الحكاء (19) | ضريبة النجاة
أسعد طه
(1)
لغرابتها قد تعتقد أن الحكاية غير حقيقية، لكنها فعلًا حقيقية، وما يحدث أن الأسئلة تتدفق في رأسك والحكَّاء يسرد حكايته، تودُّ لو يُعَجِّل بالنهاية، لكنك مستمتع بأحداثها حتى لو كانت حزينة، تتخيل أبعد نقطة يمكن أن يقود القدر بطل الحكاية إليها، تأمُل أن يجد ما يتحدث الناس عنه من نورٍ في نهاية النفق.
في وضع كهذا يمكننا أن نتخيل كل شيء، أنت في وسط اللاشيء، اتخاذ قرارٍ ما هو (إلا) رفاهية لا تمتلكها، الدفاع عن نفسك أو إظهار المقاومة ليسا سوى أحلام يقظة تراودك لتشعرك بالبطولة وحسْب.
(2)
تبدأ الحكاية عام 2006، وبطلها هو "فاناك برم" شاب كمبودي بسيط، ينتظر مع زوجته مولودهما الأول، يتهيأ للأمر بكل الوسائل، حتى إنه يقرر السفر قليلا لتأمين ما تحتاجه أسرته الصغيرة، لا بأس أن يقضي بضعة أشهر في الجارة تايلند، ثم يعود بما جناه من مال لأسرته.
يلتقي بأحد سائقي سيارات الأجرة، يتبادلان الحديث، يخبره الأخير بأنه يعرف دروب العمل في تايلند وفرص الحصول على وظيفة في مصانع تعليب الأسماك المجففة المنتشرة هناك، يتشكك "برم" في البداية حيال الأمر، لكنه يستسلم للفكرة ويعزم على الرحيل مع السائق.
يصلان بالفعل إلى مدينة مالاي الواقعة في الشمال الغربي من كمبوديا، يتفاجأ بوجود 30 شخصًا غيره وصلوا قبلهما للحصول على نفس الوظيفة، يدرك أنه أمام الأمر الواقع، وليس لديه خيار آخر.
(3)
يتكوَّم الجميع داخل الشاحنة المتهالكة، متراصين بجوار بعضهم البعض، في حيز ضيق بالكاد يسع الجميع، وقد غطاهم المهربون بقطع كبيرة من القماش لإخفائهم من نقاط التفتيش.
تعبر الشاحنة الحدود الكمبودية وتصل تايلند، وبعد ساعات طويلة تتوقف الشاحنة حيث زُجَّ بهم في حجرة إسمنتية مغلقة من الخارج، ولا يمكن التحكم في بابها من الداخل، إنه سجن حقيقي.
يحفر "برم" ثقبًا في الحائط يشاهد من خلاله مراكب صيد، وعمالا يحملون كميات كبيرة من الأسماك عبر الشاطئ، يفهم سريعًا أنه لن يعمل في مصنع للأسماك المجففة كما أبلغوه في كمبوديا، وأنه قد تم بيعه للعمل على مراكب الصيد على شواطئ المحيط.
يوزع المالكون الجدد ملابس العمل على "برم" ورفاقه، ويقسمونهم على قوارب الصيد التي تنطلق إلى مسافة بعيدة داخل المياه، لتكون أبعد ما يمكن عن اليابسة، هناك حيث خيار الهرب أو طلب النجدة يصبح أمرًا مستحيلًا.
في وضع كهذا يمكننا أن نتخيل كل شيء، أنت في وسط اللاشيء، اتخاذ قرارٍ ما هو (إلا) رفاهية لا تمتلكها، الدفاع عن نفسك أو إظهار المقاومة ليسا سوى أحلام يقظة تراودك لتشعرك بالبطولة وحسْب.
يُجْبَر هو ورفاقه على العمل 20 ساعة يوميًّا، يُنْهَك الجسد ويسقط مغشيًّا عليه، توقظه عصا رئيسه التي لا ترحم، تذكره برفيقه الذي طلب بعض الراحة وانتهى الأمر بفصل رأسه أمام الجميع.
تصل سيارة إلى مقر قسم الشرطة، يشاهد أحد الضباط وهو يستلم من سائق السيارة مبلغًا من المال، يدرك أن معاناته لم تنتهِ بعد، وأنه يباع من جديد، ليدخل إلى دائرة العمل القسري في ماليزيا هذه المرة.
(4)
يقضي "برم" 3 أعوام كاملة على ظهر ذلك القارب، يحصل كل يوم على فتات الطعام ليقتات عليه حتى لا يموت، يشتاق إلى زوجته وطفله الذي وُلِدَ في غيابه.
يلمح وسط تلك الدائرة المغلقة التي يدور فيها ثغرة يمكن أن ينفذ من خلالها إلى عالم الحرية، فالقارب يقترب من اليابسة لأول مرة، إنها ماليزيا وأصحاب القارب السجن يرغبون في الحصول على تصريح بالصيد داخل مياهها الإقليمية.
يتأمل "برم" ما حوله، وكأنه يرى العالم لأول مرة في حياته، يزداد حماسه إلى الهرب والنجاة بنفسه، لكنه يتذكر ذلك الرجل الخمسيني الذي حاول من قبل الهرب من القارب، لكنَّ جسده ورئتيه لم تتحمَّل اتساع المياه فاختنق، وحاول العودة للقارب مجدَّدًا، فما كان من قائد القارب إلا أن أمر بإلقائه في المياه مجدَّدًا ليموت غرقًا.
يتغلب "برم" على مخاوفه، يهرب بالفعل من السفينة، ليجد أمامه غابة فسيحة، يختبئ داخلها، ويركض لأميال حتى يصل إلى الحضر، ويجد أقرب قسم شرطة، يحكى لضباطه ما حدث له منذ وصوله إلى تايلند إلى أن أصبح في ماليزيا، يترجاهم أن يعيدوه إلى بلاده، إلى كمبوديا، حيث تنتظره زوجته وطفله، لكن مفاجأة أخرى كانت في انتظاره.
(5)
تصل سيارة إلى مقر قسم الشرطة، يشاهد أحد الضباط وهو يستلم من سائق السيارة مبلغًا من المال، يدرك أن معاناته لم تنتهِ بعد، وأنه يباع من جديد، ليدخل إلى دائرة العمل القسري في ماليزيا هذه المرة.
تأخذه السيارة عنوة إلى أحد حقول استخراج النفط، يبقى هناك 4 أشهر كاملة، صحيح أنه يعمل بشكل قسري، ولا يحصل على مال أو أي مقابل، إلا أن الحياة هنا أفضل قليلًا من العمل فوق قارب الصيد.
إلى أن يقع ذات ليلة أمر غريب، فقد قرر رفاقه الذين يعملون معه قسرًا الاحتفال وقضاء ليلة مرحة، لكن الليلة المرحة تنقلب رأسًا على عقب بوقوع مشاجرة تجلَّت فيها الأسلحة الحادَّة.
وعلى الرغم من أن صاحبنا لم يكن طرفًا في المعركة إلا أنه ينال نصيبه بطعنة نافذة في جسده، يُنْقل على إثرها للمشفى، وهناك يظن أن سبيل النجاة قد لاح.
يتمكن أخيرًا من الاتصال بالسلطات في كمبوديا لإنقاذه، لكن سلطات ماليزيا تسارع بإلقاء القبض عليه، وتقدمه للمحاكمة بعد أن تلقَّى العلاج، حيث يتعرض للضغط من قبل ضباط الشرطة الذين باعوه من قبل، ليجبروه على الادعاء أمام المحكمة أنه مهاجر غير شرعي، ويُهَدَّد بعاقبة الأمور إن تحدث عن الحقيقة.
يُحْكَم عليه بسبب ذلك الاعتراف بـ 3 أشهر في السجن، وزادوهم سبعة أخرى يقضيها داخل مؤسسة إصلاحية، ليحصل على حريته أخيرًا، ويعود إلى كمبوديا بعد غياب دام 4 سنوات كاملة، لم يحقق فيها أيًّا من أحلامه، وحرم فيها من زوجته وطفله، ولم يحصل على حياة تشبه الحياة العادية لأي إنسان.
(6)
تسيطر الدهشة على "سوكون" حينما يصل زوجها "برم" فهي لم تتخيل بعد كيف كانت الأمور معه طوال تلك السنوات، لا يمكن وصف مشهد لقائه مع ابنته للمرة الأولى منذ ميلادها، يحكي لها ما جرى، وهي لا تكاد تصدق.
يقرر صاحبنا ألا يصمت، ألا يعتبر ما جرى أمرًا شخصيًّا انتهى، يأخذ على عاتقه مسؤولية تحذير الشباب من مغبة السير في ذلك الطريق المضل، والانجرار خلف الأحلام الكاذبة التي تضيع فيها أعمار الشباب.
يلتقي بأحد الصحافيِّين، يخبره بكل شيء، يتناقل الناس حكايته، يشتد حماسه، يتزعم حملة لتوعية الشباب.
اللطيف أنه يكتشف موهبة جديدة لديه، فقد أراد أن تحتفظ ذاكرته بكل دقائق تجربته القاسية، فراح يرسم الكثير من الأحداث التي عاشها، ويُسَجِّل صورا للمآسي التي شاهدها بعينه ومر بها، مستغلًّا قدرته على تجسيد الحكايات التي مر بها.
تجوب رسوماته كمبوديا من شرقها حتى غربها، صار الجميع يرون في لوحاته صورة لمأساة لم يمروا بها، لكنهم ربما كانوا على وشك الوقوع فيها إذا ما قرروا يومًا خوض ذلك الطريق.
في العام 2012، وفي يوم "العبودية الحديثة" تكرمه السلطات الكمبودية بوسام الشرف لجهوده في إنقاذ الشباب وتوعيتهم، لكنه يرى أن ما يفعله ليس إلا سداد ضريبة النجاة.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق