في ظلال الإسلام أستميح قرائي الأعزاء أن أغير عنوان مقالي الأسبوعي «في ظلال الدستور» الذي شرفت به على صفحات «الجريدة» الغراء منذ صدورها في يونيو 2007، إلى «في ظلال الإسلام» ونحن نحتفل هذا الشهر جميعا قراءاً وكتاباً، بمضي سبعة عشر عاما على صدورها، وهي تزداد في كل يوم تألقا وإشراقاً، باعتبارها حاضنة لكل الآراء، مستميتة في الدفاع عن حرية الرأي وحق التعبير عنه.
ولم يكن في تغيير هذا المقال تحولٌ عن منهجي الفكري في الدفاع عن التجربة الديموقراطية في الكويت، التي حفل بها دستورها، والتي تعتبر بحق نموذجا معاصرا للحكم في الإسلام، كالنموذج الأوروبي في البوسنة أو في تركيا أو تحولٌ عن اختصاصي المهني، كما لقبني الأخ العزيز والكاتب القدير عبداللطيف الدعيج في مقال له على صفحات «القبس» تحت عنوان «لا يا شيخ» في رده على مقال لي على صحفات «القبس» ذاتها، عندما تصديت للدفاع عن الإسلام الذي خرج الدستور من رحمه، ليطالبني بأن أعود أدراجي في البحث الدستوري والقانوني الذي أتقنه، وفقا لرأيه.
وكان حواري والأخ الدعيج وثالثا الأخ أنور الرشيد، حول ما وصف به الدعيج العقوبات الشرعية بأنها عقوبات وحشية، تخالف الدستور الذي حظر إيذاء المتهم، وكان ردي على هذه القالة بأن هذا الحظر، ينصرف الى المتهم، لا المدان بحكم قضائي، وهو ما دار في المجلس التأسيسي في مناقشة نص الدستور الذي فرض هذا الحظر، وقد أبديت رأيي في تطبيقها بأن العقوبات الشرعية طائر في سرب أو رافد في نهر، وأنه لا يجوز الحديث عن الطائر دون الحديث عن سربه، أو الحديث عن الرافد دون الحديث عن نهره، وأن هذا السرب وهذا النهر يتمثلان بالعدالة الاجتماعية، وأن تكفل الدولة حقوق الإنسان كافة، وهو ما جعل سيدنا عمر، رضوان الله عليه، يوقف الحدود في عام المجاعة.
فقد كنت دائما وأبدا مدافعا عن الإسلام، وفقا لمفهومه الصحيح، (وقد دار هذا الحوار بيننا على صفحات «القبس» بتاريخ 23 و25 و29 مايو 2001).
وما زلت على الدرب ذاته، تحت هذا العنوان الجديد أتناول القضايا الدستورية لنبذ الخصومة التي افتعلها بعض (الشيوخ) بين الإسلام والديموقراطية (الشيخ سيد غباشي في كتابه «القول السديد» في أن دخول مجلس الأمة مناف للتوحيد)، والديموقراطية تدين بأصل نشأتها الى القرآن، وهو منبتها الأصيل قبل بزوغ فجرها في أوروبا بأكثر من عشرة قرون في قوله تعالى «وأمرهم شورى بينهم» وهي الآية التي يستمد منها مبدأ «سيادة الأمة» الذي لم تصل إليه أوروبا إلا في القرن السادس عشر.
قتل الأطفال بدلاً من تيتيمهم
ولا تختلف النازية الإسرائيلية عن النازية الألمانية في الحرب العالمية الثانية التي كانت السبب في يتم الملايين من الأطفال وهي الحرب التي قتل وشوه فيها خمسون مليوناً من البشر، كانوا آباء وأمهات لهؤلاء الأطفال، إلا أن النازية الجديدة في إسرائيل اختصرت الطريق بدلا من تيتيم الأطفال إلى قتلهم.
الأطفال هذه النبتة الطيبة والغرسة الجميلة ما إن تتفتح عيونها على الحياة، وعلى حقها في الحياة بلا تمييز بحسب الجنس أو اللون أو الدين أو الهوية حتى تجد نفسها بين ركام التراب والأحجار في غزة ورفح لتلقى اليتم على أيدي آلة الإبادة الإسرائيلية، أو لتلقى حتفها، هذه النبتة الجميلة الطاهرة ما إن تطبق بشفتيها على ثدي أمها لتصبح هذه الأمة سيدة العالم، تلقى حتفها هي وأمها في مستشفيات غزة، هذه البراعم الطيبة وقد استيقظ العالم كله على صرخاتها وبكائها ونحيبها، ودمائها الزكية على أرض غزة، رمز العزة، إلا عالمنا العربي والإسلامي الذي يرزح تحت وطأة الإمبريالية العالمية، وفي قبضة أفيال مجلس الأمن بزعامة أميركا صاحبة أكبر رقم في الاعتراض على أي قرار يصدره مجلس الأمن يدين إسرائيل، لوأده، وهي الطفل المدلل في أحضان أفيال مجلس الأمن والإعلام الغربي وإعلام التيك توك وقد اختلطت أوراقه بين مفهوم الجهاد كما يمارسه شعب غزة الأبي لا «حماس» وحدها، فهي المتنفس الوحيد لهذا الشعب ضد القتل والتدمير لحياة هذا الشعب، هذا الإعلام يخلط بين الجهاد وبين الاستسلام لمقررات بايدن ومبادرته في إيقاف الحرب، وهي لا تعني سوى استئنافها لإبادة الشعب الفلسطيني عن آخره بعد الإفراج عن الرهائن.
الجهاد في المفهوم الإسلامي
والجهاد في المفهوم الإسلامي، ليس القتل الذي تمارسه إسرائيل على الهوية الفلسطينية، وفقا لمفهومها العقائدي اليهودي، فقتل غير اليهودي بشكل عام عند اليهود حلال لأنهم بقتله يرضى عنهم الرب لأن موروثهم العقائدي التاريخي أن من عاداهم وثنيون وأميون ينبغي التخلص منهم للاستقرار في أرض الله بما أنهم شعبه وأحباؤه، وقد كلم الله موسى نبيهم.
وإن كان القتل يعد خطأ عاما في حق السماء فإن قتل غير اليهودي بطريقة غير مباشرة لا يعتبر إثما على الإطلاق في حق اليهودي (إسرائيل شاحالك: اليهود واليهودية ثلاثة آلاف عام من الخطايا- ترجمة ميادة العفيفي– تقديم إدوارد سعيد– ميريت للنشر وللمعلومات– الطبعة الأولى 2003، ص120 وما بعدها).
إنما الجهاد في المفهوم الإسلامي هو الدفاع عن العقيدة ضد من أخرجوا المسلمين من ديارهم وساموهم الظلم والعذاب والتنكيل في استهلال نشر الدين الإسلامي، وما كان فتح مكة إلا لتحقيق هذا الغرض، وما كانت الفتوحات الإسلامية الا لنشر هذا الدين، وقد سبق هذه الفتوحات رسائل محمد (صلى الله عليه وسلم) الى هرقل وكسرى والمقوقس في مصر يدعوهم الى الإسلام، ولم يجبر أحدا بعد هذا الفتح أو هذه الفتوحات على ترك دينه واعتناق الإسلام.
وينقسم الجهاد في الإسلام باعتباره فرضا من الفروض التي فرضها الدين الحنيف على المسلمين من حيث نطاق التكليف به الى نوعين:
أولهما: فرض كفاية يبرأ من التكليف به أفراد المجتمع، إذا قام به فريق كاف منهم وتحققت أهدافه من حفظ الدين ونشره.
أما النوع الثاني من الجهاد كفرض عين على كل مسلم إذا دنس العدو قطعة من تراب وطن المسلمين فلا تبرأ ذمة المسلم فيه إلا إذا نهض بدوره لتتكافل الأمة كلها في النهوض به، وانطلاقا من هذا التقسيم بين نوعين من الجهاد، فإن القضية الفلسطينية ليس الجهاد فيها وفي تحرير أرضها، فرض كفاية بل فرض عين على كل مسلم لأن أرضها تدخل في دار الإسلام، فضلا عن كونها فيها المسجد الأقصى، ثاني القبلتين وفيها بيت المقدس الذي يحج اليه المسيحيون من كل أنحاء العالم، فالجهاد لتحريرها من براثن العدو الصهيوني الذي يدنس هذا البيت في كل يوم، هو فرض عين على كل مسلم ومسيحي.
وانطلاقا من هذا التقييم النوعي فإن «حماس» لم تكن الا الشرارة الأولى في الجهاد المقدس الذي فجرته في السابع من أكتوبر الماضي، وهو ما أدركه الفلسطينيون في غزة فشاركوا «حماس» معركتها بصمودهم وتضحياتهم الكبيرة بالأنفس والأرواح والأموال ليصنعوا لأمتهم الإسلامية والعربية النصر المؤزر.
فلا تلوموا «حماس» إذا هي تحفظت على مبادرة بايدن في إيقاف الحرب لبضعة أسابيع لتستأنف بعدها حرب الإبادة الاسرائيلية لجميع الشعب الفلسطيني بعد تسلم رهائنها وأسراها، فهي ورقة الضغط الوحيدة، لدى حماس، لإنهاء هذه الحرب، واعادة الحياة الى القضية الفلسطينية، فغاية «حماس» من هذه التحفظات هي إنقاذ أرواح شعبها في غزة من استمرار هذه الإبادة.
والله على ما أقول شهيد... وللحديث بقية إن كان في العمر بقية.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق