الاثنين، 12 أغسطس 2024

«أوفى من السموأل»

 «أوفى من السموأل»


 ‪أدهم أبو سلمية

امرؤ القيس، الشاعر الجاهلي الشهير، عندما قُتل أبوه طلب ثأره، وعزم على الرحيل إلى هرقل ملك الروم لكي يعطِيه جيشاً يحارب به قاتلي أبيه، حتى يثأر منهم؛ وأودع عند السموأل دروع أجداده التي اعتاد ملوك كندة توارثها أباً عن جد، وهي ترمز إلى ملكهم.. كان السموأل يملك حصناً منيعاً يسمى «الأبلق» في تيماء شمال الجزيرة العربية، وكان معروفاً بقوته ومناعته.

سار امرؤ القيس إلى هرقل في رحلته الشهيرة، التي خلدها في قصيدته الرائية المشهورة «سما لك شوق بعد ما كان أقصرا»، والتي تعتبر من أروع ما كتب من الشعر العربي القديم. 
وخلال هذه الرحلة التي كانت مليئة بالمغامرات والمخاطر، مات امرؤ القيس، ما أضفى على حكايته طابعاً مأساوياً يخلده في الذاكرة العربية.

عندما علم ملك الحيرة، الحارث بن شمّر الغساني، بتلك الدروع رأى فيها غنيمة ثمينة، وتمنى الظفر بها. 
وفور وصوله خبر موت امرئ القيس، عزم الحارث على الاستيلاء على تلك العدة، فسار بجيشه إلى ديار السموأل الذي لجأ إلى حصنه وأغلقه عليه.. لم يكن الأمر سهلاً بالنسبة للحارث، فالحصن كان منيعاً ومحصناً بشكل جيد.

أمسك الحارث الغساني بأحد أولاد السموأل حين كان خارج الحصن، وأرسل الغساني إلى السموأل يخيّره بين أن يدفع إليه أمانة امرئ القيس أو أن يقتل ابنه! 
كانت هذه لحظة فارقة في حياة السموأل، فقد كان عليه أن يختار بين الأمانة وحياة ابنه.. أمر الحارث أن يُربط ابن السموأل بمكان بحيث يراه من شرفة الحصن، فقام السموأل بأخذ موقف صعب للغاية، وأشرف من شرفة الحصن فرأى ابنه مقيّداً.

قال له أحد أقاربه: “يا سموأل، لقد حفظت أمانتك قدر المستطاع، وامرؤ القيس قد مات، وهذا الملك لا طاقة لك به، وهو آخذها لا محالة، فادفع له ما يريد وخلّص ابنك”؛ 
فأطرق السموأل ملياً، ثم قال له: “ورب السماء لن أخون ذمتي، ولن أجعل العرب تعيّرني بقلة وفائي”!. 
وهذه الكلمات أصبحت مثلاً يحتذى به في الوفاء والشرف.

رد السموأل على الملك بأنه لن يسلمه أمانته، وليفعل ما يشاء! 
عندها قام الحارث بذبح الولد تحت عينيه. 
ولبث الحارث بعد ذلك وقتاً يحاصر الحصن حتى يئس فانصرف بجيشه؛ وظل السموأل محتفظاً بوديعته حتى جاءه ورثة امرئ القيس فدفعها إليهم.. من أجل ذلك ضُرب به المثل، وأصبح يقال لكل من يُظهر وفاء خارقاً إنه «أوفى من السموأل».

يومها قال العرب:

وإنّا لَقَومٌ لا نرى القتل سُـبَّةً  

إذا ما رأتـه عـامـرٌ وسـلول 

وما مات منّا سيِّدٌ حتف أنفه 

ولا طُلَّ منّا حيث كان قتيل  

إذا سـيِّـدٌ منّـا خلا قام سـيِّـد  

قؤولٌ لما قال الكرام فعـول

وبقي هذا قولهم حتى نزل قول الله تعالى: {ولا تحسبنَّ الّذين قُتلوا في سبيل الله أمواتًا بل أحياءٌ عند ربِّهم يرزقون}. 
إذ كان العرب يفخرون بأن يموتوا قتلاً دفاعاً عن عرضهم ودينهم وأرضهم، بدل أن يموتوا حتف أنوفهم.

واليوم، ومع غياب الوعي الغربي بواقع الأمم، تفاجؤوا- ومعهم كل العالم- بهذه المعاني التي جددتها المقاومة الفلسطينية، هذه المعاني التي تُحدث اليوم فرقاً في موازين المعركة بين الاحتلال والمقاومة، وصداماً في منطلقات النصر والهزيمة.

فالجيش الذي يقاتل بمنطلقات مادية، وبمبدأ المزيد من القوة تنفيذاً لأوامر قادته، تقابله عقيدة راسخة لجنود يرون في التضحية فوزاً وحياة، يرون في الموت شهادة وعقداً مع الله، ومعادلة رابحة على الدوام، يرون فيه فداءً وزوداً لا خسارة، وواجباً لا ثمناً يتفضلون به.

بهذه العقيدة، ومع غياب وعي النظام الغربي بمنطلقات التضحية، ستنتصر المقاومة.. وعلى المتخاذلين أن ينظروا في تاريخ الأمم وقِيَمها، ويستوعبوا أن العقيدة والمبدأ هما أساس النصر الحقيقي.

ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق