علمنة الإسلام وأسلمة العلمانية!
مختار محمود البرعى
لا ضيرَ أن تكونَ مؤمنًا أو غير مؤمن، هذا شأنكَ وحدَك، فلا تزرُ وازرةٌ وزرَ أخرى، ولكل امرئٍ منهم يومئذٍ شأنٌ يُغنيه، ولكن ليس من حقك أبدًا أن تتقمصَ دور «المهدى المنتظر» و«المُجدد المُرتقب» والمُنظِّر الذي يفقَهُ كل شيء، وأنت لا تفقه شيئًا مذكورًا، وتخلط ما هو سماويٌّ بما هو شيطانيٌّ، فهذا سَمتُ المنافقين الذين يقولونَ ما لا يفعلونَ، ويُبطنونَ ما لا يُظهرون، وينطبق عليهم قول الله تعالى: {وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ تَعَالَوْا إِلَىٰ مَا أَنزَلَ اللَّهُ وَإِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنَافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنكَ صُدُودًا}.
كنْ مُؤمنًا، أو علمانيًا أو ملحدًا أو عدميًا، أو أي شيء آخر، أنت حرٌ ما لم تضر، ليس لأحدٍ سلطانٌ عليك، حسابك عند ربك ، آمنت به أو لم تؤمن، وابقَ واضحًا غير متلوِّن، ولكن عندما تُهينُ الإسلامَ، وتهبطُ به من عليائه السماوي إلى مُنحدر العلمانية السُّفلي، وتزعم مثلاً أن الإسلامَ دينٌ علمانىٌّ، كما يروجُ سَدنة الإفكِ هذه الأيامَ، فأنتَ -حينئذٍ- كذَّابٌ أشِر، والله تعالى يقول: {إِذَا جَاءَكَ الْمُنَافِقُونَ قَالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ ۗ وَاللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَاللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنَافِقِينَ لَكَاذِبُونَ}.
الأسلوبُ القديمُ الذي تتبعه التياراتُ العلمانية المُتغرِّبة في مواجهة الإسلام حاليًا، لم يعد يُجدي ولا يؤتي ثمارَه المرجوَّة، ولا ينطلي على أحد؛ فقد تبينُ الرشدُ من الغيِّ، لذا لجأت هذه التياراتُ المُنحرفة إلى تغيير زاوية الاقتراب إلى الهجوم، فبدلًاً من تنحية الإسلام وإبعاده قسرًا عن كلِّ شئون الحياة، لجأوا إلى علمنته، أو إلى أسلمة علمانيتهم، وربما كانت النسخة الأحدث في هذا الإطار هي مؤسسة «تكوين» حديثة النشأة قديمة المنهج، حيث سعى القائمون عليها إلى أن يؤسسوا لنا إسلامًا على هواهم، ويفرضوه علينا فرضًا، وكأنهم يتماهَون دون أن يدروا مع قوله تعالى: {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ ۗ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
«علمنة الإسلام وأسلمة العلمانية»، التي تختفي وراء دعاوى التجديد الذي يبغونه.. نظرية شيطانية تحملُ في داخلها مقوماتِ فشلها الذريع؛ فكيف يُمكنُ أن يُوصَفَ الإسلامُ بأنه «دينُ علمانيٌّ» دونَ أن يعني ذلك أنه دينٌ يلغي نفسَه بنفسِه؟! إنَّ علمانية الإسلام «المزعومة»، تتلخص في أنه دينٌ ليس له قوامٌ أو كيانٌ أو هوَّية مُميزة تُفرَضُ على الحياة وتُسيِّرُها، بل هو خاضعٌ للتشكُّل والتغيير والتبديل إلى حد الإلغاء والعزل من الوجود، وهذا هو الهدف الحقيقي لأصحاب تلك الدعوى، ومُرادُهم الذي يطمحون إليه صباح مساء. هم لا يبحثون عن تجديد أو عقلانية أو تحرر، بل يهدفون إلى نسفٍ وتحطيمٍ وتسفيهٍ، وصدق مَن قال فيهم وعنهم: {فَمَا لَكُمْ فِي الْمُنَافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَاللَّهُ أَرْكَسَهُم بِمَا كَسَبُوا ۚ أَتُرِيدُونَ أَن تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ ۖ وَمَن يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَن تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا}.
إضفاءُ صِبغة العلمانية على الإسلام، تلغيه وتخصمُ من رصيده لمصلحة العلمانية؛ وهذا ما يطمحونَ إليه؛ لأنَّ جوهرَ هذه العملية الفكرية المُعقدة، هو إفراغٌ مُنظَّمٌ لجميع المبادئ والقيم والمفاهيم الإسلامية من مضامينها الثابتة والمستقرة، واستبدالها بمضامينَ علمانيةٍ مُتغربة تناقضُ معناها، أو تركها خاوية مائعة؛ لتتخذ بعد ذلك شتى المضامين.
سوف أضربُ لك الأمثال بمفهوم «الاجتهاد»، الذي يحيد عن معناه الشرعي في الإسلام؛ ليُصبح في عقيدة العلمانيين: «أداة لتطويع أحكام الإسلام الشرعية؛ لتتناسبَ وتتوافقَ مع التوجهات السياسية والاقتصادية والاجتماعية الغربية العلمانية»، فيُصبحُ كل حرامٍ حلالاً، وكلُّ مذمومٍ محمودًا، وسُبحان مَن كشف مكنون نفوسهم الأمَّارة بالسوء عندما أنزل: {يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَن تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُم بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ ۚ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَّا تَحْذَرُونَ}.
إنَّ الإصرارَ المُخادعَ على عملية التداخل بين الإسلام، باعتباره دينًا سماويًا، وبين العلمانية، بوصفِها منهجًا بشريًا سُفليًا غوغائيًا، يهدفُ إلى تذويب الأول في الثاني، وإلغائه تدريجيًا؛ حتى تصبحَ المجتمعاتُ المُسلمة، بلا دينٍ حاكمٍ، وتشيع الفوضى الأخلاقية بين أبنائها. وطالما طالعنا كتاباتٍ علمانيةً تسعى إلى تقنين وشرعنة ما حرم الله من الكبائر مثل: الخمر والزنا والمثلية، {إن الذين يحبون أن تشيع الفاحشة في الذين آمنوا لهم عذاب أليم في الدنيا والآخرة والله يعلم وأنتم لا تعلمون}.
قد تسألُ: وما الهدفُ من علمنةِ الإسلام أو أسلمةِ العلمانية؟ والإجابة باختصار: هو استمرارُ الحربِ الفكرية ضدَّ الإسلام من خلال تجريده من الطابع المُقدس، ونزع أي روابطَ تصله بالوحي الإلهي المُنزَّل ثابتِ الصياغة والتحقق، وهي المعاني التي تذخره بها كثيرٌ من المقالاتِ والحواراتِ والمعالجاتِ الصحفية والإعلامية التي تخوضُ مع الخائضينَ في هذا المضمار، إما عن جهل مُطبق، أو سوء نية مُحكم، وبدا ذلك جليًا في منتجات مؤسسة «تكوين»، أو في نتاج أعضائها منفردين من قبل ممن كنتَ تحسبهم جميعًا وقلوبهم شتى!
هم يقصدونَ بـ«علمنةِ الإسلام» اعتبارَه غيرَ مُحدد الملامح والقسمات، وأنه قابل للتغيُّر والتشكُّل وفقَ الظروفِ والأحوال الجغرافية والتاريخية، وأنه يتركُ مساحاتٍ واسعة من الشؤون الحياتية مفتوحة لكلِّ اجتهادٍ ورأيٍ أيًّا كانَ، دونَ ضوابطَ حاكمة، حتى وجدنا من يتم التمكين لهم إعلاميًا، ليبشروا المسلمين بـ«إسلام ممسوخ»، مقطوع الصلة بالجوهر الحقيقي للدين الخاتم، {إنَّ الدينَ عندَ اللهِ الإسلامُ، وَمَن يَبْتَغِ غَيْرَ الإِسْلاَمِ دِينًا فَلَن يُقْبَلَ مِنْهُ وَهُوَ فِي الآخِرَةِ مِنَ الْخَاسِرِين}.
الطرحُ، الذي يبدو في ظاهره، وكأنه يتوافق مع الأصل الإسلامي الذي يربطُ بين الدين والدنيا، يرمي إلى تأسيس فصل الدين عن الحياة من خلال تمييع الإسلام نفسِه، وتقليص مساحته، وردِّه إلى مجرد كيان هُلامي شفَّافٍ أقربَ إلى العدم، يتشكلُ مع كلِّ ظرفٍ وحالٍ؛ حتى لا يكونَ له وجودٌ مُستقلٌ أو مُميزٌ أو هويةٌ. {إِذْ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالَّذِينَ فِي قُلُوبِهِم مَّرَضٌ غَرَّ هَـٰؤُلَاءِ دِينُهُمْ ۗ وَمَن يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ}.
الذين يحاولون الآنَ الربطَ بين الإسلام، وبين العلمانية كـ«بديل»، هم أنفسُهم الذين احتشدوا من قبلُ وسوف يحتشدون لاحقًا لرمي الإسلام بكل نقيصة، وإهانةِ المسلمين القدامى والمُعاصرين والتحقير منهم، والتشكيك في القرآن الكريم والتحريض عليه، وإهالة التراب على السُنة النبوية الشريفة، والنيل من جميع الثوابت الدينية الإسلامية والتهوين منها، وازدرائها، في مقابل التعظيم والتفخيم والتقدير للعلمانية واعتبارها: «دين الأديان» و«قدس الأقداس».
ولنعمل جميعًا لمثل هذا المشهد القرآني: {يَوْمَ يَقُولُ الْمُنَافِقُونَ وَالْمُنَافِقَاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا انظُرُونَا نَقْتَبِسْ مِن نُّورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَرَاءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُورًا فَضُرِبَ بَيْنَهُم بِسُورٍ لَّهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِن قِبَلِهِ الْعَذَابُ} صدق الله العظيم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق