بلسانه وجهه الملوّث بالسواد والقيح.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق