بدر دحلان... والسجن الذي نعرفه
يوسف الدموكيصحفي، وطالب بقسم التلفزيون والسينما في كلية الإعلام بجامعة مرمرة
بعينينِ شاخصتين كأنّهما خرجتا للتوّ من مقبرةٍ، كأنّ إنسانًا وجدَ نفسه فجأةً في العذاب، وهو يؤكّد وجود خللٍ ما، لأنّه ما زال حيًّا، وظلّ يطرقُ البابَ الحديدي المُوصد بكلتي يديه، ساعةً وراء ساعة، دون أن يرتاح لدقيقةٍ واحدة، والتراب يغطيه، والأرض تأكله، ومن بالخارج يظنونه شبحًا، وما زال يطرق الحديد حتى ذابت عظامه وساعداه، وانهال جلده على عظمه، لمدّة ثلاثين يومًا دون أن يرتاح لحظةً واحدة، ثم خرج بأعجوبةٍ، لتبقى عيناه المشدوهتان شاهدتين ومشهودتين، على الكابوسِ الذي عاشه بعينينِ مفتوحتين لشهرٍ كامل.
هكذا خرج بدرٌ (بدر دحلان) من سجونِ الاحتلال الإسرائيلي، وقد فعل به ما فعل، وهو شابٌّ بسيط لا يملك من أمره شيئًا، وقد كان حريًّا بالبدر أن يتمدّد وسط النجوم، مرتاحًا في سماءٍ صافية، يتكئُ بين سحابتين، ويبصرُ بعينيه المزهرتين بالخضار الجنة من مكانه كلّ صباح، وهو مُرابط دون أن يدري، في أعظم بقاع الأرض صبرًا، وفي أشرفِ أهل الأرض قصدًا، لكن عدوّه يغتال الجمال نفسه، والبراءة، والطيبة، في عيونِ الأبرياء، ولو استطاع لقصف القمر نفسه!
بدر.. أخذني الاسم والحالة والمشهد إلى "بدر" آخر، اسمٌ لسجنٍ كبير يضم بداخله آلاف الأقمار والبدور الحقيقية، داخل صحراء لا سماء، وفي أصفاد لا أفلاك، وفي زنازين لا مجرّات، وفي نيران لا شآبيب، يُحَاكمون لأنّهم من عالمٍ آخر، لا يقبل الناس فيه الظلم ولا الطغيان، ولا يسكتون على الفساد والمذابح، فكان نصيبهم أن يُوضعوا في قاعٍ من قيعان الدنيا، سقر الحياة لا الآخرة، من صنعِ بشرٍ ظنّوا أنفسهم آلهة، واعتقدوا (من إمهال الله لهم) أنّ بيدهم الهلاك والنجاة!
حرموا عينيه من رؤيةِ الحياة ومنعوا رئتيه من تنفس الهواء وحجبوا أذنيه من سماعِ اسمه بأصوات الذين يحبّهم
على بُعد نحو 300 كيلومتر من القاهرة، وعلى طريق الصحراء الغربية، يقع ذلك الـ"بدر"، معتقلًا مشبوحًا لا يرى الشمس مجازًا، لكنها تأكل من لحمه حقيقةً، في ذلك الجو المستعر، ولا تهمة للقابعين في تلك المقابر إلّا أنّهم أرادوا حياةً كريمةً كما أرادها أهل غزّة أيضًا..
نظرات بدر، وعيناه، ذكرتني بعزيزٍ لي في "بدر" الآخر، كان يملك الشعر نفسه، والمحيا الجميل، والعيون الخضراء، لكنّهم حرموا عينيه من رؤيةِ الحياة ومنعوا رئتيه من تنفس الهواء وحجبوا أذنيه من سماعِ اسمه بأصوات الذين يحبّهم، وهو مجرّد رقم في سجل السجانة منذ أحد عشر عامًا، وعشرات آلاف مثله، بدور تعتقلها الظلمات.
لو كان لسجن بدرٍ وأمثاله من سجوننا أيّ وجه يعبّر عن وجوه المحبوسين بالحديد والنار في داخله، لما عبّر عنها وجهٌ في الدنيا أبلغ ولا أصدق ولا أوجز من وجه "بدر".. وما بين البدرين شعبٌ يبحث عن النور، واحتلالٌ يطارد القناديل.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق