الأربعاء، 14 أغسطس 2024

في الواجهة.. عشاء الحضارة الأخير!

 

في الواجهة.. عشاء الحضارة الأخير!


أثارت افتتاحيّة الألعاب الأولمبيّة في باريس، جدلًا لما تضمّنته من سخرية وابتزاز للآخر، الذي تمّ تعريفُه ضمن لوحة الحضارة الغربية على أنّه مهدد للتنوع الثقافي والهوياتي، بل إنّ العالم الذي يتمسك بجذوره التراثية ورموزه التاريخية فاقد للأهلانية الحضارية.

لكن وفي الوقت الذي كانت باريس تستفز فيه العالمَ الذي يشهد أكبر مآسي الإنسانية، يرابط الزيتون في أرض المسيح على ألا يكسره الاحتلال الصهيوني، وأن يقاوم اقتلاعه بالقوة في غزة، معيدًا التساؤل الحقيقي حول المفاوضات وجدواها، وإمكانية بلوغ الحلول النهائية للمسألة الفلسطينية. ومع أنّ يد الاحتلال الصهيوني غارقة في دماء غزة، فإنّها لا تتوانى للحظة في استهداف السياسيين والصحفيين وعمال الإغاثة، واغتيال إسماعيل هنية ومراسلَيْ الجزيرة إسماعيل الغول ورامي الريفي، قد بعث رسالة للعالم عنوانها، أنّ الصهيونية لا يمكنها تقبل الآخر.

تكمن معضلة الإنسانية في "القيم التشاركية" التي زعمتها الحضارة الغربية وهي ترسم ملامح مستقبلها، كما جسدتها لوحة "العشاء الأخير" الأولمبية في باريس، والتي رافعت بشكل مقلق عن الهويات العابرة سياسيًا لا ثقافيًا، وما من حضارة إلا وكتب لها الزوال إن اقتاتت من المعايير الأحادية والضيقة واتخذتها ميثاقًا للأحكام النهائية

لوحة الحضارة المعتمة

ليس من الضروري إظهار الانتماء الفردي والجماعي حتى نتقبل الآخر، فكون البشر متساوين في الحرية والعدالة، ومتشاركين في القيم التي من شأنها أن تحفظ استمرارية جنسهم، ذلك كافٍ، إن لم يذعن الإنسان لفكرة ما.. كيف ذلك؟

للوهلة الأولى يعتقد كل واحد منّا – مهما كانت توجهاته وكيفما اتجه تفكيره – أنّها مركزية، وحولها تدور الأطروحات والمؤامرات والمتغيرات النسبية، وبمجرد أن يتم انتقاد الفكرة، تتداعى كل التبريرات والتلفيقات لإثبات قوة ما اعتبره إيجابيًا وحقيقيًا للآخر؛ فلكي تكون إنسانًا لا بد من تحقيق شرط متعلق بالاعتراف، وافتراض جدلية "الهوية الجنسانية العابرة" على البشرية لكونها "حتمية ثقافية" أثبت العلم استحالة عموميتها، مع ما تظهره الطبيعة من تحوّلاتٍ تناقض ما سعت إليه الحضارة الغربية لتجريده من أصليَّته، وفرضه بقوّة في مجالات الرياضة والثقافة، ضمن سياستها الاستعمارية الاستيطانية.

تكمن معضلة الإنسانيّة في "القيم التشاركية" التي زعمتها الحضارة الغربية، وهي ترسم ملامح مستقبلها، كما جسّدتها لوحة "العشاء الأخير" الأولمبية في باريس، والتي رافعت بشكل مقلق عن الهُويات العابرة سياسيًا لا ثقافيًا، وما من حضارة إلا وكتب لها الزوال إن اقتاتت من المعايير الأحادية والضيقة واتخذتها ميثاقًا للأحكام النهائية.

والجدلية المتعلّقة بحضارة ما، كونها إنسانية بالضرورة أو قوة استلاب مهيمنة على "الحق في التنوع"، هي بمثابة البحث عن هُوية لها، أكانت مادية متوحشة، أم ذات أبعاد أخلاقية؟ ولكن ما الإنساني الذي يفترض أن تكون الحضارة معيارًا لتحقيقه؟ فوزير الاحتلال الصهيوني قد وصف الفلسطينيين الذين يدافعون عن أرضهم بالحيوانات البشرية؟

تمثّل الحرية أهمّ فعل للتعريف الإنساني، وصورة للتفكير النقدي حول كل ما هو انتهازي ومهيمن، وهي تجسيد انتقائي واحتوائي للسلوكيات الطبيعية، وارتهانُها لقوى التجريد الحضارية ساهم بقوة في تكريس نموذج مادي جشع، لكون "الاختيار العنيف" حقًا لتبضيع الحرية في قوالب حضارية من قبيل المثلية والحركات الانفصالية والمجالس الانتقالية، وحينما يتم استدعاء "الحق الإنساني" في تمكين شجر الزيتون من أرضه، تتداعى قوى الحضارة بمؤسساتها الاستيطانية لرفض ذلك الحق، وإعادة تعريفه وصياغته من منطلق السلام الواحد، أو جماعات إرهابية.

وما أظهرته عملية طوفان الأقصى والرد البربري والوحشي لآلة القمع الصهيونية، لم يكن سوى الحلقة الأولى في إعادة صياغة كل ما هو حضاري وإنساني، ليس من وجهة المغيبين والمهمشين عن كتابة تاريخهم، بل من الآخر الذي أثخن في رفضه نقد أسطورة الصهيونية وتلفيقاتها ضد الحرية والعدالة الإنسانية.

تظهر الحضارة في صورتها الغربية حجمَ العنف الاستعماري وتواطؤه في الأراضي الفلسطينية، غير آبهة بمجازر الإبادة ضد الإنسانية، إذ لم تقف أفعالها عند تقديم المساعدات العسكرية للاحتلال الصهيوني، بل امتدت لتلجيم شعوب العالم الحرة عن مناهضة نظام الفصل الصهيوني، عبر كابينات عربية وغرف عمليات استخباراتية لتخريب ما تبقى من الأوطان، حتى إنّ المؤسسات الأممية تقف عاجزة إزاء جرافات الاحتلال وهي تنهش القبور وتقتلع الزيتون.

التفكير الغربي في لوحة عالمية ذات ألوان متعددة وعابرة، هي غير تلك التي توحي بالطبيعي والأصلي والهامشي، كانت ستحققها المخابر الاستشراقية في تزييف الحقائق التاريخية. والسخرية من قداسة المسيح -عليه السلام- ليست أكثر من تأويل زائف لأقلية نيوليبرالية مهووسة بالقمع؛ بسبب عُقدها النفسانية واللاهوتية، إذ إنّ لوحة العشاء الأخير الأولمبية لم تفهم على القصد الذي كانت توحي إليه، فهي امتنان للحضارة في تغييب كل ما هو إنساني وحقيقي، لحشره في معسكرات الديمقراطية السوداء.

ها هو الفلسطيني بزيتونه وبندقيته على قدر عزيمته واصطباره، ومقاومته وتمسكه بأرضه، يقف مصوّبًا بندقيته التقليدية ضد جرافات ودبابات الأسطورة، فاضحًا زيف خرافة التفكير الغربي المنضوية تحت لواء التصهين، فما الجدوى من حضارة تستغيث بالاستثنائي المطلق، لتحارب بلا هوادة ضد الحق الإنساني؟!

بندقية الزيتون

بالعودة إلى ما يحدث في غزة من مجازر وتهجير قسري واستهداف ممنهج للطواقم الطبية والصحفية، فإنّ كل تلك الصور المتناقلة عبر شبكة الجزيرة وبعض القنوات العالمية عن الكارثة الإنسانية، التي لم تصب القطاع فحسب، بل إنّ جرائم الصهيونية في سجون الاحتلال الإسرائيلي تجاوزت فعل الانتقام إلى التنكيل المتعمد بالمدنيين.

ومن عجائب الحضارة الغربية، التي سارع ممثلها الأوروبي إلى دعوة البنغاليين للعمل على تحقيق الديمقراطية والحرية بعد فرار رئيسة الوزراء الشيخة حسينة، أن يتم استهداف المحتوى الفلسطيني عبر الفضاءات الممكنة، حتى إنّ الصهيونية لم تستطع تحمل حملات التضامن عقب اغتيال إسماعيل هنية، فسارعت إلى حجب المحتوى الداعم للقضية الفلسطينية.

علينا أن ندرك أمرين مهمين قد كشفهما "طوفان الأقصى"، أولهما أن الغرب لم يكن عنصريًا تجاه الفلسطيني فحسب، بل كان صادقًا في توجهاته الإقصائية والإلغائية للآخر، فهو لم يعترف بالحق الفلسطيني مطلقًا، كي يساومه على أراضيه المنهوبة وهويته المسلوبة، وقد أثبت حفل الأولمبياد عبر تجسيد لوحة دافنشي، أنّ الحرية والكرامة لا يمكنهما أن تمنحا الفلسطيني الذي باركه الزيتون حق الاعتراف.

فالاعتراف به هو استجلاب لكل تاريخ وثقافة مغايرة للغرب، وبالنظر إلى المسيح الذي عاش في أرض الزيتون التي يدافع الفلسطيني عن شجرها وتاريخها وأزقتها، فإنّ الحضارة الغربية تقف على الهامش من التاريخ، زاعمة أنّ النشأة الأولى لها إنما أنتجتها الحداثة بفنونها ومسارحها، وها نحن نشاهد المسرح المفتوح على المعسكر الصهيوني الكبير للحضارة، وهي تبسط ذراعيها لثقافة الاستثناء كي تسود العالم.

أما الأمر الثاني، فهو عداؤنا لذواتنا وتاريخنا، وأنّ الغربي استطاع أن يلح باستمرار على احتقار المقاومة ورغبتنا في التغيير، حتى إنّنا اقتتنا زمنًا طويلًا من مائدة التفوق الغربي على اعتبارها الصنف المثالي للإنسانية، متغافلين الاستلاب المتوحش والمقزز لما هو مختلف ومتميز.

وها هو الفلسطيني بزيتونه وبندقيته على قدر عزيمته واصطباره، ومقاومته وتمسكه بأرضه، يقف مصوّبًا بندقيته التقليدية ضد جرافات ودبابات الأسطورة، فاضحًا زيف خرافة التفكير الغربي المنضوية تحت لواء التصهين، فما الجدوى من حضارة تستغيث بالاستثنائي المطلق، لتحارب بلا هوادة ضد الحق الإنساني؟!


ليست هناك تعليقات:

إرسال تعليق