الأربعاء، 26 يونيو 2024

كيف أغرقت إسرائيل مصر في الظلام؟

 كيف أغرقت إسرائيل مصر في الظلام؟


وائل قنديل


غرقتْ محافظاتُ مصر في الظلام، وغرقت الحكومة في بحيرةٍ آسنةٍ من التصريحاتِ والإجراءاتِ المُرتبكة، وغرقَ الناسُ في التخميناتِ والتكهّناتِ، وغرقت المنتديات باللعناتِ والدعواتِ على من اختاروا هذا التوقيت العجيب للإعلانِ عن إفلاسٍ كهربائيٍّ لم تجدْ معه الحكومة حلولاً سوى مزيدٍ من إجراءاتِ التقشّف ومضاعفةِ مساحةِ الإظلام.

من العبث النظر إلى أزمةِ الظلام في مصر من زاويةِ انقطاع التيار الكهربائي فقط، فالأخيرة ليست سوى واحدةٍ من انعكاساتِ أزمةٍ أشمل، يمكن وصفُها بأنّها أزمة انقطاع وطنٍ عن شخصيّته الحقيقيّة، حضاريًاً وسياسيًاً بالأساس، على النحو الذي جعل مصيره معلّقًا بمشيئةِ القوى الدوليّة والإقليميّة التي تُمارس نفوذاً سياسيًاً واقتصاديًاً عليه، فيصيرُ وطنًاً متحوّلاً من حالةِ الإنتاج بالاعتماد على القدرات الذاتية، إلى حالة الاستهلاك والتلقي والاستجداء.

حدث ذلك في عشريّةٍ لا صوت فيها يعلو على صوتِ الفلوس، التي لم تخلُ منها خطبةٌ واحدةٌ أو تصريحاتٌ لمن يمسكون بالسلطة، إذ اعتمدوا منذ اليوم الأوّل منطقَ التكسّب والتربّح حتى أصبح  الاقتراض عماد الحلم القومي، والاستدانة هي القيمة العليا، وفي ذلك تحفل ذاكرة مصر السياسيّة في عشريةِ الظلام بعشراتٍ من التصريحاتِ الاحتفالية بالنجاح في الحصول على مزيدٍ من القروض، مزيد من الديون الخانقة للمستقبل، وبالتالي، مزيد من التبعيّة والرضوخ لأصحاب المنح والمنع.

المعلن عن أزمةِ انقطاعاتِ التيّار الكهربائي التي باتت طقساً يوميًاً أنّها ناتجة عن نقصٍ في كميّاتِ الغاز الطبيعي اللازم لتشغيلِ محطات التوليد، والمُعلن في موضوعِ الغاز طوال السنوات العشرين الماضية أنّ مصر صارت من نمورِ الغاز الطبيعي، بما لديها من إنتاجٍ ضخمٍ يكفيها ويزيد للتصدير، منذ زمن حسني مبارك الذي قرّر تصدير الغاز المصري إلى الكيانِ الصهيوني في تسعينياتِ القرن الماضي، غير مكترثٍ باستحقاقاتِ التاريخ والجغرافيا والثوابت الوطنيّة، بحجّة أنّ لدى مصر فائضاً من الغازِ الطبيعي لا يحتاجه الاستهلاك المحلي، ولا بدّ من تصديره إلى الخارج، بما فيه إسرائيل. لدينا القدرة على إحلالِ الظلام بلبنان، وصولاً إلى زمن عبد الفتاح السيسي الذي قرّر فيه استيراد الغاز الطبيعي من الكيان الصهيوني، في احتفاليةٍ وطنيّةٍ ضخمةٍ قال فيها إنّ مصر سجّلت هدفاً قاتلاً لحسّادها وكارهيها بهذه الخطوة.

كان المعلن في البداية أنّ استيرادَ الغاز من الصهاينة بهدف التسييل ثمّ إعادة البيع للأسواق الأوروبيّة بأسعارٍ أكبر من سعر الاستيراد، ما يعود على الدولة بكثير من"الفلوس"، حلم الليل والنهار لهذه السلطة في نومها ويقظتها، ثم تبيّن لاحقًا، وبسرعةٍ، أنّهم يأخذون الغاز من الصهيوني لزوم الاستعمال في مصر، وليس فقط لإعادةِ التصدير، كما أعلنت تل أبيب رسميًاً.

مع الوقت، وكلّما تأجّجت الرغبة في تكثيرِ فلوس الغاز الممنوح من الصهاينة تزايدت الحاجة إلى مزيدٍ من الكميّات، على طريقةِ بائع التجزئة أو الموزّع الذي أسال لعابه الربح السريع من الغاز المُسال. وبالتالي، تضاعف حجم الارتهان على الرضا الإسرائيلي، ما انعكس سياسيًاً في مواقف مرتعشة، أقلّ ما تُوصف به أنّها مُخجلة ومُهينة من العدوان على غزّة، والذي مسّ بالسيادة المصريّة على المعابر من دون ردّةِ فعلٍ تحفظ الكرامة، حتى كان أن علت أصواتٌ داخل الكيان تطلب عدم الإفراط في تصديرِ الغاز، نظراً لاحتياجِ مجتمع الاحتلال له. ورغم ذلك، بقيت الممنوحة للحكومة المصريّة كما هي، بل جرى الإعلان عن زيادتها في الشهور الأولى من العدوان، حتى جاءت مناورة القاهرة بالتلويح، فقط مجرّد التلويح، بالانضمام إلى دعوى جنوب أفريقيا أمام محكمة العدل الدولية ضدّ جرائم الإبادة الجماعية التي يمارسها الاحتلال على الشعب الفلسطيني، فقرّرت تل أبيب الغاضبة المتحكّمة معاقبة القاهرة الفرحة بالفلوس.. الفلوس!

جاءَ العقاب حرماناً وإظلاماً أحلك، إذ تعطّلت محطّات إنتاج الغاز المعتمدة على الغازِ الطبيعي في التشغيل، ليضاف العجز في الغاز إلى العجز المائي الناتج عن الإذعان المُهين للانفراد الإثيوبي في التحكّم في مياه النيل وحصة مصر منه، حتى بارت الزراعات وأظلمت البيوت، غير أنّ هذا العجز في الوقود، وذاك العجز في كميّات المياه، ما كانا ليحصلا لو لم يكن هناك في البدء عجز سياسي وإداري وتقزّم حضاري، حشرا البلاد والعباد في أتونِ الابتزاز باسم الوطنيّة الزائفة الملوّثة بكلِّ عوادم الطغيان والتبعيّة السياسية، وابتزاز أشدّ باسم الحداثة الكاذبة المتسخة بكلّ عوادم الدونية الحضارية، ليصيرَ مفهوم التنوير في الجمهورية الجديدة مُرادفاً لإفلاس فكري وحضاري يحوّل عملية التنوير ذاتها من فعلِ مقاومةٍ ثقافيةٍ ومناعةٍ حضاريّةٍ إلى حرفةٍ وميزانياتٍ ممنوحةٍ من الخارج وبوتيكات، تسحقُ المفهومَ الحقيقي للتنوير وتجعله تعبيراً عن عدمية هُويّاتية وتبعية ثقافية، تمضي بالتوازي مع تبعيةٍ سياسيةٍ واقتصاديةٍ باتت المصدر الأوّل للدّخل القومي.

في الحالتين، الإظلام بالغاز والتنوير بالدونية، ستجد العدو التاريخي والسياسي والحضاري للأمّة حاضراً وفارضاً نفوذه، على مدى عشر سنوات من التبعيّة للمانحين، بدأت في مثل هذا الشهر من عام 2013.



ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق