المأزق الإيراني!
إيران مطالبة بالرد على الاغتيال الذي تم على أرضها حتى لا تفقد قدرتها على الرد وتبقى في حالة استباحة من منافسيها وخصومها، وفي هذه الحالة سترد عليها دولة الكيان وستتضامن معها الولايات المتحدة، وبالحسابات الإيرانية يعني هذا نهاية مشروعها الإمبراطوري في المنط
في وقت كان العالم يترقب فيه وبعضهم يحبس أنفاسه، حول الانتقام الايراني المزعوم الموجه للكيان الصهيوني ردًا على اغتيال زعيم حركة حماس إسماعيل هنية على أراضيها، إذا بالأيام تمر وتنقضي ولا يأتي الرد الإيراني المرتقب.
ويبرر مناصروها هذا التأخير، بأنه مقصود لإرباك واستنزاف الكيان، لأن الترقب يجعله في فترة طوارئ دائمة ويعيش السكان هناك حالة من الرعب والخوف.
بينما يقول آخرون إن تأخير الرد الايراني هو لتجهيز وسائل وأنظمة دفاعية، لتصد بها الرد الصهيوني المفترض الذي سيأتي ردًا على ضربتها المرتقبة.
ووسط غمامة سوداء من التصريحات المتوعدة بالرد وتصريحات مضادة بالرد على الرد، ثم التهديدات الأمريكية وإرسال حاملات طائراتها، وغيرها من الأساليب الدعائية والديماجوجية، فإن من يرقب الموقف ومن له خبرة في متابعة للسلوك السياسي الغربي عامة، والسلوك الإيراني بصفة خاصة، يرى أن إيران لن تندفع إلى رد غير محسوب.
ويربط هؤلاء تأخير الرد الإيراني بدخول إيران مع الولايات المتحدة في مفاوضات سرية لهندسة رد إيراني له خصائص معينة، وأولها أنه لا يؤدي إلى انزلاق المنطقة إلى حرب إقليمية لا تريدها إيران أو أمريكا.
ولكن ما دلائل هذا التصور، أي الرد المبرمج بما تم الاتفاق عليه؟
أول هذه الدلائل ما تحدثت عنه صحيفة واشنطون بوست الأمريكية من أن الولايات المتحدة بعد عملية الاغتيال بأيام، قد أجرت اتصالات سرية مع البعثة الإيرانية في الأمم المتحدة.
وفي هذا اللقاء أوصلت أمريكا رسائل إلى إيران من أنها قد نقلت قدرًا كبيرًا من الأصول العسكرية إلى المنطقة للتأكيد على مبدأ الالتزام الأمريكي بالدفاع عن دولة الكيان ضد أي هجوم إيراني، وأن هناك عواقب وخيمة ستؤثر على استقرار الحكومة الجديدة للرئيس مسعود بزشكيان.
وخلصت الصحيفة إلى أن طهران ستتراجع عن الرد بسبب استعراض القوة الذي قامت به الولايات المتحدة.
ثم عادت صحيفة واشنطون بوست منذ يومين لتقول إن إيران أبلغت العراق بأن الرد على الكيان الصهيوني سيكون محدوداً خشية استهداف برنامجها النووي.
ثاني هذه الدلائل ما صرح به مسؤول إيراني لوكالة رويترز: نبحث مسألة وقف إطلاق النار في غزة مقابل عدم الرد.
هناك مفاوضات جارية بين إيران والولايات المتحدة وراء الكواليس سواء المباشرة، أو عبر الوسطاء. وهذا تجلى في تأخير الرد الايراني تحت حجة أنه لتحضير جيد، والحقيقة كما جرت في أزمات سابقة |
هذا الكلام يوضح مدى المأزق الذي تجد فيه القيادات الإيرانية نفسها: فإيران مطالبة بالرد على الاغتيال الذي تم في أرضها حتى لا تفقد قدرتها على الرد وتبقى في حالة استباحة من منافسيها وخصومها، وفي نفس الوقت فإن الرد لو كان ضعيفًا فستفقد شعبيتها في المنطقة وبالتالي نفوذها، وأن هي ردت برد قوي، فسترد عليها دولة الكيان برد أقوى وستتضامن معها الولايات المتحدة أكبر قوة عسكرية في العالم، وبالتالي يندلع قتال بين الطرفين، وبالحسابات الإيرانية يعني هذا نهاية مشروعها الإمبراطوري والتوسعي في المنطقة.
فمخرج هدنة غزة مقابل عدم الرد هو أنسب الحلول الذي يخرجها من هذا المأزق.
ثالث الدلائل، هو تناقض أقوال زعيم حزب الله حسن نصر الله في الخطابين اللذين أعقبا اغتيال هنية:
ففي خطابه الأول، غلبت عليه صفة التهديد الجدي، ومن يسمعه، يقول إن المحور الإيراني ذاهب إلى الحرب، وقاله صراحة: "الكيان الصهيوني باغتياله اسماعيل هنية في طهران وفؤاد شكر في الضاحية معناه أنه لم تعد جبهات بل معركة مفتوحة في كل مكان.... لقد دخلنا في معركة جديدة...يتصورون أنهم يقتلون القائد إسماعيل هنية في طهران وإيران تسكت ...فلهجة وبيان (سماحة القائد والمرشد) أشد من لهجته وبيانه يوم عدوانهم على مبنى القنصلية الإيرانية في دمشق".
وبعد ستة أيام من هذا الخطاب ألقى نصر الله خطابه الثاني، الذي نلاحظ فيه تراجعًا في النبرة والتهديد، وخلاصته أن الرد سيقتصر على الحوثيين والحزب، أما إيران فلن تصل عملياتها إلى درجة الحرب الشاملة لظروفها الخاصة.
وقال" لقد راجعنا طبيعة المعركة وتصور محور المقاومة للقتال، وقد وجدنا أنه ليس مطلوبًا من إيران أن تدخل قتالاً دائمًا، وليس المطلوب من سوريا الدخول أيضًا فلها مشاكلها الداخلية، المطلوب من سوريا وإيران في هذه المعركة وما طالبناه كجماعات مقاومة هو الدعم المعنوي والمالي والسياسي والعسكري".
فماذا حدث في فترة التغيير في خطاب نصر الله، وما الذي جعله يغير خطابه الذي لم يكن ليغيره لولا أنه تلقى أوامر من إيران بذلك؟
يبدو أن هناك مفاوضات جارية بين إيران والولايات المتحدة وراء الكواليس سواء المباشرة، أو عبر الوسطاء. وهذا تجلى في تأخير الرد الايراني تحت حجة أنه لتحضير جيد، والحقيقة كما جرت في أزمات سابقة، أن هناك مفاوضات تسير خلف الستار تتبلور فيها بين إيران وأمريكا والكيان الصهيوني، رؤية حول شكل الرد الإيراني، الذي به تحتفظ إيران بماء وجهها أمام شعبها وأمام الإقليم، وفي نفس الوقت لا تضطر حكومة الكيان للرد عليه مرة أخرى حتى لا تدخل المنطقة في حرب، وفي المقابل تنتظر إيران المكاسب والمصالح التي ستأخذها من أمريكا مقابل هذا الرد الذي تم هندسته، تتمثل في الغاء العقوبات الأمريكية على مؤسسات وشخصيات ترتبط بالحرس الثوري، وإطلاق نسبة من ملياراتها المجمدة، مع عودة غير مشروطة لمفاوضات الملف النووي.
وفي هذه المفاوضات التي تتم وراء الكواليس، يحاول كل طرف الاستعانة بأوراقه، أو نزع أوراق الطرف الآخر.
فيوم الاثنين الماضي، زار وفد روسي برئاسة سيرغي شويغو، أمين مجلس الأمن القومي الروسي طهران، حيث التقى بأقوى ثلاث شخصيات إيرانية بعد المرشد وهم: الرئيس الإيراني، مسعود بزشكيان، وأمين المجلس الأعلى للأمن القومي الإيراني، علي أكبر أحمديان، ورئيس الأركان العامة للقوات المسلحة الإيرانية، محمد باقري.
ونقلت صحيفة نيويورك تايمز الأمريكية عن مسؤولين إيرانيين، قولهم إنه في هذه الزيارة طلبت طهران من موسكو أنظمة دفاع جوي متطورة، وإن روسيا بدأت في تسليمها بالفعل رادارات ومعدات دفاع جوي، بينما ذكرت وكالة رويترز، أن طهران تضغط على موسكو لتسليمها أيضا طائرات مقاتلة من طراز سوخوي 35، وهي من أحدث الطائرات المقاتلة في العالم والتي تناظر طائرات إف 35 الأمريكية والتي تمتلك منها دولة الكيان العشرات.
هنا تدخلت أمريكا، وصرح المسئولون في الولايات المتحدة بحزم أن كل دعم نوعي لإيران سيقابله دعم أكبر لأوكرانيا.
وبالفعل في اليوم التالي، قصفت أوكرانيا مطار موروزوفيسك داخل روسيا ودمرت طائرات سوخوي 35، بطائرات F16 التي وصلتها حديثاً وتوغلت عشرات الكيلو مترات داخل منطقة كورسك، الأمر الذي دفع بوتين ليعقد اجتماع لمجلس الأمن القومي الروسي.
وقد نتج عن ذلك الاجتماع، امتناع روسيا عن تسليم إيران طائرات سوخوي 35.
بل نقلت المصادر الإخبارية أن الرئيس الروسي، فلاديمير بوتين، طلب من المرشد الأعلى في إيران، علي خامنئي، أن يكون الرد على إسرائيل منضبطا، وأن يتجنب سقوط ضحايا مدنيين.
وهذه الأمور تدل على أن هناك فشلا في ما أنجزه محور المقاومة في حرب غزة، خاصة بعد الخسائر الفادحة في غزة، فلم يستطع هذا المحور وقف حملة الإبادة المستمرة للصهاينة في القطاع.
ولكن ما هي نوعية الرد الإيراني الذي تحاول الأطراف المختلفة هندسته؟
تقول صحيفة التلغراف البريطانية، إن الرئيس الإيراني الجديد، مسعود بزشكيان، يخوض معركة ضد الحرس الثوري في محاولة لمنع اندلاع حرب شاملة مع إسرائيل.
وأورد المصدر، أن بزشكيان يحاول الدفع نحو التخفيف من حدة رد الحرس الثوري الإيراني على إسرائيل ردا على اغتيال هنية، ونقلا عن الصحيفة البريطانية، فإن الحرس الإيراني يدرس شن هجوم صاروخي على تل أبيب ومدن أخرى من شأنه استهداف منشآت عسكرية، إلاّ أن بزشكيان يدفع بدلا من ذلك، إلى ضرب قواعد تجسس غير معلنة تابعة للموساد مخبأة في جميع أنحاء المنطقة، وفق التلغراف.
وهذا الرد يبدو متوافقا مع قاله مقرب من الرئيس الإيراني لواشنطن بوست، من أن الرد على اغتيال هنية لن يكون بإطلاق صواريخ.
وبصرف النظر عن طبيعة الرد الإيراني، فإنه محكوم بالتفاهمات السرية الجارية بين إيران والغرب، وفي النهاية لن يؤدي إلى حرب إقليمية، وسيسوقه النظام الإيراني وأبواقه في المنطقة على أنه نصر مؤزر، ولكن الخديعة الإيرانية على وشك الانكشاف، واتخاذها مناصرة فلسطين وقضيتها شعارًا لها لجذب الجماهير قاربت على الانتهاء، مما ينذر ببدء المشروع الإيراني في الانحدار، وهذا بلا شك من نتائج طوفان الأقصى.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق